رجال يبلغون بالإيمان أعلى الرتب



الشيخ الدكتور يوسف جمعة سلامة

خطيـب المسـجد الأقصـى المبـارك

www.yousefsalama.com

تاريخ النشر: الجمعة 10 يونيو 2011

أخرج الإمام البيهقي في سننه عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- قال: خطبنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خطبة الوداع فقال: (أيها الناس إن ربكم واحد، وإنّ أباكُم واحد، ألا لا فضل لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلاّ بالتقوى، إنّ أكْرمكُم عند الله أتقاكُم، ألاَ هَلْ بَلَّغْتُ؟ قالوا: بَلى يا رسول الله، قال: فَلْيُبَلِّغِ الشّاهدُ الغائب) (أخرجه البيهقي).

إن الإسلام عقيدة وشريعة ودستور ونظام حياة، جاء ليقود الإنسانية لحياة كريمة في الدارين الدنيا والآخرة، ومنذ أن أشرقت شمسه وعم نوره الكون، والبشرية تعيش حياة كريمة طيبة آمنة. لقد جاء الإسلام رحمة للعالمين، حيث جاء برسالة عالمية للناس كافة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (سورة سبأ الآية 28)، ومن نعم الله علينا أن هدانا للإسلام {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ} (سورة الأعراف الآية 43)، فالإسلام هو مصدر عزتنا وكرامتنا {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (سورة آل عمران الآية (139)، فلا عزة لنا إلا بالإسلام ولا وحدة لنا إلا بالقرآن {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (سورة المنافقون الآية 8).

وعند دراستنا للتاريخ الإسلامي نجد أن المسلمين يوم تمسكوا بالإسلام وعملوا بأحكامه واهتدوا بهديه، احترمهم العالم وقدرهم ووضعهم في المكانة اللائقة بهم، وطأطأ لهم الشرق والغرب إجلالاً واحتراماً، فالله سبحانه وتعالى سمانا المسلمين كما جاء في كتابه الكريم {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} (سورة الحج الآية 78)، لكن المسلمين وللأسف تفرقوا واختلفوا وأصبحوا شيعاً وأحزاباً كل حزب بما لديهم فرحون، مع أن الله عز وجل ذمَّ الفرقة والاختلاف فقال تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (سورة آل عمران الآية 105).

ومن المعلوم أن الإنسان سيد الكون، خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، فكل ما في هذا الكون مسخر لخدمة الإنسان، وقد ميز الله سبحانه وتعالى الإنسان عن غيره من المخلوقات، وفضله، حيث يقول تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (سورة الإسراء الآية 70). والإسلام يعتبر الناس كلهم أمة واحدة ويساوي بينهم جميعاً لأن رسالته موجهة إليهم قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (سورة الأنبياء الآية (92)، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (سورة الحجرات الآية 13).

والأسرة الإنسانية على اختلاف ألسنتها وألوانها انبثقت من أصل واحد: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (سورة النساء الآية 1).

واختلافها في الألسنة والألوان آية من آيات الله جل علاه: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} (سورة الروم الآية 22).

وهذا الاختلاف أدعى إلى التعارف والتآلف والمحبة، لا إلى التناكر والتناحر والشحناء والبغضاء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (سورة الحجرات الآية 13).

إن الإسلام لا يُميز بين إنسان وآخر لا في العرق ولا في الجنس ولا في النسب ولا في المال امتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى».

* فهذا رجل حبشي اسمه أسلم كان راعياً ليهودي يرعى غنماً له، ذُكرت قصته في كتاب (أسد الغابة في معرفة الصحابة) ومن حديثه ما رواه إسحاق بن يسار، أن راعيًا أسود أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو محاصر لبعض حصون خيبر، ومعه غنم كان فيها أجيراً لرجل من يهود، فقال: يا رسول الله، اعرض عليّ الإسلام، فعرضه عليه فأسلم، وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا يحقر أحداً يدعوه إلى الإسلام، فعرضه عليه، فقال الأسود: كنت أجيراً لصاحب هذا الغنم، وهي أمانة عندي، فكيف أصنع بها؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «اضرب في وجوهها، فإنها سترجع إلى ربها»، فقام الأسود فأخذ حفنة من التراب، فرمى بها في وجوهها، وقال: ارجعي إلى صاحبك فوالله لا أصحبك، فرجعت مجتمعة كأن سائقاً يسوقها، حتى دخلت الحصن، ثم تقدم الأسود إلى ذلك الحصن ليقاتل مع المسلمين، فأصابه حجر فقتله، وما صلّى صلاة قط، فأتى به رسول الله، فوضع خلفه، وسُجِّي بشمله كانت عليه، والتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ومعه نفر من أصحابه، ثم أعرض إعراضاً سريعاً، فقالوا: يا رسول الله، أعرضت عنه: قال: (إن معه لزوجته من الحور العين) (أسد الغابة في معرفة الصحابة 1/103-104).

فأسلم هذا رجل حبشي من عامة الناس، كإخوة له من قبل مثل: صهيب، وسلمان، وبلال ... إلخ جاء من الحبشة أرض الهجرة الأولى للصحابة الكرام- رضوان الله عليهم أجمعين-، جاء إلى الجزيرة العربية في قارة آسيا يحمل قلباً كبيراً، فشرح الله صدره للإيمان، وآمن برسالة سيد البشر محمد- صلى الله عليه وسلم- فرفع الله بالإسلام قدره، وأعلى منزلته، وأصبح يساوي الآلاف من الجبابرة والطغاة والمتكبرين الذين صموا آذانهم عن دعوة الحق، لذلك فقد قبله الله في الشهداء وأصبح من أهل الجنان، فسبحان الرحيم الرحمن الملك المنان.

*وهذا جُلَيْبِيْبٌ، بضم الجيم، وهو رجل أنصاري، ليس بصاحب مال أو جاه أو جمال، لكنه صاحب إيمان له ذكر في حديث أبي برزة الأسلمي في إنكاح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ابنة رجل من الأنصار، وكان قصيراً دميماً، فكأن الأنصاري أبا الجارية وامرأته كرها ذلك، فسمعت الجارية بما أراد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فتلت قول الله {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (سورة الأحزاب الآية 36)، وقالت رضيت، وسلمت لما يرضى لي به رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فدعا لها رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وقال: «اللهم اصبب عليها الخير صباً، ولا تجعل عيشها كدًا»، فكانت من أكثر الأنصار نفقة ومالاً (أسد الغابة في معرفة الصحابة 1/414).

كما روي عن أبي برزة الأسلمي (أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان في مَغْزًى له، فأفاء الله عليه، فقال لأصحابه: هل تفقدون من أحد؟، قالوا: نعم، فلاناً وفلاناً وفلاناً، ثم قال: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نعم فلاناً وفلاناً وفلاناً، ثم قال: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: لا، قال: لكني أفقدُ جُليْبِيبًا، فأطلبُوهُ، فَطُلب في القتلى، فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم، ثم قتلوه، فأتى النبي- صلى الله عليه وسلم- فوقف عليه، فقال: قتل سبعة، ثم قتلوه، هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه، قال: فوضعه على ساعديه، ليس له إلاَّ ساعدا النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: فَحُفِرَ له ووضع في قبره، ولم يَذْكر غسلاً) (أخرجه مسلم).

مما سبق يتبين كيف أن الإسلام قَدَّم الدين على ما سواه من أعراض الدنيا. * وهذا عطاء بن أبي رباح الفقيه المعروف الذي كان ينادى عنه في موسم الحج «لا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح» حيث حدّث أحد خلفاء بني أمية أبناءه عنه قائلاً: يا أبنائي تعلموا العلم فو الله ما ذللت عند أحد إلا هذا، عطاء بن أبي رباح كان رجلاً يصفه الذين ترجموا له بأنه كان أسود، أفطس، أعرج، أشل، لكن ذلك كله لم يقلل من مكانته العلمية ومن احترام الولاة له، بل رفع الله قدره بالعلم والدين، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

تلك هي طبيعة المجتمع المسلم فهذا ديننا وتلك تعاليمه، وهذه أمتنا، وذلك ماضيها.

أما آن للبشرية التائهة أن تعود إلى الأصل، إلى الحق، إلى سفينة النجاة التي تقودها إلى حياة كريمة سعيدة، إلى كتاب الله وسنة رسوله فهما مصدرا الخير والحق.