مدارس القرآن الكريم في العهد النبوي وعهد الصحابة والتابعين


الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، وجعله مهيمناً على الكتب السماوية وحفظه للبشرية على الدوام منهجاً، والصلاة والسلام على سيدنا محمد بن عبد الله الذي جعله بهذا التنزيل المعجز مؤيداً، وبالحق والعصمة مسدداً وعلى آله وصحابته نجوم الهداية ومحل الاقتداء، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: فإن القرآن الكريم الذي تنزل على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد بلّغه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من حوله من أصحابه الكرام ليقتبسوا نوره ويحفظوا آياته وسوره، وأراد صلى الله عليه وسلم أن تكون مدرسة القرآن مستمرة إلى يوم الدين، لحفظه ونقله والسهر على نشره ودرسه، أمانة تتلقى وعهداً يصان، فقد خص بعض أصحابه بالعناية والرعاية منه، ليكونوا أئمة قادة لهذه المدرسة المستمرة، وخص طائفة أخرى منهم بأن سهر عليهم جميعاً فلا عمل لهم ولا شغل إلا القرآن ودراسته وتعلمه، وكان هؤلاء وأولئك اللبنات الأولى التي قام عليها هذا الصرح العلمي العتيد الذي يزداد مع القرون سمواً وارتفاعاً في سماء المعرفة البشرية.

أخرج البخاري ومسلم عن أنس بن مالك واللفظ لمسلم - رضي الله عنه - قال: جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: ابعث معنا رجالاً يعلموننا القرآن والسنة فبعث إليهم سبعين رجلاً من الأنصار يقال لهم القراء فيهم خالي حرام، يقرؤون القرآن ويتدارسونه بالليل ويتعلمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد، ويحتطبون فيبيعونه ويشترون به الطعام لأهل الصفة والفقراء، فبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فعرضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان، فقالوا: اللهم أبلغ عنا نبيك أنا قد لقيناك، فرضينا عنك ورضيت عنا. قال: وأتى رجل حراماً خال أنس من خلفه فطعنه برمح حتى أنفذه، فقال حرام: فزت ورب الكعبة (صحيح البخاري، المغازي، باب غزوة الرجيع، ورعل وذكوان وبئر معونة، ج 7، ص. 378؛ ومسلم الإمارة، باب ثبوت الجنة للشهيد، ج 3، ص. 1511؛ والمساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزل بالمسلمين نازلة، ج 1، ص. 468) .
قال أنس: فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وجد على شيء ما وجد عليهم، فقنت شهراً في صلاة الفجر، ويقول: إن عُصيَّة عصت الله.

لقد كان تشريع القنوت حزناً على هؤلاء الغر الأطهار، حملة القرآن والساهرين على درسه وتعليمه، وهذه أول مدرسة قرآنية في الإسلام رعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشأها.

لقد أسس النبي صلى الله عليه وسلم بالصحابة جميعاً، وخص منهم هؤلاء، مع نفر معدود آخر أول مدرسة للقرآن الكريم على وجه الأرض، ومن هذه المدرسة بدأت تتناسل وتتكاثر المدارس في شرق الأرض وغربها، وستبقى إلى يوم الدين، إذ إن عهد الله تعالى بحفظ القرآن الكريم قائم مستمر: { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون }، سورة الحجر 9.
وحفظه يكون بتهيئة من يحمله ويبلغه غضاً طرياً كما أنزل، وباستمرار هؤلاء الحملة المبلغين وتعاقبهم، فكل واحد منهم مدرسة، ومعلم أينما حل وحيثما سار، وقد تختلف مظاهر هذه المدارس وترتيباتها وإمكاناتها وطرائقها وروادها كثرة وقلة، إلا أن جوهرها واحد هو المعلم المبلِّغ، والجيل المتعلم المتلقي.
ولا تزال الأجيال بتعاقب الحقب، تندفع وتلتف حول من هيأهم الله تعالى واقتبسوا من المدرسة النبوية الأولى، ورجالها الذين ربهم على عينيه، وأتقنوا القرآن حفظاً وأداءً بين يديه، ومن هناك بدأ المعلمون وبدأت المدارس.
وكان من الأئمة الهداة وأعلام القرآن الذين قاموا عليه، وتخصصوا فيه: أبي بن كعب الأنصاري الخزرجي النجاري، فقد أخرج الإمام أحمد في "مسنده"( المصدر نفسه، ج 5، ص 122 ) ، والنسائي في فضائل القرآن (رقم 29 ) ، والترمذي (ج 4، ص. 344)،والحاكم في مستدركه (ج 2، ص. 531) ، وغيرهم عن الربيع بن أنس قال: قرأت القرآن على أبي العالية، وقرأ أبو العالية على أبي، وقال أبي: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقرئك القرآن قال: أو ذكرت هناك؟ قال: نعم، فبكى أبي فلا أدري أبشوق، أو بخوف؟!

وأخرج البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب: إن ربي أمرني أن أعرض عليك القرآن ، قال: أو سماني لك؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، قال: وذكرت عند رب العالمين؟ قال: نعم
فبكى أبي (أنظره في صحيح البخاري، مناقب الأنصار، مناقب أبي بن كعب، ج 7، ص. 127؛ والتفسير تفسير سورة البينة؛ وصحيح مسلم؛ كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب قراءة القرآن على أهل الفضل والحذاق فيه، وإن كان القارئ أفضل من المقروء عليه رقم 799؛ كما أخرجه الترمذي، المناقب، باب فضل أبي بن كعب ) .
وتعجب أبي بن كعب من ذلك لأن تسمية الله تعالى عنه وتخصيصه بذلك تشريف عظيم له، فلذلك بكى، إما فرحاً، وإما خشوعاً.
وعرض النبي صلى الله عليه وسلم على أبي ليتعلم منه القرآن، ويتثبت فيها وليشرع النبي صلى الله عليه وسلم هذا الطريق ويكون عرض القرآن سنة متبعة، وفي ذلك تنبيه على فضيلة أبي، وتقدمه في حفظ القرآن الكريم.
وقد أخرج ابن سعد بإسناد صحيح عن أبي قال: إنا لنقرؤه في ثمان ليال، أي القرآن.
وإن إتقان أبي للقرآن الكريم وتميزه على إخوانه الصحابة في ذلك كان محل اتفاق وإجماع بل إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة فلُبِّس عليه، فلما انصرف قال لأبي: أصليت معنا ؟ قال: نعم، قال فما منعك ؟ أي ما منعك أن تفتح عليّ إذ رأيتني لقد لبّس عليّ؟ (أخرجه أبو داود في سننه باب الفتح على الإمام، رقم 907 ) .
وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرف علم أبي بالقرآن فقال له: يا أبا المنذر، أتدري أي آية معك من كتاب الله أعظم؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: يا أبا المنذر أتدري أي آية معك من كتاب الله أعظم ، قلت: الله لا إله إلا هو الحي القيوم، قال: فضرب في صدري وقال: والله ليهنك العلم أبا المنذر. أي هنيئاً لك بالعلم بكتاب الله وحسن معرفته (أخرجه مسلم في صحيحه، المصدر السابق، رقم 810، وأحمد في مسنده، ج 5، ص. 142 وغيرهما) .
ولما كانت الوفود تأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم لتسلم وتبايع وتتعلم الدين كان بعضها، يأتي أبي بن كعب ليقرأ عليه القرآن الكريم، كما في وفد بني حنيفة، وقد أنزلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم دار رملة بن الحارث، وتأتيهم الضيافة إلى منزلهم، وكان بينهم رحال بن عنفوة، وكان يأتي أبي بن كعب فيتعلم منه القرآن (مسلم، المصدر نفسه؛ وأحمد، المصدر نفسه) .
وكذلك وفد غامد الذين قدموا المدينة، ونزلوا بقيع الغرقد، وأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا وأتو أبي بن كعب فعلمهم قرآناً (انظر طبقات ابن سعد، ج 1، ص. 316) .
ووفد ثقيف وكان فيهم عثمان بن أبي العاص، وكان أصغر القوم، وكانوا يخلفونه على رحالهم يتعاهدها لهم، فإذا رجعوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وناموا وكانت الهاجرة، أتى عثمان رسول الله صلى الله عليه وسلم... وكان إذا وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم نائماً عمد إلى أبي بكر فسأله واستقرأه، وإلى أبي بن كعب فسأله واستقرأه...( المصدر نفسه، ج 5، ص. 508، وج 7، ص. 40.) ولزم أبي بن كعب حتى صار أكثرهم قرآناً فأمره على الوفد.
وكذلك كان في وفد عبد القيس عبد الله بن عوف الأشج، وكان يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان يأتي أبي بن كعب فيقرأ عليه (المصدر نفسه، ج 5، ص. 558) .
بل كانت الرحلة إليه من البلدان، قال زر بن حبيش وفدت في خلافة عثمان، وإنما حملني على الوفادة لقي أبي بن كعب وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (المصدر نفسه، ج 6، ص. 27؛ أبي النعيم، الحلية، ج 4، ص. 201) .
وكان يعلن أبي بن كعب اعتزازه بالانتماء للقرآن، وإتقانه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد أخرج الإمام (المسند، المصدر السابق، ج 5، ص. 117 ) أحمد عن ابن عباس: قال: قال أبي لعمر: فقال: يا عمر إني تلقيت القرآن ممن تلقاه من جبريل عليه السلام وهو رطب. أي تلقاه أبي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة نزوله أولاً بأول.
وكان أبي بن كعب يعرف قدر نفسه في هذا المضمار ويعلن ذلك، قال ناشرة بن سمي اليزني: كنت أتبع معاذ بن جبل أتعلم منه القرآن، وآخذ منه، فلما كنت بالمدينة وصليت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأت القرآن، فمرَّ بي رجل فضرب كتفي، قال لي: ليس كما تقرأ، فلما فرغت أتيت معاذاً فأخبرته بقول الرجل، فقال معاد بن جبل: أتعرفه؟ قلت: نعم، وأريته إياه، فانطلق إليه معاذ فقال: أخبرني هذا أنك رددت عليه ما قرأ، قال: نعم، وهم أبي بن كعب، نعم يا معاذ، بعثك نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأنزل بعدك قرآن، ونسخ بعدك قرآن، فأتني بأصحابك يعرضون علي القرآن.فقال معاذ: يا ناشرة، إن أعلم الناس بفاتحة آية وخاتمتها أبي بن كعب، وإن أقدر الناس على كلمة حكمة أبي الدرداء، وإن أعلم الناس بفريضة، وأقسمه لها عمر بن الخطاب (أخرجه يعقوب بن سفيان الفسوي في المعرفة والتاريخ، ج 1، ص. 482 ). ولقد ترسخت مدرسة أبي بن كعب القرآنية في المدينة المنورة، ومدت إشعاعها إلى حواضر الإسلام.
أما المدينة فقد جمع عمر بن الخطاب المسلمين في قيام رمضان، وقدم للإمامة بهم أبي بن كعب، فكان يصلي بهم عشرين ركعة ويوتر بثلاث (أخرجه أبو داود في سننه، الصلاة، باب القنوت في الوتر رقم 1424؛ وانظر مصنف عبد الرزاق رقم 7830؛ والبيهقي، ج 2، ص. 496)، قال نوفل بن إياس الهذلي: كنا نقوم في عهد عمر بن الخطاب فرقاً في المسجد في رمضان هاهنا وهاهنا، فكان الناس يميلون إلى أحسنهم صوتاً، فقال عمر: ألا تراهم قد اتخذوا القرآن أغاني أما والله لئن استطعت لأغيرن هذا، قال: فلم يمكث إلا ثلاث ليال حتى أمر أبي بن كعب فصلى بهم (طبقات ابن سعد، المصدر السابق، ج 5، ص. 59). وفي رواية: يصلي لهم عشرين ليلة، فإذا كانت العشر الأواخر تخلف فصلّى في بيته، فكانوا يقولون: أبق أبي.
بل قد جاء ذلك في حديث مرفوع عند أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أناس في رمضان يصلون في ناحية المسجد، فقال ما هؤلاء؟ فقيل: هؤلاء ناس ليس معهم قرآن، وأبي بن كعب يصلي وهم يصلون بصلاته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أصابوا ونعم ما صنعوا (أخرجه أبو داود الصلاة، باب في قيام شهر رمضان رقم 1272، وقال ليس بالقوي، مسلم بن خالد: ضعيف) .
وكان عمر ينادي ويخطب في غير موضع، ومن ذلك ما خطب به في الجابية فقال: من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أبي كعب، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض، فليأت زيد بن ثابت، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن الملل فليأتني، فإن الله جعلني خازناً وقاسماً (انظر يعقوب بن سفيان الفسوي، المعرفة والتاريخ ، المرجع السابق، ج 1، ص. 463؛ وذكره في سير النبلاء، ج 1، ص. 394) .
وأما امتداد مدرسة أبي خارج المدينة، فقد وصلت جهات الدولة الإسلامية وحواضرها الكبرى إلى المدينة في نفر من أهل دمشق فقرؤوا يوماً على عمر: ﴿إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية﴾، الفتح 26، ولو حميتم كما حموا لفسد المسجد الحرام، فقال عمر: من أقرأكم هذا؟ قالوا: أبي بن كعب، فدعا به، فلما أتى، قال: اقرؤوا كذلك، فقال أبي: والله يا عمر إنك لتعلم أني كنت أحضر ويغيبون، وأُدنى ويحجبون، ويصنع بي، ويصنع بي، والله لئن أحببت، لألزمن بيتي، فلا أحدث شيئاً ولا أقرئ أحداً حتى أموت، فقال عمر: اللهم غفراً، إنا لنعلم أن الله قد جعل عندك علماً، فعلِّم الناس ما علمت (أخرجه الحاكم، ج 2، ص. 225 ورجالة ثقات، وابن أبي داود في المصاحف مطولاً، ص. 174) .
وعن ابن عباس قال: قال عمر بن الخطاب: أبي أقرؤنا، وإنا لندع من لحن أبي، وأبي يقول أخذته من في رسول صلى الله عليه وسلم فلا أتركه لشيء، قال الله تعالى : { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } (البخاري، فضائل القرآن، باب القراء من أصحاب النبي r، ج 9، ص. 47؛ والتفسير، باب قوله تعالى { ما ننسخ من آية أو ننسها } ).
وعن عطية بن قيس قال: انطلق ركب من أهل الشام إلى المدينة يكتبون مصحفاً لهم، فانطلقوا معهم بطعام وإدام فكانوا يطعمون الذين يكتبون لهم، وقال: أبي بن كعب كيف وجدت طعام الشامي؟ قال: ما أصبت لهم طعاماً ولا إداماً (أبي بكر بن أبي داود، المصاحف، المصدر السابق، ص. 176) . وبقي أبي عاكفاً في محراب القرآن، وتعليم الأمة كتاب الله تعالى حتى أسلم الروح إلى بارئها سنة عشرين أو زهاءها، في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال في حقه: «اليوم مات سيد المسلمين»( طبقات ابن سعد، المصدر السابق) .
وقد أخذ عنه القراءة غير واحد من الصحابة والتابعين ومنهم القراء من عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، وأبو عبد الرحمن السلمي، الذي روى عنه عاصم بن أبي النجود صاحب القراءة التي يقرأ بها أكثر العالم الإسلامي اليوم.
وإذا كان أبي بن كعب بهذا المقام الرفيع فقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى إخوة له برزوا في هذا الميدان، وعلوا في هذا الشأن، وأصبح يشار لهم فيه بالبنان، بعد بيان النبي صلى الله عليه وسلم لجليل قدرهم وعظيم محلهم.
فقد أخرج البخاري وغيره عن مسروق بن الأجدع قال: ذكر عبد الله بن مسعود عند عبد الله بن عمرو بن العاص فقال: ذاك رجل لا أزال أحبه بعدما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: استقرؤوا القرآن من أربعة، من عبد الله بن مسعود فبدأ به، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل (انظر البخاري، الصحيح، المصدر السابق، مناقب الأنصار، باب مناقب أبي بن كعب، ج 7، ص. 126، ومناقب عبد الله بن مسعود، ج 7، ص. 102؛ وفضائل القرآن، باب القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ،ج 9، ص. 46؛ ومسلم، فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد بن مسعود وأمه، رقم 2654) .

أما عبد الله بن مسعود بن غافل الهذلي فهو فقيه الأمة، ومؤسس مدرسة الكوفة في القرآن، والحديث والفقه، فقد أعلن غير ما مرة عن إتقانه للقرآن وتلقيه له من في رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذاك إلا لأنه من السابقين الأولين الذين أقبلوا على هذا الدين.
فقد كان سادس ستة ما على ظهر الأرض مسلم غيرهم، وكان يعدونه من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لكثرة دخوله وخروجه مع النبي صلى الله عليه وسلم والقيام بشؤونه وحاجاته، بل كان مكلفاً بالمطهرة والوساد - أي الفراش - والسواك والنعلين.
وقد أخرج البخاري وغيره عن عبد الله قال: والذي لا إله إلا هو لقد قرأت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وسبعين سورة، ولو أعلم أحداً أعلم بكتاب الله مني، تبلغينه الإبل لأتيته (أخرجه البخاري، فضائل القرآن، المصدر السابق، باب القراء من أصحاب النبي r، ج 9، ص. 469؛ وعند مسلم في صحيحه، المصدر السابق، فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه رقم 2462) .
وفي رواية: والذي لا إله غيره، ما من كتاب الله سورة إلا أنا أعلم حيث نزلت، وما من آية إلا أنا أعلم فيما أنزلت ولو...
ولشدة إتقانه للقرآن، وحسن أدائه لآياته، طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن يسمعه منه، فقد أخرج البخاري (في صحيحه، المصدر السابق، فضائل القرآن في عدة مواضع ) ، ومسلم (صلاة المسافرين، باب فضل استماع القرآن ) والنسائي (فضائل القرآن، المصدر السابق، رقم 100) عن عبد الله قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ علي القرآن ، قلت: يا رسول الله أقرأ عليك، وعليك أنزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري ، فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت: { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } فقال لي: حسبك فإذا عيناه تذرفان.
ولعل بكاءه عليه الصلاة والسلام رحمة لأمته، لأنه علم أنه لابد أن يشهد عليهم بعملهم، وعملهم قد لا يكون مستقيماً، فقد يفضي إلى تعذيبهم، فبكى إشفاقاً ورحمة عليهم. ونوَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك بابن مسعود فقال: « من أحب أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه على ابن أم عبد » (أخرجه أحمد، المصدر السابق، ج 1، ص. 7؛ وابن ماجة رقم 138 عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وأخرجه أحمد، المصدر نفسه، ج 1، ص. 2826؛ والبيهقي، المصدر السابق، ج 1، ص. 425؛ والحاكم، المصدر السابق، ج 2، ص. 268 عن عمر بن الخطاب وأخرجه غيرهم كذلك ) وهو ابن مسعود.
ولا شك أن لصوت ابن مسعود أثراً كبيراً في تفكر النبي صلى الله عليه وسلم وتدبره، وشرع للأمة ذلك أن يختاروا القارئ المؤثر، والصوت الجميل الذي يهز أوتار القلوب، وحنايا الصدور، فقد كان ابن مسعود حسن الصوت، وكان إذا هدأت العيون، وسكن الليل وأرخى سدوله، انتصب قائماً بالقرآن، فكان له دوي كدوي النحل، كما وصفه أخوه عبيد الله في ما أخرجه ابن سعد في "طبقاته"، والفسوي في "المعرفة والتاريخ"(المعرفة والتاريخ، المرجع السابق، ج 21،ص. 494) .
وقد كون هذا الإمام الحبر مدرسة بالكوفة لقنها إتقان القرآن، وعلمها إملاءه عن ظهر قلب.
فعن علقمة النخعي قال: جاء عمر بن الخطاب رجل فقال: يا أمير المؤمنين إني جئتك من عند رجل يملي المصاحف عن ظهر قلب، ففزع عمر، فقال: ويحك أنظر ما تقول، وغضب، فقال: ما جئتك إلا بالحق، قال: من هو؟ قال: عبد الله بن مسعود. قال عمر: ما أعلم أحداً أحق بذلك منه. وسأحدثك عن عبد الله، إنا سمرنا ليلة في بيت أبي بكر في بعض ما يكون من حاجة النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم خرجنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين أبي بكر، فلما انتهينا إلى المسجد إذا رجل يقرأ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم يستمع إليه، فقلت: يا رسول الله، أعتمت فغمزني بيده اسكت، قال: فقرأ وركع، وسجد وجلس يدعو ويستغفر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سل تعطه، ثم قال: من سره أن يقرأ القرآن رطباً كما أنزل فليقرأه قراءة ابن أم عبد ، فعلمت أنا وصاحبي أنه عبد الله.
فلما أصبحت غدوت إليه لأبشره فقال: سبقك بها أبو بكر، وما سابقته إلى خير قط إلا سبقني (انظر الفسوي، المعرفة والتاريخ، المرجع السابق، ج 2، ص. 538؛ وأبي نعيم، الحلية، ج 1، ص. 124) .
وقد كان ديدن ابن مسعود على الدوام العلم والتعليم، وأول مبادئ التعليم عنده للفتية الناشئين والكبار البالغين، والعلماء الراسخين القرآن الكريم في حلقات معروفة، مواقيت محددة تستغرق وقتاً طويلاً.
فعن هلال بن يساف قال: كنا عند عبد الله بن مسعود نعرض المصاحف، فجاءت جارية أعرابية إلى رجل منا فقالت: إن فلاناً قد لقع مهرك بعينه، وهو يدور في فلك، لا يأكل ولا يشرب، ولا يبول ولا يروث. فقال عبد الله بن مسعود: لا تلتمس له راقياً، لكن ائته فانفخ في منخره الأيمن أربعاً، وفي الأيسر ثلاثاً، وقل: لا بأس، أذهب الباس رب الناس، اشف أنت الشافي، لا يكشف الضر إلا أنت. فقام الرجل فانطلق، فما برحنا حتى رجع فقال لعبد الله: فعلت الذي أمرتني به، فما برحت حتى أكل وشرب، وبال وراث (انظر: ابن عبد البر، التمهيد، ج 6، صص. 238-239؛ والاستذكار له، ج 27، صص. 12-13) .
لقد أخلص أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود لتعليم القرآن وخدمة القرآن حتى توفي سنة اثنين وثلاثين للهجرة، وفي هذه المدة اجتمع حوله نفر غير قليل كانوا نجوماً للهداية. قال علقمة: كنا عند عبد الله فجاء خباب بن الأرت حتى قام علينا، فقال: أكل هؤلاء يقرؤون كما نقرأ، فقال عبد الله: إن شئت أمرت بعضهم يقرأ قال: أجل فقال: اقرأ يا علقمة، فقال فلان: أتأمره أن يقرأ وليس بأقرئنا؟! قال علقمة: فقرأت خمسين آية من سورة مريم، فقال عبد الله: ما قرأ إلا كما أقرأ (ذكره في سير النبلاء، المصدر السابق، ج 1، ص. 471) .
وكما أقام ابن مسعود مدرسة علم القرآن بالكوفة، فقد أحاطها بالعمل بالقرآن والسهر عليه، وكان يقول لطلابه: ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس يفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخلطون، وبخشوعه إذا الناس يختالون.
وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكياً محزوناً، حكيماً حليماً، عليماً سكيتاً. وينبغي لحامل القرآن أن لا يكون جافياً، ولا غافلاً، ولا صخاباً، ولا صياحاً ولا حديداً (انظر: أبي نعيم الأصبهاني، حلية الأولياء، ج 1، ص. 130) . وكان يقول «ولا تشغلوها بغيره» (أبي نعيم، الحلية، المصدر السابق، ج 1، ص. 540) .
وقد أثر فيهم هذا النفس تأثيراً بليغاً، قال إبراهيم التيمي: كان فينا ستون شيخاً من أصحاب عبد الله بن مسعود، وقال عامر الشعبي: ما رأيت قوماً قط أكثر علماً، ولا أعظم حلماً، ولا أعف عن الدنيا من أصحاب ابن مسعود، لولا ما سبقهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ما قدمنا عليهم أحداً.
وقد شهد له بعلم القرآن والسنة غير واحد من الصحابة، فعن سعيد بن فيروز الطائي، أبي البختري، قال: سئل علي بن أبي طالب عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: عن أيهم تسألوني؟ قالوا: عن عبد الله، قال: علم القرآن وعلم السنة، ثم انتهى وكفى به علماً!! قالوا: أخبرنا عن أبي موسى، قال: صبغ في العلم صبغاً...( الفسوي، المعرفة والتاريخ، المرجع السابق، ج 1، ص. 29) .
وعن أبي الأحوض عوف بن مالك الجشمي الكوفي قال: كنا في دار أبي موسى الأشعري مع عبد الله بن مسعود وبعض أصحابه، وأبي مسعود الأنصاري، وهم ينظرون في مصحف، فتحدثنا ساعة، فقام عبد الله - أي خرج - فقال أبو مسعود الأنصاري: ما أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك بعده أعلم بما أنزل الله عز وجل من هذا القائم. قال أبو موسى: لئن قلت ذلك، لقد كان يشهد إذا غبنا، ويؤذن له إذا حجبنا (انظر صحيح مسلم، المصدر السابق، فضائل الصحابة، المصدر السابق، باب من فضائل عبد الله بن مسعود وأمه رقم 2461؛ الفسوي، المعرفة والتاريخ، المرجع السابق، ج 2، ص. 51-544) .
وبإتقانه للقرآن، وضبطه لحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ، صار من أبرز فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، وأرسلهم علماً، وأدقهم نظراً، وأشهرهم قضاءً.
قال مسروق بن الأجدع الهمداني: كان القضاء في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في ستة: في عمر وعلي، وابن مسعود، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبي موسى الأشعري (أخرجه أبو زرعة الدمشقي في تاريخه، ج 1، صص. 649-650 بسنده إلى مسروق) . رضي الله عن ابن مسعود فهو إمام في العلم والعمل، وله في هذا أقوال سديدة رشيدة. وعلى عبد الله أتقن القراءة زر بن حبيش، وأبو عبد الرحمن السلمي وهما شيخا عاصم ابن أبي النجود صاحب القراءة المعروفة في العالم الإسلامي اليوم.
وممن أتقن القراءة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرغ لخدمته حكيم هذه الأمة سيد القراء بدمشق أبو الدرداء عويمر بن زيد الأنصاري الخزرجي المتوفى سنة اثنتين وثلاثين للهجرة في عهد عثمان رضي الله عنه، أحد الذين جمعوا القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبرزهم: أبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وأبو زيد، وسعد بن عبيد، ومجمع بن جارية (انظر صحيح البخاري، المصدر السابق، فضائل القرآن، باب القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ج 1، ص. 29).
قال الذهبي: وهو معدود فيمن تلا على النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يبلغنا أبداً أنه قرأ على غيره (أعلام النبلاء، المصدر السابق، ج 2، ص. 336). وقد استقر بدمشق، قاضياً ومعلماً للقرآن، وقد ندب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الصحابة ليذهب من شاء منهم إلى الشام ليعلم أهلها، فانتدب ثلاثة منهم، أحدهم أبو الدرداء واستقر بدمشق معلماً وقاضياً.
أما عن دخوله الشام فقد قال محمد بن كعب القرظي: جمع القرآن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم خمسة من الأنصار، معاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأبي بن كعب، وأبو أيوب، وأبو الدرداء، فلما كان زمن عمر بن الخطاب كتب إليه يزيد بن أبي سفيان: إن أهل الشام قد كثروا، ورملوا، وملئوا المدائن، واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن ويفقههم، فأعني يا أمير المؤمنين برجال يعلمونهم، فدعا عمر أولئك الخمسة فقال لهم: إن إخوانكم من أهل الشام قد استعانوني بمن يعلمهم القرآن، ويفقههم في الدين، فأعينوني رحمكم الله بثلاثة منكم، إن أجبتم فاستهموا، وإن انتدب ثلاثة منكم فليخرجوا، فقالوا: ما كنا لنتساهم، هذا شيخ كبير، لأبي أيوب، وأما هذا فسقيم لأبي بن كعب، فخرج معاذ، وعبادة، وأبو الدرداء. فقال عمر: ابدءوا بحمص، فإنكم ستجدون الناس على وجوه مختلفة، منهم من يلقن، فإذا رأيتم ذلك فوجهوا إليه طائفة من الناس، فإذا رضيتم منهم، فليقم بها واحد، وليخرج واحد إلى دمشق، والآخر إلى فلسطين.
وقدموا حمص فكانوا بها حتى إذا رضوا من الناس، أقام بها عبادة بن الصامت، وخرج أبو الدرداء إلى دمشق، ومعاذ إلى فلسطين. وأما معاذ فمات عام طاعون عمواس، وأما عبادة بن الصامت فصار بعد إلى فلسطين فمات بها، وأما أبو الدرداء فلم يزل بدمشق حتى مات (طبقات ابن سعد، المصدر السابق، ج 2، ص. 356؛ البخاري، في التاريخ الصغير، ج 2،
ص. 41؛ والأوسط، ج 1، ص. 121؛ والمعرفة والتاريخ، المرجع السابق، ج 2، ص. 577) .
ودخل دمشق ولم يكن للعلم بها سوق رائجة فأخلص النصيحة لأهلها ورغبهم بالعلم، وحببهم به حتى أحبوه وأقبلوا عليه، فكان منهم مدرسة علم وقرآن متصلة إلى يومنا هذا، وستبقى إن شاء الله، وكان يقول لهم حين جاءهم: يا أهل دمشق، أرضيتم بأن شبعتم من خبز البر عاماً فعاماً، لا يذكر الله تعالى في ناديكم، ما بال علمائكم يذهبون، وجهالكم لا يتعلمون، لو شاء علماؤكم لازدادوا ولو التمسه جهالكم لوجدوه، خذوا الذي لكم بالذي عليكم، فوالذي نفسي بيده ما هلكت أمة إلا باتباعها هواها وتزكيتها أنفسها (الحلية، المصدر السابق، ج 1، ص. 248) .
وجاء عن قوله: يا أهل دمشق أنتم الإخوان في الدين، والجيران في الدار، والأنصار على الأعداء، ما يمنعكم من مودتي؟ وإنما مؤنتي على غيركم، ما لي أرى علماءكم يذهبون، وجهالكم لا يتعلمون، وأراكم قد أقبلتم على ما تكفل الله لكم به، وتركتم ما أمرتم به؟ ألا إن قوماً بنوا شديداً، وجمعوا كثيراً، وأملوا بعيداً فأصبح بنيانهم قبوراً، وأملهم غروراً، وجمعهم بوراً، ألا فتعلموا وعلموا، فإن العالم والمتعلم في الأجر سواء، ولا خير في الناس بعدهما (أبي نعيم الأًصبهاني، حلية الأولياء، المصدر السابق، ج 1،ص. 29) وكان لإخلاصه في النصيحة ودأبه في الموعظة أن أثر في أهل تلك الديار فأقبلوا على العلم والقرآن.
قال سويد عبد العزيز: كان أبو الدرداء إذا صلى الغداة في جامع دمشق اجتمع الناس للقراءة عليه، فكان يجعلهم عشرة عشرة، وعلى كل عشرة عريفاً، ويقف هو في المحراب يرمقهم ببصره، فإذا غلط أحدهم رجع إلى عريفه، فإذا غلط عريفهم رجع إلى أبي الدرداء يسأله عن ذلك.
قال سالم بن مشكم - وكان كاتباً لأبي الدرداء -: قال لي أبو الدرداء: أعدد من يقرأ عندي القرآن، فعددتهم ألفاً وستة مئة ونيفاً، وكان لكل عشرة منهم مقرئ، وكان أبو الدرداء يكون علهم قائماً، وإذا أحكم الرجل منهم تحول إلى أبي الدرداء رضي الله عنه، وكان إذا صلى الصبح انفتل، وقرأ جزءاً فيحدقون به، يسمعون ألفاظه، وكان عبد الله بن عامر صاحب القراءة المتواترة مقدماً فيهم (انظر الذهبي، معرفة القراء الكبار، ج 1، صص. 21، 42؛ سير أعلام النبلاء، المصدر السابق ج 2، ص. 346) .
قال الذهبي: قيل: الذين في حلقة إقراء أبي الدرداء كانوا أزيد من ألف رجل، ولكل عشرة منهم ملقن، وكان أبو الدرداء يطوف عليهم قائماً، فإذا أحكم الرجل منهم، تحول إلى أبي الدرداء - يعني يعرض عليه (سير أعلام النبلاء المصدر نفسه، ج 2، ص. 353).
وهو أول من سن الحلق للقراءة، قال هشام بن عمار: حدثنا ابن أبي مالك عن أبيه كان أبو الدرداء يصلي، ثم يقرئ، حتى إذا أراد القيام، قال لأصحابه: هل من وليمة أو عقيقة نشهدها؟ فإن قالوا: نعم وإلا قال: اللهم إني أشهدك أني صائم، وهو الذي سن هذه الحلقة للقراءة (المصدر نفسه، ج 2، ص. 346) .
وكما كانت حلقات أبي الدرداء القرآنية في النهار لها دوي في فجاج ذلك الوادي، فقد كان لها رنين في آناء الليل في التهجد والقيام بالقرآن، وكان يمر على المتهجدين فيقول لهم: بأبي النواحون على أنفسهم قبل يوم القيامة، وتندى قلوبهم بذكر الله، أو لذكر الله (أبي نعيم، حلية الأولياء، المصدر السابق، ج 1، ص. 282) ، إنها مدرسة العلم والعمل.

فإذا انتقلنا إلى أنموذج من التابعين الأعلام، الذين تبعوا منهج النبي ثلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام نجد جمعاً غفيراً، وعدداً كبيراً وفيراً، فلنأخذ منهم أبا عبد الرحمن السلمي مقرئ الكوفة، الإمام العلم عبد الله بن حبيب بن ربيعة، وهو من أولاد الصحابة، وولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، رحل إلى المدينة المنورة، فأخذ القراءة عرضاً عن عثمان، وعلي، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود.
وقد جاء عنه أنه قال: قرأت على عثمان عامة القرآن، وكان يسأله عنه، وهو ولي الأمر، فشق عليه فيقول: إنك تشغلني عن أمر الناس فعليك بزيد بن ثابت فإنه يجلس للناس ويتفرغ لهم، وكنت ألقى علياً - رضي الله عنه - فأسأله فيخبرني، ويقول عليك بزيد بن ثابت فأقبلت على زيد، فقرأت عليه القرآن ثلاثة عشرة سنة، ولما رجع إلى الكوفة كان يقول لطلابه: أخذنا القرآن عن قوم أخبرونا أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يتجاوزهن إلى العشر الأخرى حتى يعلموا ما فيهن، فكنا نتعلم القرآن والعمل به، وسيرث القرآن بعدنا قوم يشربون شرب الماء لا يجاوز تراقيهم بل يجاوزها هنا، ووضع يده على حلقه (أخرجه الطبري، ج 1، ص. 35-36؛ وابن سعد، ج 6، ص. 172) .
ولقد جلس أبو عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السلمي لتعليم القرآن في المسجد الأعظم بالكوفة أربعين سنة، من خلافة عثمان، إلى أن توفي زمن الحجاج سنة أربع وسبعين للهجرة، وكان في تدريسه يبدأ بأهل السوق أولاً حتى ينصرفوا إلى أشغالهم وتجارتهم، وكانت خطته أن يعلم خمس آيات خمس آيات، احتساباً لوجه الله تعالى دون أن يرزأ أحداً شيئاً.
قال إسماعيل بن أبي خالد: كان أبو عبد الرحمن السلمي يقرئ عشرين آية بالغداة، وعشرين آية بالعشي، ويخبرهم بموضع العشر والخمس، ويقرئ خمساً خمساً - يعني خمس آيات خمس آيات (طبقات ابن سعد، المصدر السابق، ج 6، ص. 172) .
وقد روى عن عثمان رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: خيركم من تعلم القرآن وعلمه (أخرجه البخاري في صحيحه، المصدر السابق، فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه، ج 9، ص. 74؛ أبو داود، الصلاة، باب ثواب القرآن، رقم 1452، والترمذي، أبواب ثواب القرآن، وغيرهم) . فكان يروي لهم هذا الحديث، ويقول: هذا الذي أقعدني هذا المقعد، وكان رجل يقرأ عليه القرآن، فأهدى له قوساً فردها، وقال: هلا كان هذا قبل القراءة.
وخرج ابن سعد عنه أنه دخل ذات مرة الدار فوجد فيها جلالاً وجزراً، فقالوا: بعث بها عمرو بن حريث لأنك علمت ابنه القرآن، فقال: رد، إنا لا نأخذ على كتاب الله أجراً (ابن سعد، الطبقات، المصدر السابق، ج 6، ص. 173) . وكان لحرصه على طلابه ومريديه ينهاهم عن علم القصاص، قال عاصم: كنا نأتي أبا عبد الرحمن، ونحن أغيلمة أيفاع فيقول: لا تجالسوا القصاص غير أبي الأحوص (المصدر نفسه؛ والحلية، المصدر السابق، ج 4، ص. 214 ) .
ومما ذكر لأبي عبد الرحمن السلمي أنه أول من أقرأ الناس بالكوفة بالقراءة المجمع عليها، وذلك لأنه تلقى عن جميع من الصحابة القراء فما أجمعوا عليه قرأ به. وحاول أن يطبق منهج الصحابة الذي تلقوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يقول: حدثني الذين كانوا يقرؤوننا القرآن، عثمان، وابن مسعود، وأبي بن كعب - رضي الله عنهم - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرئهم العشر فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى حتى يعلموا ما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعاً (الذهبي، معرفة القراء الكبار، المصدر السابق، ج 1، ص. 56) . وبقي يعمق المنهج النبوي في تعليم القرآن حتى لقي وجه ربه، سنه أربع وسبعين للهجرة راضياً مرضياً إن شاء الله. وبقي قلبه معلقاً بالقرآن والمسجد حتى قضى نحبه، فكان يحمل، وهو إمام المسجد في اليوم المطير وكثرة الوحل والطين إلى المسجد حملاً.
وقال عطاء بن السائب: دخلت على أبي عبد الرحمن السلمي، وهو يقضي في مسجده، فقلت: يرحمك الله لو تحولت إلى فراشك، فقال: حدثني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا يزال العبد في صلاة ما كان في مصلاه ينتظر الصلاة، والملائكة تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، فأريد أن أموت وأنا في مسجدي (معرفة القراء الكبار، المصدر السابق، ج 1، ص. 55) .
لقد أقرأ في مسجده نحواً من أربعين سنة، قال عطاء بن السائب: كنت أقرأ على أبي عبد الرحمن وهو يمشي (طبقات ابن سعد، المصدر السابق، ج 6، ص. 174) .
وعلى أبي عبد الرحمن السلمي أتقن القرآن عاصم بن أبي النجود، ويحيى بن أبي وثاب، والحسن والحسين - رضي الله عنهما - فرحم الله أبا عبد الرحمن الذي تنى ركبتيه هذه السنين الطويلة لخدمة كتاب الله تعالى بكل رزانة وتؤدة، وتثبت، وإتقان يرجو الله والدار الآخرة أنموذجاً للمخلصين، وحلقة وصل بين العباد وبين رب العالمين.
وقد كان قرينه في الطلب، وأخوه في الأستاذية زر بن حبيش بن حباشة الأسدي الكوفي الإمام القدوة المقرئ مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام قال: خرجت في وفد الكوفة إلى المدينة في خلافة عثمان، وأيم الله أن حرضني على الوفادة إلا لقي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما قدمت المدينة أتيت أبي بن كعب، وعبد الرحمن بن عوف، فكان جليسي، فقال أبي: يا زر ما تريد أن تدع آية من القرآن إلا سألتني عنها؟ وكان يقول لأبي بن كعب: يا أبا المنذر اخفض لي جناحك، فإني أتمتع منك تمتعاً (انظر أبي النعيم، الحلية، المصدر السابق، ج 4، ص. 201؛ وسير أعلام النبلاء، المصدر السابق، ج 4، ص. 168؛ وتهذيب الكمال، ج 9، ص. 336 ) .
وقرأ في الكوفة على علي وابن مسعود رضي الله عنهما، وكان من أعرب الناس، كان ابن مسعود يسأله عن العربية (طبقات ابن سعد، المصدر السابق، ج 6، ص. 105؛ أبي النعيم، الحلية، المصدر السابق، ج 4، ص. 203. ) .
وبقي يقرئ الناس في الكوفة من خلافة عثمان - رضي الله عنه - إلى أن توفي سنة اثنتين وثمانين، عن مئة وعشرين سنة.
قال عاصم بن أبي النجود: ما رأيت أحداً أقرأ من زرٍّ، وبه وبأبي عبد الرحمن السلمي تخرج جيل كامل منهم: يحيى بن وثاب، والأعمش وطلحة بن مصرف، وعاصم بن بهدلة، وأبو إسحاق السبيعي.

هذه معالم شامخة، وأواسي راسخة أخلصتْ للقرآن، وكانت هادية دالة على الرحمن، فأعلى الله ذكرها على امتداد الأعصار وتطاول الأزمان، ولجزاء الآخرة أبقى وأعلى في غرف الجنان، اللهم باسمك الكريم العظيم، يا حنان يا منان، يا رحيم يا رحمن اجعلنا من خدام كتابك المتشعبين بسنة رسولك الهداة إلى سبيلك، يا قريب يا مجيب، يا حسيب يا رقيب أنت حسبنا، ولا حول ولا قوة إلا بك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.