حجر ميشع والترجمة التوراتية

حجر ميشع هو حجر أسود من البازلت، طوله 3 أقدام وعرضه قدمان وسمكه قدم على وجه التقريب وفيه 34 سطر من الكتابة الموآبية. وقد عثر على حطامه فلاحون عرب أردنيون من بلدة ذيبان في المرتفعات الأردنية الواقعة شرق البحر الميت سنة 1868.

سمع المستشرق «كليرمون غانو ـ
clermont ganneau
» بقصة الحجر وكان موظفا في القنصلية الفرنسية في القدس، فأتى إلى «ذيبان»، وأخذ حطام الحجر معه إلى القدس، ومنها إلى متحف اللوفر بباريس.

و«ذيبان» اليوم قرية، تقع على قمة تل، ترتفع 700 متر عن سطح البحر وتبعد نحو 32 كم للجنوب من مأدبا، وعلى نحو 5 كم للشمال من وادي الموجب; كما تبعد 64 كم عن عمان. ويقول المؤرخون أن المعلومات المستقاة من النقوش التاريخية المختلفة تشير إلى أن ذيبان كانت العاصمة الثانية للملك المؤابي «ميشع» بعد أن جلا عن عاصمته الأولى التي كانت تقع في الأراضي الحجازية، ولجأ إلى هنا مع أتباعه هربا من جيرانه الإسرائيليين الذين كانت لهم مملكة صغيرة في غرب شبه الجزيرة العربية، وذلك نتيجة الهزائم المتتالية التي مني بها ميشع في حروبه معهم. ويغطي وجه التل الذي أقيمت عليه قرية «ذيبان» آثار العصر العربي والعصر البيزنطي. وأما الطبقة الثانية تحت السطح فتضم بقايا المدينتين الرومانية والنبطية. وقد ذكرها صاحب معجم البلدان.

تقول لنا الترجمات الانجليزية للنقش على ذمة مترجم اللغة المؤابية أن ميشع ملك مؤاب يتحدث في هذا النقش عن حروبه مع عمري ملك إسرائيل وابنه أخاب بن عمري من بعده (مع أن النقش لا يذكر عمري هذا بهذا الاسم). وبسبب الغزوات المتتالية التي تعرضت لها أرض مؤاب اضطر ميشع إلى الجلاء، وانتقل مع أتباعه من مؤاب إلى قرحه (لعلها اليوم جحرا، من قرى مدينة الكرك الأردنية) حيث أقام لنفسه عاصمة جديدة أقام فيها هذا الحجر المنقوش. ولهذا فإن حجر مؤاب هو في الحقيقة حجر قرحة أو حجر جحرا (إذا صح أن قرحة هي جحرا)، وذلك لأن هذه المنطقة التي كان يقيم فيها ميشع لم يكن اسمها مؤاب في ذلك الوقت، وإنما هي تسمية حديثة وضعها علماء التوراة وجازت على المسلمين فيما بعد. فحجر مؤاب لا يوجد فيه ما يشير إلى أن مؤاب هي مرتفعات الكرك شرقي البحر الميت (أو ما كان يعرف عربيا بجبال الشراة)، أو أن مملكة إسرائيل كانت موجودة في فلسطين.


وعند قراءة النقش بنصه الأصلي (بعيدا عن النصوص المترجمة والمؤولة) يظهر بوضوح أن الحروب التي جرت بين الإسرائيليين والمؤابيين التي يتحدث عنها النقش إنما جرت في الحجاز وليس في شرقي الأردن، وأن مملكتي إسرائيل ومؤاب بالتالي كانتا متجاورتين في غربي شبه الجزيرة العربية، وليس في جنوبي الشام.

وقد خلص المؤرخون المحايدون الذين قرءوا وحللوا الكتابة الأصلية المنقوشة على هذا الحجر ودرسوا أسماء الأماكن المذكورة فيه إلى هذه النتائج (1):

1- إن مؤاب اليوم هي قرية أم الياب (أم ياب – أم واب - مواب) في وادي أضم إلى الجنوب من بلدة رابغ ورابن، حيث تم وصف مؤاب في النقش بأنها (يمن ربن) أي جنوب رابن.

2- وصف ميشع نفسه في هذا النقش على أنه ديبني، أي أنه من ديبن، وديبان اليوم هي منطقة في الطائف، غير بعيدة عن أم الياب، وليست بالطبع بلدة ذيبان الأردنية التي افترضها مترجمو النقش وعلماء التوراة تمشيا مع المخطط الصهيوني. وقد يكون اسم ذيبان أطلق على هذه المنطقة بعد هروب ميشع وأتباعه من الحجاز واستقرارهم في الأردن.

3- عبارة مهدبء الواردة في النقش ترجمها وفسرها علماء التوراة الصهاينة على أنها مدينة مادبا الأردنية، فأسقطوا حرف الهاء، وادعوا أن عمري ملك إسرائيل احتل مادبا الأردنية، لكن حرف الهاء الذي يتوسط الكلمة لا يسقط عادة من اللفظ في اللغات السامية، وتكون الترجمة الفعلية للجملة المعنية هكذا: (وعمري احتل كل الأرض من هدبء "م-هدبء") أي هدبة وهي قرية تقع اليوم شمال أم الياب في مرتفعات الطائف المشرفة على وادي أضم.

4- لم يغلب المترجمون الصهاينة، ولم يكلفوا أنفسهم عناء البحث حينما أرادوا ترجمة كلمة (قر) وكلمة (كمس) الواردتين في النقش، فقد ترجموا (قر) على أنها (قرية)، بينما ترجموا (كمس) على أنها (كموش) إله مؤاب، رغم أن كلمتي (قر) و (كمس) المذكورتان تظهران في مواضع أخرى من النقش على أنهما اسمان لبلدتين أو قريتين متجاورتين في أراضي مؤاب. وعند البحث عن هذين الاسمين في البيئة الحقيقية لمملكة مؤاب الحجازية سرعان ما يتبين أنهما قريتان قريبتان من (الهدبة) في مرتفعات الطائف الأولى اسمها اليوم (القر) من (قر) والثانية اسمها (قماشة) من (قمش).

5- أماكن أخرى كثيرة مذكورة في النقش لم يعثر عليها في بلاد الشام بل عثر عليها في غرب شبه الجزيرة العربية مثل محرت (المحرث)، نبه (النباة)، يهص (الوهسة)، أما الكلمات مثل بقرن (أبقار)، معز (ماعز)، صءن (ضأن) فقد احتار في أمرها المترجمون التوراتيون، ونظرا لأنها لم تتماشى مع سياقهم فقد تجاوزوها، وقاموا بحذفها بكل بساطة.

(1) أنظر كتاب "التوراة جاءت من الجزيرة العربية" للأستاذ كمال الصليبي - صفحة 113
</B></I>