حتى لا نشدد على الناس دينهم



د. علي حمزة العمري

الخميس 24 / 5 / 1432 هـ

لا يزال المجتمع المسلم يعاني من الافتقار إلى روح الشريعة الإسلامية، وعمق غاياتها، وصلاحيتها لكل زمان ومكان.
وفي المقابل يعاني المجتمع المسلم من فقر المشاعر تجاه التمسك بحبل الله المتين، والاستمتاع بما أحل الله فيه، والحذر مما نهى عنه.
إن نظرة عامة لا فاحصة توضح الخلل في كلا الاتجاهين!
الاتجاه الذي يسير بالأمة نحو الأخذ بالأحوط في الدين مجردًا عن النظر في غايات الأدلة وأسبابها، واستقراء ظواهر النصوص، والميل المتشدد لما عليه جملة من أهل العلم والفضل، دون تمحيص للنصوص أو تعمق في المقاصد.
والاتجاه الآخر الذي يسير بالأمة نحو الأخذ بالأخف والأكثر رخصة، والتقليل من الضوابط، والاكتفاء بقول بشري منسوب لأحد أهل العلم ينجي من المساءلة!
ومن عجبٍ أنك ترى هؤلاء وهؤلاء كلهم يقيمون الفرائض، ويقرأون كل يوم سبعة عشرة مرة (اهدنا الصراط المستقيم) [الفاتحة: 6]. وهذا الصراط هو الذي حدده الله بقوله: (وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) [الأنعام: ١٥٣].
فيا ترى أغاب فقه هذا الصراط الواضح عن الأذهان، وخفيت دلالته في القرآن، وفي التطبيق العملي لسيرة النبي عليه الصلاة والسلام؟!
إن كان ذلك كذلك، فهو التكليف بما لا يطاق!
إذ كيف نؤمر في القرآن: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) [البقرة: ٢٠٨]. و(السلم) هنا هو الإسلام. والدخول له بكليتنا (كافة)، يعني الالتزام الكامل بكل جزئية فينا للإسلام، والإسلام هو الاستسلام الكامل لله، ونحن لا نعرف كيف نستسلم بكليتنا؟!
وإذا لم يكن الإسلام الذي هو الاستسلام لله في أوامره ونواهيه، فلمَ يكون الاستسلام؟ ولمن يكون الاستسلام؟!
لكن من رحمة الله تعالى بعباده أن جعل طريق الإسلام واضحًا من كلامه في كتابه، وواضحًا كمنهج عملي في سنة وسيرة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
وإذا كان سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي هو الأسوة الكاملة، والنموذج البشري الذي اختاره الله لنقتدي به، ونطيعه في كل شيء لأن في طاعته طاعةً لله، فإن الإسلام الحقيقي والاستسلام الصادق هو في اتباع قوله وفعله -صلى الله عليه وسلم-، يقول الله تعالى: (ومن يطع الرسول فقد أطاع الله) [سورة الأنفال]، ويقول جل شأنه: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا) [سورة الأحزاب].
وهنا نعود مرة أخرى للحديث عن الخلل في مسيرة المسلمين، لأن الخلل الحقيقي هو في الممارسة الخاطئة لدى أجيال كثيرة في كيفية التعامل مع هذه السيرة التي كان خُلُقُ صاحبها القرآن.
إننا هنا أمام دائرتين كبيرتين (النص) و(السيرة).
أو (القول) و(الفعل).
وهما متحدان ومتطابقان ولو اختلفا في النظرة الأولى في بعض المواقف!
ولنوضح ذلك بمثال...
لو أن مصنعًا كبيرًا فيه قرابة الألف موظف، وكلهم على درجة عالية من المهنية والكفاءة والأمانة والإخلاص، ويستوعبون تمامًا متطلبات إدارة المصنع وقوانينه الصارمة منها وما دون ذلك.
وهذه القوانين والنظم معلنة ومعلَّقة ربما في لوحات كبرى يشاهدها من بداخل المصنع من الزوار والعاملين، وعرف الجميع سياسات المصنع ونظمه وقوانينه، وتعاملوا أثناء الزيارة وفق ما لديهم من معلومات راسخة، وفجأة سجل أحد الزوار موقفًا أو أكثر مغايرًا لما هو معروف من نظم وقوانين غدت عالمية لهذا المصنع، فما الموقف تجاه ما شُوهد مغايرًا للنظم والقوانين؟
هل هو يا ترى فضيحة؟ أم هل هو ازدواجية معايير؟ أم هو زلة؟ أم هو سوء نظر من المشاهد؟
إن ذلك كله يمكن أن يكون، لكن ماذا إذا كان ذلك الموقف الـمُشاهَد هو في حقيقته من إنسان لا علاقة له بالمصنع؟!
وماذا لو كان الموقف المُشاهد هو في حقيقته مداراة لطيفة لخطأ زائر، أو خلل فني في المصنع، اقتضت الضرورة، بل ربما اقتضى النظام التعامل معه وفق ذلك الأساس الذي لا يتطابق مع ظاهر النظام العام؟!
ومن هذا المثال أقول: إن (النص) و(السيرة) يتطابق عليهما ذلك المشهد.
فــ (النص) النبوي هو في تلك النظم والقوانين الصريحة والواضحة، و(السيرة) هي التطبيق العملي لروح النص في كل حالاته، والتعامل مع النص وفق الظروف المختلفة.
ومن (النص): إلى (السيرة) ومن (السيرة) إلى (النص) لتتكامل الصورة.
في (النص): قوله تعالى: (وقرن في بيوتكن) [الأحزاب: ٣٣]. وفي السيرة: خرج سبعون امرأة يشكون أزواجهن. [رواه ابن ماجه]
في (النص) قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) [المائدة: ٣٨]. وفي السيرة: أن رجلًا سرق من بستان صاحبه، وقد سبق أن طلب من المساعدة وقت المجاعة فلم يعطه!، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- للمانع إعطاء الصدقة والطعام وبجواره من أخذ: «لا أطعمته إذ كان جائعًا، ولا تركته إذ كان محتاجًا؟!».
إنه في اللحظة التي ينفصل فيها الفقيه عن الواقع، وتغيب عن ذهنه مقاصد الشريعة الكلية، وتنزيل الجزئيات وفق الوقائع والظروف والملابسات، حينها يكون العنت الذي لم يُردْه الله للإنسان! (وما جعل عليكم في الدين من حرج) [الحج: ٧٨].
وحول هذا المعنى يقول الإمام ابن القيّم: «فالواجب شيء، والواقع شيء، والفقيه من يطبق بين الواقع والواجب، وينفذ الواجب بحسب استطاعته». [إعلام الموقعين (4/220)]

Ali@4shbab.net