|
التسلسل التاريخي لسيرة الخليل صلى الله عليه وسلم
لقد كان اسم الخليل صلى الله عليه وسلم على مدى تسع وتسعين سنة هو (أبراهام) , ولقد ظل اسمه هكذا إلي أن تجاوز إسماعيل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام الرابعة عشرة من عمره بقليل , عندئذ تغير اسمه من (أبراهام) إلى (إبراهيم) , فإبراهيم البقرة تكتب أبراهام وتنطق إبراهيم لأن مصحف الإمام على قراءة واحدة لأن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا إذا ما قرءوا سورة البقرة قرءوا أبراهام وفي غيرها كانوا يقرءون إبراهيم وهذا من الأسباب التي جعلت الإمام يأمر بجمع القرآن على قراءة واحدة .
وعليه فدلالة الرسم هنا دلالة تاريخية وليست دلالة معنوية أو لغوية , وهذا الأمر في يقيني لم يغب عن الصحابة الأجلاء فهم علماء الأمة الأعلام برسم المصحف ودلالته والرسم توقيفي وسورة البقرة نزلت منجمة على مدي تسع سنين , ومع ذلك كان رسم إبراهيم بدون ياء مع أن رسم الاسم لا يخضع لقاعدة الحذف كما سبق قوله الأمر الذي يجعلنا نكاد نجزم أن اسمه كان أبراهام وذلك على مدي تسع وتسعين سنة هي تاريخه وسيرته العطرة كما وردت بسورة البقرة , فإبراهيم هو أبراهام مثل ما كان حفيده يعقوب عليه السلام حيث كان اسمه يعقوب وتغير إلى إسرائيل حيث يقول سبحانه وتعالى في سورة البقرة 133 :
[ أَمۡ كُنتُمۡ شُہَدَآءَ إِذۡ حَضَرَ يَعۡقُوبَ ٱلۡمَوۡتُ إِذۡ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعۡبُدُونَ مِنۢ بَعۡدِى قَالُواْ نَعۡبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ ءَابَآٮِٕكَ إِبۡرَاهِـۧمَ وَإِسۡمَـٰعِيلَ وَإِسۡحَـٰقَ إِلَـٰهً۬ا وَٲحِدً۬ا وَنَحۡنُ لَهُ ۥ مُسۡلِمُونَ (١٣٣) ].
ويقول جل علاه في سورة آل عمران 93 :
[۞ كُلُّ ٱلطَّعَامِ ڪَانَ حِلاًّ۬ لِّبَنِىٓ إِسۡرَاءِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسۡرَاءِيلُ عَلَىٰ نَفۡسِهِۦ مِن قَبۡلِ أَن تُنَزَّلَ ٱلتَّوۡرَٮٰةُۗ قُلۡ فَأۡتُواْ بِٱلتَّوۡرَٮٰةِ فَٱتۡلُوهَآ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِينَ (٩٣) ].
ومن المعلوم أن عيسى عليه السلام قد بشر برسول يأتي من بعده اسمه أحمد كما هو وارد في سورة الصف 6 :
[ وَإِذۡ قَالَ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ يَـٰبَنِىٓ إِسۡرَاءِيلَ إِنِّى رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُم مُّصَدِّقً۬ا لِّمَا بَيۡنَ يَدَىَّ مِنَ ٱلتَّوۡرَٮٰةِ وَمُبَشِّرَۢا بِرَسُولٍ۬ يَأۡتِى مِنۢ بَعۡدِى ٱسۡمُهُ ۥۤ أَحۡمَدُۖ فَلَمَّا جَآءَهُم بِٱلۡبَيِّنَـٰتِ قَالُواْ هَـٰذَا سِحۡرٌ۬ مُّبِينٌ۬ (٦) ].
وفي الفتح 29 :[ مُّحَمَّدٌ۬ رَّسُولُ ٱللَّهِۚ ].
وعليه فإن (إبراهيم) عليه الصلاة والسلام هو هو (أبراهام) والذي هو (أبرام) أو (إبرام) في العهد القديم.
فمتى حدث التغير في اسمه الشريف ؟ هذا ما سوف نحاول الإجابة عنه الآن.
إذا تتبعنا سيرة أبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام طبقاً لما هو موجود بكتاب اليهود والنصارى , نجد أن الحديث يبدأ باسم (إبرام) وينتهي باسم (إبراهيم) بعد تسع وتسعين سنة , مما جعل السير "ليونا" صاحب كتاب (أبراهام) يرجح أن أبراهام غير (أبرام) , وقال معللاً ذلك أن تسمية الحفيد باسم الجد كانت مألوفة جداً في البلاد البابلية , كما يظهر ذلك عند مقابلة أسماء الملوك من أسرة واحدة فإذا كان لإبراهيم جد باسم (أبرام) كما جاء في كثير من الروايات فالأقرب والمألوف هو أن المتأخرين بعد عصره جمعوا بين أخبار الاثنين ووصلوا عمر أحدهما بعمر الأخر فبلغوا بهما مائة وخمساً وسبعين سنة , وغير بعيد أن يكون العبريون المتأخرون قد تكلموا عن(إبراهيمين) لا عن (إبراهيم) واحد.
ومن أصحاب هذه النظرية الدكتور "كامبيل" والعلامة "جارستانج" حيث وجد المنقبون في مدينة أريحا مقابر للهكسوس واستطاعوا أن يعينوا وقتاً لوجودهم بأرض كنعان حوالي سنة 1750 قبل الميلاد وعلموا أن أمير أريحا تواطأ مع الهكسوس على غزو مصر, وكان هجوم الهكسوس على مصر معاصراً لهجوم قبائل البدو من "عيلام" و "عمور" على "بابل" وكانت الأرض التي في طريق مصر موزعة بين "العمالقة" و "الحيثيين" و "اليبوسيين" و"العموريين" وليس بينهم ذكر "للعبرانيين".
إلا أن المنقبين الذين عينوا زمناً للهكسوس حوالي1750 قبل الميلاد لم يعرفوا من هم الهكسوس على وجه التحديد ولكنهم استخلصوا من خط السير الذي اتبعوه بعد خروجهم من مصر منهزمين أنهم عادوا إلى موطنهم في شمال سوريا, وأنهم على الأرجح مزيج قديم من "الآراميين" و"الحيثيين" ولم يطل مقامهم بمصر أكثر من نصف قرن.
ثم تعقبهم المصريون ودمروا المدن التي تواطأت معهم على غزو الديار المصرية ومنها أريحا.
و"أحمس" قاهر "الهكسوس" معروف في التاريخ المصري القديم, وإلى هذا التاريخ (1750 ق. م.) لم يكن للعبرانيين ـ العبريين ـ الذين يسمون أنفسهم بأبناء إسرائيل أي أثر بين القبائل التي في طريق مصر, ولم يذكر لهم أي أسم في أي أثر من الآثار التاريخية قبل سنة 1220 قبل الميلاد ، فلو أن بني إسرائيل كانت لهم قوة مؤثرة في المجتمع المصري القديم ما أغفله المصريون القدماء ولقاموا بتدوينه على معبدهم وجدرانهم ـ فالمصريون القدماء لم يغفلوا أي حدث من الأحداث كبيراً كان أم صغيراً ـ ما كان لهم وما كان عليهم مما يدل على أنهم ـ أي بني إسرائيل ـ لم يكن لهم وجود على الإطلاق قبل تاريخ 1220 قبل الميلاد ، والأثر الوحيد الذي يروي خبر حملة الفرعون "مرنفتاح" التأديبية على "عسقلان" و"جزي" و "يوانام" و"إسرائيل" , يقول أنه محا "إسرائيل" فلم تبق لهم باقية , ويؤيد خبره هذا أن النصب الذي أقيم بعد ذلك مسجلاً لانتصار "رمسيس الثالث" على "العموريين" و "الفلسطينيين" و "الحيثيين" سنة1190 قبل الميلاد لم يرد فيه ذكر "لإسرائيل" .
نذكر هذا التاريخ لأن عصر الخليل صلى الله عليه وسلم قبل هذه الفترة على وجه التحديد والتحقيق فمن القرن الثاني عشر إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد لم يكن لإبراهيم صلى الله عليه وسلم وذريته مقام في غير الجنوب عند "جيرار" أو وراءها جنوباً, ولم يكن لإبراهيم مقام في حبرون، ولهذا يرجح الدكتور "كامبيل" أن إبراهيم لم يدفن في مغارة المكفيلة بحبرون على مقربة من أورشليم, ولكن الذين انتسبوا إليه تعلقوا بذكرى هذا المدفن لتسويغ دعواهم في مملكتهم ولابد هنا من "إبراهيمين" أحدهما جاء بعد الآخر بزمن طويل.
ويذهب الدكتور "كامبيل" بعيداً جداً في هذا الغرض فيشير إلى ورود اسم (إبراما) في الآثار البابلية وراح يستدل على هذا الفرض من الآثار والأحافير حتى وصل على سبيل الاستدلال بسرد أسماء أخرى في الأحافير ومنها (إبرمراما) وهو على رأي الدكتور قد يكون (أمر مرابي) الذي هو(أمورابي) بعينه والمعروف في التاريخ بحمورابي, وهو ولا شك جد من أجداد العموريين الذين ملكوا بابل وكانت منهم شعبة تملك بيت المقدس وحبرون بجوارها , فلما امتزج العموريون والعبريون واشتركوا في العبادة والسيادة صعد العبريون بنسبهم إلى جد مدفون في حبرون يسمى (إبرام) وذكروا أن قبره مشترى بالمال من ملوك الأرض الأصلاء , فليس في دفنه ثمةَ عدوان أو إدعاء.
والتحقيق العلمي التاريخي يضع عصر أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام ما بين سنة (2000و1700ق.م).
ووضع عصر حمورابي في ختام الفترة السابقة من (1792 ـ 1749 ق. م) وأن مولد إبراهيم عليه الصلاة والسلام يوافق 1996 ق.م وأن سدوم وعمورة خربتا حوالي سنة 1898 ق.م.
ومن التحقيق التاريخي واللغوي يتبين لنا أنه لا يوجد هناك (إبراهيمين) بل هو (إبراهيم) واحد وأن(إبرام) هو هو (أبراهام) وكلا الاسمين هما اسم واحد لشخص واحد هو إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ,وقد يأتي الخلط في الاسم نتيجة للجهل بالتطور التاريخي للاسم نفسه وهذا الخلط قد حدث مع أبيه نفسه , فمثلاً جاء في القرآن الكريم أن اسم والد إبراهيم هو (آزر) فاتخذ المهاجمون للإسلام من ذلك دليلاً على الخطأ في تسمية أبي الأنبياء , وقالوا إن اسمه (تارح) كما هو وارد في العهد القديم ، وجاء بعض المفسرين من المسلمين فحاولوا طويلاً أن يجعلوا لكلمة آزر موضعاً من الإعراب أو مدلولاً يبطل ذلك الانتقاد ويردون به تخطئة المهاجمين ومن هؤلاء العلماء الأجلاء المغفور له فضيلة الشيخ " محمد متولي الشعراوي" حينما اجتهد وأثبت أن المقصود بـ (آزر) هو عمه وليس أبوه والواقع أن هذه التخطئة لا محل لها عند النظر في أصول الأسماء , حيث يقول العلامة "عباس محمود العقاد" في كتابه إبراهيم أبي الأنبياء ـ ما ملخصه ـ : إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قد انحدر إلى أرض كنعان من أرض أشور واعتقد شُرّاح الكتب الإسرائيلية في غير موضع أن الآباء الأولين كانوا ينسبون إلى بلادهم أو أممهم كما يقال عن ابن مصر وابن أوروبا وأبناء الشرق وأبناء الغرب وأبناء النيل فإذا نسب إبراهيم إلى أشور فمن الجائز جداً أن يكون (تارح) و (آزر) لفظين مختلفين لاسم واحد , سواء كان هذا الاسم علماً على رجل أو على الجد القديم الذي تنسب إليه أمة أشور وكثيراً ما انتسب القوم إلى اسم جد قديم, كما يقال في النسبة إلى عدنان وقحطان، ونظرة واحدة في كتابة اسم أشور ونطقها إلى اليوم في العراق وسورية تقرب لنا هذا الاحتمال الذي يبدو بعيداً لأول وهلة, فقد كتبت (أشور) تارة (أزور) وتارة (أثور) وتارة (آتور) بالتاء وتارة (آسور) بالسين ولا يخفى أن اللغات السامية لم تكن تكتب لها حروف علة إلى زمن قريب وأن الإغريق أطلقوا اسم (آسوريّة) على وطن إبراهيم من نهر الفرات إلى فلسطين , فينطقون (الياء) الإغريقية بين الواو والياء ، ولهذا تكتب (لوبيا) بالواو كما تكتب بالياء , وتنطق (سيرية) بالياء في اللغات الأوربية وتنطق (سورية) بالواو في اللغات الشرقية, ولا يخفى كذلك أن كلمة (تارح) تنطق (تيرح) على لسان الكثيرين من الناطقين باللغات السامية وتنطق (تيرا) و(تيرة) عند الذين لا يستطيعون النطق بالحاء , فإذا لا حظنا ذلك كله , فليس أقرب من تحويل (آتور) و(إتير) إلى (تيرة) و(تيرح), وقد وردت في تاريخ (يوسيفوس) بغير الحاء ووردت في تاريخ (يوسيبوس) "أثور", وهو مكتوب باليونانية ، وقد ورد في التوراة اسمان بمعنى الأميرة إحداهما هو (سارح) ـ تك 46ـ بالحاء والأخرى بغير الحاء أو (سارة) أو (ساراي).
ومؤدى هذا أن (آزر) هو النطق الصحيح الذي عُرف به (آسور) القديم وأن (تيرة) و (تيرح) هي نطق الذين يكتبونها (أتيرة) و (أتيرح) وينطقون بكلمة (آتور) بين الواو والياء.
روي صاحب "المزهر" عن الأصمعي: (أن رجلين اختلفا في الصقر فقال أحدهما بالصاد وقال الآخر بالسين , فتراضيا بأول وارد عليهما فحكيا له ما هما فيه فقال : لا أقول كما قلتما إنما هو الزقر، وعلى هذا يتخرج جميع ما ورد من التداخل وإذا اختلفت الحروف في اللهجة العربية الواحدة هذا الاختلاف فلا محل للجزم بالتخطئة حين تختلف السين والزاي أو التاء والثاء في لغات تباعدت بينها الآماد).
وتفيد ملاحظة العقاد في أن تاريخ الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يكن مستمداً من المصادر اليهودية كما زعم بعض المتسرعين من رواة الأخبار الدينية غير الإسلامية, وإلا لما كان أيسر من تسمية أبيه تارحاً أو تقرحا أو تيرة وما شابه هذه التصحيفات ولما كان هناك سبباً قط لتسميته بأزر على أي توجيه .
فخلاصة القول أن دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم تصل إلى الحجاز من مصادر يهودية.
|
|
المفضلات