مع الداعية الشيخ نعمة الله ( 1 )




مجلة المجتمع الكويتية


د . صالح مهدي السامرائي

شيخ تركي الأصل والنشأة، قضى خمسة عشر عاماً مجاوراً في المدينة المنورة، وخمسة عشر عاماً في مكة المكرمة إماماً لمسجد «النور» عند جبل حراء، وقبلها مؤذناً في مسجد «السلطان أحمد» في إسطنبول - أكبر مساجدها - وإماماً في عدة مساجد أخرى. تتلمذ على الكثير من العلماء المعاصرين للسلطان عبدالحميد يرحمه الله. زار أكثر من خمسين بلداً داعياً إلى الله، أخرج المئات من رواد الخمّارات في أوروبا إلى المساجد، وأدخل عشرين ألف مصحف إلى الصين عام 1981م، بموافقة الحكومة الصينية، وزار سيبيريا وما حولها في روسيا ثلاث مرات بثوبه الأبيض ودرجة الحرارة 40 تحت الصفر. لقد أقام معي في اليابان أربعة عشر عاماً يقطع البلد من شماله إلى جنوبه، ينشئ المساجد ويحوّلها إلى مدارس، وأدخل المئات بل الآلاف من اليابانيين في الإسلام بدعوة «لا إله إلا الله».. يوزع كراسة التعريف بالإسلام يومياً بالمئات، ويحث المسلمين على عمل ذلك. ويستقبل الناس في مركزنا الإسلامي من الصباح إلى المساء، وفي الليل يسيح في مساجد «طوكيو» العديدة، ويأخذ الناس على حسابه الخاص بسيارات الأجرة لصلاة الفجر في مسجد «طوكيو المركزي». سكنه المساجد والمصليات، لا نعطيه راتباً (ولو قرشاً أو فلساً واحداً). لا يغتاب أحداً، ولا ينمّ على أحد، ولا يعادي أحداً، يجمع الأمة الإسلامية كلها، يحبه الجميع ولو كان هؤلاء لا يرتاحون لبعضهم بعضاً، ولا يدعو على أحد، ودعوته «اللهم اهدِ مَنْ هو عدو للإسلام، واقلب عداوته إلى نصرة الإسـلام مثل سيدنا عمر وخالد وعكرمة». يصدق عليه قول المصريين: «رجل ابتاع ربنا».. وها أنا وقد صاحبته السنين العديدة، وهضمت طريقته في الدعوة، وتعرفت على شخصيته عن قرب، أكتب بعض الحلقات عنه، آملاً أن تكون في سيرته قدوة للشباب المسلم في كل مكان، راجياً من الله العفو والأجر؛ ( إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت )(هود:88)، وأن يثيبني عما أكتبه عن هذا الرجل، والله من وراء القصد.



طريقته في «الدعوة» هي الأكثر فعالية.. كيف؟ ( 2 )


صاحبت الشيخ نعمة الله في ميدان الدعوة في اليابان وغيرها لمدة خمسة عشر عاماً، واستوعبت طريقته في الدعوة إلى الله وتوصلت إلى: من بين جميع الدعوات الإصلاحية الدينية في القرنين الماضيين إلى يومنا هذا، فإني أرى دعوة الشيخ نعمة الله هي من أقواها فعالية وأسرعها في النتائج، وأيدت كلماته التي يرددها دائماً، وإنه لو قام كل مسلم بواجب الدعوة إلى الله بأي طريقة كانت، فإنه خلال سنتين سيسود الإسلام جميع بقاع الأرض. الطريقة بسيطة، وكل مسلم يستطيع أن يقوم بها، ألم يقل الرسول [: «بلغوا عني ولو آية»؟ إن أساس طريقة الشيخ في الدعوة هو أن الرسول [ كان يقول للعرب: «قولوا لا إله إلا الله تفلحوا»، لقد بسط الشيخ هذه الكلمة المباركة حيث يقول للناس: كلمتان من يقولهما تذهب عنه جميع المشكلات التي يعاني منها، وينجح في الحياة.. ويقول كذلك: إنه من يردد هذه الكلمة؛ إن كان مسلماً يتجدد إيمانه، ومن كان غير مسلم فإنه يدخل الإسلام، حتى وإن لم يفهم معناها، إن الكلمة تنور أذنه وفمه وقلبه، ألا تنزل السكينة والرحمة حين يسمعها السامع وينطقها؟ طور الشيخ وطورنا هذه الطريقة، حيث بدأ يقول باللغة الإنجليزية (one gol all problems finished)، ولقد استبدلها بكلمة يابانية ( shi awasei no kutuba) فيفهم السامع من هذه الجمل أنه يريد منه أن يردد: «لا إله إلا الله محمد رسول الله». في اعتقاد الشيخ أن من يردد هذه الكلمة فقد دخل الإسلام، وبعدها يقول له: present Islam Name نقدم لك هدية اسم إسلامي (أحمد، محمد، فاطمة، عائشة). طريقة مطورة من جانبنا طورنا هذه الطريقة، فمثلاً في اجتماع لنا في اليابان حضره أكثر من مائة أســتاذ وأستاذة، وقف محدثنا الأستاذ علي الزعبي يتحدث عن الإسلام بيابانية طليقة، ويجيب على أسئلة الحضور لمدة ساعتين، إلى هنا كان هذا عملنا في مركزنا الإسلامي في السنين الماضية، كما أن هذا العمل نفسه تقوم به مراكز ودعاة الدنيا، قد يُسْلم البعض بعد المحاضرة في الحال أو يسلم بعضهم بعد أسبوع، بعد سنة، أو لا يسلم أحد منهم نهائياً إلى أن يموت، حيث يرى الأئمة الآن أننا يجب أن لا نتسرع في دعوة الناس إلى الإسلام ولا نجرح شعورهم ونصبر عليهم ولو لسنين، ونعطيهم المزيد من الكتب ومزيداً من القدوة الحسنة، بل لا نقوم بالدعوة إلا أن نصل درجة الصحابة في الإيمان والتقوى. إلا أنه مما تعلمناه من الشيخ نعمة الله: لقد قلنا للحضور: إنه من يؤمن بوحدانية الله تعالى وبنبوة محمد [ بقلبه ويقولها بلسانه فإنه يصبح مسلماً، وهنا أعلن جميع اليابانيين واليابانيات الحضور: كلنا مستعدون لهذا الأمر، قام الشيخ نعمة الله يردد بنغم مؤثر: «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، والجميع يردد معه بهذه الأنشودة، فكّر الشيخ وقال: لو أن الحضور 2 أو 5 أو 10، فإننا سنعطي اسماً خاصاً لكل رجل وامرأة، إلا أن الحضور أكثر من مائة. شغّل الشيخ مخه وقال: (all men Muhammad ، all women Fatimah) كل الرجال اسمهم محمد، وكل النساء اسمهن فاطمة، صفق الجميع وأعربوا عن سرورهم. اهتمام وشجاعة لقد سمَّيتُ طريقة الشيخ نعمة الله «طريقة الرسول [ في الدعوة» ولخصتها بكلمتين «الاهتمام والشجاعة».. بالنسبة للاهتمام، فالرسول [ كان حريصاً في كل لحظة أن يدعو من تصل إليه يده إلى الإسلام، إن هذا الأمر يحتاج إلى اهتمام كما أنه يحتاج إلى شجاعة وقوة أعصاب، حيث إن العرب في أول أمرهم كانوا يردون دعوة الرسـول [ ويتهكمون به، ورغم أن الرسول [ كان يتألم، فإنه كان يتحمل الإعراض عن دعوته وأصر على الدعوة حتى أحرز النجاح.. إن الشيخ نعمة الله لا يوفر لحظة واحدة في أن يدعو أي إنسان سواء كان رئيساً أو مرؤوساً، حاكماً أو محكوماً، تاجراً أو مشترياً، رجلاً أو امرأة، وإن نسبة الاستجابة له 99%، وحين يعرض عنه أي إنسان يقول: «أجر شهيد». جذور الطريقة إن جذور هذه الطريقة في السيرة النبوية معروفة لدى الكثير، ولعلنا نتذكر عيادة الرسول [ للطفل اليهودي المريض، وعند زيارته له بدأ يحتضر، فقال له الرسول [: «قل: لا إله إلا الله محمد رسول الله»، فما كان من والده إلا أن قال للطفل: أطع أبا القاسم، فنطق الطفل قبل وفاته بالشهادتين. وتحضرنا كذلك دعوة الرسول [ للصحابي الجليل وشهيد أُحد، عثمان بن مظعون ]، يقول عثمان: كلما رآني الرسول [ يقول لي: «مثلك لا تغيب عنه حقيقة الإسلام»، فأسلمت مجاملة، ودخلت الحرم المكي في أحد الأيام ورأيت الرسول [ جالساً بجانب الكعبة ودعاني وقال: «أعلمك آية نزلت الآن: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ 90النحل)»، فأدركت أن الإسلام دين حق وجددت إيماني. زيارة الرياض وفي أحد زياراتنا أنا والشيخ نعمة الله لمدينة الرياض، حدثنا أحد المشايخ قائلاً: إني أتفق معكم بطريقة الدعوة إلى «لا إله إلا الله»، وذكر أن الرسول [ دعا أحد العرب إلى قول «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، فقال هذا العربي: هذه الكلمات هي أكره شيء عندي، فقال له الرسول [: «قلها ولو كاره»، فلما قالها نوّر الله قلبه وآمن بالإسلام. إنني لخصت الاهتمام، أن يكون لك صديق غير مسلم، وأساتذة غير مسلمين، وطلبة غير مسلمين، وعمال غير مسلمين، وزملاء غير مسلمين، وزبائن غير مسلمين، ومتعاملين معك غير مسلمين.. فحينما يكون عندك الاهتمام وتستطيع أن تبلغ الدعوة ستوصل رسالة الإسلام إلى كل هؤلاء.. وهذا الأمر يحتاج إلى شجاعة. فرص ضائعة للدعوة بالنسبة لي، فقد عشت خمس سنوات في سكن للطلبة في اليابان في الستينيات من القرن الماضي، وكان جاري طالباً فلبينياً، أبوه ضابط في رئاسة الجمهورية الفلبينية، كل يوم يقول لي هذا الزميل الفلبيني: إن أصولي إسلامية واسم عائلتي يدل على أن أجدادي كانوا مسلمين، ورغم أني منذ صباي مواظب على الصلاة، وفاهم لأحكام الدين الإسلامي، وطالب في الدراسات العليا في الجامعة، ومع هذا لم أدْعُه يوماً إلى الإسلام، وإني أشعر إلى يومنا هذا بالحزن والأسى على ذلك.. أساتذتي اليابانيون كانوا يقولون: «نحن لا نحب التشدد إلا أن تشدد السامرائي نحبه»، ما قدمت لهم يوماً رسالة الإسلام رغم أنهم كانوا يشاهدونني أصـلي في المعمل وفي الحقل، حيث إني كنت في كليـــة الزراعة في جامــعة «طـــوكيو». زميلي المسيحي العراقي في الجامعة يقول لي دائماً: علمني الإسلام. فأقول له: اسكت، ظناً مني أنه يستهزأ بي. المبادرة في الدعوة يقول الشيخ نعمة الله: إن الأمة جهلت المبادرة في دعوة الآخرين للإسلام، ومن تجربتي معه، فإن طريقته - كما ذكرنا - هي الأكثر فعالية، ففي زياراتنا المتتالية لماليزيا اهتدى الكثير من الصينيين والمسيحيين والهندوك إلى الإسلام بدعوة الشيخ نعمة الله، لدرجة أن الكثير منهم كان يعتب على المسلمين؛ لماذا لم ندعوهم إلى الإسلام إن كان الدخول في الإســـلام سهلاً بهذه الطريقة؟ ولقد حضرنا اجتماعاً لجماعة out reach أحد فروع جمعية ABIN الشبابية في ماليزيا والمتخصصة في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، وأوضحنا لهم كيف استطعنا خلال إقامتنا شهرين في ماليزيا أن نهدي إلى الإسلام المئات، فقالوا: إنكم عملتم خلال الشهرين ما لم نعمله في سنين، وكانت نتيجة سماعهم لتجربتنا أن ازدادوا نشاطاً، وأدخلوا الآلاف من غير المسلمين في الإسلام، وهذا ما أخبرونا به خلال لقاء وفدهم بنا في إسطنبول بتاريخ 2/6/2010م، حيث قالوا: إن الآلاف دخلوا في الإسلام من مختلف طبقات المجتمع، أساتذة ومسؤولين ومن عامة الناس. وفي مقالاتي التالية عن الشيخ نعمة الله، سوف أسوق أمثلة تظهر فعالية الطريقة التي علمنا إياها الشيخ في الدعوة الإسلامية. إن الخير موجود في الأمة، والدعاة إلى الله يملؤون الأرض، ولست بكلامي هذا منتقصاً من أحد، والكل على خير، وهذه بضاعة نسوقها للأمة للاستفادة منها ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده )(الأنعام:90).



«روضة» البريطانية ( 3 )



على أحد الأرصفة في إحدى محطات القطارات في طوكيو، وعلى بعد ما يقارب مائة متر، رأى الشيخ نعمة الله شبح امرأة متلفعة بملابس بيضاء، اقترب منها فإذا بها ذات ملامح غير يابانية ففاجأها متسائلاً (بالإنجليزية): هل تتحدثين الإنجليزية؟ فأجابت: نعم أنا امرأة بريطانية، وهنا بدأ يعرض بضاعته: قولي جملة من يقولها تذهب عنه جميع المشكلات.. كلمات استوحاها الشيخ نعمة الله من قول الرسول محمد [ للعرب: «قولوا لا إله إلا الله تفلحوا..». ردّدتها المرأة البريطانية، وأعقب ذلك: أهديك اسماً إسلامياً «روضة».. فرحت، وبعدها سلمها نشرة تعريفية للمركز الإسلامي باليابانية والإنجليزية وتركها. بعد ثلاثة أيام اتصلت «روضة» بالمركز الإسلامي وقالت: «رأيت شيخاً ظننته مجنوناً وطلب مني قول: «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، وأهدى لي اسماً إســلامياً»، ثم قالت: «بصراحة كنت ولمدة طويلة أعاني من مشكلات كثيرة إلا أنني بعد أن رددت هذه الكلمات ذهبت عني جميع هذه المشكلات، أريد أن أرى هذا الشيخ». أخذنا رقم تليفونها واتصلنا بالشيخ نعمة الله الذي كان يــذرع جنوب اليابان داعياً إلى الله، وقلنا: يا شيخ، إن امرأة تريد لقاءك، واتفقنا على أن يحضر إلى طوكيو بعد ثلاثة أيام وأخبرنا المــرأة بذلك. جاءت الإنجليزية متلفعة بملابس بيضاء، من رأسها إلى أخمص قدميها ومعها امرأة يابانية بنفس الملابس الساترة. حضر الشيخ وتم تجديد التعارف وأسلمت زميلتها اليابانية. توطدت العلاقات بين المركز و«روضة»، وتبين أنها تجيد سبع لغات: يابانية، وفرنسية، وإسبانية، وبرتغالية.. إلخ، وتعمل مترجمة وتعيش مع والديها اللذين أسلما على يد الشيخ أيضاً.. وأخيراً زوّجها الشيخ نعمة الله من داعية باكستاني. حافظت «روضة» على علاقاتها مع الجالية الإسلامية، وكانت تخرج مع المسلمين انطلاقاً من مختلف المساجد تدعو معهم في سكون الليل، وبعد أن بدأ الكثير من سكان طوكيو يعودون لبيوتهم (اليابانيون شرقيون، وطوكيو مضاءة شوارعها ومزدحمة إلى ما بعد منتصف الليل)، ومنهم من كان يخرج من الحانات. في إحدى المرات وفي إحدى مناطق طوكيو المهمة (Ikebukuro)، خرجت «روضة» مع مجموعة من الشباب الباكستانيين المسلمين يدعون المشاة العائدين إلى بيوتهم، مخترقين حديقة مجاورة. التقت «روضة» بإحدى المغنيات العائدات وهمست بأذنها: عندي أغنية، مَنْ يرددها ويسمعها تذهب عنه كل المشكلات، وبدأت «روضة» تردد بهدوء هذه الأغنية، حفظتها المغنية اليابانية فبدأت تنادي بصوت مرتفع للمارين في الحديقة: «يا ناس أعلمكم أغنية جديدة مَنْ يرددها تذهب عنه كل المشكلات.. بدأت مجاميع من الناس تردد معها وبصوت عالٍ: «لا إله إلا الله محمد رسول الله..». وهكذا أشاع نعمة الله الدعوة المحمدية إلى «لا إله إلا الله» في كل الحالات، يعلمها الناس ويطلب من كل مسلم أن يدعو إلى «لا إله إلا الله»، فهي كلمة نور تدخل الأذن وتنزل إلى القلب فتنوّره، حتى ولو لم يفهم معناها، ولنا معه مئات بل آلاف التجارب التي ثبتت فعالية هذه الطريقة الرئيسة في الدعوة إلى الله.



آخر سكران! ( 4 )



زار الشيخ نعمة الله أوروبا أربع مرات، ومن البلدان التي زارها ألمانيا، وكان يعظ في مساجدها، ولا يكتفي بذلك بل يزور الخمارات حيث يؤمها الكثير من الأتراك والعرب والناطقين باللغة الأوردية من شبه القارة الهندية الباكستانية.. والشيخ يجيد اللغات الثلاث التركية والعربية والأوردية، ومفاتيح لغات العالم.. وقصتنا اليوم تدور في مدينة برلين، ومع الأتراك في عام 1979م تقريباً. وقف الشيخ نعمة الله يتحدث مع الأتراك في أحد مساجدهم لمدة ساعتين أو ثلاث، ووقف بعدها متسائلاً: أين غيركم؟ أجابوه: لماذا تسأل؟ تكلم، ونحن نستمع لك لساعات. قال الشيخ: أين غيركم؛ لأذهب إليهم؟ أجابوه: في الخمارات.. قال الشيخ: أذهب إليهم أرسلوا معي دليلاً. الذهاب للخمارة وفعلاً ذهب الشيخ نعمة الله مع الدليل إلى خمارة روادها أربعون تركياً، وقف الشيخ وسطهم وحياهم قائلاً: السلام عليكم أيها المجاهدون، فبدأ الواحد ينظر إلى الآخر متعجبين أين المجاهدون؟! قال الشيخ: أنتم مجاهدون لثلاثة اعتبارات: الاعتبار الأول: تحرككم ومشيكم ورواحكم ومجيئكم في ألمانيا بأسمائكم الإسلامية: أحمد، خليل، إبراهيم... إلخ، كل هذا يذكر الناس بالإسلام. الاعتبار الثاني: جئتم لألمانيا لكسب الرزق الحلال لآبائكم وأبنائكم هذا أيضاً جهاد. الاعتبار الثالث: لو نظرنا إلى أسلافكم من العثمانيين؛ فإنهم كانوا مجاهدين فأنتم أحفاد المجاهدين. بشرى سارة ثم أردف الشيخ قائلاً: إني قادم من المدينة المنورة، وقد أتيت لكم ببشارة من هناك، وهي قول رسول الله [: إنه من «يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله دخل الجنة»، وإن الله سبحانه وتعالى يؤجرني بسببكم.. وهنا ردد الجميع: «لا إله إلا الله محمد رسول الله». وإني أعظ الناس منذ سنين طويلة في المساجد، وكان المفروض أن نزوركم ونبلغكم دعوة الأنبياء الذين كانوا يأتون الناس في نواديهم ويدعونهم لدين الحق. بكاء ونحيب: بدأ الجميع بالبكاء والنحيب وهم يرددون، تكلم تكلم يا شيخ، اجلس، اللبن ليس حرام - يقول الشيخ نعمة الله: الجلوس معناه مشاركتهم في الحرام - ثم قال لهم الشيخ نعمة الله: على أية حال أنتم الآن من أهل الجنة، وسأذهب لآخرين أتحدث إليهم. - قالوا له: تكلم، تكلم يا شيخ. - قال: إلى متى أتكلم؟ أنتم الآن من أهل جنة الآخرة، وإني أدعوكم الآن إلى جنة الدنيا (المسجد)، ثم تساءل: ألم تشاركوا أنتم في التبرع لبناء المسجد المجاور لكم؟ - يقول الشيخ: إن لدي تجربة أن الذين يشربون الخمر هم أكثر سخاءً في التبرع للمساجد لأنهم يرجون المغفرة من الله - فقالوا بصوت واحد: يا شيخ نحن تبرعنا، نحن تبرعنا، ولكن يا شيخ كيف نذهب إلى المسجد ومنا من هو جنب؟ أجاب الشيخ: الجنب يغتسل في مكان الاغتسال بالمسجد، نعم الماء بارد ولكن كما قلت: إنكم مجاهدون والاغتسال بالماء البارد في الشتاء جهاد. - قالوا: والسكران؟ - قال: الثقيل في السكر يحمله اثنان خفيفان. وبدأ كل منهم يشجع الآخر للذهاب إلى المسجد، وهم يرددون: يا إخوان لنذهب إلى المسجد ألسنا مسلمين؟ 40 رجلاً ذهبوا للمسجد وبدأ الشيخ يقود الأربعين رجلاً إلى المسجد منهم من دخل المسجد، ومنهم جلس خارجه ينتظر، والشيخ يقرأ ويترجم: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }(الزمر). وقال رسول الله [: «خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا». ثم قال بعضهم: يا شيخ أقرباؤنا في خمارات أخرى، تعال يا شيخ نذهب إليهم. ولقد حكى الشيخ هذه القصة لأحد العلماء الأتراك المجاورين في مسجد رسول الله [، فقال: إن لنا أبناء عمومة سمعنا أنهم يرتادون الخمارات، فذهبنا إليهم ووبخناهم إلا أنهم غضبوا وتشاجرنا وكادوا يضربوننا وانهزمنا!! بعد 3 أعوام ومرت الأعوام وتقادمت الأيام، وبعد ثلاث سنوات، كان الشيخ نعمة الله جالساً في مسجد رسول الله [، فإذا برجل تركي بعمامة وجبة ولحية يسلم عليه قائلاً: هل تعرفني يا شيخ نعمة الله؟ أجاب الشيخ: كيف لا أعرفك؟! أنا زرت أكثر مدن تركيا وقراها، وربما أنت أحد الأئمة أو المفتين في إحدى تلك المدن التي زرتها. قال الرجل: أنا أعرفك جيداً، وأنت لو تبقى ألف سنة لا تعرفني، أنا آخر سكران في برلين، خرجت من الخمارة يحملني اثنان، وتوجهنا صوب المسجد، وكنت أنت تشفق علي، فمسحت رأسي وقلت: «أنت غال عند الله يقبلك في بيته»، كنت ثملاً ولكني عقلت كلامك، انتظرت خارج المسجد إلى أن صحوت، اغتسلت وصليت وتبت إلى الله، ومنذ ذلك الحين وأنا أداوم على الصلاة والعبادات وزوجتي تحجبت وجئنا إلى العمرة ووفقنا للقائك والحمد لله. مرات عديدة إن هذه ليست هي المرة الأولى والأخيرة التي يرتاد فيها الشيخ نعمة الله الخمارات، ويخرج منها الناس إلى المساجد، ويتوبون توبة نصوحاً، منهم الترك والعرب والناطقون بالأوردية، ولقد صار التائبون دعاة ورؤساء جمعيات لبناء المساجد، وإني - صالح السامرائي - رأيت في إسطنبول وأنقرة أحد التائبين في خمارة برلين آنفة الذكر. كما كان الشيخ نعمة الله يرتاد موائد الميسر، فأخرج روادها إلى المساجد. يقول الشيخ نعمة الله: كنت دائماً أردد قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}(الأحزاب)، لكي لا يمتد بي الشعور بأني أنا المنقذ، إنما هو الله سبحانه وتعالى الهادي. موائد القمار ومن الطرائف، أنه حينما كان يخاطب رواد موائد الميسر كان يقول لهم: فيكم صفة الأنبياء والصحابة والأولياء؛ لأنكم مستيقظون حتى ساعة متأخرة من الليل، وهنا يترك الجميع أوراق الميسر ويصاحب الكثير منهم الشيخ إلى المسجد باكين نادمين، ويردد بعضهم: إن أبي علمني قراءة جزء «عم» جميعه.



إسلام الشباب الكوريين الأربعة.. أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ( 5 الأخيرة )


بعد أن أدخل الداعية الشيخ نعمة الله عشرين ألف مصحف إلى الصين من شرقها إلى غربها، وفي عز أوج الشيوعية في هذا البلد، وبموافقة الحكومة الصينية، حيث بقي في إسلام آباد يحاول إقناع السفارة الصينية، وقد أفلح في ذلك في عام 1981م. وخلال إقامته في الصين، سمع أن ثالث مسجد في كوريا يتم افتتاحه في مدينة «كوانجو» على بعد ثلاث ساعات بالسيارة عن العاصمة «سيئول»، قام حينئذ بالضغط على لجام فرسه وتوجه في الحال إلى كوريا التي سبق أن زارها عام 1978م قادماً من أول زيارة لليابان مع الداعية الباكستاني الكبير «سيد جميل» يرحمه الله. افتتاح مسجد «كوانجو» ووصل نعمة الله «سيئول» ونزل في أحد فنادقها الرئيسة مع الوفود القادمة من جميع أنحاء العالم الإسلامي لحضور حفل افتتاح هذا المسجد «كوانجو» (وقد وجه أحد كبار الضيوف سؤالاً إلى نعمة الله: أنت مَنْ دعاك؟ وهنا أجابه الشيخ الداعية بعزة المسلم: أنا دعوت كل هؤلاء الوفود). في أول يوم والوفود لا تزال في العاصمة على أن تتوجه في اليوم التالي لافتتاح المسجد، قام نعمة الله بالأذان في مسجد «سيئول» الرئيس، وهو على قمة مرتفعة في قلب العاصمة، وبعد الصلاة جلس عند بوابة المسجد يفكر والدموع تنهمر على وجهه ويخاطب نفسه: «لو جاء صحابي واحد إلى هذه البلاد لتوجه إلى ملك البلاد ودعاه للإسلام وأدخله فيه؛ وبذا يدعو كل البلد لاعتناق هذا الدين، ولكن بتقصيرنا - نحن المسلمين - حرم هؤلاء من الإسلام.. على أية حال، أنا جئت على خطى الصحابة الكرام رضي الله عنهم فعسى الله أن يكتب على يدي شيئاً». أربعة شباب كوريين يقول الشيخ نعمة الله: «وأنا على هذه الحال، أقبل لزيارة المسجد أربعة شباب كوريين في عمر الزهور، يبدو عليهم أنهم في عمر طلبة الثانوية.. مسحتُ دموعي في الحال وأشرت إليهم أن أقبلوا نحوي.. تقدموا مني وأشرت لهم بأصبعي على شفتي.. قولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله.. ما فهموا قصدي أولاً، وكررت، فعرفوا أني أريد منهم أن يقولوا الكلمة الطيبة فرددوها معي ثلاث مرات وقلت لهم: اسم إسلامي؛ أبو بكر، عمر، عثمان، علي، أعطيتهم أسماءهم واحداً بعد الآخر. توجد قناعة عند الشيخ نعمة الله أن من يردد كلمة «لا إله إلا الله محمد رسول الله» يصبح مسلماً فهمها أو لم يفهمها، يسمعها فتنور أذنه وعقله وقلبه وتذهب عنه كل مشكلات الدنيا ويسعد في حياته وأخراه. ثم أشار لهم أن يدخلوا المسجد ويلاقوا المسلمين هناك. تهكم وسخرية وفي اليوم الثاني، والوفود تستعد للخروج لافتتاح المسجد، وعلى مائدة إفطار الصباح في الفندق، جلس نعمة الله على طاولة مستديرة مع بضعة أعضاء من الوفود، وحدثهم أنه لقي أربعة شباب وأنطقهم كلمة التوحيد وأعطاهم أسماء: أبو بكر، عمر، عثمان، علي.. وهنا بادره أحد الجالسين: ما هذا الكلام؟ أحييت الخلفاء الراشدين؟ أم أنت في الحقيقة صرت مجنوناً؟.. تألم الشيخ من كلامهم وكتم الألم. رجعت الوفود إلى بلادها بعد ثلاثة أيام، وبقي نعمة الله شهراً ونصف الشهر في كوريا يستقبل الزائرين للمسجد رجالاً ونساءً، ويدخل بطريقته في الإسلام خمسون، ستون، سبعون يومياً، ويعطيهم أسماء: «أحمد، محمد، حسين، عائشة، فاطمة.. إلخ». مفاجأة سارة كان الشيخ نعمة الله يقيم في المدينة المنورة مع بعض الأتراك الزائرين للحرم المدني المنور، وفي أحد الأيام وبعد إحدى عشرة سنة من زيارته الأخيرة لكوريا، وبعد أن أدى صلاة في المسجد النبوي، جاءه شاب عليه ملامح سكان الشرق الأقصى وسلم عليه قائلاً: أبي، أستاذي نعمة الله، أنا ابنك عمر، فقال له: من أي البلاد يا عمر؟ أجاب الشاب: أنا من كوريا، أسلمت على يديك قبل إحدى عشرة سنة.. سأله الشيخ: قل لي: كيف أسلمت؟ فقد كان كل يوم يسلم على يدي خمسون، ستون، أو سبعون.. قال عمر: أول يوم توجهنا للمسجد في «سيئول» ورأيناك عن بعد تبكي وأشرت لنا أن نأتي نحوك مسحت دموعك، وكنت تؤشر لنا قولوا: «لا إله إلا الله»، كنا لا نفهم قولوا ولا غيرها، ولكن فهمنا أنك تريد منا أن نردد معك هذه الكلمات فرددناها وأسميتنا: أبو بكر، عمر، عثمان، علي.. أنا عمر من بينهم. كيف جئت يا عمر إلى المدينة؟ قال عمر: بعد أن رددنا كلمة التوحيد دخلنا مسجد «سيئول»، أكرمَنا المسلمون، بدأت أتعلم اللغة العربية، ثم جاء وفد من الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة يطلبون طلبة للدراسة فيها، فقال لهم المسؤولون المسلمون الكوريون: إن عمر يصلح لكم، والآن أنا في الفرقة الرابعة بكلية الدعوة. قال الشيخ نعمة الله: ما شاء الله، ما شاء الله! أنت والحمد لله نجحت، فما وضع إخوانك أبي بكر، وعثمان، وعلي؟ قال عمر: كلهم والحمد الله محافظون على إسلامهم وصلاتهم، وأنا أعمل في الدعوة مثلك. وأجرت جريدة «المدينة» مقابلة صحفية مع الشيخ نعمة الله، وصور مراسلها الشيخ وهو يحتضن عمر، ولعل هذه الوثيقة الوحيدة التي يحتفظ بها نعمة الله عن الآلاف من نشاطاته. وحرصتُ - أنا كاتب هذه السطور - أن أجملها وأرتبها وأرفقها مع هذا التقرير؛ لأثبت للقارئ الكريم أن قصص نعمة الله في الدعوة حقيقية لا يعتريها ولو بصيص من الشك، فهو مدرسة استفدت منها ومن مصاحبتي له خلال الخمسة عشر عاماً الماضية في الدعوة، أراه إماماً في الدعوة وصاحب مدرسة متميزة، وطريقته هي طريقة الرسول محمد [، مبادرة الناس بدعوتهم، صحيح أن العرب كانوا يفهمون المعنى ولكن الأتراك الأوائل، والفرس، والأفغان، والأمازيغ، والإندونيسيين، والأفارقة.. ماذا كانوا يفهمون من الإســلام؟ تخيلات وعواطف مخلصة فقط. تزوج الصحابة وتابعوهم وأبناؤهم من الفارسيات والأفغانيات والتركستانيات والقفقاسيات والأمازيغيات.. فجاء الأولاد يعرفون لغة آبائهم العربية، ولغة قوم أمهاتهم.. فأفهموا هذه الأقوام حقيقة الإسلام وبرز منهم علماء رواد، منهم: أبوحنيفة، والبخاري، والترمذي.. وغيرهم. المهم، أخذ نعمة الله عمر إلى حفلة زواج في أحد بساتين النخيل في المدينة المنورة، وقدم نعمة الله عمر إلى المحتفلين وشرح لهم أوضاع المسلمين في كوريا واليابان. ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا (إبراهيم).