الهداية في منظور الإسلام

آخـــر الـــمـــشـــاركــــات


مـواقـع شـقــيـقـة
شبكة الفرقان الإسلامية شبكة سبيل الإسلام شبكة كلمة سواء الدعوية منتديات حراس العقيدة
البشارة الإسلامية منتديات طريق الإيمان منتدى التوحيد مكتبة المهتدون
موقع الشيخ احمد ديدات تليفزيون الحقيقة شبكة برسوميات شبكة المسيح كلمة الله
غرفة الحوار الإسلامي المسيحي مكافح الشبهات شبكة الحقيقة الإسلامية موقع بشارة المسيح
شبكة البهائية فى الميزان شبكة الأحمدية فى الميزان مركز براهين شبكة ضد الإلحاد

يرجى عدم تناول موضوعات سياسية حتى لا تتعرض العضوية للحظر

 

       

         

 

    

 

 

    

 

الهداية في منظور الإسلام

النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: الهداية في منظور الإسلام

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,741
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-04-2024
    على الساعة
    12:49 AM

    افتراضي الهداية في منظور الإسلام

    الهداية في منظور الإسلام
    الفصل الأوَّل:
    نـور الهـداية
    إن الله تعالى هو الهادي الَّذي يهدي من اتَّبع تعاليمه سُبل النُّور والسلام، ويتعهَّد المؤمنين بولايته وحبِّه، ويخرجهم من ظلمات الجهل والتخلُّف إلى ضياء العلم والتقدُّم.فالجهل ظلام يغشى العقل، ويلقي به فريسة سهلة بين براثن الأفكار والمفاهيم الفاسدة المغلَّفة بالمظاهر البرَّاقة، ممَّا يجعل المرء يغرق أكثر فأكثر في مستنقع الأوهام والخرافات الضالَّة والمُضِلَّة، ويركن إلى ما ورثه عن آبائه وأجداده من الجهالات الباليةدون أن يختبر حقيقتها ويتأكَّد من مدى صحَّتها ومصداقيَّتها. وقد شُبِّهت هذه الجهالات في القرآن الكريم بالظُّلمات، قال تعالى: {الله ولِيُّ الَّذين آمَنُوا يُخرِجُهُم من الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ والَّذين كَفَرُوا أولِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخرِجُونَهُم منَ النُّورِ إلى الظُّلُمَاتِ أولَئِك أصحَابُ النَّارِ هم فيها خَالِدُونَ} (2 البقرة آية 257) فالنُّور الحقيقي هو ما يعتمل في قلب الإنسان وعقله وضميره، ويتجلَّى بالقيم والأخلاق الَّتي تُرضي الله عزَّ وجل، فإن غاب عنه هذا النور الجليل فهو في حكم الميت. والقلب العاجزعن تلقِّي النور الإلهي والتَّفاعل معه هو قلب فاقد للحياة الربَّانية؛ لأن ذروة سعيه هي المتع الحسيَّة، وأقصى طموحه هو النِّعَم المادية، وبذلك يقصِّر عن التطلُّع إلى نعيم الحضرة الإلهيَّة. وكذلك العقل الجامد، هو ميِّت لأن أُفُقَهُ محدود مقيَّد بالمادِّيات الَّتي تدركها حواسُّه في هذه الأرض، ولا مُرتقى له إلى عالم الغيب ورحاب الإيمان. أمَّا الضمير فيصبح ميِّتاً عندما يكون ولاء صاحبه موزَّعاً بين متعلَّقات شتَّى شغلته عن الإله الحقيقي، فيبقى منجذباً إليها لإشباع نزواته الطائشة وغرائزه الرَّخيصة. ولاشكَّ في أن أيَّ حضارة يقوم ببنائها إنسان بهذه المواصفات، ويتحرك ضمن هذا الإطار، لهي حضارة عقيمة، ميتة، لا حُبَّ فيها ولا عطاء، إنها حضارة زخارف وجدران لا حضارة مضمون ووجدان، إنها تبهر الناظر، ولكنَّها عاجزة عن منح النور للعقل، والحياة للقلب، والسعادة للمجتمع.وبهذا تظهر ميزة الحضارة الإيمانية الشاملة، لانطلاقها من معرفة الإنسان لخالقه، وتطبيقه لتعاليمه بجدٍّ وثبات. وبهذه الحضارة يلتقي العقل والعلم والإيمان لتحقيق خير الإنسانيَّة ورفاهيَّتها وتقدُّمها في كلِّ أصقاع الأرض وأقطابها. عندها يستظلُّ الجميع برحمة الله ونوره، ذلك النور الَّذي ذكرته الآية الكريمة والمتمثِّل في هدي الله عزَّ وجل، وشرعه الَّذي جاءت به الرسل ليجعل من الإنسان أخاً للإنسان يحبُّ له ما يحبُّ لنفسه وليكون ذلك الشرع عوناً له على كلِّ ما يكفل له الخير والسعادة.أمَّا الطَّاغوت الَّذي ورد ذكره في الآية الكريمة فهو الطُّغيان وهو كلُّ ما يُطغي الإنسان ويُضلُّه عن طريق الحقِّ والهدى؛ فيجعله في ظلماتٍ بعضها فوق بعض، كظلمة الهوى والشَّهوة، والرِّياء والنِّفاق وغير ذلك ممَّا تكتسبه النفس الأمَّارة بالسُّوء ببعدها عن طريق الله. وهذه الظلمات تؤدِّي بأصحابها إلى المهالك وتفقدهم السلطة على أنفسهم، وتدفعهم إلى تولية زمامها لتلك المعبودات الباطلة الَّتي كانت مقبرةً لعقولهم، ليكونوا من أصحاب النار خالدين فيها أبداً.والإنسان مخلوق ضعيف محدود المدارك والإمكانات، لذلك فهو عاجز عن أن يعرف الله تعالى بمفرده وبمعزل عـن توجيهه ـ سـبحانه ـ وإرشـاده له، فهو يوقن بالفطرةأن للكون إلهاً وخالقاً ولكنَّه لا يعرف صفات هذا الإله. ولذلك فقد توجَّه تارة إلى عبادة النجوم، وتارة أخرى إلى عبادة القمر، ثمَّ الشمس، ثمَّ اتَّبَع كلَّ ما هو غامض يوحي بالقوَّة، ولا يستطيع أن يحلَّ رموزه وأسراره فجعله إلهاً؛ فعبد النار والطبيعة وأشياء أخرى. ولكنَّه في فترة من الزَّمن تقزَّم بفعله وانحدر بفكرهفاتَّخذ من الحجارة أصناماً وراح يعبدها، جاهلاً أو متجاهلاً كلَّ الدلائل والإشارات الَّتي تهتزُّ بعنف من حوله وبداخله، وتدلُّ بقوَّة على وجود الخالق البارئ المصوِّر. فكيف حدثت تلك الحقبة التاريخية، الَّتي تكرر فيها سقوط الإنسان؛ من عالم الحضرة الإلهيَّة القدسي إلى بؤرة الضلال ومستنقع الجهل؟ وهل يمكن أن يحدث هذا التحوُّل في لحظة فينام المرء وهو على عبادة الله الواحد الأحد، ثمَّ يستيقظ وهو على أعتاب صنم، لاهثاً عند قدميه، طالباً منه العون والمدد؟.لقد تهاوى كثير من الناس عبر الأزمان على أقدام أصنام شهواتهم وتعلُّقاتهم البهيميَّة، فانفلتوا من عقال وانحدروا في وبال، وانحرفوا عن الحقيقة الَّتي نزلت إلى الأرض مع نزول آدم عليه السلام، فكانت الرَّحمة الإلهيَّة تتدخَّل بين حين وآخر، وترسل إليهم الأنبياء والرسل لتذكِّرهم بوحدانيَّة الله، ليعودوا إلى وعيهم واتِّزانهم، فيحفظوا لأنفسهم كرامتها، ولقلوبهم صفاءها وهدايتها.من أجل هذا كلِّه أَوْلى القرآن الكريم موضوع الهداية والسُّبُل المؤدِّية إليها اهتماماً كبيراً، يمكننا أن نقف على جزء منه من خلال تدبُّرنا للنُّصوص القرآنيَّة الآتية:
    سورة الأنفال(8)
    قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا استَجيبوا لله وللرَّسول إذا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ واعلموا أنَّ الله يَحُولُ بين المَرءِ وقلبِه وأنَّه إليه تُحشرون(24)}ومضات:ـ لقد جعل الله تعالى في شريعته أماناً للإنسان، وفي تعاليمه نظاماً ومنهاجاً؛ وما عليه إلا أن يبادر بالخطوة الأولى في طريق الهداية بأن يستجيب لما هيَّأه الله تعالى له، وينفِّذ تعاليم رسله بدقَّة وعناية ليحيا حياة طيِّبة هنيئة في هذه الدُّنيا العاجله ومن بعدها الآخرة الآجلة، قال تعالى: {..للَّذين أَحسنوا في هذه الدُّنيا حسنةٌ ولَدار الآخرة خيرٌ ولَنِعم دارُ المتَّقين} (16النحل آية30).ـ مخالفة هذه التعاليم والبُنى السليمة، تحيد بالقلب عن مساره الإيماني، وتدخله في متاهات الشُّكوك والمعاناة، ممَّا يحجبه عن الشعور بالتجلِّيات والأنوار الإلهيَّة، ثمَّ يأفل نجمه ويتردَّى في مسارب الشيطان ويندرج في أتباعه؛ وبذا يصبح الجسد حيّاً دون حياة حقيقية بالله.في رحاب الآيات:ليس الإسلام عقيدة تعبُّديَّة فحسب بالمفهوم الضيِّق للعبادة، بل هو هداية إلى منهج واقعي، ينظِّم الجانب الروحي كما ينظِّم الجانب المادِّي، لأن الإنسان مكوَّن من جسد وروح، فلا يدع أحدهما ينمو ويترعرع على حساب الآخر. فهو دعوة إلى الحياة الحرَّة الكريمة، بكلِّ صورها وأشكالها، ضمن إطار من الحقِّ والخير. وهو دعوة إلى تعاليم تُحْيِي القلوب والعقول، وتنقذها من أوهام الجهل والخرافة، وتحرِّرها من سطوة العبوديَّة لغير الله. إنَّه دعوة للمؤمنين للاعتزاز بعقيدتهم والثِّقة بربِّهم، والانطلاق في الأرض لتحرير الإنسان كلِّ الإنسان وإخراجه من عبودية الذَّات واللَّذات، إلى عبوديَّة الله وحده. وهو دعوة إلى منهج فكري وعلمي، يطلقهم من كلِّ قيد سوى ضوابط الشرع، الَّتي وضعها الخالق العليم بما خلق؛ من أجل صيانة الطَّاقة الفاعلة من التَّبديد وتوجيهها إلى النَّشاط الإيجابي البنَّاء. وإن الباحث يجد أن شرع الله هو الأمثل لتهيئة الغد الأفضل، إذ أن في أحكامه حوافزَ دافعة إلى كلِّ مُسْعِد؛ وضوابط مانعة من التردِّي في أسباب التعاسة والشقاء.وهذه الدَّعوة مفتوحة وموجَّهة إلى كلِّ الَّذين يؤمنون بأنَّ لهذا الكون خالقاً، لكي يَحْيَوْا الحياة الَّتي ارتضاها لهم، بمحض إرادتهم واختيارهم، تاركاً لهم الحريَّة لينالوا الأجر، وليرتفعوا إلى مستوى الأمانة الَّتي أناطها بهم. فهو الخالق لهم، والمالك لأرواحهم وقلوبهم، بل إنه يملك أن يَحُولَ بين المرء وقلبه، ويحجبه عن هدايته إذا مال بهذا القلب إلى غيره، وتوجَّه إلى سواه.فالقلب في قبضة خالقه، والمرء لا يملك من أمر قلبه الَّذي بين جنبيه شيئاً. وهذا الأمر يستوجب الصِّلة الدائمة بالله سبحانه واليقظة المستمرَّة لخلجات القلب وخفقاته، والحذر من كلِّ هاجس أو ميل يعترضه، أو رغبة تتعدَّى الحلال إلى الحرام؛ مخافة أن يكون انزلاقاً في مهاوي الهلاك الأبدي. عن أنس رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: يامقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك، فقلنا: يارسول الله آمنَّا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ قال: نعم إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلِّبها كيف يشاء» (رواه مسلم والترمذي).فكيف بالإنسان الضَّعيف غير المعصوم؟! فالقلوب بين يدي الرحمن ونحن إليه محشورون، ولا مفرَّ لنا منه ـ لا في الدنيا ولا في الآخرة ـ إلا إليه، ومع ذلك فإنه تعالى يدعونا لأن نسعى إلى نور هدايته، استجابة الحرِّ المأجور، لا استجابة العبد المأمور.
    سورة التوبة(9)
    قال الله تعالى: {يريدون أن يُطفئوا نورَ الله بأفواههم ويَأبى الله إلاَّ أن يُتِمَّ نورَهُ ولو كره الكافرون(32) هو الَّذي أرسلَ رسولَهُ بالهدى ودينِ الحقِّ ليُظهره على الدِّين كلِّه ولو كره المشركون(33)}ومضات:ـ نور الله باقٍ ما بقيت الحياة، يشعُّ منيراً قلوب المؤمنين، وهادياً إلى سواء السبيل، ولن تنجح محاولات المغرضين في إخماده.ـ لقد تتابع الرُّسل والأنبياء من أجل نشر نور الهداية والعلم والمعرفة، وحفظ الله تعالى هذا النُّور بحفظ القرآن الكريم بعيداً عن التَّحريف والتَّشويه، وبه حفظ سائر الرِّسالات الَّتي سبقته، فصانها بين طيَّاته صحيحة مكرَّمة، قال تعالى: {وأنزلنا إليك الكتابَ بالحقِّ مُصدِّقاً لِمَا بين يديه من الكتابِ ومُهَيْمناً عليه..} (5 المائدة آية 48).في رحاب الآيات:هل يمكن لإنسان أن يحجب نور الشمس بكفَّيْه؟! أو لكثيب من الرمال أن يُطْفِئ لهيب الشمس وضياءها؟!.كم هو مؤسف أن يتطاول الصغير على الكبير، والضعيف على القوي، وأن يُدْبِرَ الإنسان العاجز؛ عن أمر ربِّه القاهر مشيحاً عنه، معرضاً عن دعوته، فالله تعالى يناديه وهو يضع أصابعه في أذنيه مستعلياً، ويكشف له الحقيقة فيتعامى مستكبراً، يخاطب أشرف ما فيه، عقله وقلبه ووجدانه، فيُوصِد الأبواب ليخمد صوت الحقِّ الَّذي ينبعث من أعماقه!.أيُّ عقوق وجحود؛ هذا الَّذي ينزلق الإنسان إليه تجاه خالقه؟! أوَ يظنُّ أنه خُلق عبثاً، ووجِد في الحياة ليلهو ويمرح فحسب؟ أم يظنُّ أن ضوابط الله هي قيود تجرح اعتزازه بالحرية والاستقلاليَّة؟ أيحسب أن كوابح الغريزة والهوى، الَّتي صاغتها الحكمة الإلهية، سلاسل تشدُّه إلى الأرض وتمنعه من الانطلاق كما يحلو له؟.إن الضوابط الإلهية، والقوانين السماوية تنظيم لحياة الإنسان وتنسيق لمشاعره، وتهذيب لسلوكه، وتحريك للسرِّ الإلهي المُوْدَع بين جنبيه ليعلو فوق النَّوازع والشهوات، فتسمو الروح لتهيمن على كيانه، فتصبح مصدر انطلاقه نحو مرضاة ربِّه، والعروج درجات في معالي الكمال.وبشيء من الرويَّة والصبر والتأمُّل، وبشيء من ومضات الصدق النفسي، يتوصَّل الإنسان إلى هذه الحقيقة، الَّتي قد يقضي عمره باحثاً عنها، وهي منه قاب قوسين أو أدنى! وإذا ما شاء أن يدركها فما عليه إلا أن يشرع بفتح أبواب عقله وقلبه لاستقبال تعاليم الله، والانقياد لها كما هي؛ لأنها من لَدُن مشرِّع حكيم يعلم مصلحته ويعلم سرَّ سعادته.وبشيء من التواضع لعظمة الله، والرضا بما شرعه، سيُفتح أمامه باب واسع من المعرفة الَّتي تتولَّد عنها السَّكينةُ والطمأنينة، فمن تواضع لله رفعه، ومن رضي بما أمر به ألبسه ثوب الرضا الَّذي تكمن السعادة المنشودة بين طيَّاته.والسؤال الَّذي يطرح نفسه: لو أن غابات الأرض كلَّها شبَّ فيها الحريق، وعلا اللهيب، واشتدَّ السعير، فهل يتمكَّن أهل الأرض جميعاً أن يطفئوا هذا الأَتُّون بماءٍ؛ ملؤوا به أفواههم، ثمَّ أخذوا يرشُّونَهُ على هذه النار؟ إذا كان الجواب لا، فهل بوسع المغرضين الجاحدين أن يطفئوا نوراً أراد الله له أن يسطع، ويشعَّ على الثقلين، هدايةً ورشداً، إنه نور الله تعالى، إنه كتابه الخالد، القرآن الكريم، الَّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيلٌ من حكيم حميد؛ الَّذي ارتضاه الله لعباده وتولَّى حفظه بوعده: {إنَّا نحن نَزَّلنا الذِّكْر وإنَّا له لَحَافظون} (15 الحجر آية 9). وإذا كان الأمر كذلك فأنَّى لهؤلاء ـ ولو كانت معهم قوى المخلوقات كلِّها ـ أن يمنعوا أمراً أذِنَ الله بانتشاره وبقائه؟ لقد حاولوا ذلك في كلِّ مناسبة، ويأبى الله إلا إتمام نوره وإفشال محاولاتهم وإحباط مؤامراتهم. ومع ذلك فإنهم لم يلقوا أسلحتهم ويستسلموا، بل راحوا يشهرون سلاحاً تلو الآخر، كالفتنة والدَّسِّ والوقيعة لمحاولة إطفاء هذا النور الإلهي ومنع انتشاره والَّذي تكمن فيه سعادة الإنسان وأمنه. إن هؤلاء: إمَّا ملحدون يريدون اقتلاع الإيمان من جذوره، أو مشركونيريدون السَطْوَ على قلوب المؤمنين ليشوِّهوا نور الإيمان فيها، ويزرعوا بدلاً عنه ما ابتدعوا من خرافات وأوهام، أو انتهازيون يدافعون عن مصالحهم، فهم لا يتوانون عن بذل الغالي والنفيس، في سبيل كسب قلوب الناس، وخطب ودِّهم بباطل يلبس لَبُوس الحقِّ، من أجل الحفاظ على مكاسبهم. وقد اتَّخذت محاولاتهم مظاهر كثيرة عبر مسيرة التاريخ، واتخذت طابعاً دمويّاً في كثير من الأحيان، فرافقها اضطهاد المؤمنين وتعذيبهم لكنَّ الغلبة في نهاية المطاف هي دائماً للحقِّ وأنصاره.وما كانت وسوسة إبليس لآدم لإخراجه من الجنَّة، إلا ليحرمه من النعمة الكبرى، وهي الهداية لنور الله، وما أكثر ما يتكَرَّر سقوط الإنسان فيُحجب عنه النور الإلهي الساطع أبداً، إمَّا لجهله أو لتعنُّته، وفي كلتا الحالتين فإن القلوب هي الَّتي تعمى فلا تدرك ذاك النور القدسي، وليس النور هو الَّذي يتراجع أو يندحر. فما يكون للنور الإلهي أن تنطفئ شعلته، أو تخمد جذوته، لأنه نور الله الأبدي السرمدي الباقي على الدَّوام، وأمَّا المبطِلُون فإلى زوال، يندثرون وتُطوى أباطيلهم ويغيب فِسْقُهم، ويبقى الله الواحد الأحد، الفرد الصمد.وما أُرْسِلَتِ الرسل جميعاً إلا لتُوقِد شعلة الإيمان في القلوب، ولتأخذ بيد الإنسان بحنان، لتهديه إلى النور الإلهي، الَّذي لا يتسرَّب إلى قلبٍ إلا ويفارقه الشقاء إلى الأبد، ولتجسِّد دستور الله في الأرض بمعناه الواسع الشامل وهو الاستسلام لحضرة الله، ذلك الدستور الَّذي دعا إليه جميع الرسل، بدءاً من آدم وإبراهيم، ومروراً بموسى وعيسى، وانتهاءً بمحمَّد صلوات الله عليهم أجمعين، قال تعالى: {شَرَعَ لكم من الدِّينِ ما وصَّى به نوحاً والَّذي أَوحينا إليك وما وصَّينا به إبراهيمَ وموسى وعيسى أن أَقِيموا الدِّينَ ولا تتفرَّقوا فيه..} (42 الشورى آية 13). إنه دستور يقوم على الصدق والعدل، والهداية والإنابة في أصل كلِّ رسالة سماوية، وبِغَضِّ النظر عما طرأ على ذلك الأصل من تحريف وتبديل. ولهذا كان من مهامِّ الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعيد للرسالات السابقة ضياءها ونقاءها، وأن يزيل عنها الدخائل الَّتي شوَّهتها وحرَّفتهاعن المسار الَّذي اختاره الله لعباده، ويتمِّم التشريعات الَّتي تكفل سعادة الإنسان وأمنه واستقراره، وعُلُوَّ شأنه في دنياه وآخرته.
    سورة الأنعام(6)
    قال الله تعالى: {أَوَ مَنْ كان مَيْتاً فأحييناهُ وجعلنا له نوراً يمشي به في النَّاس كَمَنْ مَثَلُهُ في الظُّلُماتِ ليس بخارجٍ منها كذلك زُيِّنَ للكافرين ما كانوا يَعْمَلُون(122)}ومضات:ـ إن إنكار وجود الله والبعد عنه، هو انفصال عن القوَّة الفاعلة المؤثِّرة في الوجود كلِّه، وهو حجابٌ للروح، وختمٌ على الجوارح والمشاعر، وهذا هو الموت الحقيقي وفق المفهوم البعيد عن ظاهرة موت الجسد؛ أمَّاالإيمانُ بالله، فهوعلى النقيض من ذلك، إنَّه تفتُّح ورؤية، ويقظة وحياة، ونور وهدى.ـ الكفر هو طفرة ضالَّة لا وشائج لها ولا ركائز توصلها إلى الحقِّ والإيمان، لذا فهو موتالإحساس بالله. ولا يخفى أن الكافر هو مرتع الكفر، أمَّا المؤمن ـ وهو المتصل بالله المعتصم بحبله المتين ــ فإنه يحيا بالله، ويفيض بالحبِّ والخير على قلوب الخلائق فيحييها معه؛ لذلك فهو دوحة الإيمان.ـ لكلٍّ من الهداية والضلال، علامات فيزيولوجية، تتمثَّل في انشراح الصدر للهداية، وانقباضه للضلال. وهي مؤشرات ربَّانية زُوِّدَ الإنسان بها، ليدرك ردود الفعل الَّتي تدور في أعماقه، وليفسِّرها على ضوء تعاليم الله وإرشاداته.في رحاب الآيات:الموت نوعان: موت ظاهري وآخر حقيقي. أمَّا الموت الظاهري: فهو الموت الَّذي يعرفه عامَّة الناس، وهو انطفاء شعلة الحياة في الجسد، وتحوُّله إلى كتلة هامدة آيلة إلى التفسُّخ والاندثار. وأمَّا الموت الحقيقي: فهو انقطاع المدد النوراني الإلهي، وانحطاط أخلاقي في الإنسان، مع استمراريَّة حياة الجسد، وهذا هو الموت بمفهوم الشرائع السماوية، ذلك لأنه تبلُّد للإحساس والمشاعر الإيمانية، وانقطاع للصلة القدسية بين العبد والخالق المعبود، ينتج عنه قيام حجاب بينه وبين الوجود الروحي، يؤدِّي إلى جفاف قلبه، ونضوب ماء الحياة الحقيقية في أعماقه.وهنا تشتدُّ الحاجة إلى مهمَّة الأنبياء والمرشدين، والَّتي تتمثَّل في إيقاد شعلة الحياة في القلوب، ليستيقظ حسُّها الإنساني وشعورها بالله، وبالتالي لتقود النفـس ـ بجملة أهوائها ورغباتها ـ في طريق متوازنة معتدلة وفق تعاليم الشريعة المطهَّرة. وسبيلهم إلى ذلك هو تلقيح أرواح المؤمنين بنور الإيمان الحقيقي المثمر، القادر على الإنتاج والعطاء.فالإيمان هو الَّذي أحيا نفوس المؤمنين الأوائل، وطهَّرها من الحسد والحقد، والكِبْر والعُجْب، وزكَّاها من الفسق والظلم، والقسوة والأنانية. وهو الَّذي حفز هممهم، فطلبوا معالي الأمور، ووطَّنوا أنفسهم على العمل الدؤوب لهداية الأمم وتحريرها من الخرافات، وتطهير الأرض من الكفر والفساد. وهو الَّذي مكَّن المسلمين الأوَّلين من الظفر بالعلم والعمل والابتكار والإبداع، وإقامة الحضارة الَّتي شعَّ نورها في الآفاق، وعمَّ خيرها مشارق الأرض ومغاربها، في مدَّة زمنيَّة قياسية لم تتجاوز القرن. قال أحد المؤرخين الأوربيين: [إن مَلَكة الإبداع لا يتمُّ تكوينها لأمَّة من الأمم الناهضة إلا في ثلاثة أجيال، أوَّلها: جيل التقليد، وثانيها: جيل الخضرمة، وثالثها: جيل الاستقلال والاختصاص، إلا العرب وحدهم، فقد استحكمت لهم ملكة الإبداع في الجيل الأوَّل الَّذي بدؤوا فيه بمزاولتها].وإذا كان للإيمان هذه الثمار الطيِّبة في حياة الإنسان وسلوكه، فإن الكفر على النَّقيض من ذلك، إذ هو موت الروح والمشاعر، والضياع المدمِّر لشخصية الإنسان، والمبطل للصالح والخيِّر من أعماله، والقاضي على خصائصه بصفته خليفةً لله في أرضه. إذ أن الكافر بالقيم السماوية، غالباً ما يكون كافراً بالقيم الأخلاقية والمُثُل الرفيعة، لذلك فهو لا يقصد من وراء عمله رسالة كريمة، ولا غاية نبيلة؛ لأنه يكفر بما أوحـاه الله تعالى إلى أنبيائه ورسله من تعاليم، أُثبتت مصداقيَّتها في التَّطبيق العملي، ويُشيح بوجهه عن صوت الحقِّ ونداء العقل، فلا يفكِّر ولا يتأمَّل، فيهوي بنفسه إلى مستويات أسوأ من مستوى الحيوان؛ وذلك بتعطيل ما كرَّمه الله به، وهو العقل والتفكير، فتُغلَق منافذ الإدراك لديه، وتتلاشى مواهبه ويتعطَّل سمعه وبصره عن فهم الحقيقة الكاملة للمُوْجِد والوجود، ويصبح قلبه موصداً تجاه ومضات الإيمان الباهرة ممَّا يجعله يتخبَّط في الظلام على غير هدى، فيتولَّد في داخله جدل عقيم، غير معتمد على دليل أو حُجَّة، وإنما بدافع الكِبْر والاستعلاء. فإذا انقطع دليلهوبطلت حُجته حقد على الشرائع وتبرَّم منها وامتلأ صدره غيظاً من حمَلتها وحقداً عليهم. ومن الطبيعي أنه بعد ذلك ينفر من الرسل والرسالات ومن الدعوة والدعاة، فلا يصغي إليهم بفؤاده ولا يستمع إليهم بأذنيه، ولا يلتفت إلى الحقِّ، مهما ظهرت أدِلَّته، ووضحت معالمه وحجَّته. ومتى وصل إلى هذه الدرجة، أُغلق قلبه، وحيل بينه وبين النور الإلهي، فاعترته الحيرة، وساورته الشكوك ولزمه الضلال والضيق، فيشعر بروحه حبيسة داخل جسده، عاجزة عن الارتقاء أو الانطلاق، تقيِّدها شروره وتثنيها آثامه؛ ذلك لأنه أضاع عمره جرياً وراء سراب، وعاش حياته بين جدران ضيِّقة، هي جدران العالم المادي فقط. فهو لا يؤمن إلا بما يمكن لعينه أن تراه، ولا يعتقد بوجود السعادة إلا مع اللذَّات وإرواء الشـهوات الحسيَّة فحسب، ولا يُقْدِم على عمل صالح إلا إذا أيقن أنه سيحصل على نظير مادي مقابله. فإذا جاءه الداعية إلى الإيمان، وعرض عليه أن يستبدل بتجارته الخاسرة تلك، تجارة رابحة مضمونة، تحقِّق له سعادة الدَّارين، لوى عُنُقَه، وضاقت أنفاسه، وتسارعت نبضات قلبه، كأنَّما يحلِّق في طبقات الجوِّ العليا. ونظراً لشدة تراكم هذه الظلمات بعضها فوق بعض، يصبح القلب خاوياً خَرِباً لحرمانه من نعيم الصلة بالله عزَّ وجل والإيمان الراسخ به، ثمَّ لا يلبث أن يتحوَّل إلى تربة خصبة لنُمُوِّ طفيليات المعاصي، وآفات الأمراض النفسية الَّتي تحوِّل حياته جحيماً في الأرض قبل جحيم السماء.وجملة القول: إنه متى اطمأنَّ القلب بالإيمان، أشرقت عليه شمس المعارف وتعمَّقت صلته بمبدع الكون، وقوي شعور صاحبه بالانتماء إلى خالق عظيم يحميه ويكلؤه، فيحصل الأُنْس بوصاله، والسعادة الحقيقية بنواله، وتتفجَّر ينابيع الحكمة من قلبه وتجري على لسانه، ويجد الراحة في حاله ومآله، والوضوح في خواطره ومشاعره، والرفق واليسر في ذاته وعلاقاته، والرضى والتسليم بقضاء الله وقدره، فهو السعيد الحقيقيولو قلَّت ذات يده. ومن أعرض عن الإيمان بقي يتخبَّط في ظلمات الجهل والهوى، فيمشي وحيداً بغير دليل، في طريق مقفرة على غير هدى، فلا يبلغ الصراط المستقيم، ولا يحصِّل السعادة الدنيوية منها ولا الأبدية، فهو الشقيُّ الحقيقي ولو سكن القصور، وتَقَلَّب في رَغَد الدنيا وشذا العطور. ولكن ما هو الصراط المستقيم، وكيف يجتازه المؤمن بسلام؟.هذا ما سنتعرَّفه من خلال الفصل التالي بإذن الله.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,741
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-04-2024
    على الساعة
    12:49 AM

    افتراضي

    درب الهداية (الصراط المستقيم)


    سورة الأنعام(6)


    قال الله تعالى: {قُل إنَّني هدانِي ربِّي إلى صراطٍ مستقيم دِيْناً قِيَماً مِلَّةَ إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين(161) قل إنَّ صلاتي ونُسُكي ومَحيايَ ومماتي لله ربِّ العالمين(162) لا شريـك له وبذلك أُمِرتُ وأنا أوَّلُ المسلمين(163)}
    / ومضات:
    ـ الصراط المستقيم هو درب الدِّين الحنيف، والطريق الَّذي لا عِوَجَ فيه ولا انحراف، وهو الَّذي يصل بسالكيه إلى المدارس الإيمانية، الَّتي شيَّدها أصحاب الرسالات السماوية، فإن كانوا التلامذةَ النجباء، فقد حازوا أهليَّة السكن الدائم في قصور النعيم الخالدة، الَّتي أعدَّها لهم خالق الأكوان.
    ـ ديناً قِيَماً: هو الدِّين الثابت المقوِّم لأمور المؤمنين التعبديَّة منها أو المعاشيَّة.
    ـ الإيمان بالله هو التجرُّد الكامل عمَّا سواه، وإفراده بالتوجُّه إليه مع الاستسلام التَّام لأوامره، والتفاني في طاعته، والمراقبة الدَّائبة لخواطر القلب وتقلُّباته، ولحركات الجوارح وسكناتها، وإخلاص في النيَّة له تعالى قبل القيام بأيِّ أمر من أمور الحياة.
    / في رحاب الآيات:
    تبدأ الآية الكريمة بهديَّة نديَّة شجيَّة، إنها هداية تسطع نوراً متلألئاً في النفس بإيقاع محبَّب، تتحرَّك معه كلُّ خلجة في القلب، وكلُّ إشراق في الشعور، إنَّها تسبيحة الاتصال بالهداية الإلهيَّة المطلقة مقرونة بالعبوديَّة الكاملة لربِّ العالمين، نلمح من خلالها آثار التربية الإلهيَّة للصفوة المختارة من خلقه، فهم لا يتلقَّوْن علومهم من الأرض، بل تتنزَّل عليهم من السماء، بعد أن طهَّروا قلوبهم، ونقَّوْا تربتها من الأدران، فغدت صالحة لغرس بذور المعرفة بالله، ومهيَّأة لتلقِّي الإمدادات والفيوضات منه جلَّ وعلا.


    ويأتي الأمر للرسول صلى الله عليه وسلم ليجهر بما أولاه الله من جليل نعمائه، إنَّها نعمة الإيمان والهدى إلى الطريق المستقيم، الَّذي يوصل إلى رضا ومغفرة الرحمن الرحيم، وهو طريق الَّذين أنعم الله عليهم، فأسكن قلوبهم جنَّة معرفته، وأدخلهم في حمايته، حيث لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوْهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (23 المؤمنون آية 73)، وقال أيضا: {.. وإِنَّك لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُستقيمٍ *صِرَاطِ الله الَّذي لَهُ ما في السَّمَوَاتِ ومَا في الأرضِ أَلا إلى الله تَصيرُ الأُمور} (42 الشورى آية 52-53).
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,741
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-04-2024
    على الساعة
    12:49 AM

    افتراضي

    ثمَّ تُبـيِّن الآية الكريمة ماهيَّة هذا الدِّين دفعاً للالتباس، ورفعاً للشبهات ممَّا قد يُلحقه به المتقوِّلون والأعداء الكافرون؛ فهو امتداد لدين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وثمرة من ثمرات عقيدة التوحيد الحنيفة؛ ولاشكَّ في أن وحدة الأصل لفروع شجرة الأنبياء، لها مدلول كبير على وحدة مصدر الشرائع السماوية، الداعية إلى عبادة الله خالق الأكوان.


    وفي الآيات الكريمة توجيه متكرِّر للرسول صلى الله عليه وسلم ليجهر بتوجُّهه إلى الله، والتجرُّد الكامل له، بكلِّ خفقات قلبه، وبكلِّ حركات جوارحه، في الصلاة والاعتكاف، وفي إقامة الشعائر التعبُّدية، وسَيْرِ الحياة اليومية، وفي سائر شؤون حياته ولحين مماته. روى مسلم في صحيحه عن الإمام علي بن أبي طالب ـ كرَّم الله وجهه ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال: «وجَّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إنَّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين، لا شريك له وبذلك أُمرت وأنا أوَّل المسلمين». والمراد أنه قد وجَّه وجهه وعقد نيَّته وعزمه على تكريس حياته لطاعة الله ومرضاته، وبذلها في سبيله عزَّ وجل، فيموت على ما عاش عليه، وهو يتمنَّى أن يكون من أوائل المسلمين المنقادين إلى امتثال أوامره، واجتناب نواهيه. وقد التقت جميع رسالات الأنبياء في دعوة الإنسان لأن يوجِّه قلبه وروحانيَّته، وعواطفه وفكره إلى الربِّ العظيم الواحد الأحد، لكي تتجمَّع القلوب البشرية عند أعتاب الحضرة الإلهية فتنال منه البهجة والسعادة ودوام النعيم في كنف الربِّ الكريم.


    سورة الأنعام(6)
    قال الله تعالى: {وهذا صراطُ ربِّكَ مُستقيماً قد فصَّلنا الآيات لِقومٍ يَذَّكرون(126) لهم دارُ السَّلامِ عند ربِّهم وهو وليُّهُم بما كانوا يعملون(127)}
    / ومضات:
    ـ الرحمات الإلهية الَّتي تحفُّ بالمخلوقات كثيرة وجليلة، ومن عظيم رحمة الله بخلقه أنه ارتضى لهم منهجاً واضحاً، وصراطاً مستقيماً يكفل سعادتهم في الدَّارين، قال تعالى: {..إِنَ ربِّي على صراطٍ مُستقيم} (11 هود أية 56).
    ـ سرُّ سعادة المؤمنين وكنز نعيمهم مخبوء في ولاية الله لهم في الدنيا والآخرة، وتلك الولاية رعاية من الله بموجب إيمانهم، وجزاءٌ منه على جليل أعمالهم.
    / في رحاب الآيات:
    القاعدة الهندسيَّة تقول: (الخط المستقيم هو أقصر بُعدٍ يصل بين نقطتين) والآية تبيِّن أن صراط ربِّ العالمين مستقيم، وبهذا يكون أقصر طريق يوصل الإنسان إلى معرفة خالقه! وقد وضَّح النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة بمثال حسِّي ملموس، فقد روى الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: «كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فخطَّ خطَّاً هكذا أمامه (يعني في الرمل) فقال: هذا سبيل الله، وخطَّين عن يمينه، وخطَّين عن شماله (مائلين)، وقال: هذه سبيل الشيطان. ثمَّ وضع يده في الخط الأوسط ثمَّ تلا هذه الآية: {وأنَّ هذا صراطي مستقيماً فاتَّبِعُوه ولا تتَّبعوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بكم عن سبيله ذلكم وصَّاكم به لَعلَّكم تتَّقُون} (6 الأنعام آية 153) ». فإذا التزم الإنسان بهذه الطريق كانت مسيرته مستقيمة سليمة، لا عوجَ فيها ولا خللاً، ولا اعتداء على حقٍّ، ولا انغماساً في حرام، من مأكل أو مشرب أو ملبس. إنها مسيرة إيمانيَّة يدفعها الحبُّ لله، ويوجِّهها الخوف منه، ويتوِّجها الفوز برضاه. ولا تنحصر ثمار الاستقامة على الصراط والمنهج الربَّاني بصاحبها فحسب، بل تتعدَّاه إلى غيره؛ لأن الإنسان فرد في مجتمع، ولَبِنَةٌ في بناء الصَّرح الإنساني الكبير، فإذا صَلُحَتْ أجزاء البناء صلح البناء كلُّه، وتأسَّس المجتمع الإيماني على قواعد أخلاقيَّة فاضلة مبنيَّة على العقل والعلم، وكلُّ ذلك من خلال تنشئة الفرد على الإيمان بالله، وحبِّ الخير، والتفاني في طاعة الله وخدمة عباده.



    وفي قوله تعالى: {إنَّ الَّذين قالوا رَبُّنا الله ثمَّ استقاموا تتنزَّلُ عليهمُ الملائِكَةُ ألاَّ تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنَّةِ الَّتي كنتم تُوعَدون * نحن أوليَاؤكُم في الحياةِ الدُّنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسُكُم ولكم فيها ما تدَّعون} (41 فصلت آية 30ـ31) تتجلَّى ثمرة الاستقامة على صراط الله وهدْيه، بأروع صورة وأكمل وجه؛ فحين يتواضع الإنسان لخالقه ويَسلُكُ نفسه في عِداد خَدَمهِ، ويوقِّع عقد الالتزام بذلك، تُفتح عليه بركات من السماء والأرض، فيتكفَّل الله بقضاء مصالحه الدنيويَّة بما فيها الحفظ والحراسة، والمعونة والنُّصرة، وإيصال الخيرات ودفع البليَّات، أمَّا في الآخرة فيبشِّره بالجنَّة دار السلام، الَّتي يأمن مَنْ دخلها من العذاب، وهكذا يكون الله وليَّه في الدنيا والآخرة. ولفظ (الولي) يوحي بالقرب والرابطة الوثيقة بين الله عزَّ وجل ـ الوكيل ـ وبين مَن تولاه مِن خلقه وتوكَّل عليه. وهذا القرب لا يكون بالمكان والجهة، ولكن بالشَّرَف والعلوِّ والرتبة، ولسنا نرى درجة للعبد أعلى من هذه الدرجة، ولا تشريفاً أعظم من هذا التشريف! فإذا واظب الإنسان على أعمال البرِّ والطاعة، ظهرت آثارها في جوهر النفس، لذلك كان لابُدَّ للمؤمن من القيام بالعمل المثمر البنَّاء، لأنه لا أجر ولا ثواب مع التواكل والكسل. كما أنه لابُدَّ من الحذر إلى جانب العمل، من كلِّ عقبة تعترض طريق المؤمن، في الوصول إلى مرضاة الله، ولاسيَّما الحذر من أشدِّ أعداء المؤمن خصومة، وهو الشيطان، الَّذي يقف على جانبي طريق الهداية، مترصِّداً بكلِّ سالكيه، لمحاولة الإيقاع بهم وصرفهم عن الطريق بعد سلوكه. ولهذا ستكون لنا وقفة مع هذا العدو المبين في الفصل التالي، لندرك مدى عداوته لنا، ونتعرَّف الطرق الَّتي ننتصر بها عليه، فلا يكون له سلطان علينا بإذن الله.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,741
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-04-2024
    على الساعة
    12:49 AM

    افتراضي

    عدوُّ الهداية (الشيطان الرَّجيم)
    سورة البقرة(2)
    قال الله تعالى: {ياأيُّها النَّاسُ كُلوا مِمَّا في الأَرضِ حَلالاً طيِّباً ولا تتَّبعوا خُطواتِ الشَّيطانِ إنَّه لكم عَدوٌ مبين(168) إنَّمَا يَأمُرُكُم بالسُّوءِ والفَحشَاءِ وأن تَقُولُوا على الله ما لاتعلمون(169)}
    ومضات:
    ـ الشيطان عدوُّ الإنسان، دأبَ على أن يوسوس له، بما يفسد عليه دينه ودنياه، من المعاصي والمنكرات.
    ـ لا يفتأ الشيطان يغوي الإنسان، ويشجِّعه على افتراء الكذب على الله، ليُحرِّم ما أحلَّه له، ويحلِّل ما حرَّمه عليه؛ وذلك لتقويض النظام الَّذي وضعه الله تعالى من أجل إعمار الأرض، والإخلال بالغاية الَّتي خُلق الإنسان من أجلها.
    في رحاب الآيات:
    الشيطان عدوٌّ للإنسان منذ نشأته الأولى، وقد آلى على نفسه أن يُضلَّ بني آدم ويصرفهم عن الحقِّ، ويوردهم موارد التَّهلُكة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. لذلك فهو دائم السَّعْي ليثنيهم عن كلِّ ما فيه خيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة. وللشيطان مسالكه ومساربه، وله مداخله ومخارجه، ليتغلغل في نفس الإنسان وينفث سمومه فيها؛ فإذا ما وقع في شراكه أحد من الناس، شرع بخطَّةٍ ماكرةٍ لإضلاله، فيجمِّلُ له القبيح، ويزيِّن الرَّذيلة في عينيه فيُلْبسها رداء الفضيلة؛ فينطلي مَكره هذا على ضعاف العقول، الَّذين عطَّلوا ملكة التفكير الَّتي زوَّدهم الله تعالى بها، وأهملوا تنميتها والاستفادة من طاقاتها الهائلة، فسُرعان ما يقعون تحت تأثيره، وينقادون لأوامره، دون أن يدركوا فداحة خطئهم. ولذلك فإن الله جلَّ وعلا ـ عطفاً على أمثال هؤلاء ورحمة بهم ـ حذَّر جميع عباده، مراراً وتكراراً، من خداع هذا العدوِّ الماكر؛ ليكونوا بمنأى عن شروره وآثامه، والوقوع في شَرَكِهِ وإضلاله. والناس إزاء هذا التحذير على صنفين: صنف تثمر النصيحة فيه، وتؤتي أُكُلها فيتَّعظ، ويحتاط من شرِّ الشيطان ووساوسه، وصنف يُصِمُّ أذنيه ويغلق عقله، فتراه سادراً في غيِّهيأمره الشيطان فيأتمر، وينهاه فينتهي، ولو أوقعه ذلك في الهلاك.. وقد تصل الجرأة به حدّاً يُحِلُّ فيه ما حرَّمه الله، ويحرِّم ما أحلَّه له من خيرات الأرض وأرزاقها، وفي هذا تضييع للثَّروة الطبيعيَّة وهدر للنعم الإلهية، وتعطيل وتجميد لها، ممَّا يعود على المجتمع بأسوأ النتائج الاقتصادية والاجتماعية... ولا تنحصر الإساءة بالمجتمع وحده، بل تتعدَّاه إلى الاعتداء على شريعة الله وتحريف رسالته الحنيفة وإفسادها؛ لأن هؤلاء ينسبون إلى الله ما لم يشرِّعه لهم، ويتقوَّلون عليه ما لم يتنزَّل من لَدُنْه في شأن التحليل والتحريم، ممَّا يوقع بعض الناس في أباطيل هذه الشرائع، المشوَّهة المفتراة، والَّتي يظنُّون أنها من عند الله، إلا أن علاَّم الغيوب سبحانه عرَّفنا غواية الشيطان من خلال الحديث القدسي: «إنِّي خلقت عبادي حُنَفَاءَ فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم (صرفتهم) عن دينهم وحرَّمت عليهم ما أحللتُ لهم» (رواه مسلم).
    فشرُّ عدوٍّ للإنسان هو الشيطان، فمتى استرسل مع هذا العدوِّ، أنكر نِعَم الله وبدَّدها، أو وضعها في غير مواضعها. فإن لم يرجع إلى الله ويَزِنِ الأمور بميزان الشرع والعقل والحكمة، تتحوَّل النعمة إلى نقمة، والمنحة إلى محنة، والنعيم إلى جحيم دائم في الدنيا والآخرة.
    سورة الأنعام(6)
    قال الله تعالى: {وكذلك جعلنا لكلِّ نبيٍّ عدوّاً شَياطينَ الإنسِ والجنِّ يُوحي بعضُهُم إلى بعضٍ زُخْرُفَ القولِ غُروراً ولو شاءَ ربُّكَ ما فعلُوهُ فَذَرهُم وما يَفترون(112)}
    ومضات:
    ـ لابُدَّ لكلِّ حديقة ـ ذات وَرْدٍ فَوَّاح ـ من أشواك وأعشاب غريبة تظهر وتتطاول بين رياحينها. ولابُدَّ لكلِّ صاحب رسالة سماويَّة من أن يواجه قوى مخرِّبة تربض حوله، لتنشر الفساد والإفساد، وهذا ما وظَّف لهمفسدو الإنس والجنِّ أنفسهم؛ إذ يطمحون إلى إيجاد مظاهر مقنعة من الكلام المعسول، ولا يهدأ بالُهم حتَّى تتحقَّق أهدافهم بانتشار الجهل والتأخُّر في سائر أنحاء المعمورة.
    ـ إن الإيمان لَيَزْدَاد تألُّقاً كلَّما حاول أحد إطفاء نوره، وهذه إرادة الله في تمييز الصالحين من المُدَّعين الدجَّالين، وفي إحقاق الحقِّ وقطع دابر المفسدين.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Jun 2008
    المشاركات
    11,741
    الدين
    الإسلام
    الجنس
    أنثى
    آخر نشاط
    17-04-2024
    على الساعة
    12:49 AM

    افتراضي

    في رحاب الآيات:
    إن الصراع بين الخير والشرِّ قائم منذ بدء الخليقة وحتَّى قيام الساعة، وهو صراع بين النفس المطمئنة الَّتي يقودها العقل الإيماني الرشيد، والنفس الدنيئة الأمَّارة بالسوء، وما عقل الإنسان إلا منارة تهديه سواء السبيل، وتعصمه من الزلل، ولكنَّ النفس الخبيثة كثيراً ما تسيطر على العقل، وتسيِّره وفق أهوائها فتَضِلُّ وتُضِلُّ صاحبها معها. ولهذا كانت الرسالات السماوية تتوالى تباعاً في كلِّ عصر وجيل؛ لتقوم بدورها في هداية البشرية إلى الحقِّ، وللعمل على تحريك العقول، وشحذ الهمم، وتطهير النفوس، وإنقاذ الناس من المضلِّلين الغاوين الَّذين يقفون في وجه دعوة الأنبياء والمصلحين، ويعملون على إثارة الفتن بين صفوف المؤمنين، وهم الأعداء الألِدَّاء من شياطين الإنس والجنِّ أجمعين. فقد أخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ياأبا ذر تعوَّذْ بالله من شرِّ شياطين الجنِّ والإنس، قال: يانبي الله وهل للإنس شياطين قال: نعم». وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: «ما منكم من أحد إلا وقد وُكِّل به قرينه من الجنِّ، قيل: ولا أنت يارسول الله، قال: ولا أنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم» (رواه مسلم) فهؤلاء الشياطين من الجنِّ والإنس الَّذين كانوا ومازالوا أعداءً لكلِّ نبي، ولكلِّ مصلح، هم الَّذين يحاولون خداع المؤمنين بالقول المزخرف ويدُسُّون السُّم في الدَّسم. وقد يكون شياطين الإنس أشدَّ وطأة وخطراً على المرء من شياطين الجن، كما يقول أحد الصالحين: [إني إذا تعوَّذت بالله ذهب عني شيطان الجنِّ، وشيطان الإنس يجيئني فيجرُّني إلى المعاصي عياناً]، وإن الشيطان من الجنِّ، إذا أعياه المؤمن،ذهب إلى متمرِّد من الإنس فأغراه بالمؤمن ليفتنه.
    إذن فالمعركة مستمرَّة، والمتآمرون كُثُر، والمؤمن في مواجهة خصوم شرسين، ولكنَّ أرباب القلوب لا يُصغون إلى وساوس هذه العصابة، بل كلَّما اشتدت عليهم عداوة الأعداء، تمتَّنت جذور الإيمان في أعماقهم. وعلى الرُّغم من ضراوة هذه المعركة ومساوئها، فإن لها ميزة بالغة الأهمية، وهي أنها تفرز العناصر المؤمنة المسؤولة الواعية، الَّتي سلكت طريق الإيمان، بحسٍّ روحي وعقل متفتِّح، لتقف في مواجهة قوى الشرِّ، وتكون لها الرِّيادة في المجتمع للسير به نحو السعادة المثلى، وتصبح فئة ذات هيبة تُرْهِبُ الشياطين فضلاً عن الأعداء والأشرار الإنسيين، وهذا ما أكَّده قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : «والله إن الشيطان لَيَفِرُّ منك ياعمر» (رواه مسلم).
    فلكلِّ فئة من المؤمنين معادون ومعاندون، كما كان للأنبياء والرسل من قبلهم؛ وذلك لأنَّهم سلكوا نهجهم. إلا أن الله عزَّ وجل قد أوصى نبيَّه، وكلَّ من يتَّبعه، بأن يستمروا في إشادة صرح الإيمان، واثقين مطمئنين بوعد الله لهم بالنصرة والتأييد والسعادة، والخزي والخذلان والشقاء للمكذِّبين المخادعين، فالمكر السَّيء لا يحيق إلا بأهله، والعاقبة للتَّقوى، قال تعالى: {ولقد سَبَقَتْ كَلِمتنا لِعبَادِنا المُرسَلِين* إنَّهم لَهُمُ المنْصُورون * وإنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الغَالِبون} (37 الصافات آية 171ـ173) فالمؤمن في جهاد مستمر ومعركة قائمة، بين الشيطان وما والاه من القوى الشرِّيرة، وبين الإيمان وما يصاحبه من الصفات الخيِّرة إلى أن يلقى الله، فيظفر بالجنان ولذَّة النظر إلى الرحمن.
    ويبيِّن عزَّ وجل أنه لو لم يشأ لهم أن يفعلوا هذا التغرير ما فعلوه، كما أنه سبحانه لم يجبرهم على الهداية، وإنما جعل الناس مخيَّرين بين طريقي الخير والشرِّ حين قال: {ونفسٍ وما سوَّاها * فأَلهمها فُجُورها وتقواها * قد أَفلَح من زكَّاها * وقد خَاب من دسَّاها} (91 الشمس آية 7ـ10).
    سورة الناس(114)
    قال الله تعالى: {قل أعوذ بربِّ النَّاس(1) مَلِكِ النَّاس(2) إله النَّاس(3) من شرِّ الوَسواسِ الخنَّاس(4) الَّذي يوسوسُ في صدورِ النَّاس(5) من الجِنَّةِ والنَّاس(6)}
    ومضات:
    ـ في هذه الآيات الكريمة ربطٌ وجدانيٌّ للمؤمن بخالق الأسرة الإنسانيَّة؛ ليستمدَّ منه القوَّة واليقظة الروحية والفكرية، فهو ربُّ العالمين الَّذي يكلؤه من أذى شياطين الإنس والجن.
    في رحاب الآيات:
    إن لفظة الملِك ونسبتها إلى الله عزَّ وجل في هذه الآية تختلف في مدلولها عن نسبتها إلى أحد من مخلوقاته، فمُلك الله عزَّ وجل ليس مجرَّد الإشراف على الخلائق، والقيام بتدبير أمورهم، وتولِّي حفظهم وحمايتهم كما هو شأن ملوك الدنيا، بل هو ملكٌ مطلق، قائم على القدرة التامَّة على التصرُّف المطلق في المخلوقات، إحياءً وإماتةً، وإيجاداً وأخذاً، وعطاءً ومنعاً. ولاشكَّ أن من كانت هذه صفاته، هو وحده القادر على حماية رسله وعباده إذا ما التجؤوا إليه، وهو وحده القادر على حفظهم من أضرار الشرور وشديد أخطارها، وخاصَّة من شرِّ الشيطان الَّذي يكمن قابعاً يترصَّد القلب البشري في لحظات غفلته عن حضرة الله لينفث سمومه، وليبذر فيه بذور الفتنة والشرِّ. فإن لم يتنبَّه المؤمن ويلوذ بمولاه، ويستدرك ملتجئاً إلى منقذه، منيباً إليه، فإنه يصبح مطيَّة له ينفِّذ به ومن خلاله رغباته الشرِّيرة، الَّتي تُغضب الله وتُثمر الخسارة الَّتي لا تعوَّض، لأنه إذا ما تمَكَّن خُبْث الشيطان ونفثه في القلب ضلَّ صاحبه وغوى، وربما لا تتهيَّأ له القدرة على مغالبة الشيطان والانفلات من أسره.
    وإنَّما سمِّيَ الشيطان بالوسواس الخنَّاس، لأنه يختفي ويخنس إذا ذكر العبد ربَّه، فإذا غفل عن الله عاد فوسوس له، وفي الحديث الشريف: «إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم فإذا ذكر الله خنس، وإذا نسي الله التقم قلبه فوسوس» (رواه الحافظ الموصلي). ووسوسة شياطين الجنِّ لا ندري كيف تتمُّ، ولكننا نجد آثارها في واقع النفوس وواقع الحياة، ومع كونها لا تُرى بِالعين، فإنها تقع في القلب وتنعكس على الجوارح والأعمال.
    فالمعركة بين أبناء آدم عليه السلام وإبليس، قائمة إلى أجلها وهو يوم البعث والنشور، قديمة في إعلانها، قد أعلنها الشيطان حرباً، ومُنِحَ بها من الله إذناً، فأَذِنَ فيها سبحانه لحكمة أرادها، ولكنَّه لم يترك الإنسان فيها مجرَّداً من العدَّة، بل سبق الوعد منه والعهد بإغاثة المستجيرين به، وحماية اللاجئين إليه، فيمنحهم الأمن والاطمئنان ماداموا في كنفه وتحت رعايته. ومع أنَّنا لا ندري جميع الحِكَم الإلهية في إذنه تعالى بهذه الحرب، فإنَّ القرآن الكريم أكَّد على أنَّ كيد الشيطان يقتصر على أوليائه، أمَّا المؤمنون الصادقون فلا سلطان له عليهم، وكلَّ سلاح يستعمله ضدَّهم مفلول فاشل، قال تعالى: {فإذا قرأتَ القرآن فاستعِذْ بالله من الشَّيطان الرَّجيم * إنَّه ليس له سُلطانٌ على الَّذين آمنوا وعلى ربِّهم يتوكَّلون * إنَّما سُلطانُه على الَّذين يَتَوَلَّوْنَه والَّذين هم به مشركون} (16 النحل آية 98ـ100).
    ولدخول الوسواس إلى قلب الإنسان طريقان، طريق خفيٌّ: وهو الَّذي تسلكه شياطين الجنِّ، وطريق ظاهر: وهو الَّذي يسلكه شياطين الإنس، فيأتون إلى الإنسان بصور وأشكال شتَّى؛ فيأتي أحدهم بصورة الصديق المحبِّ الناصح، فيبثُّ في جليسه الشرَّ والأذى من حيث لا يحتسب، أو يأخذ وظيفة النمَّام الواشي الَّذي يزيِّن الكلام، ويزخرف القول حتَّى يبدو وكأنَّه الحقُّ الصريح الَّذي لا مراء فيه، بغية زرع العداوة والبغضاء، أو يمتهن عمل بائع الشهوات، الَّذي يتسـلَّل إلى منافذ الغريزة في إغراءات لا تدفعها إلا يقظة القلب ورعاية الله وحفظه. ويلعب دوره الكبير في التأثير بحاشية السوء الَّتي توسوس لكلِّ ذي سلطان، حتَّى تتركه طاغية جبَّاراً، مفسداً في الأرض مهلكاً للحرث والنسل. ولعل الوسواس الَّذي يأتي للإنسان من طريق أبناء جنسه، أعظم شرّاً وأشدُّ خطراً من الوسواس الَّذي يأتيه من شيطان الجنِّ؛ لأن هذا الأخير يخنس ويَضْعُفُ أثره بمجرَّد ذكر الله والاستعاذة به، أمَّا شيطان الإنس فلا يردعه ذكر ولا تطرده استعاذة، ويبقى قائماً على صاحبه متسلِّطاً عليه حتَّى يهلكه. وفي كلتا الحالتين لا ملجأ للإنسان إلا الله، فإن أراد حماية نفسه من شرور الوساوس أيّاً كان مصدرها فعليه أن يحتمي بالركن المتين، بربِّه، إلهه وإله الناس أجمعين؛ عندها ينصره الله ويجعله من الغالبين.
    ومجمل القول: إن الله تعالى عندما أذن لإبليس بالحرب أخذ بناصيته، ولم يسلِّطه إلا على الَّذين يغفلون عن ربِّهم مَلِكِهِمْ وإلههم، أمَّا من يذكرونه فهم في نجاة من الشرِّ ودواعيه الخفيَّة. فالخير إذن يستند إلى القوَّة الَّتي لا قوَّة سواها، والشرُّ يستند إلى وسواس خنَّاس يضعف عن المواجهة ويخنس عند اللقاء، وينهزم أمام الاستعاذة بالله. وهذا أكمل تصوُّر للحقيقة القائمة على الخير، كما أنه أفضل تصوُّر يحمي القلب من الهزيمة، ويملؤه بالقوَّة والثِّقة والطمأنينة، قال تعالى: {أَلا إنَّ أوليَاءَ الله لا خَوفٌ عليهم ولا هُم يحزنون} (10 يونس آية 62).
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    تحمَّلتُ وحديَ مـا لا أُطيـقْ من الإغترابِ وهَـمِّ الطريـقْ
    اللهم اني اسالك في هذه الساعة ان كانت جوليان في سرور فزدها في سرورها ومن نعيمك عليها . وان كانت جوليان في عذاب فنجها من عذابك وانت الغني الحميد برحمتك يا ارحم الراحمين

الهداية في منظور الإسلام

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. الله في منظور الكنيسة
    بواسطة السيف البتار في المنتدى الأبحاث والدراسات المسيحية للداعية السيف البتار
    مشاركات: 88
    آخر مشاركة: 11-03-2016, 12:10 AM
  2. ~المرأة في منظور المسيحية ~
    بواسطة سارة امة الله في المنتدى المرأة في النصرانية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 22-03-2013, 12:42 AM
  3. أريد الهداية , تريد الهداية =‘(
    بواسطة أريد الهداية , في المنتدى منتدى دعم المسلمين الجدد والجاليات
    مشاركات: 36
    آخر مشاركة: 05-02-2012, 03:38 PM
  4. قصص واقعية لأناسٍ شاء الله لهم الهداية فدخلوا في الإسلام
    بواسطة نعيم الزايدي في المنتدى منتدى قصص المسلمين الجدد
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 03-04-2011, 01:50 AM
  5. علم الحديث.. منظور إعجازي
    بواسطة فريد عبد العليم في المنتدى المنتدى الإسلامي العام
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 10-07-2010, 02:00 AM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  

الهداية في منظور الإسلام

الهداية في منظور الإسلام