موسى فقأ عين ملك الموت ؟!

قالوا : وجدنا في بعضِ الأحاديثِ أن موسى لطمَ ملكَ الموتِ على عينه ففقأها ؛ لأنه لا يريد الموت... !
اعتمدوا في شبهتِهم على ما جاء في صحيحِ مسلم كتاب ( الفضائل) باب (من فضائل موسى  ) برقم 4374 عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى  فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ فَفَقَأَ عَيْنَهُ فَرَجَعَ إِلَى رَبِّهِ فَقَالَ : أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ. قَالَ : فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ عَيْنَهُ ، وَقَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَلَهُ بِمَا غَطَّتْ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ قَالَ : أَيْ رَبِّ ثُمَّ مَهْ قَالَ : ثُمَّ الْمَوْتُ .قَالَ: فَالْآنَ فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنْ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r :" فَلَوْ كُنْتُ ثَمَّ لَأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ تَحْتَ الْكَثِيبِ الْأَحْمَرِ ".

الرد على الشبهة

أولاً : إن نسفَ هذه الشبهةِ نسفًا يكون من خلالِ طرحِ أسئلةٍ ، ثم أقوم بالإجابةِ عليها - إن شاء الله - :
السؤال الأول : هل ملكُ الموتِ كان يظهرُ للناسِ علانيةً حتى يفقأ موسى  عينَه ؟
الجواب : نعم ، كان يظهر علانية ، يدل على ذلك ما قاله ابنُ حجرٍ في الفتحِ في قَولِه : ( أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى  فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ ) أَيْ : ضَرَبَهُ عَلَى عَيْنِهِ ، وَفِي رِوَايَةِ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ " جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى  فَقَالَ : أَجِبْ رَبَّك ، فَلَطَمَ مُوسَى  عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ فَفَقَأَهَا " وَفِي رِوَايَةِ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالطَّبَرِيِّ " كَانَ مَلَكُ الْمَوْتِ يَأْتِي النَّاسَ عِيَانًا ، فَأَتَى مُوسَى فَلَطَمَهُ فَفَقَأَ عَيْنَهُ " . أهـ
قلتُ : وبالنظرِ إلى القرآنِ الكريم ، وسفرِ التكوين نجد أن الملائكةَ أتت إبراهيمَ ، ولوطًا - عليهما السلام- في صورةِ بشرٍ ، كما أن جبريلَ أتى النبيَّ r في صورةِ بشرٍ ، وذلك في حديثِ جبريل المشهور وغيره ، و كان يأتيه في صورةِ الصحابيِّ دحية الكلبي  ، ومن المعلومِ والمقطوعِ به أن ملكَ الموتِ من الملائكةِ ؛ لقوله :  قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)  (السجدة ).

وعليه : فلا يوجد مانع من ظهورِه علانية لموسى  أو لغيرِه ، فهذا ليس ممتنعا في حق الانبياء....
السؤال الثاني : لماذا فقأ موسى  عينَ ملكِ الموت ؟ وهل ملكُ الموتِ أعور الآن ؟
الجواب : فقأ موسى  عينَ ملك الموت ؛ لِأَنَّهُ رَأَى آدَمِيًّا دَخَلَ دَارَهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مَلَكُ الْمَوْتِ ففقأ عينه ، وهذا ثابت في شرعنا أيضًا لدليلين:
الأول : صحيح البخاري برقم 6393 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ r :" لَوْ أَنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَخَذَفْتَهُ بِعَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ ". الْمُرَاد بِالْجُنَاحِ هُنَا : الْحَرَج .
الثاني : صحيح مسلم برقم 4016 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  عَنْ النَّبِيِّ r قَالَ :" مَنْ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فَقَدْ حَلَّ لَهُمْ أَنْ يَفْقَئُوا عَيْنَهُ ".
قال النوويُّ - رحمه اللهُ - في شرحِه : قَالَ الْعُلَمَاء: مَحْمُول عَلَى مَا إِذَا نَظَر فِي بَيْت الرَّجُل فَرَمَاهُ بِحَصَاةِ فَفَقَأَ عَيْنه. وَهَلْ يَجُوز رَمْيه قَبْل إِنْذَاره؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا : أَصَحّهمَا جَوَازه لِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيث وَاللَّه أَعْلَم . أهـ
أما عن الشق الثاني من السؤال الذي يقول : هل مَلَكِ الْمَوْتِ أعور الآن ؟
الجواب: لا ، فقد جاء في الحديثِ :" فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ عَيْنَهُ ".
يبقى السؤال: لماذا رد الله عليه عينَه ؟
الجواب : رَدَّ اللَّه  عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ لِيَعْلَمَ مُوسَى أَنَّهُ جَاءَهُ مِنْ عِنْدِه فَلِهَذَا اِسْتَسْلَمَ حِينَئِذٍ ، ولأسباب أخرى يعلمها اللهُ  .
السؤال الثالث : هل موسى  لم يكن يريد الموت لذا فقأ عينَ ملك الموت ؟
الجواب : لا ؛ لأن موسى لم يكن يعرف أنه ملك الموت، وَأَنَّ اللَّهَ رَدَّ عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ لِيَعْلَمَ مُوسَى  أَنَّهُ جَاءَهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، ولهذا نجد في الحديثِ لما قال اللهُ للملك :" ارْجِعْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَلَهُ بِمَا غَطَّتْ يَدُهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ ". قَالَ:" أَيْ رَبِّ ثُمَّ مَهْ "؟ قَالَ:" ثُمَّ الْمَوْتُ ." قَالَ: "فَالْآنَ ".
نلاحظ : قولَ موسى  : " فَالْآنَ ".
السؤال الرابع : هل تعمدَ موسى  فقأ عينِ ملكِ الموت ؟
الجواب : لا ؛ قال النوويُّ- رحمه اللهُ - : أَنَّ مُوسَى  لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مَلَك مِنْ عِنْد اللَّه ، وَظَنَّ أَنَّهُ رَجُلٌ قَصَدَهُ يُرِيدُ نَفْسَهُ ، فَدَافَعَهُ عَنْهَا ، فَأَدَّتْ الْمُدَافَعَةُ إِلَى فَقْءِ عَيْنِهِ ، لَا أَنَّهُ قَصَدَهَا بِالْفَقْءِ ، وَتُؤَيِّدُهُ رِوَايَة ( صَكَّهُ ) ، وَهَذَا جَوَاب الْإِمَام أَبِي بَكْر بْن خُزَيْمَةَ وَغَيْره مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ ، وَاخْتَارَهُ الْمَازِرِيّ وَالْقَاضِي عِيَاض ، قَالُوا : وَلَيْسَ فِي الْحَدِيث تَصْرِيح بِأَنَّهُ تَعَمَّدَ فَقْء عَيْنه ، فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ اِعْتَرَفَ مُوسَى  حِين جَاءَهُ ثَانِيًا بِأَنَّهُ مَلَك الْمَوْت ، فَالْجَوَاب أَنَّهُ أَتَاهُ فِي الْمَرَّة الثَّانِيَة بِعَلَامَةٍ عَلِمَ بِهَا أَنَّهُ مَلَك الْمَوْت ، فَاسْتَسْلَمَ بِخِلَافِ الْمَرَّة الْأُولَى . وَاللَّهُ أَعْلَمُ . أهـ

السؤال الخامس : هل أقر موسى  بأنه أرتكب معصيةً ، أو خطيئةً كما كان من قتل المصري؟
الجواب : لا ؛ لأنه لم يفعل ذنبًا أصلاً ؛ يدل على ذلك حديث الشفاعة الثابت عند البخاري في صحيحه ففيه نجد الناسَ يأتون موسى  يستشفعونه فيصرفهم عنه ، ويذكرهم بخطيئةٍ واحدةٍ فقط اقترفها ؛ هي قتل المصري ، ولم يذكر غيرها ؛ الحديث يقول : " فَيَأْتُونَ مُوسَى ، فَيَقُولُونَ يَا مُوسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ ، فَضَّلَكَ اللَّهُ بِرِسَالَتِهِ وَبِكَلاَمِهِ عَلَى النَّاسِ ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ فَيَقُولُ : " إِنَّ رَبِّى قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ ، وَإِنِّي قَدْ قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا ، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي ، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي ، اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى... ".
وعليه لو كان فعله  مع الملكِ فيه خطيئة ، أو معصية ؛ لذكرها الحديثُ ؛ بل إن الله أثنى عليه في كتابِه المجيد قائلاً لمحمدٍ r:  وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51)  (مريم) .


ثانيًا : إن المعترضين يتعجبون من أن موسى رد ملكَ الموتِ ؛ لأنه لم يكن يعرفه ، ولا يتعجبون مما جاء في الكتابِ المقدس الذي ينسب لموسى  انه رد الله َ قائلاً له : " اِرْجِعْ عَنْ حُمُوِّ غَضَبِكَ، وَانْدَمْ عَلَى الشَّرِّ بِشَعْبِكَ ".!
جاء ذلك في سفر حزقيال إصحاح 32 عدد 11فَتَضَرَّعَ مُوسَى أَمَامَ الرَّبِّ إِلهِهِ، وَقَالَ: «لِمَاذَا يَا رَبُّ يَحْمَى غَضَبُكَ عَلَى شَعْبِكَ الَّذِي أَخْرَجْتَهُ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ بِقُوَّةٍ عَظِيمَةٍ وَيَدٍ شَدِيدَةٍ؟ 12لِمَاذَا يَتَكَلَّمُ الْمِصْرِيُّونَ قَائِلِينَ: أَخْرَجَهُمْ بِخُبْثٍ لِيَقْتُلَهُمْ فِي الْجِبَالِ، وَيُفْنِيَهُمْ عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ؟ اِرْجِعْ عَنْ حُمُوِّ غَضَبِكَ، وَانْدَمْ عَلَى الشَّرِّ بِشَعْبِكَ. !
ثم يتعجبون من أن موسى  فقأ عين ملك الموت ؛ لأنه لم يكن يعلم أنه ملك الموت ، ولا يتعجبون من أن نبيَّ اللهِ يعقوب صارع ربَّ العالمين فغلبه ...... مع العلمِ أن يعقوبَ كان يعلم تمامَ العلمِ أنه يصارع اللهَ بزعمِ النص ،وذلك في سفر التكوين إصحاح32 عدد24فَبَقِيَ يَعْقُوبُ وَحْدَهُ، وَصَارَعَهُ إِنْسَانٌ حَتَّى طُلُوعِ الْفَجْرِ. 25وَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، ضَرَبَ حُقَّ فَخْذِهِ، فَانْخَلَعَ حُقُّ فَخْذِ يَعْقُوبَ فِي مُصَارَعَتِهِ مَعَهُ. 26وَقَالَ: «أَطْلِقْنِي، لأَنَّهُ قَدْ طَلَعَ الْفَجْرُ». فَقَالَ: «لاَ أُطْلِقُكَ إِنْ لَمْ تُبَارِكْنِي». 27فَقَالَ لَهُ: «مَا اسْمُكَ؟» فَقَالَ: «يَعْقُوبُ». 28فَقَالَ: «لاَ يُدْعَى اسْمُكَ فِي مَا بَعْدُ يَعْقُوبَ بَلْ إِسْرَائِيلَ، لأَنَّكَ جَاهَدْتَ مَعَ اللهِ وَالنَّاسِ وَقَدَرْتَ». 29وَسَأَلَ يَعْقُوبُ وَقَالَ: «أَخْبِرْنِي بِاسْمِكَ». فَقَالَ: «لِمَاذَا تَسْأَلُ عَنِ اسْمِي؟» وَبَارَكَهُ هُنَاكَ.
30فَدَعَا يَعْقُوبُ اسْمَ الْمَكَانِ «فَنِيئِيلَ» قَائِلاً: «لأَنِّي نَظَرْتُ اللهَ وَجْهًا لِوَجْهٍ، وَنُجِّيَتْ نَفْسِي».
قلت : إنني في غاية الدهشة نبي الله يعقوب صارع رب العالمين فهزمه وقال له ربه أطلقني لأَنَّهُ قَدْ طَلَعَ الْفَجْرُ». فَقَالَ: «لاَ أُطْلِقُكَ إِنْ لَمْ تُبَارِكْنِي»!
ثم يتعجبون ويزعمون أن موسى لا يريد الموت ، ولا يتعجبون من أن ربَّهم يسوع بحسب إيمانِهم كان خائفا ًالموت ، وكان يتضرع إلى اللهِ لينجيه....
وإني لأعجب واللهِ من معتقدهم بصلبِه يزعمون أنه جاء ليصلب في حين إنه هو نفسه لا يريد الصلب ، فجعلوه مصلوبًا ملعونًا ؛لأنه ملعون كل من علق على خشبةٍ !
نقرأ في إنجيل مرقس إصحاح 14 عدد 35ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلاً وَخَرَّ عَلَى الأَرْضِ، وَكَانَ يُصَلِّي لِكَيْ تَعْبُرَ عَنْهُ السَّاعَةُ إِنْ أَمْكَنَ. 36وَقَالَ:«يَا أَبَا الآبُ، كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لَكَ، فَأَجِزْ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسَ. وَلكِنْ لِيَكُنْ لاَ مَا أُرِيدُ أَنَا، بَلْ مَا تُرِيدُ أَنْتَ». !
قلتُ : إن الواضح من النصوصِ أن يسوع المسيحَ دعا اللهَ كي ينجيه من القتلِ ... لقولِه  :" يَا أَبَا الآبُ، كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لَكَ، فَأَجِزْ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسَ...". أي : نجني يارب من هذه التجربةِ ؛ اليهودُ يريدون قتلي .
ثم إن نصوص الأناجيلِ أخبرتنا أن يسوعَ كان يائسًا ساخطًا على الصليبِ يصرخ في ربِّه ؛ لأنه تركه ولم ينجيه ، وذلك في إنجيل مرقس إصحاح 15 عدد 34وَفِي السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً:« إِلُوِي، إِلُوِي، لِمَا شَبَقْتَنِي؟ » اَلَّذِي تَفْسِيرُهُ : إِلهِي ، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟! لا تعليق !

للأستاذ / أكرم حسن مرسي