ما الذي قدّمه بوذا للإنسانية حتى أقيمت له تلك المعابد الفخمة والتماثيل الضخمة؟!

دعونا نستعرض شريط حياته سريعاً ثمّ نحاول وزن سيرته بالميزان العقلي وما إذا كان حجم تلك السيرة يتناسب مع حجم التخليد الذي يحظى به أم لا.

بوذا أميرٌ ظهر في الهند في القرن الخامس قبل الميلاد، نشأ في ترفٍ ونعيم قبل أن يختار حياة الزّهد والتّقشّف وخشونة العيش والتأمّل في الكون ورياضة النّفس.

لبوذا سيرٌ متنوّعةٌ ومتضاربةٌ ولكنّها بشكلٍ عام تشمل العديد من المعجزات والبشارات والأحداث فوق الطبيعيّة (الخوارق)، منها أنّه ولد من أمٍّ عذراء حبلت به بغير جماع وولدته من غير ألم، وأنّه لا يحتاج للطّعام ولا الشراب ولا الدواء ولا الاستحمام وهو عليمٌ بكلّ شيء، حاول والده أن يبعد عنه كلّ الشّرور ويهيّء له كلّ أسباب السّعادة، وكان لا يريد لابنه أن يعرف شيئاً عن الألم والمعاناة، ولكنّه خرج من قصره وعمره 29 سنة في نزهة، فرأى ما غيّر حياته للأبد؛ رأى كهلاً مُنْحني الظّهر ومريضاً يتوجّع وميتاً يؤخذ إلى المحرقة وزاهداً مغبرّ الجبين، فأصيب بصدمة لرؤيته أموراً لم يرها من قبل، واسودّت الدّنيا في عينيه وشعر أنّ الحياة مليئة بالألم والمعاناة، فقرّر ترك قصره وعيش حياة المتسوّلين، ثمّ بدأ رحلة البحث عن التّنوير، كان يريد الوصول لهدفٍ نبيل: التخلّص من الألم.

تعلّم وتدرّب على أيدي الرّهبان والنّسّاك (الهندوس)، ولجأ للصّيام القاسي ولكنّه لاحظ أنّ التطرّف في الزّهد والتنسّك لا يجدي نفعاً بعد أن أنهك نفسه وجسده، واكتشف أنّ الأفضل هو التوسّط بين الانغماس في الشهوات وتعذيب الذات.

اعتكف تحت شجرة لمعرفة الحقيقة وبعد 49 يوماً وهو في الخامسة والثلاثين من عمره حصل على التنوير ومن هنا أخذ اسم (بوذا) أي المستنير أو المتيقّظ، حيث توصّل كما يعتقد هو وأتباعه لرؤية كاملة لسبب المعاناة وخطوات التخلّص منها، وسمي اكتشافه Four Noble Truths وهي: الحياة عذاب، العذاب يولد من الجهل، ضرورة إبطال العذاب، إيجاد الطّريق المؤدّي إلى إبطاله.

وصل لحالة النيرفانا Nervana وهي "السّلام التّام للعقل الذي يحرّره من الجهل والطمع والكره وكلّ أشكال الألم الأخرى"، وبقي يدعو لفلسفته خمساً وأربعين سنة.
وفي عمر 80 وصل لحالة "الخلود الأبدي Parinervana" ويعتقد أنّه مات بانسداد الأمعاء Mesenteric Infarction

وقد لاقت دعوته قبولاً خصوصاً بين الهندوس لأنّ دعوته ليس فيها طبقيّة مثل الهندوسيّة ممّا أغاظ رهبان الهندوسيّة فاتّهموه بأنّ الإله (فشنو) تجسّد فيه ليضلّ النّاس عن دين الهندوس.

دوّنت تعاليمه بعد مرور أربعة قرون على وفاته، وهي متأثّرةٌ بديانات وثقافات وفلسفات البلدان التي انتشرت فيها، فهي في الهند متأثّرةٌ بالهندوسيّة، وفي اليابان بالشّنتويّة، وفي الصين بالكنفوشيوسيّة، وجميعهم متّفقون على ضرورة اكتساب صفاء الدين والروح عن طريق تعذيب النّفس ومقاومة الرّغبات وممارسة التأمّل والتّركيز.

وتتطوّرُ طقوسها مع الزّمن، ومن الطّقوس التي أضيفت إليها مؤخّراً ولم تكن على عهد بوذا: الصّلاةُ أمام تمثال بوذا في المعابد ليدخلهم الجنّة، والصيام وهو الامتناع عن الطعام دون الشّراب، والحجّ إلى الهند وسيلان لزيارة الأماكن المقدّسة.

بوذا لم يقل عن نفسه بأنّه إله، ومع ذلك من أتباعه من يعتقد بألوهيّته ويعبده، ومنهم من يرى أنّه ليس بإله ولا ابن إله ولا ملاك ولا نبي، بل معلّم أخلاقي. ومع ذلك يكرّمون تماثيله ويسجدون أمامها على البطن ويقيمون له المعابد والرموز، وهو في الأحمديّة رسول وفي البهائيّة حلّ فيه الربّ.

نلاحظ من سيرته أنّ البوذيّة فلسفةٌ وليست ديانة، وأنّ بوذا ليس نبيّاً ولا إلهاً بل يمكن أن نقول فيلسوف، فهو بشر يتعب ويجوع ويمرض ويموت وهو لا يعلم الغيب بل يتعلّم ويبحث ويجرّب وقد يصيب أو يخطئ، نسبت له صفات أسطوريّة مثل كلّ البشر المعبودين الآخرين، بحث عن الحقيقة لكنّه لم يتوصّل إليها تماماً، وإن اعتقد أتباعه ذلك.

وديانته لم تجلب السّعادة للبشريّة،

فالرّهبانيّة على سبيل المثال ليست في مصلحة البشريّة ولا الأسرة ولا المرأة ولا الرّجل، ماذا كان مصير زوجة بوذا وابنه اللذين تركهما؟ الرّهبانيّة هروب من تحمّل المسؤوليّات ومواجهة التحدّيات وهي دعوةٌ للفرديّة السّلبيّة. ودعوة لانقراض البشرية. كما أنّ الرهبان نماذج للبطالة والتواكل، لا يصلحون للاقتداء بهم، بل هم عالة على المجتمع، من الذي ينفق على الرّهبان؟! هل العمل والأكل من كسب اليد خيرٌ لهم أم التسوّل والأكل من فتات موائد النّاس؟

روي أن قوماً قدموا علي النبي وتحدثوا عن أحدهم فقالوا: يصوم النهار ويقوم الليل ويكثر الذكر، فقال صلى الله عليه وسلم: أيكم يكفيه طعامه و شرابه؟ فقالوا: كلنا, فقال: كلكم خير منه.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله أني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني. بخاري كتاب النكاح
أمّا عقيدة تناسخ الأرواح، التي ورثتها البوذية عن الهندوسيّة، والتي تعني السّعي للتطهّر والتخلّص من دورة الروح في الأبدان لتتحقّق لها النيرفانا أي الاتّحاد بالمخلّص بوذا، تلك العقيدة الخرافيّة مقيّدة للبشر، لأنّها تجعلهم يعتقدون أنّ ما يصيبهم من خير أو شرّ هو نتيجة ما فعلوه في حياتهم التّناسخيّة السّابقة، ممّا يجعلهم يقعدون عن تحسين عيشهم ويسكتون عن المطالبة بحقوقهم، ولا يفسّرون الأسباب بمسبّباتها الحقيقيّة، بل بمعتقدات خرافيّة.

فما الذي أتى به بوذا ممّا جعله يستحقّ أن يُعبد من دون الله تعالى؟

هل كان بوذا محقّاً حين ترك قصره وعاش حياة المتسوّلين؟

رأى بوذا الألم لكنه لم يحسن تشخيصه ولا علاجه، ظنّ أنّ سبب الألم هو الشهوات، وطريق التخلّص من الألم يكون بهجر الشهوات، فترك قصره وتشرّد في الغابات، ولكنّ ظنّه لم يحلّ المشكلة، لأنّ الجياع لن يشبعوا بصيام بوذا، والمرضى لن يشفوا بإنهاكه لجسده، والعجائز لن يخدمهم تعاجزه، والموتى لن يحيوا باعتزاله الحياة والبؤساء لن ينفعهم بؤسه بشيء! وتصوّروا لو اقتدى به جميع الناس وعاشوا حياة الرهبنة والاعتزال فمن الذي سيعمل ويزرع ويربّي ويبني الحضارة؟

لو عاد بوذا إلى قصره بعد أن رأى الشّعب المتألّم، ووبّخ والديه الملك والملكة على إهمال الشّعب والتّقصير والفساد والظّلم ودعا إلى برنامج إصلاح سياسي واقتصادي واجتماعي لكان خيراً للجميع، ولو أمضى 49 يوماً -الذين قضاهم تحت الشّجرة يتأمّل- في إطعام الفقراء وخدمة الشيوخ وعلاج المرضى وإيواء المشرّدين وخدمة المحتاجين لكان خيراً له ولهم وأكثر تنويراً.

كان أبو بكرٍ الصدّيق رضي الله عنه يدخل بيت عجوزٍ فيخدمها وينظّف بيتها ولم يتوقّف عن ذلك حتى بعد أن أصبح أميرَ المؤمنين.

وكان عمر بن الخطّاب رضي الله عنه يتجوّل ليلاً بحثاً عن محتاج يخدمه أو جائع يطعمه.

الألم موجود يا بوذا، إن استطعنا أن نمنع حدوثه فلنفعل، لكن إن لم نستطع فلنحاول أن نتغلّب عليه، فإن لم نقدر فلنتكيّف معه، أمّا رفس النعمة لعيش حياة التشرّد والتسوّل فهو هروب من الألم للسقوط في الألم.

الزهد في الدنيا لا يعني لبس الرثّ وأكل اليابس، ولكن الزهد في الدنيا أن لا تفرح بما أتاك ولا تحزن على ما فاتك،

سئل الإمام أحمد بن حنبل: يا إمام، أيكون الرّجل معه ألف درهم ويكون زاهداً؟ قال: نعم؛ إذا زادت لم يفرح وإذا نقصت لم يحزن.

وقيل للزهري: ما الزهد في الدّنيا؟ قال: ألّا يغلب الحرام صبرك ولا الحلال شكرك.

وقيل الزهد في الدنيا: أن يخلو قلبك ممّا خلت منه يداك.

السبب الحقيقي للألم هو التطرّف، سواءً أكان التطرّف بالانغماس في الشهوات أم بالحرمان منها، فالشهوات التي تجلب الألم هي تلك الشهوات المنفلتة من عقالها، الخارجة عن حدودها الشرعيّة، الطعام الطيّب على سبيل المثال شهوة، إن أُكِلَ باعتدال جلب المنفعة، لكن إن أكل بتطرّف جلب الألم والعلّة. والحرمان منه باعتدال كالصّيام الإسلامي في رمضان (ساعات معدودات في أيّامٍ معدودات) منفعة، لكنّ الحرمان منه على طريقة بوذا مضرّة كما اكتشف هو نفسه ذلك. وبذلك فإنّ السعادة الحقيقيّة هي السير على الصراط المستقيم، وخير الأمور الوسط، والحسنة بين السيّئتين.

بوذا أميرٌ حسّاسٌ ومرهف المشاعر، أراد الخير للناس، لكنّ حدود معرفته وثقافة مجتمعه وضلال رفاقه الرهبان وإهمال والده لم يساعده على رؤية الحقيقة كاملة، فضلّ وراء نصف الحقيقة.

لماذا يا بوذا فوّتت على قومك فرصة إصلاح حقيقيّة ما كان أحوجهم إليها؟ وعلامَ يقدّسك قومك اليوم؟

وإن كان أتباعك شكورين وأوفياء إلى هذه الدرجة أفلا تستحقّ منهم الحضارة الإسلاميّة التي حكمتهم حيناً من الدّهر أيضاً بعض الشكر وقد قدّمت لهم الإصلاح الحقيقي والنهضة والعدالة وفي منهاجها سعادة الدّارين؟!

مراجع المعلومات عن حياة بوذا:
موقع wikipedia وفيلم المجتمعات الدينية: البوذيون الذي بثته الجزيرة الوثائقية