هل حقًا يعذب الميتُ ببكاء أهله عليه ؟! (النجم42 ).

قالوا : إن القرآن يذكر أن الله لا يحاسب الإنسان إلا على سعيه وعمله في الدنيا ، ولايحمل أحدٌ أثم أحد....

وذلك لما قال : أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)  (النجم ).

ثم جاء رسول الإسلام وناقض ذلك لما قال : إن المرأة والأخت والابنة حينما تبكي على الزوج يعذب بفعلهم هذا ... وذلك ماجاء في صحيح مسلم برقم 1536 قَالَ r : " إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ " .


الرد على الشبهة


أولاً : إن فهمهم للآيات الكريمات صحيح ، فالميت يحاسب على ما فعل في ديناه من حسنات أوسيئات ؛ أفضى إلى ما قد قدم ...

أما الحديث لم يفهموه فهمًا صحيحًا ؛ فالحديث له فهمٌ صحيحٌ ُيفهم من وجهين :

الوجه الأول : إن الحديث قيل في حادث خاص ، وهو مرور يهودي أمام النبي r وإذ بأصحابه يبكون وأهله يبكون عليه ؛ فبين النبي r أن الميت يهودي فهو يعذب ولم يكن يعلم الصحابة بذلك....

جاء ذلك في صحيح مسلم برقم 1546 عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : ذُكِرَ عِنْدَ عَائِشَةَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ فَقَالَتْ : "رَحِمَ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعَ شَيْئًا فَلَمْ يَحْفَظْهُ إِنَّمَا مَرَّتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ r جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ وَهُمْ يَبْكُونَ عَلَيْهِ فَقَالَ:" أَنْتُمْ تَبْكُونَ وَإِنَّهُ لَيُعَذَّبُ".


الوجه الثاني : إن المقصود بالبكاء هو النياحة والصراخ على الميت ؛ ويقع الوعيد على الذي يوصى بذلك قبل موته ، فهو يحب أن يحزن الناس عليه ويظهروا ذلك....

أما إذا لم يوص بذلك ، أو أوصى أن لا تتبعه نائحة فلا شيء عليه إذا بكى الأهل وعلت أصواتهم...

وأما بكاء العين وحزن القلب من غير نياحة وصراخ ... فإن ذلك من سنن الله التي لا تتبدل ؛ فقد كان نبينا r يبكي ، ويرضى بقدر الله ، ولم يمنع أحدًا من البكاء على ميتهم ...

جاء ذلك عند الحاكم في المستدرك بسند صحيح برقم 1410 عن أبي هريرة قال : لما مات إبراهيمُ ابن رسول الله r صاح أسامة بن زيد فقال : رسول الله r : "ليس هذا مني و ليس بصائح حق القلب يحزن و العين تدمع و لا يغضب الرب".

يدعم ما سبق بيانه هو ما جاء في عون المعبود في شرح سنن أبي داود :
(إِنَّ الْمَيِّت لِيُعَذَّب إِلَخْ ) : قَالَ النَّوَوِيّ فِي شَرْح مُسْلِم : وَفِي رِوَايَة " بِبَعْضِ بُكَاء أَهْله عَلَيْهِ " وَفِي رِوَايَة " بِبُكَاءِ الْحَيّ " وَفِي رِوَايَة " يُعَذَّب فِي قَبْره بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ " وَفِي رِوَايَة " مَنْ يَبْكِ عَلَيْهِ يُعَذَّب " وَهَذِهِ الرِّوَايَات مِنْ رِوَايَة عُمَر بْن الْخَطَّاب وَابْنه عَبْد اللَّه -رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا - وَأَنْكَرَتْ عَائِشَة - رَضِيَ اللَّه عَنْهَا- وَنَسَبَتْهُمَا إِلَى النِّسْيَان وَالِاشْتِبَاه عَلَيْهِمَا ، وَأَنْكَرَتْ أَنْ يَكُون النَّبِيّ r قَالَ ذَلِكَ ، وَاحْتَجَّتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَزِر وَازِرَة وِزْر أُخْرَى } قَالَتْ : وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيّ r فِي يَهُودِيَّة إِنَّهَا تُعَذَّب وَهُمْ يَبْكُونَ عَلَيْهَا ، يَعْنِي تُعَذَّب بِكُفْرِهَا فِي حَال بُكَاء أَهْلهَا لَا بِسَبَبِ الْبُكَاء .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث ، فَتَأَوَّلَهَا الْجُمْهُور عَلَى مَنْ وَصَّى بِأَنْ يُبْكَى عَلَيْهِ وَيُنَاح بَعْد مَوْته فَنُفِّذَتْ وَصِيَّته فَهَذَا يُعَذَّب بِبُكَاءِ أَهْله عَلَيْهِ وَنَوْحهمْ لِأَنَّهُ بِسَبَبِهِ وَمَنْسُوب إِلَيْهِ .
قَالُوا : فَأَمَّا مَنْ بَكَى عَلَيْهِ أَهْله وَنَاحُوا مِنْ غَيْر وَصِيَّة مِنْهُ فَلَا يُعَذَّب لِقَوْلِ اللَّه تَعَالَى : { وَلَا تَزِر وَازِرَة وِزْر أُخْرَى } قَالُوا : وَكَانَ مِنْ عَادَة الْعَرَب الْوَصِيَّة بِذَلِكَ .
وَالْمُرَاد بِالْبُكَاءِ: هُنَا الْبُكَاء بِصَوْتٍ وَنِيَاحَة لَا مُجَرَّد دَمْع الْعَيْن اِنْتَهَى .
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : قَدْ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْأَمْر فِي هَذَا عَلَى مَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ عَائِشَة لِأَنَّهَا قَدْ رَوَتْ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ فِي شَأْن يَهُودِيّ وَالْخَبَر الْمُفَسَّر أَوْلَى مِنْ الْمُجْمَل ، ثُمَّ اِحْتَجَّتْ لَهُ بِالْآيَةِ ، وَقَدْ يَحْتَمِل أَنْ يَكُون مَا رَوَاهُ اِبْن عُمَر صَحِيحًا مِنْ غَيْر أَنْ يَكُون فِيهِ خِلَاف لِلْآيَةِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُوصُونَ أَهْلهمْ بِالْبُكَاءِ وَالنَّوْح عَلَيْهِمْ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْمَيِّت إِنَّمَا يَلْزَمهُ الْعُقُوبَة فِي ذَلِكَ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَمْره إِيَّاهُمْ بِذَلِكَ وَقْت حَيَاته اِنْتَهَى .


ثانيًا : إن الكتاب المقدس ذكر أن الميت يعذب في قبره لمجرد البكاء عليه ؛ جاء ذلك في الآتي :

1- سفر حزقيال إصحاح 24 عدد 15-17" وكان إلىَّ كلام الرب قائلاً : يا ابن آدم هَأنذا آخذ عنك شهوة عينيك بضربة فلا تَنُح ولا تبكِ ولا تنزل دموعك. تَنَهَّد ساكناً. لا تعمل مناحة على أموات".

2- سفر أرمياء إصحاح 31- عدد 15-16 "راحيل تبكى على أولادها وتأبَى أن تتعزى عن أولادها لأنهم ليسوا بموجودين. هكذا قال الرب. امنعي صوتك عن البكاء وعينيك عن الدموع لأنه يوجد جزاء لعملك يقول الرب". لا تعليق !
كتبه / أكرم حسن مرسي