تهكم أحدُهم حول عصمةِ الأنبياءِ التي يعتقد بها المسلمون، فقال عن نبيِّ اللهِ سليمان: هل هذا نبيّ أم جزار حتى يذبح خيلاً لا ذنب لها ؛لأنها شغلة عن صلاة العصر؟! ما ذنبُ هذه الخيل ؟!
تعلق على ذلك بقولِه : وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)  ( ص) .

الرد على الشبهة

أولاً : إن الفهم العام للآيات أن اللهَ يثني على سليمانَ  بأنه نعم العبد فكان كثيرَ الرجوعِ إلى ربِّه ،وكان  شغوفًا بالجهادِ في سبيلِ اللهِ لنصرةِ دينِه ، ودفاعِه عن المظلومين... فكان مهتمًا بإعداد الخيل لذلك ،وفي أحدى أيامِه عرض عليه بالعشي(وقت العصر) الصافنات الجياد أي: الخيل السراع ،يحتمل أنه وَرِثَها من أبيه داود  ، فعُرِضَتْ عليه ، قاله وهب بن منبّه ومقاتل ،أو أنه غزا جيشاً ، فظَفِر به وغنمها ، فدعا بها فعُرضَتْ عليه ، قاله ابن السائب ؛ كان عددها مختلف على أربعةِ أقوال ذكرها
ابنُ الجوزي- رحمه اللهُ- في تفسيره زاد المسير :
أحدها : ثلاثة عشر ألفاً ، قاله وهب .
والثاني : عشرون ألفاً ، قاله سعيد بن مسروق .
والثالث : ألف فرس ، قاله ابن السائب ، ومقاتل .
والرابع : عشرون فرساً ، وقد ذكرناه عن إبراهيم التيمي. أهـ
يقول ابنُ كثير- رحمه اللهُ- في تفسيره : ذكر غير واحد من السلف والمفسرين أنه اشتغل بعرضها حتى فات وقت صلاة العصر والذي يقطع به أنه لم يتركها عمدا بل نسيانا كما شغل النبي r يوم الخندق عن صلاة العصر حتى صلاها بعد الغروب وذلك ثابت في الصحيحين من غير وجه، من ذلك عن جابر قال: جاء عمر،  يوم الخندق بعد ما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش، ويقول: يا رسول الله، والله ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب. فقال رسول اللهr : "والله ما صليتها" فقال: فقمنا إلى بُطْحَان فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب . ويحتمل أنه كان سائغا في ملتهم تأخير الصلاة لعذر الغزو والقتال. والخيل تراد للقتال. وقد ادعى طائفة من العلماء أن هذا كان مشروعا فنسخ ذلك بصلاة الخوف ومنهم من ذهب إلى ذلك في حال المسايفة والمضايقة، حيث لا يمكن صلاة ولا ركوع ولا سجود كما فعل الصحابة في فتح تستر، وهو منقول عن مكحول والأوزاعي وغيرهما والأول أقرب؛ لأنه قال بعدها: { رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأعْنَاقِ }. أهـ

ثانيًا : بعد ما بيّنتُ الفهم العام للآيات - بفضل الله - تبقى لنا الشبهة المثارة حول فعلِ سليمان  أعني: ماذا فعل سليمانُ مع الخيل لما أخرته عن صلاةِ العصرِ: فقال إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)  (ص) .
قلتُ :إن المعني الظاهر من قولِه :  رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأعْنَاقِ  يحتمل وجهين:
الأول : أنه مسح عنها العرق حبا لها وهذا ما ذكره ابنُ كثير في تفسيره قائلا ً: وقال عليُّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: جعل يمسح أعراف الخيل، وعراقيبها حبالها.أهـ
وقال ابنُ حزمٍ -رحمه اللهُ- في كتابِِه الملل والنحل: وهذه خرافة موضوعة مكذوبة سخيفة باردة قد جمعت أفانين من القول والظاهر أنها من اختراع زنديق بلا شك ؛لأن فيها معاقبة خيل لا ذنب لها والتمثيل بها وإتلاف مال منتفع به بلا معنى ونسبة تضييع الصلاة إلى نبي مرسل ثم يعاقب الخيل على ذنبه لا على ذنبها وهذا أمر لا يستجيزه صبي ابن سبع سنين فكيف بنبي مرسل ومعنى هذه الآية ظاهر بين وهو أنه أخبر أنه أحب حب الخير من أجل ذكر ربه حتى توارت الشمس بالحجاب أو حتى توارت تلك الصافنات الجياد بحجابها ثم أمر بردها فطفق مسحا بسوقها وأعناقها بيده براً بها وإكراماً لها هذا هو ظاهر الآية الذي لا يحتمل غيره وليس فيها إشارة أصلاً إلى ما ذكروه من قتل الخيل وتعطيل الصلاة وكل هذا قد قال به ثقات المسلمين فكيف ولا حجة في قول أحد دون رسول الله r.
الثاني أنه ذبحها غضبًا لله  ؛لأنها أخرته عن صلاةِ العصرِ، وهذا ما ذكره ابنُ كثيرٍ أيضًا في تفسيره قائلاً : قال الحسنُ البصري. قال: لا والله لا تشغليني عن عبادة ربي آخر ما عليك. ثم أمر بها فعقرت. وكذا قال قتادة. وقال السديُّ: ضرب أعناقها وعراقيبها بالسيوف.
ثم يرد بن كثير على ترجيح بن جرير في القول الأول: فيقول وهذا الذي رجح به ابنُ جرير فيه نظر؛ لأنه قد يكون في شرعهم جواز مثل هذا ولا سيما إذا كان غضبًا لله  بسبب أنه اشتغل بها حتى خرج وقت الصلاة؛ ولهذا لما خرج عنها لله تعالى عوضه الله تعالى ما هو خير منها وهي الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب غدوها شهر ورواحها شهر فهذا أسرع وخير من الخيل،
وقال الإمامُ أحمدُ: حدثنا إسماعيل حدثنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال عن أبي قتادة وأبي الدهماء -وكانا يكثران السفر نحو البيت-قالا أتينا على رجل من أهل البادية، فقال البدوي: أخذ بيدي رسول الله r فجعل يعلمني مما علمه الله تعالى وقال: "إنك لا تدع شيئا اتقاء الله  إلا أعطاك الله خيرا منه" .أهـ

قلتُ: إن هذه المسألة لما يرد فيها حديثٌ صحيحٌ يوضح لنا التفسير الحقيقي للآيات الكريمات فكلا التفسيرين مقبولين على النحو الآتي:
أولاً: التفسير الأول :لا أشكال فيه قط .
ثانيا :التفسير الثاني: قد يَهمُ بعضُ الناسِ بأن الخيلَ لا ذنب لها ،فكيف لنبيٍّ مكرم مثل سليمان  أن يذبحها ؟!
الجواب: لا أشكال في أن يذبح سليمانُ الخيلَ ؛ ذبحها ليطعم منها الفقراءَ والمساكين في زمانِه ،وهذا فعل محمود من هذا النبيِّ المكرم يُحمد له، وليس في الأمر إساءة له كما فهم المعترضون .
فإن قيل: هل كانت الخيل التي ذبحها نبيُّ اللهِ سليمان تؤكل ؟
قلت: إن الخيل في شرعنا تؤكلُ فقد أباحها النبيُّ r لأصحابِه ،وذلك في صحيحِ البخاري كتاب( الذبائح) باب (لُحُومِ الْخَيْلِ ). برقم 5096 عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ r يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ وَرَخَّصَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ.
وعليه فمن الجائز أن تكون لحوم الخيل جائز أكلها في زمانِ سليمان فأطعم منها الفقراء...
ومما يدلل على ما أسلفناه ،ما قاله ابن الجوزي في تفسيره زاد المسير بعد عرض أقوال المفسرين: فإن قيل : فالقول الأول يفسُد بأنه لا ذَنْب للحيوان ، فكيف وجّه العقوبة إليه؟ وقصد التَّشفِّي بقتله ، وهذا يشبه فِعْلَ الجبّارِين ، لا فِعْلَ الأنبياء؟ فالجواب : أنه لم يكن لِيَفْعَلَ ذلك إلا وقد أُبيح له ، وجائز أن يُباح له ما يُمنَع منه في شرعنا ، على أنه إذا ذبحها كانت قرباناً ، وأكلُ لحمها جائز ، فما وقع تفريط .أهـ
فائدة: إن الجزاء من جنسِ العملِ؛ فلما ذبح سليمانُ الخيل غضبًا للهِ وقربنًا له بإطعامِ الفقراءِ ... أبدله اللهُ ما هو خير منها وأسرع (الريح) يركب على متنها في أي مكانٍ شاء.... يقول : وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ...(12)  (سبأ ) ،
وصح عن نبيِّنا r كما في مسندِ أحمدَ برقم 19813 قال :r " إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئاً اتِّقَاءَ اللَّهِ  إِلاَّ أَعْطَاكَ اللَّهُ خَيْراً مِنْهُ ". تعليق شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح.

ثالثًا : إن الناظر في الكتابِ المقدسِ يجد فيه أن الربَّ أمر أنبيائَه بقتلِ الحيواناتِ التي لا ذنبَ لها ...جاء ذلك في الآتي:
1- سفر صَمُوئِيل الأَوَّل إصحاح 15 عدد 3فَالآنَ اذْهَبْ وَاضْرِبْ عَمَالِيقَ، وَحَرِّمُوا كُلَّ مَا لَهُ وَلاَ تَعْفُ عَنْهُمْ بَلِ اقْتُلْ رَجُلاً وَامْرَأَةً، طِفْلاً وَرَضِيعًا، بَقَرًا وَغَنَمًا، جَمَلاً وَحِمَارًا».!!
وأتساءل :هو ما ذنبُ البقر ،والغنم ،والجمل ،والحمار حتى يقتلوا....... ؟!
2- سفر هوشع إصحاح 6 عدد21وَحَرَّمُوا كُلَّ مَا فِي الْمَدِينَةِ مِنْ رَجُل وَامْرَأَةٍ، مِنْ طِفْل وَشَيْخٍ، حَتَّى الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ وَالْحَمِيرَ بِحَدِّ السَّيْفِ. لا تعليق!
3- سفر التثنية إصحاح 13 عدد15فَضَرْبًا تَضْرِبُ سُكَّانَ تِلْكَ الْمَدِينَةِ بِحَدِّ السَّيْفِ، وَتُحَرِّمُهَا بِكُلِّ مَا فِيهَا مَعَ بَهَائِمِهَا بِحَدِّ السَّيْفِ. 16تَجْمَعُ كُلَّ أَمْتِعَتِهَا إِلَى وَسَطِ سَاحَتِهَا، وَتُحْرِقُ بِالنَّارِ الْمَدِينَةَ وَكُلَّ أَمْتِعَتِهَا كَامِلَةً لِلرَّبِّ إِلهِكَ، فَتَكُونُ تَلاُ إِلَى الأَبَدِ لاَ تُبْنَى بَعْدُ. لا تعليق!

4-إنجيلِ مرقس ينسب إلى يسوعَ المسيح بأنه قتل ألفين خنزير وذلك لما أخرج الشياطين من رجلٍ فدخلت في الخنازير ثم أُغرقها في البحر ...جاء ذلك في الإصحاح الخامس عدد
1وَجَاءُوا إِلَى عَبْرِ الْبَحْرِ إِلَى كُورَةِ الْجَدَرِيِّينَ. 2وَلَمَّا خَرَجَ مِنَ السَّفِينَةِ لِلْوَقْتِ اسْتَقْبَلَهُ مِنَ الْقُبُورِ إِنْسَانٌ بِهِ رُوحٌ نَجِسٌ، 3كَانَ مَسْكَنُهُ فِي الْقُبُورِ، وَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يَرْبِطَهُ وَلاَ بِسَلاَسِلَ، 4لأَنَّهُ قَدْ رُبِطَ كَثِيرًا بِقُيُودٍ وَسَلاَسِلَ فَقَطَّعَ السَّلاَسِلَ وَكَسَّرَ الْقُيُودَ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يُذَلِّلَهُ. 5وَكَانَ دَائِمًا لَيْلاً وَنَهَارًا فِي الْجِبَالِ وَفِي الْقُبُورِ، يَصِيحُ وَيُجَرِّحُ نَفْسَهُ بِالْحِجَارَةِ. 6فَلَمَّا رَأَى يَسُوعَ مِنْ بَعِيدٍ رَكَضَ وَسَجَدَ لَهُ، 7وَصَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَقَالَ:«مَا لِي وَلَكَ يَا يَسُوعُ ابْنَ اللهِ الْعَلِيِّ؟ أَسْتَحْلِفُكَ بِاللهِ أَنْ لاَ تُعَذِّبَنِي!» 8لأَنَّهُ قَالَ لَهُ:«اخْرُجْ مِنَ الإِنْسَانِ يَا أَيُّهَا الرُّوحُ النَّجِسُ». 9وَسَأَلَهُ:«مَا اسْمُكَ؟» فَأَجَابَ قِائِلاً:«اسْمِي لَجِئُونُ، لأَنَّنَا كَثِيرُونَ». 10وَطَلَبَ إِلَيْهِ كَثِيرًا أَنْ لاَ يُرْسِلَهُمْ إِلَى خَارِجِ الْكُورَةِ. 11وَكَانَ هُنَاكَ عِنْدَ الْجِبَالِ قَطِيعٌ كَبِيرٌ مِنَ الْخَنَازِيرِ يَرْعَى، 12فَطَلَبَ إِلَيْهِ كُلُّ الشَّيَاطِينِ قَائِلِينَ:«أَرْسِلْنَا إِلَى الْخَنَازِيرِ لِنَدْخُلَ فِيهَا». 13فَأَذِنَ لَهُمْ يَسُوعُ لِلْوَقْتِ. فَخَرَجَتِ الأَرْوَاحُ النَّجِسَةُ وَدَخَلَتْ فِي الْخَنَازِيرِ، فَانْدَفَعَ الْقَطِيعُ مِنْ عَلَى الْجُرْفِ إِلَى الْبَحْرِ. وَكَانَ نَحْوَ أَلْفَيْنِ، فَاخْتَنَقَ فِي الْبَحْرِ. !!
و أتساءل: ما هو ذنب هذه الخنازير البريئة التي قتلها يسوع ،التي كانت نَحْوَ أَلْفَيْنِ، فَاخْتَنَقَ فِي الْبَحْرِ؟!

رابعًا :إن الكتاب المقدس ينسب إلى نبيِّ سليمان  بأنه قتل أخاه الأكبر أَدُونِيَّا ،وذلك من أجل الملك؛ لأن أَدُونِيَّا كان الأكبر في السن ،وله الحق بالملك منه فقتله، نجد ذلك في سفر الملوك الأول إصحاح 2 عدد23وَحَلَفَ سُلَيْمَانُ الْمَلِكُ بِالرَّبِّ قَائِلاً: «هكَذَا يَفْعَلُ لِيَ اللهُ وَهكَذَا يَزِيدُ، إِنَّهُ قَدْ تَكَلَّمَ أَدُونِيَّا بِهذَا الْكَلاَمِ ضِدَّ نَفْسِهِ. 24وَالآنَ حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ الَّذِي ثَبَّتَنِي وَأَجْلَسَنِي عَلَى كُرْسِيِّ دَاوُدَ أَبِي، وَالَّذِي صَنَعَ لِي بَيْتًا كَمَا تَكَلَّمَ، إِنَّهُ الْيَوْمَ يُقْتَلُ أَدُونِيَّا». 25فَأَرْسَلَ الْمَلِكُ سُلَيْمَانُ بِيَدِ بَنَايَاهُو بْنِ يَهُويَادَاعَ، فَبَطَشَ بِهِ فَمَاتَ.!!
قلتُ : إن هذا الوصف الذي يصفه الكتاب المقدس لنبيِّ اللهِ سليمان هل هو نبي أم جزار؛ يقتل أخاه من أجل ملك، من أجل دنيا زائلة، بل أن الجزار لا يفعل تلك الفعلة مع أخيه فهو أشرف مما وصفه به الكتاب المقدس به !

كتبه الشيخ / أكرم حسن مرسي
نقلاً عن كتابه رد السهام عن الأنبياء الأعلام – عليهم السلام –
في دفع شبهات المنصرين عن أنبياء رب العالمين