ومن هنا تأتي الهزيمة

الابتعاد عن طريق الله، والخلود إلى الأرض، والسلبية والخنوع والاستكانة - هي التي تجرُّ هذه
الأمة إلى بركة الخبال والذل والهوان.

وموالاة الكُفَّار على حسابِ أُمَّة الإسلام هو عملٌ لحساب أعداءِ الإسلام، والأجيال التي تنشأ في
ظلمات الجهل والاستبداد والقهر والظُّلم تنشأ عديمةَ الكرامة، لا تُحرِّك ساكنًا، فالباطِلُ لا ينتفش
إلاَّ في غياب أهلِ الحق، وإذا تَحرَّك أهلُ الحق، خنث الباطل، وتوارى متحينًا الفرصةَ من جديد؛

قال تعالى:

﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ [الإسراء: 81].

ومع انتفاء الإيمان والخلق والشرف، ومع شيوع النِّفاق والتملُّق والدَّناءة، ومع تَهميش أصحابِ
الكفاءات، وتبجُّح الفارغين الضالين - لا تتكون النواةُ الصلبة المدافعة عن الحقِّ وأصحابه، التي
ترد الحق المسلوب بالقوة، ولا تتكون الصفوف الأبية التي تَحمي الأرض، وتدافع عن العرض؛

قال تعالى:

﴿ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ ﴾
[الملك: 20].


ما يريده العدو من أمة الإسلام فراغُ القلوب والعقولِ والغوص في الشَّهوات، حتى إذا تقابل
الجيشان، وَجَد العدوُّ قلوبًا منخورة، وأفئدة فارغة، اتَّخذها الشيطانُ خَلاءً له، ووسوس فيها
الإيمان، ونسج فيها عنكبوتُ الشهوات خيوطَه، فكانت الهزيمة.

قال تعالى:

﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْم
الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾
[الأنفال: 21 - 23].

فأعداءُ الإسلام سيبذلون جهودًا حثيثة لجعلِ الأُمَّة ترتَدُّ عن دينها، وتفقد خيريَّتَها؛

قال تعالى:


﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ [البقرة: 120]،


فأمة الإسلام ولدت قويَّة شامخة، ولَم تستطع قريشٌ بِخَيلها وخُيلائها آنذاك أن تقضي على
هذه الأُمَّة الوليدة؛ حيث تجمع الأحزاب للقضاء عليها؛

قال تعالى:


﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ
بِاللَّهِ الظُّنُونَا ﴾ [الأحزاب: 10]،

فلما حَلَّت نعمةُ الله بالمسلمين، وانفضت جُموع الأحزاب عن المدينة بقدر الله وقُدرته، فقال
رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مُعلقًا: ((الآن نغزوهم ولا يَغزونَنا))، فلم تستطعِ الوثنيةُ
في جزيرة العرب ومعها اليهود - أن تدكَّ المجتمع الإسلامي، وتخلع جذورَ التوحيد من
أرضه، وانطلق الإسلامُ بعدها؛ ليُرسي قواعدَ التوحيد في كلِّ قُطر، وفي كل فجٍّ عميق.

﴿ ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ ﴾ [الأنفال: 18]،

أليست هذه رسالة في عنق كل مسلم؟


لقد وَصَلنا الإسلامُ ناصِعَ البياض، ولكن على أشلاءِ الصَّحابة الكرام، الذين حملوا الإسلام
في قلوبِهم، فانطلقوا به مُبلِّغين في كل مكان، فمنهم من مات على حدود الصين شرقًا، وفي
الأندلس غربًا، وفي إفريقيا ودول الغرب، وقبورهم شاهدة على ذلك.

عن أبي عمران قال: كُنَّا بمدينةِ الروم، فأخرجوا إلينا صفًّا عظيمًا من الروم، فخرج إليهم من
المسلمين مثلهم وأكثر، فحمل رجلٌ من المسلمين على صف الروم، حتى دخل بينهم، فصاحَ
الناسُ، وقالوا: سبحان الله! يلقي بيده إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري، فقال:

أيها الناس: أنتم تتأوَّلون هذه الآيةَ هذا التأويل، وإنَّما نزلت فينا معشرَ الأنصار، لَمَّا أعزَّ الله
الإسلام، وكثر ناصروه، قال بعضنا لبعض سرًّا دون رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
إنَّ أموالَنا قد ضاعت، وإن الله - تعالى - أعَزَّ الإسلام، وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا،
وأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله - تعالى - على نبيِّه ما يرد علينا ما قلناه:

﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ [البقرة: 195]،


فكانت التهلكةُ الإقامةَ في الأموال وإصلاحها، وترك الغزو، فما زال أبو أيُّوب
شاخصًا في
سبيلِ الله حتى دُفِنَ بأرضِ الروم.

أبعد هذا كُلِّه تضيعُ عندنا هذه الرسالة؟


هم تَمسكوا بكتابِ الله وسُنَّةِ نبيه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبَعُدْنا نحن عنها، وهانت علينا أنفسنا،
فهُنَّا على الناس، وتناسينا قولَ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: كنا قومًا أذلاءَ فأعزنا الله بالإسلام،
ولو ابتغينا العِزَّة في غيره أذلَّنا الله، والآن نرى ما آلت إليه أمة الإسلام من التمزُّق والتفرق
والتشرذم تحت شعار القومِيَّة والنرجسية الفارغة، حتى تنازعتها تيارات مختلفة: تيار يرفض
الإسلام علنًا، ويستميت في أن تحكم الأمة حكمًا عَلمانيًّا، وهم مرتمون في أحضانِ الغرب؛ كي
يُمَكَّن لهم ذلك، وتيارٌ ثانٍ يريد أن يعودَ بالمسلمين إلى ماضيهم، ومَجدهم، وكتابهم الكريم، وسنتهم
المطهرة، وتيار ثالث مُذَبذبون بين هؤلاء وهؤلاء، يتخيَّرون من الإسلام ما يتماشى مع أهوائهم
ورغباتِهم، وينفذون أحكامًا وعبادات ويتركون أخرى.

فلو نجح التيارُ الأول تحوَّل العالم الإسلامي إلى المادية والإلحاد، ولو نَجح الأخير، لتأخَّرت الأمةُ،
ودُكَّت أركانُها، وتوقفت عن تَحقيق أهدافِها، ولن تنجحَ هذه الأمة إلاَّ إذا كانت أزمَتُها في يد المؤمنين
المخلصين، الذين يريدون أن يشملَ الإسلامُ كلَّ مناحى الحياة، ولا يفرطون فيه قدر أَنْمَلَة، يريدونه
كله شكلاً وموضوعًا وعنوانًا وحقيقةً؛ قال تعالى:

﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ
وَأَنَا أَوَّلُ
الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162 - 163].

فأُمَّة الإسلام تُحارب بقَدْرِ ما تَحمل من هذا الدين، ويسالمها الناس بقدر ما فرطت في هذا الدين.


منقول