قال ابن القيم في زاد المعاد (2/ 96): لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَمْ يَحُجَّ بَعْدَ هِجْرَتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ سِوَى حَجَّةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ حَجَّةُ الْوَدَاعِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهَا كَانَتْ سَنَةَ عَشْرٍ.
وَاخْتُلِفَ: هَلْ حَجَّ قَبْلَ الْهِجْرَةِ؟ فَرَوَى الترمذي، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ( «حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ حِجَجٍ: حَجَّتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ، وَحَجَّةً بَعْدَمَا هَاجَرَ مَعَهَا عُمْرَةٌ» ) . قَالَ الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ سفيان. قَالَ وَسَأَلْتُ مُحَمَّدًا - يَعْنِي الْبُخَارِيَّ - عَنْ هَذَا، فَلَمْ يَعْرِفْهُ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ، وَفِي رِوَايَةٍ لَا يُعَدُّ هَذَا الْحَدِيثُ مَحْفُوظًا.اهـ

قلت: قال الترمذي (815) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ حُبَابٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَجَّ ثَلَاثَ حِجَجٍ، حَجَّتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ، وَحَجَّةً بَعْدَ مَا هَاجَرَ، وَمَعَهَا عُمْرَةٌ، فَسَاقَ ثَلَاثَةً وَسِتِّينَ بَدَنَةً» ، وَجَاءَ عَلِيٌّ مِنَ اليَمَنِ بِبَقِيَّتِهَا فِيهَا جَمَلٌ لِأَبِي جَهْلٍ فِي أَنْفِهِ بُرَةٌ مِنْ فِضَّةٍ «فَنَحَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبِضْعَةٍ، فَطُبِخَتْ، وَشَرِبَ مِنْ مَرَقِهَا» : «هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ حُبَابٍ» وَرَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ رَوَى هَذَا الحَدِيثَ فِي كُتُبِهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ وَسَأَلْتُ مُحَمَّدًا عَنْ هَذَا فَلَمْ يَعْرِفْهُ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَأَيْتُهُ لَمْ يَعُدَّ هَذَا الحَدِيثَ مَحْفُوظًا "، وقَالَ: إِنَّمَا يُرْوَى عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مُجَاهِدٍ مُرْسَلًا.

قلت: زيد بن الحباب ضعيف في الثوري، ولكن تابعه عبد الله بن داود كما عند ابن ماجة.
فقال ابن ماجه (3076) حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبَّادٍ الْمُهَلَّبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ حَجَّاتٍ، حَجَّتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ، وَحَجَّةً بَعْدَ مَا هَاجَرَ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَقَرَنَ مَعَ حَجَّتِهِ عُمْرَةً، وَاجْتَمَعَ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا جَاءَ بِهِ عَلِيٌّ مِائَةَ بَدَنَةٍ، مِنْهَا جَمَلٌ لِأَبِي جَهْلٍ، فِي أَنْفِهِ بُرَةٌ مِنْ فِضَّةٍ، فَنَحَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ، وَنَحَرَ عَلِيٌّ مَا غَبَرَ " قِيلَ لَهُ: مَنْ ذَكَرَهُ؟ قَالَ: جَعْفَرٌ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.

قلت: فالحديث حسن أو صحيح بتلك المتابعة إن شاء الله.
وقال ابن خزيمة قبل حديث (3056)-هو حديث الترمذي- بَابُ ذِكْرِ عَدَدِ حِجَجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالدَّلِيلِ عَلَى ضِدِّ مَا تَوَهَّمَهُ الْعَامَّةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحُجِّ إِلَّا حَجَّةً وَاحِدَةً وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا حَجَّ حَجَّةً وَاحِدَةً بَعْدَ هِجْرَتِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَمَّا مَا قَبْلَ الْهِجْرَةِ فَقَدَ حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ تِلْكَ الْحَجَّةِ الَّتِي حَجَّهَا مِنَ الْمَدِينَةِ.

بعض النصوص الواردة في ذلك
عن زهير، حدثنا أبو إسحاق، قال: حدثني زيد بن أرقم، أن النبي صلى الله عليه وسلم «غزا تسع عشرة غزوة، وأنه حج بعد ما هاجر حجة واحدة، لم يحج بعدها حجة الوداع» ، قال أبو إسحاق: «وبمكة أخرى». [البخاري: 4404، ومسلم: 1254]
قال النووي في شرح مسلم (8/ 236): وَبِمَكَّةَ أُخْرَى يَعْنِي قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَقَدْ رُوِيَ فِي غَيْرِ مُسْلِمٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ حَجَّتَانِ.
وقال ابن حجر في فتح الباري (8/ 107): ...وغرض أبي إسحاق أن لقوله بعد ما هاجر مفهوما وأنه قبل أن يهاجر كان قد حج لكن اقتصاره على قوله أخرى قد يوهم أنه لم يحج قبل الهجرة إلا واحدة وليس كذلك بل حج قبل أن يهاجر مرارا بل الذي لا أرتاب فيه أنه لم يترك الحج وهو بمكة قط لأن قريشا في الجاهلية لم يكونوا يتركون الحج وإنما يتأخر منهم عنه من لم يكن بمكة أو عاقه ضعف وإذا كانوا وهم على غير دين يحرصون على إقامة الحج ويرونه من مفاخرهم التي امتازوا بها على غيرهم من العرب فكيف يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه يتركه وقد ثبت من حديث جبير بن مطعم أنه رآه في الجاهلية واقفا بعرفة وأن ذلك من توفيق الله له وثبت دعاؤه قبائل العرب إلى الإسلام بمنى ثلاث سنين متوالية كما بينته في الهجرة إلى المدينة.اهـ

قلت: إن صح ذلك الاستنباط من حديث جبير-سيأتي- وغيره كوقائع دعوته في المواسم، فيكون زيادة في العدد لا تمنع الأقل ويكون الحكم بالزيادة مقبول، فالمثبت مقدم على النافي، وإلا فالحكم لحديث جابر الصريح، لأن القول الصريح مقدم على الاستنباط.

• كيف حج النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة ؟
قال ابن العربي في عارضة الأحوذي (1/ 44، 45): فإن قيل: "رويتم أن النبي صلى الله عليه وسلم حجّ قبل أن يفرض الحجّ فعلى أي ملة كان؟ فإن الناس اختلفوا فيه".
قلنا: قد بينا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على شرعه أحد، وأنه كان على الفطرة سليماً عن الريبة، سليماً عن البدعة، سليماً عن المعصية، سد عليه باب المخالفة لما يكره الله بتوفيق الله له ذلك، وتيسيره حتى جاء أمر الله، فلما بعث الله نبينا، وقص عليه أمر الرسل، وأعلمه حالهم وشرائعهم، وتفصيل الكائنات، ورأى الأنبياء حجاجاً كإبراهيم مصلين، حج فتطوّع، فجرى على الطريقة المثلى بتوفيق الله تعالى حتى فرضه الله علينا، وعليه، وأنزل تفسيره إليه، وقال: "خذوا عني مناسككم" فأكمل الله الدين، وأتم النعمة، فتعالى ربنا، وجزاه عنا بأفضل الجزاء".

قلت: ويؤيد ذلك ما أخرجه البخاري (1664)، ومسلم (1220) عن جبير بن مطعم قال: أضللت بعيرا لي، فذهبت أطلبه يوم عرفة، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم واقفا بعرفة، فقلت: «هذا والله من الحمس فما شأنه ها هنا».
ويفسر قول جبير ما أخرجه البخاري (4520)، ومسلم (1219) عن عائشة رضي الله عنها: «كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحمس، وكان سائر العرب يقفون بعرفات، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات، ثم يقف بها، ثم يفيض منها» فذلك قوله تعالى: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} [البقرة: 199].

وأخيرا هذا كان عرض مختصر لما عنون له، نسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد.