بسم الله الرحمن الرحيم



(379)-(وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً *)

(الإسراء:81)

بقلم

الأستاذ الدكتور/ زغلول راغب النجار



هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في خواتيم الربع الثالث من سورة "الإسراء", وهي سورة مكية, وآياتها مائة وإحدى عشرة (111) بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة في مطلعها إلى معجزة الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى .

ويدور المحور الرئيسي للسورة حول قضية العقيدة الإسلامية, ولذلك بدأت بتسبيح الله- تعالى- والتسبيح هو الذكر بالتمجيد والتقديس, مع التنزيه عن جميع صفات الخلق, وعن كل وصف لا يليق بجلال الخالق- سبحانه وتعالى- والإقرار بتفرده بالسلطان في ملكه .

هذا, وقد سبق لنا استعراض سورة "الإسراء", وما جاء فيها من ركائز العقيدة, والتشريعات الإسلامية, والإشارات الكونية, ونركز هنا على ومضة الإعجاز التشريعي في الآية التي اخترناها عنوانا لهذا المقال.

من أوجه الإعجاز التشريعي في النص الكريم

يقول ربنا- تبارك وتعالى- موجها الخطاب إلى خاتم أنبيائه ورسله- صلى الله عليه وسلم-:

(وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً *)(الإسراء :81).

أي : قل يا محمد منذرا قومك- خاصة- والناس- عامة- أنه مع نزول وحي السماء الخاتم قد جاء الحق بنوره وبإقامة العدل بين الناس, وذهب الباطل بظلامه وبما أشاعه في الأرض من مظالم ومفاسد, والحق دائما يعلو ولا يعلى عليه, والباطل دائما نهايته إلى الزوال والبوار والانهيار مهما طال ليله..!! ولفظة الحق بمشتقاتها المختلفة جاءت في مائتين وسبعة وثمانين (287) موضعا من آيات القرآن الكريم, فقد جاءت إشارة إلى الخالق- سبحانه وتعالى- الذي أوجد كل شئ خلقه بحسب ما تقتضيه الحكمة, كما جاءت إشارة إلى خلق الله- تعالى- الذي خلق بحسب مقتضى الحكمة أي بإتقان وإحكام بالغين, وجاءت إشارة إلى الإيمان بكل حق ثابت, كما جاءت في وصف كل فعل صادق, وكل قول واقع بحسب ما يجب وبقدر ما يجب, وفي الوقت الذي يجب تماما بغير أدنى قدر من التخلف أو التوقف, وعلى ذلك فإن (الحق) هو الثابت الصحيح من كل أمر, و(الحق) ضد الباطل. يقال في اللغة : (حق) الأمر (يحق) (حقا) بمعنى : ثبت ووجب . ويقال: (أحق) الله (الحق) أي: أظهره وأثبته للخلق, و(استحق) الشئ (يستحقه) أي وجبه, (استحق عليه) أي: وجب عليه . وعلى ذلك فإن (الحق) هو أصل في الوجود كله, أصل قوي صادق, ثابت, يستمد وجوده من فطرته, وإن وقف ضده كل أصحاب الأهواء والمطامع, والشهوات, وإن حاربه أهل الباطل وحاولوا ستره؛ والباطل زاهق, مندحر, زائل مهما طال علوه واستمرت هيمنته. وهذه هي حقيقة كونية يقررها القرآن الكريم (وهو حق) في قرابة الثلاثمائة آية, ويجملها في الآية الكريمة التي نحن بصددها والتي تؤكد على أنه مهما كان للباطل صولة ودولة, ومهما انتفخ أهل الباطل ونفشوا رياشهم فنهايته ونهايتهم إلى الانحدار, والدمار, والزوال, وذلك لأن الباطل مناف للفطرة التي فطر الله- تعالى- خلقه عليها, ومن هنا فإنه لا يحمل عناصر البقاء في ذاته, وبذلك فإنه سرعان ما يذوي وينهار مذموما مخذولا من جميع صور الحق وأهله, لأن الحق من عند الله- تعالى- الذي جعله من أسمائه الحسنى, وهو الحي الباقي الذي لا يزول ولا يحول أبدا ؛ ووعد الله حق, وسلطان الله أقوى من سلطان الباطل وأهله مهما تكاثروا (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً *) (النساء:87). والباطل من أسماء الشيطان, ومن ورائه هذا اللعين الذي يترصد الإنسان دوما ليضله عن الحق, ويعميه عن طريقه, ويغريه بالباطل, ويغويه بالوقوع فيه (... إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً *) (النساء:76).

لذلك جعل الله- تعالى- الحق في فطرة كل شئ من الإنسان إلى الحيوان, والنبات, والجماد, وفي الكون كله وفي كل ما خلق الله, مما نعلم من الخلق وما لا نعلم. ولكن الإنسان مخلوق جعله الله- سبحانه وتعالى- ذا إرادة حرة, فإما أن يتوافق مع الفطرة التي فطره الله عليها, ويستقيم على أوامر الله, فيلزم جانب الحق, وإما أن يعارض فطرته فيخرج على أوامر ربه- وهي الحق- ويخضع لأوامر الشيطان حتى يستذله, والشيطان هو الباطل, وهو العدو اللدود للإنسان, يجري منه مجرى الدم من العروق, محاولا إخراجه من دائرة الحق إلى دوائر الباطل بكل وسيلة ممكنة, فيضله ضلالا بعيدا (... وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً *) (الفرقان: 29).

والحق فطري في الإنسان, وفي جميع ما خلق الرحمن, ولذلك يصبح العلم بالحق أمرا فطريا لا تكلف فيه ولا افتعال, فيبقى حب كل من الحق, والخير, والجمال من الأمور الفطرية في الإنسان, وتبقى التبصرة بها والهداية إليها ميسرة له في كل حال ما دام عرف ربه الحق, ودان نفسه بدين الله الحق. ولكن إذا أخضع الإنسان فطرته السوية لوساوس الشيطان أخرجه عنها, واستذله بهذا الخروج عن الحق, وقاده إلى دياجير الظلام الحالك, والباطل الزاهق حتى يغرق فيه إلى الآذان فيهلكه ويقضي عليه, وذلك لأنه لا يمكن لشئ في الوجود كله أن يكون أو أن يدوم بغير الحق, وأن معركة الشيطان مع الإنسان تتركز حول محاولته هذا اللعين إخراج أكبر عدد ممكن من بني الإنسان من دائرة الحق إلى دوائر الباطل.

والذين يدرسون التاريخ وسير الرجال ويتدبرون عواقب الأمور بشئ من البصيرة والاتزان, يدركون تمام الإدراك أن دولة الباطل ساعة, ودولة الحق إلى قيام الساعة, ويعلمون تمام العلم أن الحق لا يهزم أبدا مهما تكاثر عليه أهل الباطل, وأن الباطل لا يدوم أبدا مهما علا واستفحل. من هنا يدرك كل عاقل تصور أنه لا يجوز له أن يسمح للشيطان بإخراجه عن الحق إلى الباطل مهما كانت المغريات من زهرة الحياة الدنيا وزينتها.

ولما كان الله- تعالى- هو الحق, فقد أخذ على ذاته العلية العهد بنصرة كل ما هوحق, ويسحق كل ما هو باطل (... وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً * ) (الأحزاب:27).

وقد فرض الله- تعالى- الالتزام بالحق على الإنسان- ذلك المخلوق المكرم, العاقل, المكلف, ذو الإرادة الحرة- فمن التزم به سعد في الدنيا ونجى في الآخرة, ومن خرج عن الحق إلى الباطل شقي في الدنيا وفي الآخرة.

وقد ينخدع بعض بني آدم بما يكون للباطل وأهله من صولات وجولات موقوتة, ولا يدركون أن ذلك من قبيل الاستدراج, فيحملهم ما لأهل الباطل من تمكين وغلبة في مرحلة من المراحل, ويغويهم الشيطان بمعاداة الحق وأهله, واتباع الباطل وجنده, فإذا تبدل بهم الحال وقعوا في بحار من الندم والحسرة, وقت لا ينفع الندم, ولا تجدي الحسرات.

ويتكرر هذا الأمر في حياة الناس جيلا بعد جيل دون أن يأخذ المنخدعون بمرحلية استعلاء الباطل وأهله درسا أو عظة أو عبرة من وقع الأحداث, أو من وقائع التاريخ, ودون أن يدركوا حقيقة أن سنة الله في نصرة الحق وأهله, وفي تدمير الباطل وجنده هي سنة لا تتوقف ولا تتعطل ولا تتبدل مهما طال علو أهل الباطل, فالله آخذهم لا محالة, وهم في قمة النشوة, وغمرة البطر, وطول الغفلة, دون أن تتأكد غالبيتهم أنهم خلقوا بالحق, وفطروا على الحق الذي غرسه الله- تعالى- في جبلة كل فرد واحد منهم, وعلم الله – تعالى- هذا الحق لآدم لحظة خلقه, وأنزله على سلسلة طويلة من الأنبياء والمرسلين, وحفظه في القرآن الكريم وفي سنة خاتم النبيين والمرسلين الذين وصفهما ربنا- سبحانه وتعالى- بقوله العزيز:

(وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً *) (الإسراء:105).

ويؤكد القرآن الكريم في الآية التي اخترناها عنوانا لهذا المقال وفي قرابة الثلاثمائة أية أخرى أن سعادة الإنسان في دنياه, وأن نجاته في أخراه يتوقفان على الإيمان بالحق والعيش بمقتضاه, وأن من رحمة الله- تعالى- بعباده أن جعل إحقاق الحق في الدنيا سببا للنعيم في الآخرة. ومن هنا كان دعاء المصطفى- صلى الله عليه وسلم- في تهجده مؤكدا على هذا المعنى النبيل. فقد أخرج البخاري عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- كان إذا قام من الليل يتهجد قال : "اللهم لك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن. ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن .ولك الحمد أنت الحق, ووعدك الحق , ولقاؤك حق , وقولك الحق والجنة حق والنار حف ,والنبيون حق , ومحمد- صلى الله عليه وسلم- حق, والساعة حق . اللهم لك أسلمت, وبك آمنت, وعليك توكلت, وإليك أنبت, وبك خاصمت, وإليك حاكمت, فاغفر لي ما قدمت, وما أخرت, وما أسررت وما أعلنت, أنت المقدم وأنت المؤخر, لا إله إلا أنت, أو لا إله غيرك, ولا حول ولا قوة إلا بالله".