بسم الله الرحمن الرحيم
من أسرار القرآن :
(404) – ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَوَيَمْكُرُونَوَيَمْكُرُ اللَّهُوَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ *)
( الأنفال: 30 ).
بقلم
الأستاذ الدكتور/ زغلول النجار
هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في أواخر النصف الأول من سورة الأنفال, وهي سورة "مدنية", وآياتها خمس وسبعون بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم "الأنفال" أي المغانم جمع "نفل" بالفتح وهو الزيادة أو الأمر الثانوي. وفي ذلك إشارة إلى الغنائم التي غنمها المسلمون أثناء معركة بدر الكبرى. وقد سميت الغنائم بالأنفال احتقارا لشأنها أمام نصر المسلمين وحماية الدين . ويدور المحور الرئيس لسورة "الأنفال" حول عدد من التشريعات الإسلامية انطلاقا مما جرى في غزوة بدر الكبرى .
هذا وقد سبق لنا استعراض سورة "الأنفال" وما جاء فيها من التشريعات , وركائز العقيدة الإسلامية , ونركز هنا على لمحة الإعجاز الإنبائي في وصف القرآن الكريم لمؤامرة مشركي قريش على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- .
وفي مقالنا السابق تحدثنا عن خروج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وصاحبه الكريم من مكة المكرمة إلى غار ثور في طريقهما إلى المدينة, وتوقفنا عند مبيتهما في الغار لثلاثة ليالٍ جد فيها فرسان قريش ومقتفي الآثار في البحث عن المهاجرين الكريمين.
ولما هدأ الطلب في المغارات المحيطة بمكة المكرمة , واتجهت أنظار المطاردين إلى ما هو أبعد من ذلك, جاء عبد الله بن أبي بكر بالراحلتين والدليل الذي كان مشركا, ولكنه عاهد على ألا يخون الأمانة, وأتتهما أسماء بنت أبي بكر- رضي الله عنها-, بزاد رحلتهما, وخرج رسول الله وصاحبه من الغار, فانطلقا سالكين طريق الساحل , وصحبهما في رحلة الهجرة كل من عامر بن فهيرة وعبد الله بن أريقط.
اتجه الصاحبان إلى المدينة, وقد اشتد الطلب في أثرهما من الطامعين في جائزة قريش (مائة ناقة) لمن يأتي بواحد منهما حيا أو ميتا. فبادر "سراقة بن مالك" يركض بحثا عنهما , حتى إذا قرب منهما غاصت أقدام فرسه في الأرض فيستجير برسول الله فيجيره . ثم يدفعه الطمع إلى تناسي ما وقع له فيصيبه أشد منه , وهكذا حتى آمن ألا سبيل له إليهما فيعود صادا للطلب , رادا للمتعقبين .
وفي الطريق إلى المدينة نزل الركب لشئ من الراحة والتزود على خيام لأم معبد الخزاعية وهي تعيش في شدة من الجدب والعوز . فسألها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن تبيعهما لحما أو لبنا أو تمرا , فقالت: والله لو كان عندنا ما أعوزناكم القرى . ثم أبصر رسول الله شاة خلفها عن الغنم شدة ما بها من جهد وهزال , فقال: هل بها من لبن ؟ قالت: هي أجهد من ذلك قال: أتأذنين لي في حلابها ؟ أجابت : والله ما ضربها فحل قط فشأنك إن رأيت فيها حلبا فاحلبه , فمسح بيده الشريفة على كل من ظهرها وضرعها وسمى الله , فدرت. ودعا بإناء فحلب, فنزل اللبن قويا في صوته, ثرا في تدفقه, فقدم لأم معبد فشربت حتى رويت, وشرب من حضر حتى روى, وأخيرا شرب رسول الله حتى روى. وكان قدومه على أهل هذه المحلة بشير يمن وبركة فنزل الغيث, واخضرت الأرض, ودرت الضروع, فأطلقوا على زائرهم اسم "المبارك".
وفي الطريق لقي ركب المهاجرين أبا بريدة وكان رئيس قومه , وكان قد خرج في طلب الرسول وصحبه, ولما واجههم أسلم مع سبعين من قومه. كذلك لقي الركب الكريم الزبير في جماعة من التجار المسلمين العائدين من بلاد الشام , ففرحوا بلقاء رسول الله .
وكان المسلمون من المهاجرين والأنصار من أهل المدينة قد سمعوا بخروج رسول الله وصاحبه من مكة المكرمة قاصدين المدينة , فكانوا إذا صلوا الصبح خرجوا إلى ظاهر المدينة ينتظرونهما حتى تستبد بهم الشمس فيعودون إلى بيوتهم , وكان الوقت صيفا , واستمروا على ذلك عدة أيام .
وأخيرا وصل ركب رسول الله إلى قباء فاستقبله أهلها بالترحاب والبهجة. وقضى رسول الله وصاحبه أياما في قباء يصليان في مسجدها , وكان أول مسجد أسس على التقوى.
ثم تحول الركب إلى المدينة, وتزاحم أهلها على زمام ناقة رسول الله, كل يريد أن يظفر بنزوله عنده, فيقول دعوها فإنها مأمورة, حتى بركت في موضع مسجده الشريف, وإلى جواره كانت دار أبي أيوب الأنصاري التي نزل فيها رسول الله . وكانت هذه الأرض الخلاء التي بركت فيها ناقة رسول الله ملكا ليتيمين في المدينة, وهباها لرسول الله الذي أصر على دفع ثمنها كاملا لهما قبل البدء ببناء المسجد .
أمر رسول الله ببناء مسجده حيث بركت ناقتة "القصواء", وجاء بناء المسجد بسيطا : فراشه الرمال والحصباء , وأعمدته جذوع النخل , وسقفه الجريد. وفي هذا البناء المتواضع ربى رسول الله رجالا مؤمنين بالله , وملائكته, وكتبه ورسله , واليوم الآخر, وبرسالة الإنسان في هذه الحياة عبدا مستخلفا في الأرض, يعبد الله- تعالى- بما أمر ويقيم عدل الله في ربوعها , ويسعى في عمارتها وفي حسن القيام بواجبات الاستخلاف فيها.
وفي المدينة المنورة آخى رسول الله بين المهاجرين والأنصار فجعل لكل مهاجر أخا من الأنصار, فقاسموهم كل شئ حتى نزل فيهم قرآن يتلى حتى اليوم.
وكان من عوامل نجاحه- صلى الله عليه وسلم- في أداء رسالته ذلك التدريب النفسي الشاق الذي عرضه الله- تعالى- له طيلة حياته. فقد عانى من اليتم, والاغتراب عن الأهل في طفولته المبكرة, ومن فقد الزوجة والعم, وموت أبنائه الذكور في حياته. كما عانى من شظف العيش, فقد زهدت فيه المرضعات بعد ولادته,ورعى الغنم منذ حداثة عمره, ثم عمل بالتجارة إلى ما قبل بعثته الشريفة , وحوصر في شعب بني هاشم لثلاث سنوات كاملة حتى اضطر ومن معه إلى أكل أوراق الشجر.
وكان من عوامل نجاحه- صلى الله عليه وسلم- كذلك أنه كان قد أوقف حياته , ونذر نفسه من أجل إعلاء دين الله , وإقامة عدله في الأرض, انصياعا لأمر الله- تعالى- بقوله : ( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاًوَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاتِيوَنُسُكِيوَمَحْيَايَوَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ*لاَ شَرِيكَ لَهُوَبِذَلِكَ أُمِرْتُوَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ *) ( الأنعام: 161-163) .
وكان من عوامل نجاحه أيضا وضوح الرؤية أمامه, ومعرفة الطريق التي يسلكها معرفة دقيقة, والإلمام بأبعاد الرسالة التي حملها له الله- تعالى- تكليفا وتشريفا وحملها هو إلى الناس جميعا في زمانه, ومن بعد زمانه إلى يوم الدين , وحمل أمانة التبليغ إلى كل مسلم ومسلمة من بعده, وفي ذلك يأمره الله- تعالى- بقوله العزيز: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاوَمَنِ اتَّبَعَنِيوَسُبْحَانَ اللَّهِوَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ *) (يوسف:108).
وهذه الآية الكريمة تحوي إنباءً من الله- تعالى- إلى رسوله الكريم بتفاصيل المؤامرة التي خطط لها أقطاب قريش في تكتم شديد, وفضحهم القرآن الكريم بكشف تفاصيل المؤامرة, مما يجعل من هذه الآية الكريمة وجها من أوجه الإعجاز الإنبائي في كتاب الله , فالحمد لله على نعمة الإسلام, وعلى نعمة القرآن, وعلى بعثة خير الأنام سيدنا محمد- صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه من تبع هداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين- وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.