كانت تبكي .. وكنت أبكي

لم أتنبّه إلى أن فمي لم يعد مغلقاً.

فقد كان فكي متدلياً وعيناي تبحلق في ذهول وأنا أستمع إلى شكواها.

كانت تتكلم وشفتاها ترتجف من فرط الأسى..

وكانت تفرك أصابعها النحيلة في تشنج واضح.

بابا لن يأخذنا إلى جنيف هذا السنة!

تستطيع أن ترى آثار دموعها وقد جفت على خديها.

مسكينة بحق.



أبوها ارتكب جرماً.. شنيعاً.. فقد قرر أن يحرمها وأخواتها

من قضاء صيفهن على إحدى قمم جبال الألب.

تعجبن من فعلته..

فكيف يستقيم حالهن وقد أصبح هذا الأمر جزءاً أصيلاً من طقوس سنوية

تبدأ في جنيف وتنتهي بقضاء أسبوعين بين لندن وباريس للتسوق والترفيه.

محدثتي ذات ثلاثة عشرة ربيعاً.. وعلامات مصابها تفوق الوصف.

تأملت في أعراض الاكتئاب التي بدأت تلوح في أفق هذه الفتاة وأحسست بحزن بالغ.

وكرهت أباها فقد حكم عليها – بفعلته- أن تعيش شهوراً من الأسى والانعزال.

ولا شك عندي أن فكرة الانتحار بدأت تغازل خلايا عقلها البريء.

استمعت إلى شكواها.. وتذكرت شكوى غيرها.




ماما ما تخليني أروح مع صاحباتي على المول!

(حاجبان معقوفان دلالة الأسى).

بابا ما اشترى الليكزس اللي وعدني بيها لو نجحت في الثانوية!

(تنهيدة طويلة).

جلست أطول أظافري شهرين وتصدقي انكسر واحد اليوم وأنا في الجامعة!

(دموع ودموع).




واحد مغفل "حك" طرف سيارتي ونكّد عليّ يومي كله!

(شفتان مزمومتان في حنق).

شوف الحبة اللي طلعت في جبيني.. يا الله.. كيف أروح عند البنات اليوم؟!

(زفير طويل متكرر دلالة الغيظ).

فريق برشلونة انهزم.. وربي قلبي يؤلمني!

(وهو ينتحب كأن أباه وأمه ماتا في ليلة واحدة).




تستقبل أذناي كل هذا وذاك.

وعقلي يسترجع لقطات سريعة:

فيها عباءات ضيقة ومجسمة.

وفيها تسريحات شعر عجيبة.. منها ما هو حيواني..

ومنها ما هو بدائي.. ومنا ما هو غير قابل للتصنيف.

وفيها دندنة أغاني.. وترانيم موسيقى.. وتمايل مقزز.

وفيها كلمات غنج ودلع متكلف.

وفيها تشبه بمن عصى الله.

وفيها انغماس جزئي أوكلي في أوحال الدنيا.




أصابني صداع نصفي حاد وأنا أقلب في ملفات شبابنا وفتياتنا.

عدت إلى منزلي.

وأسرعت إلى حاسوبي لعلي أن أقرأ أو أشاهد ما يسليني

وينسيني ما سمعت وما رأيت.

تلقيت بريداً إلكترونياً.. فيه سطر واحد.. رابط إلى مشهد مسجل.

فتاة تركية.. تدرس في المرحلة الثانوية.

تفوقت.. وتميزت وترشح اسمها فدعيت إلى استلام جائزة تقديرية.

هي على المنصة.. تقف بين زميلاتها المتفوقات..

وأمام حضور كثيف.. بينهم أسماء مسؤولين كبار في الدولة.

وقفت على المنصة وهي تلبس لباساً

يقلب موازين وبروتوكولات البلد.


كانت ترتدي الحجاب!



لم يخجلوا.. ولم يراعوا براءتها.. ولم يقدروا حياءها..

فأنزلوها قسراً من على المنصة.

وأمروها بمغادرة القاعة.. وحجبوا جائزتها.

سالت دموعها.. وبكت قهراً وحنقاً.


لم تخلع حجابها من أجل جائزة..

بل تقدمت إلى المسؤولين وطالبت بحقها فرفضوا الكلام والنقاش.



غادرت وغادر معها من غضبوا لأجلها.

غادرت وهي تقول في وضوح


أنها تلبس حجابها امتثالاً لأمر الله.


غادرت وهي تبكي حجابها.

غادرت وهي تشتاق إلى رجال من طراز ابن الخطاب

وابن الوليد وقطز وصلاح الدين وأحمد ياسين.


كانت تبكي.




عدت إلى المشهد من جديد.

عيناي تتابع ما يجري لها..

وعقلي يسترجع ما يبكي لأجله فتياتنا وشبابنا.

كانت الفتاة التركية تبكي.

وكنت أبكي.

ليس من أجلها.. فهي في غنى عن دموعي الباردة.

كنت أبكي.. من أجلي ومن أجلكَ ومن أجلكِ.

سالت دموعي.. وشفتاي تتمتم: ألا نخجل؟!

منقول