هذا نبي الإسلام (1)
د / أحمد عبد الحميد عبد الحق *
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين..
وبعد .. فقد بدأت مع القارئ الكريم سلسة حلقات في صحبة الأنبياء وفي عصر الخلفاء الراشدين وفي العصر الأموي وفي العصر الأيوبي ، وها أنا ذا أبدأ معه سلسلة جديدة في السيرة النبوية بعنوان " هذا نبي الإسلام " وآمل أن يوفقني الله سبحانه وتعالى في عرضها لتكون زادا لكل مسلم ، ونبراسا لكل من يريد التعرف على نبي الإسلام والتأسي والاقتداء به ،
والحلقة الأولى عن ميلاده ونشأته.
فالكثير منا يعلم أنه صلى الله عليه وسلم قد ولد في شهر أبريل سنة خمسمائة وإحدى وسبعين ميلادية ، فجر يوم الاثنين في شهر ربيع الأول من السنة "القمرية" ..
وقد ذكر كتاب السيرة كثيرا من الأقوال في تحديد متى كان هذا اليوم ، فقال بعضهم : وافق ذلك اليوم الثاني من الشهر ، وقال بعضهم : وافق اليوم الثامن ، وقال بعضهم : وافق اليوم العاشر ، وقال بعضهم وافق اليوم الثاني عشر ، ولكن الراجح أنه يومُ الثامن لأن الحسابات الحديثة تؤكد أنه اليومُ الوحيد الذي وافق يوم الاثنين من بين كل الأيام التي ذكروها ..
وعلى كل فإن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه لم يثبت أنه اهتم بتحديد هذا اليوم ، وكل ما فعله هو احتفاؤه بيوم الاثنين والحرص على صيامه وقولُه : « ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَيَوْمٌ بُعِثْتُ أَوْ أُنْزِلَ عَلَىَّ فِيهِ » ..
وكان حمله وولادته كسائر الأطفال لم يختلف عنهم في شيء ، لم يكن فيهما ما يلفت النظر على الإطلاق ؛ لأن كمال بشريته وكونه مثالا للناس يتأسون به يتطلب ذلك .
أما القصص التي تتكلم عن الخوارق التي حدثت أثناء حمله أو ولادته فلا يرقى إلى الصحة منها شيء ، ومحال أن يجعل الله سبحانه وتعالى حياة نبيه تقوم على الخوارق وهو يقدمه للبشرية نموذجا يتأسون ويقتدون به ؛ باستثناء ما يجري له من آيات ومعجزات أثناء تبليغ دعوته ؛ لأن حياة من تقوم على المعجزات لا يمكن لأي إنسان أن يهتدي بها ويقلدها ويتبعها في أسلوب وطريقة حياته ..
وسمي العام الذي ولد فيه بعام الفيل ؛ لأن الله سبحانه وتعالى أباد فيه أصحاب الفيل الذين جاءوا من الحبشة لهدم الكعبة " بيت الله الحرام" ومحاولة صرف العرب إلى الحج إلى كنيسة الحبشة التي شيدها أبرهة ملكها النصراني ..
وكان القضاء على جند الحبشة الغزاة فاتحة خير وبركة ورحمة على العرب عامة ، وعلى أهل مكة خاصة ؛ لأن الله رحمهم من شر هؤلاء الذين نشروا الرعب في قلوبهم؛ حتى جعلوهم يفرون إلى أعالي الجبال تاركين خلفهم أموالهم وأمتعتهم .
وشاء الله سبحانه وتعالى أن تكون ولادته في أواسط فصل الربيع ، أعدل فصول السنة مناخا ؛ ليعيد صلى الله عليه وسلم البشرية إلى ربيعها بعد اختياره ليكون آخر الأنبياء المرسلين الذين أرسلوا على مر التاريخ تترى لهداية البشرية ، وتقويم مسارها كلما اعوجت أو انحرفت عن الصراط المستقيم .
وكان ميلاده صلى الله عليه وسلم في مكة ، وكانت وقتها بلدة تتخللها الجبال الصم الخالية من الزرع إلا ما ندر من النباتات الصحراوية والأشجار الجبلية ، كانت مكانا تصعب فيه الحياة لولا أن الله سبحانه وتعالى قدر أن يوجد فيها بيته الحرام ..
وهذه البيئة الوعرة ، بيئة مكة وما حولها من أراضي الجزيرة العربية كانت ذات تأثير فعال في سكانها ، حيث نشئوا متطبعين بطبعها ، فتعودوا على الصلابة والجفاء ، وجمعوا بين مكارم الأخلاق ومساوئها ، وكانوا لا يخضعون فيها لغير العرف والنظام القبلي ، يتضامن فيه أفراد القبيلة أشد التضامن ، وينصرون أخاهم ظالما أو مظلوما .
وانتشرت بينهم عبادة الأصنام والأوثان ، حتى صار لكل بيت صنم ، فضلا عن الأصنام التي ملأت المسجد الحرام ، وتمادى الناس في ذلك ، حتى كان الواحد منهم إذا لم يجد حجرا يعبده في سفره جمع التراب ثم أتى بشاة فحلبها عليه ، ثم صنع بها شكل صنم وطاف حوله ، هكذا تغلغت الوثنية في قلوبهم .
وورث صلى الله عليه وسلم من تلك البيئة الشهامة والرجولة والكرم والإباء ، وفي نفس الوقت كان ينفر من الغلظة والفظاظة ، والتكبر في الأرض بغير الحق ، يأنف من الأصنام وعبادتها ، يشمئز حتى من ذكر اسمها..
مما يؤكد أن المسلم الذي يعيش وسط غير المسلمين يستطيع أن يتحلى بالأخلاق الكريمة وينأى بنفسه عن الرذائل مهما كانت البيئة حوله سيئة ودون أن يصطدم بها ..
وقد ولد صلى الله عليه وسلم يتيما ، إذ مات والده وهو جنين في بطن أمه ، وذلك أثناء عوده من رحلة تجارية إلى بلاد الشام ، إذ كان يعمل فترة حياته بالتجارة الخارجية..
وبعد ميلاده صلى الله عليه وسلم بفترة وجيزة طلب له جده عبد المطلب امرأة مرضعة في بادية الطائف أي " بني سعد " تسمى حليمة السعدية ؛ لتقوم على تنشئته هناك ، لأن كبار قريش وأثرياؤها كانوا قد اعتادوا على أن يرسلوا أولادهم إليها بعد ولادتهم ، حتى يتمتعوا هناك بالهواء النقي ، والطبيعة الغناء ، والحياة الساكنة ، واللغة الفصيحة ..
ولأن بيئة الصحراء الواسعة تتيح للأطفال حرية الحركة دون قيد أو عائق ، كما تتيح لهم فرصة التعرف المباشر على كون الله سبحانه وتعالى ، مما يجعل كل طفل منهم ينشأ سويا في عقله، صحيحا في بدنه، مرهفا في إحساسه ، سليما في تفكيره ، معتدلا في مزاجه .
وقضى صلى الله عليه وسلم في تلك البادية في كنف حليمة السعدية عامين أو أكثر ثم عاد إلى أمه آمنة بمكة التي تفرغت لتربيته وتنشئته ، ورفضت أن تتزوج بغير أبيه حتى لا تنشغل عن رعايته ، فأقام معها حتى أتم السادسة من عمره تقريبا ..
ثم أرادت أن تذكره بأبيه وهو في هذا السن فذهبت به لزيارته في قبره ، ومكثت به أياما عند أخواله من بني عدي بن النجار بالمدينة ، وكأنها كانت تحس بأن تلك الزيارة ستكون مقدمة لتوثيق العلاقة بينه وبين أخواله بعد أن يشرق نور الإسلام على المدينة ، ثم ماتت وهي راجعة به إلى مكة في مكان يسمى الأبواء فدفنت هناك.
وعاد صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أمه إلى مكة ، فضمّه جدّه عبد المطلب إليه ، ورأى فيه عوضا عن ابنه عبد الله الذي مات في ريعان شبابه، ورقّ عليه رقّة لم يَرِقّها على أحد من أولاده، كما حكت كتب السيرة .
ثم لم يلبث أن توفي جده هذا وهو في الثامنة من عمره تقريبا ، فانتقلت كفالته إلى عمه أبي طالب شقيق أبيه ، فكان يجله إجلالا كبيرا ، وظل يحوطه ويحفظه وينصره إلى أن مات .
وشاء الله أن يجد صلى الله عليه وسلم الرعاية والعطف والحنان رغم يتمه في كل كنف يُنقل إليه ، وكأن الله يقول له : إن فقدت معينا فستجد آخرين ، وإن رعايتك ليست مرتبطة فقط بأب أو أم ، وإنما مرتبطة بالله يضعها حيث يشاء ، وكأنه أراد أن يقول له فيما بعد كما أوجدت لك المحضن والمأوى والحنان في الصغر، أوجده أنت للفقراء واليتامى والمساكين ، وكما أذهبت عنك الوحشة أذهب عنهم أنت مرارة الحرمان ، وكما رحمتك في أطوار حياتك ارحم أنت البشرية ، واجتهد لنشر الرحمة في الكون مِن حولك .
ولعل الذين يغلب عليهم هاجس الخوف على مستقبل أولادهم فيحرصون على جمع المال بأي وسيلة حلال أو حلال بحجة تأمين مستقبل أولادهم يأخذون العبرة من ذلك ، ويعلمون أن الله سبحانه وتعالى الذي كفل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم في يتمه ، ووفر له العناية في كل حضن ينتقل إليه قادر على أن يكفل أولادهم بعد مماتهم ؛ بشرط أن يتقوه ، ويستقر في أذهانهم قوله عز وجل : " وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا"
ومع إن التنشئة التي نُشّئ عليه صلى الله عليه وسلم كان من الممكن أن تجعل منه طفلا مرفها ، أو مدللا ، إلا أنه كان غير ذلك ، إذ شارك في أمور الحياة ، حيث بدأ يعمل برعي الغنم ، وقال بعد بعثته : " كنت أرعى الغنم على قَرَارِيطَ لأهلِ مكّةَ "(1) .
وبعض الناس يحسب أنه لجأ إلى ذلك للحاجة ، أو لأن عمه أبا طالب كان قليل المال ، وهذا غير صحيح لأن أبا طالب وهو رجل تاجر كان عنده من المال ما يكفي مئونة طفل يتيم في مجتمع بدائي تقل فيه نفقات الأولاد ، كما أنه صلى الله عليه وسلم كان قد ورث عن أبيه (أمَة وخمسة جمال وقطعة غنم) (2) .
وأحسب أن الذي ألجأ أبا طالب إلى إخراجه للعمل وهو صغير هو أن المجتمع المكي كان مجتمعا عمليا ، لدرجة أنه كان لا يسمح للطفل ، فقيرا أو غير فقير أن يُعزل عن الحياة بحجة أنه صغير ، وإنما أتاحوا له أن يمارس من الأعمال ما يناسب قدراته حتى ينشأ عنصرا فعالا ، لا يعجز إذا شب عن مواجهة الحياة ومتطلباتها ، فضلا عن صعابها وتقلباتها .
ونحن مطالبون في التأسي به في ذلك بأن ندرب أطفالنا على العمل منذ صغرهم ، ولو بتكليفهم بقضاء المصالح الصغيرة في البيت ، وإحضار بعض المشتريات الخفيفة الوزن التي تحتاج إليها الأسرة من البقالات القريبة وغيرها .
ثم عمل صلى الله عليه وسلم وهو في الثانية عشرة من عمره في مجال التجارة التي كانت تعد أوسع أبواب الرزق في مكة ، حيث كانت تقع في طريق التجارة الذي يربط بين الشام واليمن ، وملتقى الحجاج من سائر الجزيرة العربية .
وقد دلت الروايات على أن عمه أبا طالب قد اصطحبه معه في هذا السن المبكر مع قافلة تجارية إلى الشام ؛ ربما ليدربه على أسلوب التعامل التجاري ، وطرق البيع والشراء خارج الجزيرة العربية ، بعد أن رأى في ذكائه ومواهبه الفطرية ما يؤهله لذلك ، ثم كثر تردده بعد ذلك بين اليمن والشام للتجارة حتى مبعثه.
وأظن أنه صلى الله عليه وسلم لم يعمل في مجال الرعي والتجارة فقط لأنهما أفضلُ المهن ، وإنما لأنهما الأكثر انتشارا في بيئته ؛ وإن كان الله سبحانه وتعالى قد وفقه للعمل فيهما ، حيث إن رعي الغنم من شأنه تربية الإنسان على الصبر ، ومن صبر على رعاية الأغنام كان على رعاية البشر أصبر وأجدر ، ومن رحم الحيوان كان بالبشر أرحم وأرأف ، أما العمل في التجارة فقد يكسب الإنسان القدرة على التعامل مع الناس والتعرف على أخلاقهم وطبائعهم ، وعلى اختلاف أجناسهم ، ويجعل الناس تتعرف على صدقه وأمانته .
وهذا ما جعله صلى الله عليه وسلم فيما بعد يعرف بين قومه بالصادق الأمين ، وهو أيضا ما جعل خديجة ـ رضي الله عنها ـ إحدى الثريات الفضليات بمكة ترغب في الزواج به ، وتؤثره على سادة مكة ، وتبادر بالإرسال إليه بذلك ، وكان قد عمل في تجارتها فترة من الزمن ، ورأت من حسن خلقه وتعامله ما لم تر في غيره .
ورغم أن الجزيرة العربية ، ومن بينها مكة كانت تعج بالفتن والمفاسد ، مثل ارتكاب الفواحش ، وقطع الأرحام ، ووأد البنات ، وشرب الخمر ، ولعب الميسر ، وسفك الدماء ، إلا أن رسول الله محمدا صلى الله عليه وسلم حباه ربه ، ونشأ بعيدا عن كل تلك الخصال المشينة ، ودلت الروايات على أنه كان محاطا بعناية الله ؛ لما يريد به من كرامته ورسالته .
فقد ذكر البخاري أنه كان يحمل مع قومه الحجارة عند تجديد الكعبة ، فقال له عمه العباس : اجعل إزارك على رقبتك يقيك الحجارة ، فما إن فعل ذلك حتى خر مغشيا على الأرض ، وشخصت عيناه إلى السماء ، ثم أفاق فقال : إزاري ! إزاري ! (3) وفي رواية أخرى فما رئيت له عورة بعد ذلك .
وكان ذلك مصاحبا له منذ أن اشتد عوده ، فقد ذكر البخاري أيضا أنه قال : " ما هممت بقبيح مما يهمّ به أهل الجاهلية إلا ليلتين ، كلتاهما عصمني الله عز وجل فيهما(4) ، كنت ليلة مع بعض فتيان مكة ونحن في رعاء غنم أهلها ، فقلت لصاحبي أبصر لي غنمي حتى أدخل مكة أسمر فيها كما يسمر الفتيان ، فقال: بلى قال : فدخلت حتى جئت أول دار من دور مكة ، سمعت عزفا بالغرابيل والمزامير ، فقلت : ما هذا؟.
قالوا : تزوج فلان فلانة ، فجلست أنظر، وضرب الله على أذني ، فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس ( أي بعد انتهاء الفرح ) فرجعت إلى صاحبي ، فقال: ما فعلت؟ فقلت : ما فعلت شيئا ثم أخبرته بالذي رأيت ، ثم قلت له ليلة أخرى: أبصر لي غنمي حتى أسمر ففعل ، فدخلت ، فلما جئت مكة سمعت مثل الذي سمعت تلك الليلة ، فسألت : فقيل نكح ( أي تزوج ) فلان فلانة ، فجلست أنظر ، وضرب الله على أذني ، فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس ، فرجعت إلى صاحبي ، فقال : ما فعلت ؟ فقلت : لا شيء ، ثم أخبرته الخبر(5) فوالله ما هممت ولا عدت بعدهما لشيء من ذلك ، حتى أكرمني الله عز وجل(6) أي بالرسالة .
وهذا لا يعني أن نفسه صلى الله عليه وسلم كانت تعف الأفراح ، أو أن دعوته وقفت موقف العداء من أساليب اللهو المعتدل التي تميل إليها النفس البشرية كما مالت نفسه هو ، وإنما يبدو أن الله عز وجل عصمه من المشاركة فيها ؛ لأن هذه الأفراح أو الاحتفالات كان يحدث فيها من الرذائل ما لا يتوافق مع أصحاب الخلق القويم ، ومع إنسان يعد لتصليح مسار البشرية جمعاء ، وتطهيرها من القبائح .
أقول ذلك لأن سيرته فيما بعد دلت على أنه أثناء تربيته للمجتمع الإسلامي لم يكن يحذر على أتباعه اللهو المباح ، بل كان يحض عليه أحيانا ؛ لأنه مما يذهب السآمة ، ويمحو الملل الذي قد يعيق النفس البشرية عن مواصلة أعمالها وأداء رسالتها ، وإن كان أصحاب الهمم العالية يترفعون عن هذا اللهو وغيره ، مما قد يشغل بعض أوقاتهم عما هو أسمى وأجل ، ويجدون في أداء رسالتهم لذة أو راحة تفوق ما يجده رواد الملاهي.
ولم تقف به العناية الإلهية عند عصمته من الوقوع في أدران الجاهلية ، أو المشاركة فيها ، وإنما نقى الله فؤاده من كل شائبة تعلق به ، وأشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى " ألم نشرح لك صدرك ، ووضعنا عنك وزرك ، الذي أنقض ظهرك "(7) .
وإذا كان سائر الناس قد هدوا النجدين (أي سبيلَ الخير وسبيل الشر ) فإن محمدا صلى الله علي وسلم بذلك الشرح قد سُد عليه إن صح التعبير سبيل الشر تماما ، ولذلك قال فيما بعد :" ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن قالوا : وإياك يا رسول الله ! قال وإياي ، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم ، فلا يأمرني إلا بخير (8).
وبانعدام جانب الشر عنده كان لابد أن ينمو جانب الخير ، فنشأ محبا لمكارم الأخلاق ، قال ابن إسحاق في كتابه " السيرة " : " حتى إذا بلغ مبلغ الرجال كان أفضل قومه مروءة ، وأحسنهم خلقا ، وأعظمهم أمانة ، وأبعدهم عن الفحشاء والأخلاق التي تدنس الرجال تنزها وتكرما ، وما روي مماريا ولا ملاحيا أحدا ( أي ما لعن أحد على الإطلاق ) حتى سمي بين قومه بالصادق الأمين " ومدح الله فيه تلك الخصائص في قوله تعالى : وإنك لعلى خلق عظيم "(9) .
وامتلك مع هذا قلبا لينا رحميا بالناس ، محسنا إليهم ، كما وصفته زوجه خديجة ـ رضوان الله عليها ـ في قولها : " إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتعين على نوائب الدهر " (10) .
بهذه الصفات عاش صلى الله عليه وسلم داخل مجتمعه الجاهلي ، ولم ينعزل عنه أو ينطوي على نفسه، وشعاره" الذي يخالط الناس ويصبر على آذاهم خير من الذي لا يخالطهم "حتى شهد له بالفضل أعتى أعدائه وهو أبو جهل حيث قال : والله إني لأعرف أن محمدا صادقا فيما يقول ، وما كذب محمد قط.
وهذه الأخلاق التي تخلق بها محمد صلى الله عليه وسلم قبل بعثته ، وكانت سببا في ثناء الناس عليه يستطيع أن يتحلى بها كل إنسان سليم الفطرة دون أن يكون له أي حظ من التعليم ، كما أن التأدب بها من الأشياء الضرورية لكل من يعدون لتولي مهام الدعوة الإسلامية .
وإلى اللقاء مع الحلقة القادمة إن شاء الله إن كان في العمر بقية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
*مدير موقع التاريخ الالكتروني
1 ـ البخاري
2 ـ ابن سعد : الطبقات ج1 ص100
3 ـ صحيح البخاري رقم 1505
4 ـ عيون الأثر : ج 1 صـ 86
5 ـ ابن إسحاق : السيرة ج2 ص59
6 ـ السابق ج2ص59
7 ـ سورة الشرح : رقم 1، 2، 3،
8 ـ صحيح مسلم : ج 4 ص 2167
9 ـ سورة القلم : آية 4
10 ـ ابن سيد الناس : عيون الأثر ج1 ص114 و115