ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا،وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جزاك الله خيرا
أسف على طول الموضوع ولكن نحن بحاجة لأن نكون أقوياء؟!.
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى أله وصحبه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم
ثقافة التسامح والعفو عند المسلمين
كلنا يتعرض لمواقف قد يفقد الإنسان أعصابة وقد يتصرف تصرف يندم عليه حيث لا ينفع الندم !!!
فيجب أن نتمتع بصفة الحلم وهو ضبط النفس، وكظم الغيظ، والبعد عن الغضب، ومقابلة السيئة بالحسنة.
و لا يعني هذا أن يرضى الإنسان بالذل أو يقبل الهوان، وإنما هو الترفع عن شتم الناس، وتنزيه النفس عن سبهم.
لأن الله أعزنا بالإسلام .
فالحلم صفة يحبها الله عز وجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة:
(إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة) [مسلم].
والحلم وسيلة للفوز برضا الله وجنته، ووسيلة لكسب الخصوم والتغلب على شياطينهم وتحويلهم إلى أصدقاء، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كظم غيظًا وهو قادر على أن يُنْفِذَهْ، دعاه الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة، يخيره من الحور العين ما شاء). [أبو داود والترمذي].
وضد الحلم الغضب والتعصب والتعصب من أشد الأمور خطرا، والتي تهدد المجتمعات بالتمزق والفرقة، بل قد تفضي إلى إشتعال الحروب بين الدول ، بل ممكن أن تؤدي للفتنة بين أبناء المجتمع الواحد، والوطن الواحد.
وحرص الإسلام على إقامة العلاقات الودية بين الأفراد والجماعات المسلمة.. ودعم هذه الصلات الأخوية بين القبائل والشعوب.. وجعل الأساس لذلك أخوة الإيمان.. لا نعرة الجاهلية ولا العصبيات القبلية..فقال تعالى:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) سورة الحجرات.
ودعا القرآن الكريم إلى الإصلاح بين المؤمنين:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.الحجرات الاية10.
ورسولنا صلى الله عليه وسلم أقام الدليل القاطع على حقيقة الأخوة الإيمانية وتقديمها على كل أمر من الأمور الأخرى.. فها هو رسول الله يؤاخي بين المهاجرين والأنصار.. وبين الأوس والخزرج.. وأخذ ينمي هذه الأخوة ويدعمها بأقوال وأفعال منه تؤكد هذه الحقيقة الغالية فقد جاء بالحديث:(لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)[رواه مسلم ،والبخاري]. وقوله :
(مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)[مسلم].
إلى غير ذلك من الأحاديث التي تقوي هذه الرابطة..
و إن إنغلاق المرء على عقيدته أو فكره، واعتبار الآخرين جميعاً خصومه وأعداءه، وتوجس الشر منهم، وإضمار السوء لهم، وإشاعة جو من العنف والكراهية لهم، مما يفقد الناس العيش في أمان واطمئنان، والأمن نعمة من أعظم نعم الله على الإنسان، لهذا امتن الله على قريش فقال: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3)الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } (4) سورة قريش.
واعتبر القرآن الجنة دار أمن كامل: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ} سورة الحجر الآية 46.
واعتبر شر ما تصاب به المجتمعات: الجوع والخوف، فقال تعالى:{فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (النحل:112)
ومن الناس من يتصور أن الإيمان الديني ملازم للتعصب لا يفارقه لا محالة،لأن المؤمن بدينة يعتقد أنه على الحق، وما عداه على الباطل، وهذا خطأ في الإعتقاد حيث أن الإسلام دين التسامح والعفوومصادر ثقافة التسامح لدى المسلم كثيرة وأعظمها وأولها هو: القرآن الكريم ،الذي أسس أصول التسامح، ورسخها في سوره المكية والمدنية، بأساليبه البيانية المعجزة، التي تخاطب الكيان الإنساني كله، فتقنع العقل، وتمتع العاطفة، وتحرك الإرادة.
وثانيها:السنة النبوية وتاريخ الأمة الإسلامية حافل بالشواهد
بنشر روح ثقافة التسامح والعفو.
فكلنا يعلم أن الإسلام فكر وتعقل ودين الإسلام نُشرَ بالعقل والموعظة الحسنة ولم ينشر بحد السيف إلا على من منعَ نشره أو إعتدى على المسلمين كما أن الإسلام لم يجبر أحد على الدخول في الإسلام وهذا ما أكده القران فقال تعالى:
{إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين}سورة القصص آية رقم 56.
وقال تعالى: أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين(يونس/99).
وكلنا يعلم أن المسلمين كانوا يتعايشون جنباً إلى جنب نصارى ويهود وكذلك الكفار فكانوا كلهم تحت سقف الدولة الإسلامية وكل منهم يتعبد بطريقته والإختلاف سنة كونية لا أحد ينكرها وحساب الناس على الله وحده وليس علينا في هذه الدنيا ، ولكن في الدار الآخرة، يوم القيامة. وهذا ما قرره القرآن في مواضع شتى، يقول تعالى مخاطبا رسوله:
{وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (الحج:68،69).
والإسلام ينظر إلى البشرية كلها أيا كانت أجناسها وألوانها ولغاتها وأقاليمها وطبقاتها بوصفها أسرة واحدة، تنتمي من جهة الخلق إلى رب واحد، ومن جهة النسب إلى أب واحد، وهذا ما نادى به القرآن فقال تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}(النساء:1).
وأمر الإسلام بالبر والقسط للمسالمين من غير المسلمين وهذا ما أكده القرآن الكريم بقول الله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } سورة الممتحنة:8 ،9. وَظَاهَرُوا:عاونوا الذين قاتلوكم وأخرجوكم. أَنْ تَوَلَّوْهُمْ: أَنْ تتخذونهم أولياء.
فالدعائم الشرعية والمنطقية التي سنعتمد عليها في الدعوة إلى التسامح وإشاعته وتثبيته: مستمدة من القرآن أساساً والسنة النبوية ومن مصادر ثقافة التسامح لدى المسلم والواقع التاريخي لأن الإسلام، بهذا التاريخ قام على التسامح مع المخالفين،فالعداوات بين الناس ليست أمرا دائما ،فالناس قد يعادي بعضهم بعضا، لأسباب مختلفة، دينية أو دنيوية، ولكن هذه العداوات على حق كانت أو على باطل لا تدوم أبد الدهر، فالقلوب تتغير، والأحوال تتبدل، وعدو الأمس قد يصبح صديق اليوم، وبعيد اليوم قد يصبح قريب الغد، وهذه قاعدة مهمة في علاقات الناس بعضهم ببعض، فلا ينبغي أن يسرفوا في العداوة، حتى لا يبقوا للصلح موضعا، وهذا ما نبه إليه القرآن بوضوح بعد نهيه عن موالاة أعداء الله وأعداء المسلمين في أول سورة الممتحنة، وضرب مثلا بصلابة إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ }(الممتحنة:4). بعد هذا قال تعالى:
{عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(الممتحنة:7).
ومن الآيات القرآنية التي تدعوا إلى العفو والتسامح وحسن الخلق:﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ (آل عمران: ١٥٩).
وأثنى الله على المؤمنين في قوله:
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ﴿37﴾ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴿38﴾ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ}(39) سورة الشورى.أي فيهم قوة الانتصار ممن ظلمهم واعتدى عليهم ليسوا بالعاجزين ولا الأذلين بل يقدرون على الانتقام ممن بغى عليهم وإن كانوا مع هذا إذا قدروا عفوا كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام لإخوته " لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم" مع قدرته ع لى مؤاخذتهم ومقابلتهم على صنيعهم إليه.
والتسامح مطلوب مع من أساء ورجع وعقل وأصلح فقال تعالى:وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [الشورى 40].
فيجب على من يطلب العفو أن يصلح نفسه ويندم على فعله ويعترف بخطأه أما إذا لم يكن في العفو والمغفرة إصلاح فلا تعفُ ولا تغفر.
كأن يكون الباغي معلنا بالفجور ; وقحا في الجمهور , مؤذيا للصغير والكبير ; فيكون الانتقام منه أفضل ، وفي مثله قال إبراهيم النخعي : كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فتجترئ عليهم الفساق .
فيجب أن يتمتع المسلم بأربع صفات:نور الذكر وقوة الفكر وسعة الصدر وروح العصر.
سعة الصدر وحسن الثقة؛ مما يحمل الإنسان على العفو.ولهذا قال بعض الحكماء"أحسنُ المكارمِ؛ عَفْوُ الْمُقْتَدِرِ وَجُودُ الْمُفْتَقِرِ"فإذا قدر الإنسان على أن ينتقم من خصمه؛ غفر له وسامحه.
وحث القران الكريم على الصبر على أذية الناس والمغفرة لهم ما أساؤوا لهم فقال تعالى: ولَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ . الشورى 43.
وحتى لا نقع في أي إشكال مع الفسقة والجهال علينا التعلم من القران الكريم قال تعالى :
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 200الأعراف.
روي عن أبيّ قال:لما أنزل اللّه عزَّ وجلَّ على نبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم:{خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}.وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:
"ما هذا يا جبريل؟"قال:إن اللّه أمرك أن تعفو عمن ظلمك،
وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك (رواه ابن جرير وابن أبي حاتم).
وقال بعض العلماء : الناس رجلان :
فرجل محسن ، فخذ ما عفا لك من إحسانه ، ولا تكلفه فوق طاقته ولا ما يحرجه،وإما مسيء ، فمره بالمعروف ، فإن تمادى على ضلاله ، واستعصى عليك ، واستمر في جهله ، فأعرض عنه ، فلعل ذلك أن يرد كيده ،كما قال تعالى :ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ (98) سورة المؤمنون .
وقال تعالى : وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35( وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)فصلت.
فهذه الآيات الثلاث في " الأعراف " و " المؤمنون " و " حم فصلت" ، لا رابع لهن ،فإنه تعالى يرشد فيهن إلى معاملة العاصي من الإنس بالمعروف والتي هي أحسن ، فإن ذلك يكفه عما هو فيه من التمرد بإذنه تعالى، ولهذا قال :فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم .
ثم يرشد تعالى إلى الاستعاذة به من شيطان الجان ، فإنه لا يكفه عنك الإحسان ، وإنما يريد هلاكك ودمارك بالكلية ، فإنه عدو مبين لك ولأبيك من قبلك .
قال ابن جرير في تفسير قوله : وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ وإما يغضبنك من الشيطان غضب يصدك عن الإعراض عن الجاهلين ويحملك على مجازاته (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ) .
يقول : فاستجر بالله من نزغه إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
يقول : إن الله الذي تستعيذ به من نزغ الشيطان سميع لجهل الجاهل عليك ، والاستعاذة به من نزغه ، ولغير ذلك من كلام خلقه ، لا يخفى عليه منه شيء ، عليم بما يذهب عنك نزغ الشيطان ، وغير ذلك من أمور خلقه .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : لما نزل : خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا رب ، كيف بالغضب ؟ " فأنزل الله : وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم .
وأصل " النزغ " : الفساد ،إما بالغضب أو غيره .
و " العياذ " : الالتجاء والاستناد والاستجارة من الشر.
قال الله تعالى : وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ.الإسراء : 53 .
وقال تعالى:
{الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين
الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين}.
سورة آل عمران.الآية:134.
يقال: كظم غيظه أي سكت عليه ولم يظهره مع قدرته على إيقاعه بعدوه.
وروى أبو داود وأبو عيسى الترمذي عن سهل بن معاذ بن أنس
الجهني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة
على رؤوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء).
قال:هذا حديث حسن غريب.
وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(إذا كان يوم القيامة نادى مناد من كان أجره على الله فليدخل الجنة فيقال من ذا الذي أجره على الله فيقوم العافون عن الناس يدخلون الجنة بغير حساب). ذكره الماوردي.
قال سري السقطي:الإحسان أن تحسن وقت الإمكان،
فليس كل وقت يمكنك الإحسان؛ قال الشاعر:
بادر بخير إذا ما كنت مقتدرا فليس في كل وقت أنت مقتدر
وقال أبو العباس الجماني فأحسن:
ليس في كل ساعة وأوان تتهيأ صنائعُ الإحسان
وقال عروة بن الزبير في العفو:
لن يبلغ المجد أقوام وإن شرفوا حتى يذلوا وإن عزوا لأقوام
ويشتموا فترى الألوان مشرقة لا عفو ذل ولكن عفو إكرام
وحرص الإسلام أشد الحرص على عدم تكفير المسلمين لبعضهم البعض لكي لا تقع الفرقة بين المسلمين فقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: سباب المسلم فسوق وقتاله كفر.متفق عليه .
فسباب المسلم من الأمور المحرمة والأخلاق السيئة وهو المشاتمة والمخاصمة .
و الحديث فرّق بين السباب والقتال، فالسباب فسوق والفسوق: هو الخروج عن الطاعة وقتاله كفر، كذلك قتال المسلم كفر، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيح: لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض.
و روى هذا المعنى من حديث أبى ذر أن النبي قال: « لا يرمى رجل رجلا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك » ذكره البخاري.
قال ابن بطال في حديث النبي عليه السلام قال: « إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء به أحدهما ».
لذلك فلا يجوز تكفير أو قتال المسلم للمسلم فكل من يقول:لا إله إلا الله خالصة من قلبه لوجه الله يدخل الجنة.
وهذا ما يؤكده الحديث عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير)البخاري.
"وأيضاً قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:
{أن الله يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان}.
فهل قتال المسلم للمسلم جهاد إن الإسلام براء من هذا.
وإن استقراء صور العفو والحلم في سيرته صلى الله عليه وسلم أمر يطول فنكتفي بذكر بعض تلك الصور من حياته :
1-عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غورث بن الحارث الذي أراد الفتك به حين اخترط سيفه وهو نائم فاستيقظ صلى الله عليه وسلم وهو في يده مصلتا فانتهره فوضعه من يده وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف في يده ودعا أصحابه ثم أعلمهم بما كان من أمره وأمر هذا الرجل وعفا عنه .
2-عفا صلى الله عليه وسلم عن لبيد بن الأعصم الذي سحره ومع هذا لم يعرض له ولا عاتبه مع قدرته عليه.
3-عفوه صلى الله عليه وسلم عن المرأة اليهودية وهي زينب أخت مرحب اليهودي الخيبري الذي قتله محمود بن سلمة التي سمت الذراع يوم خيبرفأخبره الذراع بذلك فدعاها فاعترفت فقال صلى الله عليه وسلم " ما حملك على ذلك ؟ " قالت أردت إن كنت نبيا لم يضرك وإن لم تكن نبيا استرحنا منك فأطلقها عليه الصلاة والسلام ولكن لما مات منه بشر بن البراء رضي الله عنه قتلها به .
4- عندما خرج صلى الله عليه وسلم إلى قبيلة ثقيف طلباً للحماية مما ناله من أذى قومه ، لم يجد عندهم من الإجابة ما تأمل ، بل قابله سادتها بقبيح القول والأذى ، وقابله الأطفال برمي الحجارة عليه، فأصاب النبي صلى الله عليه وسلم من الهم والحزن ومن التعب الشديد ما جعله يسقط على وجهه الشريف، ولم يفق إلا و جبريل رضي الله عنه قائماً عنده يخبره بأن الله بعث ملك الجبال برسالة يقول فيها: إن شئت يا محمد أن أطبق عليهم الأخشبين، فأتى الجواب منه عليه السلام بالعفو عنهم قائلاً: ( أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا ) رواه البخاري ، فأي شفقة وأي عفو وصفح وحلم من إنسان يُضاهي هذا الحلم إلا حلمه عليه السلام.
5-لما كُسِرت رُباعيته صلى الله عليه وسلم وشُجَ وجهه يوم أُحد، شَقَ ذلك على أصحابه، وقالوا: يا رسول الله ادعُ على المشركين،فأجاب أصحابه قائلاً لهم: ( إني لم أُبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة) رواه مسلم .
6-أقبل ذات مرة الطفيل بن عمرو الدوسي على النبي صلى الله عليه وسلم، طالباً منه الدعاء على أهل دوس لعصيانهم ، فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن رفع يديه مستقبل القبلة قائلا: ( اللهم اهد دوساً ) رواه البخاري .
7-وأعظم موقف له صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة، بعدما أُخرج منها وهي أحب البلاد إليه، وجاء النصر من الله تعالى، وأعزه سبحانه بفتحها، قام فيهم قائلاً: ( ما تقولون أني فاعل بكم ؟ ) قالوا : خيراً ، أخ كريم ، وابن أخ كريم ، فقال: ( أقول كما قال أخي يوسف ) : { لا تثريب عليكم اليوم يغفر اللَّه لكم وهو أرحم الراحمين } (يوسف:92)، ( اذهبوا فأنتم الطلقاء ) رواه البيهقي .
ومن الروايات عن أئمة المسلمين في العفو:
"ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة يعني: المعتصم الذي عذبه (في فتنة خلق القرآن) وغيره ممن ضربه وحبسه، واستغفر لهم، وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر" فالإمام أحمد بالرغم من قوله: إن قولهم كفر، فإنه حين سئل عن المعتصم ، دعا له وعفا عنه لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا هو منهج أهل السنة ، يظهرون الحق ويدافعون عنه، ويستميتون في سبيله، ومع ذلك لا يحملون غلاً ولا حقداً على أحد؛ بل الأصل عندهم الرحمة والتجاوز والتسامح.
وكذلك كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقد سجن وأوذي وعذب، ولما أظهره الله على من فعل به ذلك، وطلب منه السلطان معاقبتهم بمثل ما عاقبوه به تصديقاً لكلام الله سبحانه وتعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40].. وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل:126] عفا عنهم، وهذا هو خلق أهل السنة ؛ يعملون بالإحسان مع أنه بإمكانهم أن يعاملوا خصومهم بالعدل.
يقول: "ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم قطعاً فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع".
وهذا معلوم، قال تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى [التوبة:113].
فإلى شباب الأمة الإسلامية هذا كتاب الله وسنة رسول الله في التسامح والعفو فلنتجاوز عن أخطاء من أساء إلينا ونصرف طاقاتنا إلى المستقبل ونبني جيل الغد ونوحد الصفوف لكي نكون أقوياء في وجه أعداء أمتنا لنزداد عزاً بعفونا ورفعة عند الله ومن كان يبغي وجه الله فلن يندم ولن يذل،قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما نقصت صدقة من مال ، ومازاد الله عبدا بعفو إلا عزا ، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.
وقال:الكلمة الطيبة صدقة وتبسمك في وجه أخيك صدقة.
فوض أمرك لله أخي المسلم وليكن دستورك القرآن والسنة قال تعالى:
‏{‏لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا‏}‏( 149 )سورة النساء .
فما أحوجنا إلى الاقتداء به صلى الله عليه وسلم في هذا الخلق الكريم، والطبع النبيل، { أولئك الذين هدى اللَّه فبهداهم اقتده } (الأنعام:90).
اللهم إنك عفو كريم فاعف عنا.
الدعاء العظيم الذي كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من أن أضل أو أُضلَّ أو أزلَّ أو أُزَلَّ أو أَظلم أو أُظلم أو أجْهل أو يُجهل عليَّ).