في خطبة الجمعة بكيب تاون د.العودة: إذا تجرد العلم عن الرحمة أصبح وبالًا على صاحبه في الدنيا والآخرة



الكاتب: الإسلام اليوم/ أيمن بريك

السبت 19 جمادى الأولى 1432الموافق 23 إبريل 2011


- يجب أن تكون الرحمة أساس العلاقة في حياتنا وشعاراتنا وأحاديثنا

- كل من له أصل الإيمان والانتساب للإسلام له حق أن تتعامل معه برحمة، ولو اختلف معك في المذهب أو كان عاصياً


دعا فضيلة الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة ـ المشرف العام على مؤسسة "الإسلام اليوم" ـ إلى ضرورة أن تكون الرحمة هي شعارنا في الحياة، سواء في تعاملنا مع أنفسنا أو زوجاتنا أو أبنائنا، أو في علاقتنا مع الآخرين، سواء أكانوا من المسلمين أو غير المسلمين، بل مع الحيوانات والطيور، مؤكدًا على ضرورة أن تكون الرحمة هي أساس العلاقة في حياتنا وشعاراتنا وأحاديثنا، لافتًا الانتباه إلى أن الرحمة لا تُنزع إلا من الأشقياء، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لاَ تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلاَّ مِنْ شَقِىٍّ».



وقال الشيخ سلمان- في خطبة الجمعة بمسجد السنة المعروف بـ" مسجد الصوماليين" بـ "كيب تاون" في جنوب أفريقيا-ـ: اجعلوا الرحمة شعاركم في الحياة، سواء في تعاملكم، أو علاقاتكم مع النفس ومع الغير، ومع القريب والبعيد، ومع المسلم وغير المسلم، ومع الصديق والعدو الذي بينك وبينه عداوة عادية، يقول تعالى: (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)(فصلت: من الآية34)، أما العدو الذي يحاربك ويقاتلك، فهذا له شأن آخر، وشريعة أخرى.

الرحمة بين المؤمنين

وذكر الشيخ سلمان، أن بيوتًا من غير رحمة هي بيوت خاوية، مشيرًا إلى أن الإنسان ربما يعيش ويُرزق ويستقر في غير بلده، ولكن الغربة لها تكاليف وتضحيات ومتاعب، وما لم يكن هناك أيادٍ وقلوب وأرواح متواصلة، وكلمات جميلة، فإن الإنسان ربما يصعب عليه أن يقطع هذه الحياة الطويلة الصعبة والسهلة في الوقت ذاته، مؤكدًا أن علاقة المؤمنين يجب أن يكون مبناها على الرحمة والتعاطف، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ»، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»، وقال: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا»، فهم كالبنيان أو الجدار الواحد المرصوص، وهم كمثل الجسد الواحد إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى.



وتابع فضيلته، أن كل من له أصل الإيمان والانتساب للإسلام له حق أن تتعامل معه برحمة، حتى لو اختلف معك في المذهب، أو المشرب، أو الحزب، أو الطريقة، أو الاجتهاد السياسي، أو الرؤية، أو الاتجاه الحركي، أو في قول فقهي، أو في أمر من الأمور، بل حتى لو كان هذا المؤمن عنده بعض المعصية أو الخطأ أو المخالفة، ولكن مقتضى ذلك هو أن ترحمه حتى وهو يعصي، وألا أن تكون قاسيًا عليه، فالرحمة هي التي تقرّبه من الخير، وتكون سببًا في هدايته، موضحًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقل: "مثل المؤمنين في البلد الفلاني"، ولا: "مثل المؤمنين في مذهب من المذاهب الفقهية"، ولا: "مثل المؤمنين في حزب من الأحزاب أو جماعة من الجماعات"، ولكنه قال: «لاَ تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلاَّ مِنْ شَقِىٍّ».

الرحمة مع غير المؤمنين

وقال الدكتور العودة: إن مَنْ فضَّله الله بعلم أو صلاح أو هدى أو استقامة فعليه أن يرحم عباد الله، وفي الحديث المسلسل بالأولية وهو مشهور: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِى الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِى السَّمَاءِ»، مشيرًا إلى أن المؤمنين هم أولى بهذه الرحمة للقربى بينهم وبين أخيهم المؤمن، ولكن حتى غير المؤمنين يُرحمون، ولذلك قال الله -عز وجل- عن نبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107)، فلم يجعله عذابًا على الناس، ولكن جعله رحمة، وبيّن سبحانه في كتابه، بلغة عربية فصيحة، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يُرسَل لأي غرض آخر، إلا لغرض واحد فقط وهو "الرحمة للعالمين"، وهذا معنى الآية الكريمة: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107)، حيث نفى بقوله (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ) ثم أثبت بقوله (إِلَّا رَحْمَةً) فقط (لِلْعَالَمِينَ)، وهكذا أتباعه -عليه الصلاة والسلام- يجب أن يكونوا رحمة، وحينما يكونون شقاءً أو ضرًا على العالمين، فإن عليهم أن يعيدوا النظر في صدق ولائهم وانتسابهم واتباعهم لهذا النبي الكريم الذي هو رحمة -عليه الصلاة والسلام.

وأضاف فضيلته: ولذلك فإنه حينما يكون المسلمون أقلية أو مجموعة في بلد ما كهذا البلد الطيب الكريم (جنوب أفريقيا)، والذي أصبح بلدًا مفتوحًا فيه ديمقراطية وحرية ومجال للحقوق والتجمعات منذ ستة عشر عامًا فقط، بينما كان قبل ذلك بلدًا عنصريًا سيئًا في تعامله وعلاقته، وكان يمارس قدرًا من الظلم والعدوان والطغيان بمقتضى اللون أو بمقتضى العنصر على مدى مئات السنين التي مضت، فإن هذه الأقلية المسلمة يمكن أن تقدم نموذجًا في التعامل مع الآخرين بالرحمة التي دعا إليها الإسلام ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم.

مسلمو جنوب أفريقيا.. نموذج يحتذى

ولفت الشيخ سلمان الانتباه إلى أن المسلمين في جنوب أفريقيا وإن كانوا يُشكّلون 2% تقريبًا أو أزيد من ذلك بقليل، إلا أن جنوب أفريقيا من البلاد القليلة جدًا التي يُضرب بها المثل، فعلى الرغم من قلة عدد المسلمين فيها قياسًا ببقية السكان إلا أن حجم المسلمين فيها كبير، بتأثيرهم في الاقتصاد والسياسة، بل وفي المجتمع، حيث تجد أن تأثيرهم في جميع المجالات أكبر بكثير من عددهم، فربما تأثيرهم قد يصل إلى 10% أو أكثر من ذلك، حيث لهم تأثير في الحكومة، والسياسة، والقضاء، والاقتصاد، والمجتمع، بل إن من يزور هذا البلد ويتجول فيه يجد عددًا من الأشياء الإسلامية التي أصبحت من ثقافة أهل البلد، حتى من غير المسلمين، وعلى سبيل المثال، فإنك قد تقابل كثيرًا من الناس وبمجرد أن يعرفوا أنك عربي أو مسلم يقولون لك: "السلام عليكم"، وهذه تحية إسلامية، مما يدل على أن للمسلمين تأثيرًا في هذا البلد.



وأردف فضيلته، أن دور مسلمي جنوب أفريقيا وتأثيرهم في مجتمعهم هو نموذج يحتذى به، وذلك على عكس ما نجده في بلاد أخرى، والتي ربما يكون عدد أو نسبة المسلمين فيها 90%، ومع ذلك قد يحكمهم غير مسلم، أو قد يُحكمون بغير الإسلام، أو قد يكونون مضطهدين في بلادهم -أحيانًا-، مما يدفعنا إلى ضرورة المحافظة على هذه المكاسب من خلال قدر كبير جدًا من الانضباط في السلوك، والتحلي بأخلاق الإسلام.

المسلمون قدوة

وأكد الدكتور العودة على ضرورة أن يكون المسلمون قدوة حتى في أتفه الأشياء -وليس هناك شيء تافه، ولكن فيما يظن الناس-، سواء في السلوك، أو قيادة السيارة، أو في الدخول، أو الخروج، أو في اللباس، أو التعاطي، أو في الكلام، أو التعامل، أو الحضور، أو الدوام، أو الخدمة، أو الالتزام، أو الانضباط، فالقدوة الإسلامية في هذا الجانب السلوكي هي التي من شأنها أن تجعلنا أكثر تأثيرًا، مشيرًا إلى أنه لو كان عدد حضور هذا المسجد في جنوب إفريقيا من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- أو من التابعين، فإنه خلال فترة وجيزة جدًا، ربما سنوات قليلة، سوف تجد أن البلد كله قد تحول إلى مسلمين، وهذا هو الذي حدث أول مرة، فبعدما فتح المسلمون البلاد لم يجبروا أهلها على الدخول في الإسلام، ولكن أخلاق المسلمين ورقيهم في تعاملهم هو الذي جعل الآخرين يتأثرون بهم.



وتابع فضيلته: فليكن للواحد منّا نية واحتساب في تقديم النموذج الحسن والشهادة الصادقة للإسلام، كما قال ربنا -سبحانه وتعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)(البقرة: من الآية143).

فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ

وأردف الدكتور العودة: وكذلك في سورة الفاتحة التي يقرأها المسلم في كل ركعة، حتى قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ»، حيث تُقرأ في كل ركعة للمنفرد وللمأموم وللإمام، والمأمومون يُأمِّنون على تلاوتها، افتتحها الله تعالى بهذه الكلمة العظيمة "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، ثم أثنى على ذاته العلية فقال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الفاتحة:2)، ثم وصف نفسه سبحانه بقوله: "(الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (الفاتحة:4،3)، مما يؤكد على أهمية الرحمة، وأنه على الإنسان أن يتعلم الرحمة بالدواب والبهائم، حتى ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن امرأة بغِيًّا، أي: تحترف الزنا والرذيلة، من بني إسرائيل، وجدت كلبًا يلهث، يلحس الثرى من شدة العطش، وهي كانت عطشانة من قبل وشربت الماء، فقالت: (لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِى بَلَغَ بِى)، ونزعت خفها ونزلت في البئر ووضعت الماء فيه ثم سقت الكلب، فشكر الله لها وغفر الله لها! مشيرًا إلى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما يروي هذه القصة لأصحابه يريد منهم أن يعتبروا ويتلقنوا الدرس والرفق بالحيوان وما فوقه. فتعجّب الصحابة، رضي الله عنهم، وهم أصحاب القلوب الحيّة والعقول النيّرة، وقالوا: (وَإِنَّ لَنَا فِى هَذِهِ الْبَهَائِمِ لأَجْرًا؟) إذا أحسنّا إليها أو سقيناها أو أطعمناها أو رحمناها؟، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «فِى كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ»، فكلمة (كُلِّ) من ألفاظ العموم، تشمل كل شيء، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «فِى كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ»، لأن الإنسان ما دامت الكبد عنده رطبة فهو حيّ، أي: أن كل حيّ فيه أجر، فالقريب سواء الزوجة أو الابن أو الأخ أو الصديق أو الجار أو المسلم أو الإنسان، كلهم أولى بالأجر، ولكن حتى الحيوان فيه أجر أيضًا، حتى لو لم تكن قادرًا على فعل شيء فإن مجرد رحمتك به وتعاطفك معه فإنك تؤجر على ذلك.



وأضاف فضيلته: يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «وَالشَّاةُ إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللَّهُ»، حتى عند ذبحها، فأن يقع عند الإنسان رحمة لها فيرحمه الله بهذا، ولكن أين هذا المعنى من القلوب القاسية؟ يقول تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ)(الزمر: من الآية22)، ويقول أيضًا: «وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ الْقَلْبُ الْقَاسِى»، فاحذر من قسوة القلب، ويقول عز وجل: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد:16).

الله بنى الكون على الرحمة

وأوضح الدكتور العودة، أن الرحمة معنًى عظيم في الحياة، فالله عز وجل بَنَى الكون كله على الرحمة، كما أنزل الشريعة كلها على الرحمة، بل إنه من العجب أن أكثر كلمة يرددها المسلم بعد الشهادة هي كلمة: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (الفاتحة:1)، مشيرًا إلى أنه في هذه الكلمة التي افتتح الله بها كتابه العظيم تكرر ذكر الرحمة مرتين صفةً لله تعالى، حيث جاءت المرة الأولى في لفظ "الرَّحْمَنِ"، وهذا دليل على كمال الرحمة في صفات الله، تبارك وتعالى، وأن الرحمة صفته عز وجل، ولذلك جاء في الحديث الصحيح المتفق عليه: «إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا وَأَخَّرَ اللَّهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، بهذه الرحمة التي جعلها الله تعالى في خلقه، «وَأَخَّرَ اللَّهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، وهذا هو معنى "الرَّحْمَنِ".



وأضاف فضيلته: أما "الرَّحِيمِ"، فهو إشارة إلى أن رحمته عز وجل تصل إلى عباده، ولهذا قال تعالى عن نبيه -صلى الله عليه وسلم-: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا)(الأحزاب: من الآية43)، وقال أيضًا: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة:128).

الكهف.. سورة الرحمة

ولفت الشيخ سلمان الانتباه إلى أن المتأمل في سورة الكهف، والتي يستحب أن يقرأها المسلم يوم الجمعة، حيث جاء عند أحمد والحاكم والبيهقي وغيرهم بأسانيد عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ فِى يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَضَاءَ لَهُ مِنَ النُّورِ مَا بَيْنَ الْجُمُعَتَيْنِ»، وفي أحاديث أخرى صحيحة: «مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ عُصِمَ مِنَ الدَّجَّالِ»، يجد أن هذه السورة العظيمة مبنية على الرحمة، مشيرًا إلى أن الله عز وجل ذكر الرحمة في هذه السورة في ثلاث قصص، هي:

القصة الأولى: قصة أصحاب الكهف: يقول تعالى: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) (الكهف:10،9)، حيث بدء هؤلاء الفتية بسؤال الرحمة قبل سؤال الرشد، وفي هذا دليل على أن الرحمة قبل العلم والعمل والحياة، مشيرًا إلى أنه من دون رحمة لا معنى للأشياء التي يملكها الإنسان، ولذلك فإن أصحاب الكهف دعوا بطلب الرحمة قبل الرشاد، واستجاب الله تعالى لهم، فأووا إلى الكهف، وهو المكان الضيق، حيث قال بعضهم لبعض: (فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا)(الكهف: من الآية16)، فوجدوا في هذا المكان الضيق رحمة الله التي تجعل الضيق واسعًا، وتجعل السجن جنات.

الرحمة قبل العلم

القصة الثانية: وهي قصة موسى والخضر: الرجل الصالح الذي أثنى الله تعالى عليه قائلًا: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا) (الكهف:65)، فبدأ الله بصفة الرحمة للخضر قبل العلم، مع أن موسى جاءه ليتعلم منه العلم، فالله تعالى قال لموسى: "إن بمجمع البحرين رجلًا هو أعلم منك"، فذهب موسى ليطلب منه العلم، ومع ذلك بدأ الله تعالى بصفة الرحمة قبل العلم، لأن العلم إذا تجرد عن الرحمة أصبح عدوانًا، وسلاطة في اللسان، وبغيًا على الناس بغير الحق، وظلمًا للعباد، واستكبارًا في الأرض، ومكر السيئ، كما قال الله تعالى عن قوم: (فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ)(غافر: من الآية83)، فإذا خلا أو تجرد العلم ـ حتى علم الشريعة ـ عن الرحمة أصبح وبالًا على صاحبه في الدنيا والآخرة، وكذلك المال والأولاد والدنيا والصحة وكل شيء إذا خلا من الرحمة لم يعد له قيمة.



كما أنه حينما رافق موسى الخضر وحدث أكثر من موقف ذكر الله تعالى في آخرها قصة بناء الجدار، حيث قال: (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ)(الكهف: من الآية82)، فذكر أنه حتى قتل هذا الغلام وخرق السفينة وبناء الجدار من دون أن يأخذ عليه أجرة مع شدة الحاجة، كل ذلك: (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي)(الكهف: من الآية82).

الرحمة من تعاليم الإسلام

القصة الثالثة: وهي قصة ذي القرنين: فعندما بنى ذو القرنين هذا الجدار والسد قال: (هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) (الكهف:98)، مما يشير إلى أن الرحمة معنًى جلي في سورة الكهف يريد الله أن نتذكره ونتذكر معه معاني أخرى في كل أسبوع مرة على الأقل، في يوم الجمعة، حتى نتعلم الرحمة، وكيف نرحم صبياننا الصغار، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يُقبّل أطفاله ويضمهم ويشمهم بتواضع، فرآه بعض الأعراب وقال له: أَتُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-:«أَوَأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ»، فالإسلام يعلمنا كيف نحضن أطفالنا الصغار، وكيف نجعلهم يعيشون في جو مطمئن من الحب والمودة، بعيدًا عن الجفاف والقسوة والظلم والعدوان.

الرحمة بين الأزواج

وأشار الدكتور العودة إلى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا كيف نرحم النساء، فالمرأة بأمسّ الحاجة إلى الرحمة والحب والعطف والحنان، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- في سلوكه تطبيقًا عمليًا لذلك مع أزواجه؛ سواء مع عائشة الصدِّيقة في بيته، أو مع نساء العالمين من نساء المؤمنين من المهاجرين والأنصار، بل ومع غير المؤمنين، حتى إنه يرى المرأة تطلب الأسير، فيقول: لولا ما سبق لوهبته لها، كما حصل في قصة عدي بن حاتم، وهكذا نجد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلِّمنا الرحمة بالمرأة، والكلمة الطيبة، والعاطفة الجميلة، حتى تكون بيوت المؤمنين ليست فقط بيوتًا فيها الأمر والنهي، وكأنها بيوت عسكرية، ولكنها بيوت مبنية على الحب والإقناع والتعاون والبر والتقوى والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، والتسامح والتفويت، فلا تجمع أخطاء زوجتك ولا تكثر من توبيخها ولا تعاتبها على كل نقطة، ولا تحاسبها على كل خطأ، وتعامل معها بالرحمة واللين والشفقة والحب، وقل لها القول الجميل الحسن.



وتابع فضيلته: وكذلك الزوجة مع زوجها، فالزوج ربما يأتي إلى البيت وهو مجهد من عناء العمل أو طلب الرزق أو بعض المشكلات، فيحتاج إلى الحضن الذي يحتويه، والكلمة الطيبة، والابتسامة الصادقة، مشيرًا إلى أن هذه هي الرحمة التي قامت عليها البيوت؛ ولهذا قال ربنا -سبحانه وتعالى-: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)(الروم: من الآية21)، فجعل العلاقة الزوجية مبنية على ركنين، هما:

الأول: المودة، وهو الحب المتبادل، لافتًا إلى أن الحب بين الزوجين يمكن تطويره حتى لو لم يكن موجودًا في البداية، وذلك يكون بالكلمات الطيبة، والتعامل الجيد، والصبر، والحلم، والأخلاق، والهدية، والوسائل المختلفة، ولكن ليس كل البيوت تُبنى على الحب.

الثاني: الرحمة، يقول تعالى: (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)(الروم: من الآية21)؛ ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لاَ يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِىَ مِنْهَا آخر»، وعلى سبيل المثال، فإنك يمكن أن تعيب على زوجتك خلقًا أنها سريعة الغضب في بعض الأحيان، أو ترفع صوتها، ولكن لا تنسَ أن هذه المرأة في نهاية المطاف سريعة الاعتذار إليك، فهي تقبّل رأسك ويدك، وتطلب منك الصفح، فضلًا عن أنها صبورة على عمل البيت، وامرأة طيبة، ومحافظة على الصلاة، والوتر، وحريصة على تربية الأبناء.

خلوة في كيب تاون

ويقضي الشيخ سلمان خلوة في "كيب تاون" في جنوب إفريقيا، حيث الجو العليل، والمناخ الهادئ، والناس المسالمون المتعايشون فيما بينهم. وأعلن الدكتور العودة ـ في وقت سابق ـ على صفحته في موقعي التواصل الاجتماعي "الفيسبوك" و"تويتر"، أنه قد قرر السفر إلى مدينة "كيب تاون" بجمهورية جنوب أفريقيا, ومعه "كتاب ودفتر وقلم وجهاز آي باد".

وعن سبب السفر إلى جنوب أفريقيا, قال العودة: "أجهز نفسي لسفرة طويلة أخصصها لكتابة مادة التغيير والتي كانت موضوعًا لبرنامج حجر الزاوية الأخير", مؤكدًا أن "سفره ليس تغربًا، وإنما هو حالة تفرغ وقتي من الشواغل والبرامج، للانكباب على الكتابة والتفكير، وأن التأليف فن مهم ومؤثر، لا يقل عن غيره من قنوات التواصل الأخرى".

ويتواصل الدكتور سلمان العودة بشكل يومي مع متابعيه وأصدقائه على موقعي تويتر والفيس بوك، وقد أعلن أنه عقد لقاءً مفتوحًا عصر الأحد 29 ربيع الثاني 1432الموافق 3 إبريل 2011 مع الشباب المسلمين بمسجد الفرقان في مدينة كيب تاون بجنوب إفريقيا، حيث حضر اللقاء عشرات الشباب من السعودية ومصر وليبيا والصومال واليمن، وتطرق العودة في حديثه إلى عدد من الموضوعات التي تجمع الكلمة وتوحد صفّ المسلمين، فتحدث عن الإخاء والعمل والدعوة، مشيرًا إلى أن هذا اللقاء سيتكرر وينتظم بفضل الله تعالى.