مراتب النفس


إن النفس تنخفض إنحطاطاً بالمعصية والإصرار على الخطيئة ، وترتقي بالطاعة والعبادة لله علوا وسمواً في مراتبها في هذه الحياة ، عند ربها سبحانه ، وبلا شك إن النفس واحدة ، لا تتعدد ولا تتنوع ، ولها مراتب تنتقل فيها من انحطاط ودنو إلى علو وسمو ، وبالعكس .

وبناء على ذلك اعتبر الإسلام للنفس ثلاث حالات وهي : النفس الأمارة ، والنفس اللوامة ، والنفس المطمئنة ، سوف نذكرها بنوع من التفصيل بإذن الله .
واعتبرهـا الفيلسوف اليوناني أفلاطون ( Plato ) ثلاثة أنفس وهي :
1 - النفس العاقلة , ومكانها الرأس , وفضيلتها الحكمة
2 - النفس الغضبية , ومكانها الصدر وفضيلتها الشجاعة
3 -النفس الشهوانية , ومكانها البطن , وفضيلتها العفة .

ويقول أفلاطون : تقوم صحة النفس ، وسلامتها على نجاح النفس العاقلة ، في تحقيق التوازن ، بين مطالب النفس الغضبية , ومطالب النفس الشهوانية ..
شبَّهَ أفلاطون الإنسان بعربة يجرها حصانان : أحدهما النفس الغضبية ، والآخر النفس الشهوانية , وتقودها النفس العاقلة , فإذا نجح قائد العربة في كبح جماح الحصانين والسيطرة على العربـة , تحققت صحـة النفس وسلامتها , وإذا فشل قائد العربة في التوازن ، تحطمت العـربة , وكذا الصحة النفسية عند الإنسان ، تقـوم على قدرة القـوة العاقلة فيه ، على تحقيق التوازن بين هاتين القوتين : ووهن الصحة النفسية ، يدل علىعجز القوة العاقلة عن تحقيق ذلك .
عدد أفلاطون الأنفس وجعلها ثلاثة ، وافترض صراعاً دائماً ، بين الأنفس الثلاثة داخل الإنسان ، لا يرتاح ولا يهدأ له قرار ، ولا يجد استقراراً أبداً إلا بالمـوت ..
والحقيقة تتعارض مع هذا الرأي . فالنفس واحدة ، غير متعددة ، تتغـير صفاتها ، بما يعتريها من تأثرات اجتماعية وثقافيـة ، وتربية روحية قال الإمام الغزالي :( نفس الإنسان وذاته توصف بأوصاف مختلفة بحسب اختلاف أحوالها )
وأما افتراض الصراع الدائم ، فغير مسلم به على اطلاقه ، فالنفس في هذا على مذاهب وحالات وصفات هي:
1 - النفس اللوامة : 2 – النفس الأمارة :
3 – النفس الراضية المطمئنة :

ويختلف الصراع بين الإدراكات العقلية والنفس ، حسب حالة النفس ، من أمارة إلى لوامة ، إلى راضية مطمئنة ..

وأما القوة العاقلة :
هي الإدراكات العقلية ، فقد منحها الله قوة التوازن بين متطلبات الروح كالعبادة والزهد ، والأخلاق والفضيلة ، والسمو بالجسد المادي إلى عالم الملكوت ، ومتطلبات النفس المادية ، كالمرغبات والشهوات والأنانية ، والدنو بالجسد المادي إلى الإنحطاط .

1 - النفس اللوامة

هي التي تكون وسطاً بين أمرين بين الخير والشر ، فهي تفعل الخير وتحبه ، وتعمل المعصية وتكرهها ، بل تميل إلى فعلها لتأثير عوامل اجتماعية أو بيئة عليها ، وتجدها إذا فعلت المعصية ، شعرت بالندم والحسرة ، وتلوم نفسها أي حال فعلها ، وتمنت أنها لم تفعلها ، وتوصف هذه النفس بالنفس اللوامة . وهذه الحالة في النفس يكون فيها صراعاً بين الخير والشر في داخلها .


والإنسان في بداية أمره إذا ارتكب ذنبا , أو ارتكب خطيئة ، شعر في داخله بإحساس يؤنبـه ، لارتكابه ذلك الذنب , وهذا يظهر واضحاً جلياً ، عند من لم يرتكب ذنبا أو عملاً سيئاً قبل ذلك ، فإنه إذا ارتكب ذنباً أو خطيئة إبتداءً ، يشعر بمحاسب يحاسبه ويؤنبه , لماذا فعلت هذا , ويتمنى أنه لو لم يفعله , وإذا عاد إليه ثانية ضعفت خاصية الشعور بالذنب والخطيئة ، وضعفت النفس المؤنبة تدريجياً , وتستسلم لعنصر المادة الثقيل ، وينتقل صاحبها إلى مرحلـة الميل إلى المعصيـة واستحسانها, وتصبح المعصية أليفة نفسه ، وميزان أفعاله ، في هذه الحالة تنتقل نفسه إلى نفس أمارة ..
ومن الفطرة أن الإنسان حين يرتكب خطأً ، يشعر في داخله بشيء يؤنبه ويلومه على فعله , وقد عبرنا عن هذا المؤنب والمحاسب بالنفس , وسماها الله بالنفس اللوامة ، وهي أيضاً تلوم صاحبها على فعل الخير إذا فاتها فعله لِمَ لَمْ تفعله . وقد ذكر الله النفس اللوامة في القرآن الكريم لما لها من تأثير طيب على صاحبها في تبديل حاله من الشر إلى الخير ومن الخطيئة إلى الطاعة , فقال تعالى في سورة القيامة 1 ( لا أقسم بيوم القيامة , و لا أقسم بالنفس اللوامة , أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نُسَوِّي بنانه ) فقد أقسم الله بيوم القيامة لتحقيق وقوعه ، وبيان هولـه ، وإيقاظ النفوس النائمة التائهة والغافلة عنه ، فتصحو وتتنبه من غفلتها وسباتها ، وقد ذكر الله النفس اللوامة إثر قسمه بيوم القيامة للعلاقة الوثيقة بين مصير النفس وقيام ذلك اليوم ، حيث تقف فيه وحيدة دون نصير من أهل وولد ومال ، وعن ذلك قال الله في سورة الفرقان 88 { يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم } وفي ذلك اليوم تذهل النفوس رهبةً وخوفاً ، يقول الله في سورة الحج 2 { يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شـديد } وفيه تضطرب الأنفس وتفر من أقرب الأنفس إليها ، يقول الله في سورة عبسَ 36 { يوم يفر المرؤ من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه } ثم يقول في سورة المعارج 13 { يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه} فلعل هذه النفس تتذكر وهْلَةَ وشدَّة ذلك اليوم ، وتتقيه بعمل صالح تفوز بسببه برضوان الله ، وقد أودع الله في النفس إحساساً دقيقاً يصحبها ليذكره ويحذره من الزلل والخطأ في جنب الله . قال الحسن البصري رحمه الله : إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه : ما أردت بكلمتي ؟ . وما أردت بأكلتي ؟ . ما أردت بحديث نفسي ؟ .
وهذه النفس تلوم صاحبها على كل فعلِ شرٍ فعلَهُ ، أو فعلِ خيرٍ أعرَضَ عنه يقول عكرمة رضي الله عنه : تلوم على الخير والشر ، لو فعلت كذا وكذا هذه النفس اللوامة المؤمنة التي تراقب الله في تصرفاتها وأفعالها ، وتدفع صاحبها إلى الخير , هي يقظة تشعر بالخجل من فعل القبيح أمام بني جنسها الإنسان ، ومن الله سبحانه حسب مركزها من الإيمان بالله . وهذه النفس يغلب عليها العودة إلى رشدها ، ويكون نهايتها الرقي والكمال .
وإن كانت كافرة راقبت الناس في ذلك , وخجلت ممن راقبته , واعتقدت أنها أساءت إليه . ويغيب فيها المؤنب والمحاسب ، وتضعف فيها الفطرة السليمة وتموت تلك المراقبة فيها تدريجيـاً ، إذا كرر صاحبها المعصية وأصر على ارتكابها ، حتى تؤدي به إلى حضيض الفساد , وتوصله في نهاية مطافه إلى عدم مراعاة أحدٍ من الناس ..
قال الحسن البصري :" وإن الفاجر يمضي قدماً ما يعاتب نفسه ." .
فإن النفس تُعَـِللُ فجورَها واستمرارَها في الخطأ والمعصية ، بنسبةِ كل ما يفعله الإنسان إلى البيئةِ والمجتمع الذي يعيش فيه ، وقد حكى الله تعالى على لسان المشركين في سورة الأعراف 28 - 29 { وإذا فعلوا فاحشة قالوا : وجدنا عليها آباءنا } ينسب المشركون فعلهم الفاحشة لآبائهم , ويَدَّعُون أن الله أمرهم بفعلها , ولهذا أمر الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يخبرنا بالحق فقال تعالى في نفس الآية { قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون .}
وقال الله تعالى الأعراف 33 { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن , والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله مالا تعلمون ) . هذه النفس التي تفقد الإحساس بالخطيئة والذنب هي النفس الأمار كما سنطالع معاً بإذن الله



2 - النفس الأمارة :
1 - حين تتغلب المعصية على النفس ، تتصف بها ، ويطلق عليها النفس الأمارة بالسوء ، لكونها تميل إلى السوء وحب العصيان ، والغفلة عن الطاعة والعبادة .
النفس الأمارة هي التي تأمر صاحبها بالمعصية , واستحسانها والتلذذ بفعلها , وكراهة الطاعـة , وتدعو إلى المعصية والخطيئة , مفتخرة بفعلها ، وتستهجن العفة والفضيلة .
وهذه النفس قد استحوذ عليها الشيطان ، وسيطر على ذوقها ، وأمات فيها عنصر الحياء والخجل ، وقد ذكرها الله في القرآن الكريم في سورة الشمس 7 - 10 : حيث قال تعالى { وقد خاب من دساها } أي غذاها بالفجور والخوض في المعصية, والميل عن الفطرة السليمة ، عن طريق حاسة الهوى والشهوة , والإبتلاءبتغلغل الشيطان فيها , فتصبح هذه النفس لا عدوَ أعدَى لابن آدم منها .
وهذه النفس لا تريد الا الدنيا ولا تحب الا الدنيا وتأخذ بالبـدن إلى الدنو لعالم المادة والشهوات والملذات , وإلى حب الرئاسة و الإستعلاءعلى جنسها , و استغلال غيرهابالسيطرة والنفوذ ، وجمع المال الفاني . .
ووصف الله اصحاب تلك القلوب والنفوس الضالة عن الحق والهدى قال تعالى في سورة الحج 46 { إنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور }
والغريب حقيقة ، أن أصحاب هذه النفس ، لا يرون حياة أفضل من حياتهم ، ويعتقدون أن المعصية والتلذذ بها ، هي السعادة ، وإذا فاتت أحدهم أصابته الكآبة والغم ، وقد ينتحر نتيجة فشله في اكتسابها ، ويطلق أصحاب تلك النفوس العفنة على تلك الفحشاء والمعصية ، اسم الحضارة والتقدم ودونها تخلف ، ويصفون أصحاب النفوس المؤمنة العفيفة من أبناء مجتمعهم وبيئتهم بالغباء.
روى الإمام مسلم في كتاب الإيمان (207 ) عن حذيفة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : تعرض الفتن على قلوبٍ كالحصير ، عوداً عوداً ، فأي قلبٍ أُشْرِبَها نُكِتَ فيه نُكْتَةٌ سواءُ . وأي ُّ قلبٍ أنكرها نُكِتَ فيه نُكْتَةٌ بيضاءُ حتى تَصير على قلبين . على أبيض مثل الصفا ، فلا تَضُر‍ُهُ فتنةٌ ما دامت السماواتُ والأرضُ ، والآخرُ أسودُ مُرْبادٌ كالكورِ مُجَحِياً ( منكوساً مائلاً ) لا يعرفُ معروفاً ، ولا ينكرُ منكراً ، إلاَّ ما أُشْرِبَ من هواه )
فإذا ابتليت النفس بمثل هذه الحالات المريضة، فإنها تؤثر على الروح ، وتجرها في متاهـات الضلال والإنحطاط , وتهبط الروح مع النفسعن منـزلتها القيادية , ، وتفقد خاصيتها الكريمة , وتخسر كل شيء قال تعالى في سورة الشورى 45 ( إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ) فكان سبب خسرانهم تكبرهم وعتوهم في الأرض قال تعالى في سـورة الفرقان 21 ( لقد استكبروا في أنفسهم وعتو عتواً كبيرً ا ) فجحدوا أنعم الله قال تعالى في سورة العنكبوت 40 ( وما كان الله ليظلمهمولكن كانوا أنفسهم يظلمون )فاستحقوا العذاب والعقاب بظلمهم أنفسهم ...





3 - النفس المطمئنة
هي نفس تحب الخير وتفعله ، وتكره المعصية وتجتنبها فعلاً وقولاً ، ولا تشعر بالسعادة إلا بفعل الخير والطاعة لله ، وتوصف هذه النفس بالنفس الراضية المطمئنة .
والنفس في الإسلام في غاية الراحة والإطمـئان ، إذا تحققت في طاعة خالقها ، وصدق الإيمان بالله الواحد سبحانه وتعالى …
وإن أعلى مرتبه تنالها النفس ، هي مرتبة الإطمئنان والرضى ، فإذا تحققت النفس بهذه المنزلة ، كان صاحبها فعلاً عبداً لله ، ومنقطعاً عن دعوى الإستقلال لنفسه ، وراضياً بما هو الحق ، وراضياً بكل ما يأتي مـن ربـه مستسلماً إليه بكامل الرضا والقناعة ، وهي منزلة العبودية الخالصة لله رب العالمين ، وهي أعلى المراتب . وقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه ، فقلت له : لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، قال : أفلا أكون عبداَ شكوراً ) .
والنفس الراضية المرضية , التي عناها الله في سورة الفجر 27 ( يا أيها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي ) تدخل النفس المطمئنة في زمرة عباد الله الصالحـين الذين تتحقق فيهم صفات العبودية الخالصة , وذلك حـين تسمو بأعمالها الصالحة النابعة من حقيقة الروح .
والروح في حقيقتها وطبيعتها السمو , إذا فاقت النفس تسمو بالبدن الى عالم الملكوت , عالم الملائكة والمثال , بطاعـةلله وعبادته , وتحتـل بالنفس منزلةالإ طمئنان بالكمالوالرقي الإنساني , فلا تفعل ما إلاَّ تيقن وتأكد من صلاحيته ، مبتعدة عن ريب أوشك ، روى الترمذي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) باليقين في فعلها تتوقى الشك ، وتعمل اليقين ، مُطْمَئِنَةً بكل ما تفعله ، راضِيَةً بما قسم الله لها ، مرْضيَةً لله خالقها سبحانه كما بينا آنفا ، ثم قال الله تعالى في سورة السجد 16 { تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون } .
ولهذه النفس صفات تتحلى بها وهي الورع , والإخلاص ، قال الله تعالى في سورة الرعد 28 { الذين آمنـوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ، ألا بذكر الله تطمئن القلوب } لا يجد الذاكر لذة أعلى من لذة الذكر لله ، ولا يجد راحة واطمئناناً أكثر من ساعة الذكر ، إنه مع خالقه مالك الكائنات يذكره ويحاكيه ويجالسه ، ومـن أعز ممن يحاكي ويجالس هذا المالك العظيم ولو عرف الملوك وأصحاب المناصب الدنيوية ما عليه الذاكرون من لذة لجالدوهم عليها بالسيف والقـوة ، ولكن الشيطان شغل أهل الدنيا بدنياهم ، والملوك ببهجة الرئاسـة والقيـادة ، وأصحاب الأموال بأموالهم ، فتراهم منهمكين بما شغلهم شيطانهم بـه ، يخافون ضياعه ، وهم في غفلة عن حقيقتهم وحقيقة حياتهم القصيرة الزائلة ، غافلين عن الساعة التي يُلَفُّون بخرقة ، ويُوضَعون في حفرة ، لا تزيد عن مترين بمتر ، وقد تركوا ما كانوا يتحاسدون ويقتتلون من أجله في هذه الدنيا التي هي أحقر عند الله من جيفة ملقاة في فلاة …
روى الإمام مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( مرَّ بالسوقِ داخلاً من بعض العالية والناس كنفته ، فمرَّ بجديٍّ أسكَّ ميِّتٍ ، فتناوله فأخذ بأذنه ، ثم قال : أيُّكُم يحبُ أنَّ هذا له بدرهمٍ فقالوا : ما نحب أنه لنا بشيءٍ وما نصنع به ، قال : أتحبـون أنه لكم قالوا : والله لو كان حياً كان عيباً فيه لأنه أسَكُّ ، فكيف وهو ميتٌ ، فقال : فو الله للدنيا أهون علىالله من هذا عليكم ) ..
وأما أصحاب النفوس المطمئنة الراضية ، فإنهم عرفوا حقيقة الدنيا وزينتها ، فاستهانوا بها ، وسمت نفوسهم بالإنشغال عنها بعمارة عالم الآخرة الباقية الخالدة ، فخضعت لهم الدنيا ، وكانت لهم أعلى المنازل والدرجات فيها ، وهي الراحة والطمأنينة ، ونالوا في الموت راحـة وسعادة ، لما أعدوا ليوم يجمع الله فيه الناس ليواجهوا أعمالهم ، ولا منزلة أعلى منهم وقت ذاك ، إنهم أصحاب اليمين ، الذين عناهم الله .‎‏ فقال تعالى في سورة الواقعة ‏‎ ‎من الآية رقم 10‏‏‎ ‎‎‎{ السابقون السابقون أؤلئك المقربون , في جنات النعيم‎ , ‎‎‎‎ثلة من الأولين , وقليل من الآخرين , على سرر موضونة ‏‎ , ‎‎‎‎متكئين عليها متقابلين , يطوف عليهم ولدان مخلدون‎ , ‎‎‎‎بأكواب وأباريق وكأس من معين , لا يصدعون عنها ولا ينزفون‎, ‎ وفاكهة مما يتخيرون , ولحم طير مما يشتهون , وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون , جزاء بما كانوا يعملون لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيماً, إلاَّ قيلاً سلاماً سلامًا, وأصحاب اليمنما أصحاب اليمين , في سدرٍ مخضودٍ ، وطلحٍ منضودٍ , وظلٍ ممدودٍ وماء مسكوب , وفاكهة كثيرة , لامقطوعة ولاممنوعة , وفرش مرفوعة‎ ‎ }
هذا البيان لمنزلة أهل النفوس الراضية المطمئنة ‏من رب العالمين ، وهو أصـدق القائلين , وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرنا . كما روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي‏‏‎ ‎ هريرة رضيالله عنه قال : قال رسول الله‎ ‎صلى الله عليه وسلم قال‎ ‎‎‎ الله‎ ‎‏ عزوجل‎ : ‎‎‏أعددت لعبادي الصالحين , مالا عين رأت ولا أذن ‏سمعت, ولا خطر على قلب بشر ) قال أبو هريرة رضي الله عنه‎ : ‎ اقرأوا إن ‏شئتم ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من‎ ‎‏ قرة أعين ) سورة‎ ‎السجدة آية 17‏‎ .‎ ..
وكذلك قال أبو هريرة رضي الله عنه قال : :‎قال رسول‎ ‎الله صلى الله عليه وسلم‏‎ : ‎لما خلق‎ ‎الله الجنة‎ , ‎قال لجبريل اذهب فانظر اليها فقال‎:‎‏ أي رب وعزتك لا يسمع‎ ‎ بها أحد الا دخلها , ثم حفها بالمكاره , ثم قال يا جبريل . اذهب فانظر‏‎ ‎ ‎اليها فذهب ونظر اليها , فقال : رب لقد خشيت‏‎ ‎‏ أنلا يدخلها أحد ) ‎‎‎‎ وروى الامام مسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن‏‎ ‎النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن في الجنة‏ مائـة درجـة ما بين كل درجتين كما بين السماء ‎ ‎‏والأرض , والفردوسأعلاها‎ ‎درجة ومن فوقها‎ ‎‎‏ العرش , ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة‎ , ‎فإذا سألتم‎ ‎‏ الله فأسألوه الفردوس ) وبلوغ منزلة الفردس التي أرشدنا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتاج إلى تزكية النفس وطهارتها من دنس الجاهلية والعصيان لله ، وكثرت العبادة والذكر ، وصدق الطاعة المراقبة لله
، وتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، واجتناب الشبهات ، و المؤمن على يقين من ربه سبحانه ، يتقي في عمله ومأكله ومشربه الشبهات محققاً في حياته قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه وعبد الله عبادة اليقين الخالصة ، وراقبه في تصرفاته خلال حياته العملية كأنه يراه لقو له صلى الله عليه وسلم ( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تراه فإنه يراك هذا هو صاحب النفس المطمئنة والذي يستحق منزلة الفردوس التي أرشدنا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ..

</B></I>