صناعة جيل النصر

يحاولُ بعضُ دُعاةِ التنويرِ - زَعمُوا - أنْ يفصلَ
بينَ القرآنِ الكريمِ باعتبارهِ منْهجًا للحياةِ الرشيدةِ وبينَ الواقعِ ؛
مُتخذًا منْ تغيراتِ الزَّمانِ ذريعةً لأنْ يؤطِّرَ تفعيلَ المنهجِ القرآنيِّ
ببيئتهِ الزمانيّةِ والمكانيّةِ ؛ مُتهمًا في الوقتِ ذاتِه أيَّ محاولةٍ لتثويرِ
المعنى القرآنيِّ و اسْتمدادِ منهجهِ في العصرِ الحاضرِ
بالظلاميّةِ والرجعيّةِ.

وحسبُ أولاءِ أن يتريَّثوا أمدَا عندَ قوله تعالى :

{إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ
يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا}[9- الإسراء] ،

وكيفَ أنَّ الفعلَ ( يهدي ) فعلٌ لا ينقطعُ حدوثُه وتجددُه.



والأمَّةُ اليومَ بحاجةٍ ماسَّة ِإلى أنْ تَنْقل كلامَ اللهِ
- عزّ وجلّ -
إلى منهجِ حياتها, وواقعِ معيشتها.

إنَّ الواجبَ علينا قبلَ أنْ نصنَع النَّصرَ أنْ نُفكِّرَ
ماذا أعددنا لما بعدَ النَّصرِ ؟ هذا السؤالُ الكبيرُ ليسَ
استباقًا للأحداثِ, بلْ قراءةً متفائلةً لمرحلةِ ما بعدَ النَّصرِ,
وهكذا بَدَأَ السياقُ القرآنيُّ في سورةِ الأنفالِ سُورة بدرٍ
الكُبرى, و قانونُ النصرِ والظَفَرِ.

بَدَأ الحديثُ عن الأنفالِ آخرِ أحداثِ المعركةِ,
و بارقةِ النصرِ المؤزرِ, في إشارةٍ لطيفةٍ إلى الظفرِ
والنصرِ في غزوةِ بدرٍ, وحسمَ السياقُ قضيّةَ الأنفالِ
وهي منْ نتائجِ المعركةِ قبلَ أنْ يحسمَ المعركةَ ذاتَها.



إنَّ شهوةَ النصرِ والظَفَرِ مجردةً عن الأهدافِ والقيمِ
والمشاريعِ الإصلاحيّةِ شهوةٌ لا قيمةَ لها. ماذا سنجني
من تحريرِ القُدْسِ وتحريرِ الأندلسِ وممتلكاتِنا المفقودةِ
إنْ لم يكنْ بالأيدي مشروعٌ نقدمُه, وماذا سنجني من تحريرِ
هذه المقدساتِ إنْ سَلَّمنا مفاتيحها كَرهًا اليوم التالي ؟! وماذا
سنجني منْ هذهِ الفتوحاتِ إنْ لمْ يكنْ لدينا جيلٌ للنصرِ قادرٌ
أنْ يقودَ هذا العالمَ ؟ ولذلكَ التفتَ السياقُ القرآنيُّ البليغُ
إلى هذه النُّكتةِ في سورةِ الأنفالِ في حديثٍ مفصَّلٍ عن
الإيمانِ و غرسِه في النُّفوسِ غرسًا عميقًا بدءًا بالتَّحفيزِ

{إنْ كنتم مؤمنين}

ثم بتجليةِ مفهومِ الإيمانِ

{إنَّما المؤمنونَ}

ثم بمُلاحظة دقيقةٍ لثمرتِه

{زادتهم إيمانًا}

ثم بالظَفَرِ بالنتيجةِ

{أولئكَ هم المؤمنون حقًا}.



ويبقى السؤالُ كيفَ لنا أنْ نُحقِّقَ النَصَر؟

ونصنعَ هذا الجيلَ؟

عندَ تأملنا لسياقِ الآياتِ السابقةِ نجدُ أنَّ القرآنَ
ابتدأَ بالحديثِ عن المعركةِ الأُولى في ميدانها العميقِ,
إنَّها معركةُ النفسِ, لأنَّ عمليةَ النصرِ عمليةٌ تراكميَّةٌ يتحققُ
فيها النصرُ الجمعيُّ بالنصرِ الفرديِّ أولًا, وهكذا يَعُدُّ السياقُ
جيلَ النصرِ المؤمنِ الذي يصلحُ أنْ يقودَ العالمَ, ويبتدئُ
النَّصُّ من أعمقِ نقطةٍ في دفائنِ النفوسِ

{إذا ذكر الله وَجِلَت قلوبُهم}

{وإذا تُليت عليهم آياتُه زادتهم إيمانًا}

إنَّها تبدأُ من نُقطةِ المعتقدِ, نقطةِ الأحاسيسِ
والمشاعرِ المهذبةِ, والقلوبِ المرهفةِ ؛
وتبقى القضيّةُ معلقةً بمسألةِ الإيمانِ

{زادتهم إيمانا}

فهو المقياسُ الصحيحُ و كذلك

{على ربهم يتوكلون}

إنَّها أفعالٌ قلبيةٌ خفيّةٌ,وكذلك جيلُ النصرِ
أنقياء أخفياء أتقياء.



وفي سياقِ جهادِ النفسِ ينتقلُ من دفائنِ النفوسِ,
إلى أفعالِ الجوارحِ الظاهرةِ - سواءً قلنا بجزئيّةِ العملِ
أو لزوميّتهِ للإيمانِ على الخلافِ المشهورِ - خروجًا من
الخفاءِ إلى العَلَنِ فهم يقيمونَ الصَّلاةَ ولا يؤدونَ الصلاةَ
وبونٌ شاسعٌ بينَ إقامةِ الصلاةِ وأَدَائِها, ثمَّ إنَّ هذه الأفعالَ
تربيهم على البذْلِ, فتبتدئُ ببذلِ المالِ لتنقلهم بعد ذلك
إلى الميدانِ الأكبرِ إلى بذل النفوسِ

{ومما رزقناهم ينفقون}.

إنَّ تلكَ الأماراتِ وإنْ لمْ تكنْ هي الإيمانَ كلَّه
إلّا أنَّها دليلٌ قاطعٌ على وجودِه. وهكذا نلحظُ في
السياقِ كيفَ كانتْ العنايةُ بجيل النصر ابتداءً
من القلبِ وانتهاءً بالبذلِ.


وبهذا الاستعدادْ يكونُ المرءُ إنسانًا صالحًا
لأنْ يكونَ في جُملةِ المنتصرين, ليبدأ السياقُ بعد
ذلك في الحديثِ عن ميدانِ الجهادِ الأكبرِ..
في أرضِ المعركةِ وتلك قصةٌ أخرى للنصرِ.


منقول