اصطفى الله تعالى الأنبياء والرسل ليكونوا سفراء بينه وبين عباده ليبلغوا الناس بما أراد الله تبليغه لهم وأنزل معهم من الشرائع ما ينظّم حياة الناس ويصلُحُ معه دينُهم ودنياهم.

وموسى عليه السّلام رسولٌ من أشهر رسل بني إسرائيل وشريعته هي الأهم والأعم والأشمل من باقي الشرائع التي أتى بها أنبياء بني إسرائيل الآخرون، وأنزل الله تعالى معه التوراة التي تضمّ كلّ العقائد والشرائع والأخلاق التي يحتاجها بنو إسرائيل وأمرهم الله أن يأخذوا ما آتاهم بقوّة. فما هو الذي أراد الله تعالى من موسى عليه السلام تبليغه للنّاس وما هي ملامح شريعته؟

رسالة موسى عليه السلام في التوراة الحالية

والمقصود بالتوراة هنا الأسفار الخمسة الأولى (التكوين، الخروج، اللاويين، العدد، التثنية).

في أوّل خطابٍ وجّهه الله تعالى إلى موسى عليه السلام من وسط العليقة التي تتوقّد بالنّار على جبل حوريب قال له: " أنا إله آبائك إله إبراهيم وإسحق ويعقوب" خر3/ 6
ثمّ قال: " نظرت إلى معاناة شعبي الذين في مصر وسمعت صراخهم من ظلم مسخّريهم وعلمت بعذابهم فنزلت لأنقذهم ... فتعالَ أرسلك إلى فرعون" خر3/7-10.
فهدف رسالة موسى عليه السلام دعوة بني إسرائيل لعبادة إله آبائهم وإنقاذهم من العبوديّة.

وبعد مرور الأيّام الصعبة في مصر وتحقّق نجاة بني إسرائيل وغرق فرعون ولقاء موسى ربّه على جبل سيناء بدأ تلقّي الشريعة المنتظرة تباعاً، فماذا كانت عناوين تلك الشريعة؟

البداية كانت الوصايا العشرة: (لا إله إلا الله، لا تصنع تمثالاً ولا صورة ولا تسجد لها، لا تحلف باسم الله باطلاً، اذكر يوم السّبت، إكرم أباك وأمّك، لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد زوراً، لا تشته ما لغيرك) خر20/ 1-17 باختصار

ثمّ أوحى له تباعاً شرائع متضمّنة لعبادات وأحكام ومعاملات وعقوبات وأخلاق وأعياد.
وهذه أمور من الطبيعي أن يوحيها الله إلى رسله لهداية قلوب الناس وتنظيم أمورهم.
ولكنّ الغريب أن شريعة موسى بعد ذلك تظهر كهندسة ديكور للمعبد وتصميم أزياء للّاويين والكهنة وصنعة جزّار لذبح تشكيلة المحرّقات وصنعة خبّاز لخبز تشكيلة التقدمات، كثيرٌ من الطقوس والشكليّات، علماً أنّها طقوس مشدّدة وشكليّات مبالغٌ فيها كما هو واضح في سفري الخروج واللاويين

فالربّ يحدّد لهم نوع خشب التابوت وطوله وعرضه وحليته ويأمر بتغشيته بالذّهب خر25/ 10-22

وحتّى مائدة خبز التقدمة لم يتركها الربّ لاجتهاد وذوق بني إسرائيل بل حدّد لهم طولها وعرضها وحافّتها وحليتها خر25/ 23- 30

وأمّا بالنّسبة لخيمة المسكن فقد حدّد لهم نوع الأقمشة وألوانها وقياساتها وخيطانها ...

فماذا يختلف عند الربُّ أن تكون الخيطان بنفسجيّة أو بنفتحيّة والخيط شعر ماعز أو غيره والطول ثلاثون ذراعاً والعروات خمسين عروة.. هل كان يعلّمهم اختراع الخيمة؟

ربّما لو علّمهم اختراع دبّابة لكان خيراً لهم خصوصاً أنّهم قومٌ جبناء مقدمون على حرب.

هل كان الربّ يرسّخ في نفوس بني إسرائيل مرض الماديّة الشّكليّة الضّحلة الذي يعانون منه؟

حاول بعض رجال الدين النصارى تفسير هذه المواد بأنّ لها "معانٍ روحيّة"، فالذّهب رمز للإيمان والفضة رمز لكلمة الله والكتان رمز للضبط وشعر المعزى رمز للموت عن الخطيّة وهكذا.

والسّؤال هل ينفع الخطاب بالرموز والكنايات مع الأمّة الماديّة البليدة غليظة الفهم التي بالكاد تفهم الخطاب المباشر حتى تفهم الخطاب الباطني؟

والسّؤال الآخر ما الدّليل على تلك المعاني الروحيّة؟ هل يؤمن بنو إسرائيل بها هكذا؟ قد يرمز الذهب والفضة لحب الدنيا والتعلق بها، ألم يعبد بنو إسرائيل الذهب والفضة؟

وبعد هندسة الديكور يأتي دور تصميم الأزياء للكهنة، وهنا حدّث ولا حرج: " 6يصنَعونَ الأَفودَ مِنْ ذهَبٍ ونسيج بَنَفْسَجيٍّ وأُرجوانيٍّ وقِرمِزيِّ اللَّونِ وكتَّانٍ مَبرومِ بِيَدِ نَسَّاج ماهرٍ. 7ويكونُ لَه في طَرَفَيهِ كَتِفانِ مَوصولتانِ لِيَتَّصِلَ. 8والزُنَّارُ الذي يَشُدُّ الأَفودَ يكونُ مِثلَه، مِنْ ذهَبٍ ونسيج بَنَفْسَجيٍّ وأُرجوانيٍّ وقِرمِزيِّ اللَّونِ وكتَّانٍ مَبرومِ. 9وخذْ حجرَي عَقيقٍ يَمانيٍّ واَنْقُشْ علَيهِما أسماءَ أسباطِ بَني إِسرائيلَ..." خر28/ 6-9
" 15تصنعُ صُدْرَةَ قضاءٍ بِيَدِ نَسَّاج ماهِرٍ كَصُنْعَةِ الأَفودِ، مِنْ ذهَبٍ تصنعُها ومِنْ نسيج بَنَفْسَجيٍّ وَأُرجوانيٍّ وقِرمِزيِّ اللَّونِ وكتَّانٍ مَبرومِ. 16تكونُ مُرَبَّعةً مَثْنِيَّةً، طُولُها شِبْرٌ وعَرْضُها شِبْرٌ. 15وتُرَصِّعُ فيها أربعَةَ صُفوفٍ مِنَ الحِجارَةِ الكريمةِ. الصَّفُّ الأوَّلُ عَقيقٌ أحمَرُ وياقُوتٌ أصفَرُ وزُمُرُّدٌ..." خر28/ 15-17
"وتصنع تاجاً من ذهبٍ خالص وتنقش عليه كنقش الخاتم: مقدّسٌ للرّب" خر 28/ 36

صحيح أنّ الأناقة الملوكيّة جميلة وحسنة وتضفي "المهابة والجلال" ولكنها ليست أهمّ ما يجب أن يتوفّر في الكاهن، وعدمها ليس بمصيبة على دين وتقوى الكاهن، وتوفّرها على جسد الكاهن لو فقد التقوى لن ينفعه عند الله شيئاً، لماذا الاهتمام بلباس الجسد أكثر من لباس التقوى؟

وماذا لو ارتدى الكاهن صوفاً؟ هل ستقلّ مهابة وجلال الرب في عيون الشّعب؟!
لقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو أمير المؤمنين يرتدي ثوباً فيه اثنتا عشرة رقعة ولم يقلّل ذلك من الإيمان في قلبه وقلوب المؤمنين ومن هيبته وهيبة الإسلام والمسلمين، وكانت هذه هيئته حين استلم مفاتيح بيت المقدس من الذين يرتدون الفاخر المنسوج بالذّهب.

أضيفوا إلى ذلك أن صُدرة القضاء التي يرتديها هارون على صدره عند دخوله أمام الرب عليها حجري "الأوريم والتّمّيم" وهما كما هو مكتوب في الحاشية حجران يلقيان كالنرد لمعرفة إرادة الله. يعني استقسام بالأزلام، يعني رجسٌ من عمل الشيطان، هل استخارة نبي الله هارون تكون بحجارة لعبة (الحية والسلّم) و(لعبة الطاولة) لمعرفة إرادة الله؟! استغفر الله.

أمّا الذبائح والتّقدمات ما أكثرها في شريعة موسى، ولكن لا يبدو أنّها من أجل تحقيق التقوى وإطعام الفقراء كما في القرآن (فكُلوا منها وأطعموا القانِعَ والمُعْتَرَّ كذلك سخّرناها لكُم لعلّكم تشكرون 36 لن ينالَ اللهَ لحومُها ولا دماؤها ولكن ينالُهُ التّقوى منكم) الحج 36-37، أومن أجل ذكر الله وشكره على ما رزقهم من بهيمة الأنعام (ولكلّ أمّةً جعلنا مَنسَكاً ليذكُروا اسمَ اللهِ على ما رزقهُم من بَهيمةِ الأنعام) 34 الحج، بل هي للحرق تكفيراً عن الخطايا "لترضي رائحتها الرب" وجزءٌ منها يأكل منه هارون وبنيه فقط عد18/ 8، عد18/ 19، مع بعض الطقوس الغريبة مثل رشّ دم الذبيحة على هارون وثيابه وبنيه وثيابهم ليتقدّسوا هم وثيابُهم خر29/ 21، ومثل وضع دم المذبوح على شحمة أذن هارون اليمنى وإبهامه اليمنى وإبهام رجله اليمنى لا8/ 23، ومثل هزّ التقدمة "ووضَعَ موسى هذا كلّه على راحتَي هارون وعلى راحات بنيه وحرّكه تحريكاً أمام الرّب ثمّ أخذه عن راحاتهم وأوقده على المذبح فوق المحرقة هو قربان تكريس ووقيدة ترضي رائحتها الرّب" لا8/ 28، كثيرٌ من الطقوس والشكليّات.

ينتهي سفري الخروج واللاويين ليبدأ سفر العدد حيث تضاف وظيفة جديدة لموسى وهي العمل كدائرة إحصاءات عامة، حيث يبدأ بعدّ العشائر والعائلات وأسماء الذكور فوق العشرين سنة "أحصِ أنت وهارون جماعة بني إسرائيل بعشائرهم وعائلاتهم وسجّلا أسماء جميع الذّكور ... وهذه أسماؤهم: من رؤبين: أليصور بن شديئور، ومن شمعون: شلوميئيل..." (عد 1)

وأعاد عَدّ الشعبِ من جديد بعد موت 24000 منهم على زناهم ببنات مؤاب وشركهم (عد26) وتضيع السطور في ذكر أسماء بني فلان وعشائرهم و بني فلان وعشائرهم، كما عدّد الغنائم (عد31/ 25-52)

وليس الاعتراض على العدّ والتّنظيم، ولكن لا أدري ما قيمة وجود هكذا إحصائيات في كتاب سماوي وكيف تؤثر على إيمان القارئ وماذا تزيد في إيمانه بقراءتها أو تنقص من إيمانه بعدم قراءتها، فإحصائيّات تاريخية كهذه ربما كان من الأنسب وجودها في وثائق تاريخية خاصة بعيداً عن الكتاب المقدس قد تنفع المؤرّخين ولكن ماذا تنفع مؤمناً عاديّاً يريد أن يتعبّد بقراءة الكتاب المقدّس؟ وأيّ روحانيّةٍ فيها وأيّ فائدة ستضيف على حياة المؤمن اليوميّة أن يعرف اسم رئيس كلّ سبط وعدد من يخرج للحرب من كلّ سبط وكم غنموا من البقر والحمير والذّهب؟

ماذا لو اختُصِرَت هذه الثّلاثة فصول من سفر العدد في سطرٍ واحد، كقوله تعالى في القرآن:
(ولقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً) 12 المائدة، ليتّسع القول للوصايا الإيمانيّة التي أوصاهم الله تعالى بها بدل سرد أعدادهم وأسمائهم (ولقد أخذنا ميثاق بني إسرائيلَ وبعثنا منهم اثني عشرَ نقيباً وقالَ اللهُ إنّي معكُم لئن أقمتُمُ الصّلاةَ وآتيتُمُ الزّكاة وآمنتُم بِرُسُلي وعزّرتُموهم وأقرضتُمُ اللهَ قرضاً حسَناً لأُكَفّرَنّ عنكم سيّئاتِكم ولأُدخِلنّكم جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهارُ فمن كفرَ بعدَ ذلكَ منكم فقد ضلّ سواءَ السّبيل) 12 المائدة

آيةٌ واحدةٌ كهذه أنفع لقلب المؤمن ولروح الأمّة من سفر العدد بأكمله، أليس كذلك؟

خصوصاً أنّ أمّة بني إسرائيل المادية -التي تعتني بالمكدّسات أكثر من المقدّسات وبحمل الأسفار أكثر من النظر فيها- بحاجةٍ إلى مواعظ إيمانيّة وصعقات كهرباء روحانيّة أكثر من إحصاءات عامة.

ومن وظائف موسى كرسول لبني إسرائيل أيضاً حل المشاكل وأخذ دور الأمّ الشقيّة بأطفالها النّكدين فهم بعد خروجهم من مصر كانوا إذا جاعوا ألقوا باللوم على موسى خر16/ 2-3، وإذا عطشوا ألقوا باللوم عليه خر17/ 3، فينزل عليهم المن والسلوى ويضرب موسى بعصاه الصخرة فيخرج منها الماء.

ومن المشاكل التي تعرّضوا لها بسبب ذنوبهم الحيّات النارية التي قتلت كثيراً منهم، فلجؤوا لموسى فأمره الربّ أن يصنع (حيّةً نحاسيّةً) ويرفعها على سارية فكان أي إنسان ملدوغ ينظر إليها يحيا (عد21/ 4-9) ويبدو أنّ هذه القصة من خيال محرّفي التوراة لأنّ صناعة التمثال مخالفةٌ للوصية الثانية "لا تصنع تمثالاً" وهي وثنية صريحة لأنّها استشفاءٌ بتمثال من نحاس، فلماذا لم يستشفوا بدواء ينزل عليهم من السماء كما نزل المنّ والسلوى؟ أو بالليمون والثوم كما كان الناس يستشفون من اللدغ في زمانهم، أو بالدّعاء كما دعا موسى في مصر حين ضربت الضفادع والذباب المصريين، أو بالكفّارات والذّبائح؟؟

(النصارى فرحوا بهذه القصة وعدّوها رمزاً لصلب المسيح كفّارة، كما رفعت الحية على سارية).

ومن وظائفه التضرع للربّ كلما أخطأ الشّعب لكي يعفو الرّبّ عنهم ولا يعاقبهم بعقابه الصارم الحاسم الاستئصالي كتضرعه للرب ألا يفني الشعب حين عبدوا العجل خر32/ 11-14، وحين تذمّروا فعبرت نار الربّ بينهم عد11/ 1-3

وذَكرَ سفر الخروج وظيفة غريبة لموسى وهي رفع يديه أثناء حرب بني إسرائيل بقيادة يشوع على العماليق فهو إذا رفع يديه ينتصرون وإذا أنزلهما ينهزمون، حتى أنّه لما تعب "أقعده هارون وحور على حجر وسندا يديه أحدهما من هنا والآخر من هناك فكانت يدا موسى ثابتتين إلى غروب الشمس فهزم يشوع بني عماليق بحد السيف"! خر17/ 11-13

والحمد لله أن المعركة لم تكن أطول من ذلك وإلّا فالله وحده يعلم ماذا كان سيحصل ليدي موسى جرّاء ذلك.

ملاحظة أخرى حول شريعة موسى في التوراة التشديد والتّعقيد، فعلى سبيل المثال ذكر في شريعة الطاهر والنجس من الحيوان أنه "إذا وقعت جثّة فأر على تنّور أو موقدة فاهدموهما" لا11/ 35

وأحكام النظافة والطهارة في شريعة موسى تشديد وتعجيز، فعلى سبيل المثال من زال العفن من بيته بعد تطيينه فعليه تقديم كفارة تطهير لا14/ 48-53، أمّا إذا لم يطهر البيت من العفن فإنّه يهدم ويلقى خشبه وحجارته خارج المدينة لا14/ 44-45، أمّا الحائض فمصيبتها مصيبة: "سبعة أيام تكون في طمثها وكل من مسّها يكون نجساً الى المساء20 وكل ما تضطجع عليه في طمثها يكون نجساً وكل ما تجلس عليه يكون نجساً 21 وكل من مسّ فراشها يغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجساً الى المساء 22 ... وإن اضطجع معها رجل فكان طمثها عليه يكون نجساً سبعة أيام وكل فراش يضطجع عليه يكون نجساً 25 وإذا كانت امرأة يسيل سيل دمها أياماً كثيرة في غير وقت طمثها أو إذا سال بعد طمثها فتكون كل أيام سيلان نجاستها كما في أيام طمثها..." لا15/ 19-27، وعليها كفّارة! لا15/ 28-30، ومن ضاجع امرأته يكونان نجسين للمغيب لا15/ 16-18، ماذا لو ضاجع امرأته بعد المغيب أيضاً؟! متى يطهران؟

وفي شريعته لا تسامح مع الخطأ مهما كان حتى لو كان عن غير قصد أو عن قلة خبرة، ولا يعطى الشخص فرصة للتوبة، فعلى سبيل المثال عقوبة العمل يوم السبت الإعدام خر31/ 15، وحكم الرب عليهم بعبادتهم العجل "على كل واحد منكم أن يحمل سيفه ويطوف المحلّة من باب إلى باب ويقتل أخاه وصديقه وجاره... فسقط من الشعب في ذلك اليوم ثلاثة آلاف رجل" خر32/ 27-28، وأكلت النار ابني هارون فقط لأنّهما قدّما للربّ ناراً لم يأمرهما بها (لا10/ 1-2)، وتاه الشعب في البريّة أربعين سنة بسبب مخالفة أوامر الربّ

ومن العقوبات في شريعة موسى القتل لا20/ 13، والرجم لا20/ 1، لا20/ 27، والحرق بالنار لا20/ 14، لا21/ 9، والجَلد تث25/ 2-3، وفي شريعة موسى حتى الحيوانات إذا قتلت تعاقَب (خر21/ 28+31)

وللأسف فإنّ شريعة موسى في التوراة قدّمت بعض الظلم للمرأة والأبرص وأصحاب الحاجات الخاصّة بشكل عام

فكما ذكرنا من قبل شدّدت عليها في حال الحيض لا15/ 19-30
ولا تحفّظ أو كنى في الحديث عن أحوالها بل أوصاف تجعل السامع ينفر منها "وإن ضاجع أحدٌ امرأة طامثاً وكشف عورتها فعرّى مسيلها وكشفت هي عن سيل دمها فليُقطعا كلاهما من بين شعبهما" لا20/ 18، قارن ذلك بقوله تعالى في القرآن (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهنّ حتى يطهُرنَ فإذا تطهّرنَ فأتوهنّ من حيث أمركم الله إنّ اللهَ يحبّ التوّابين ويحبّ المتطهّرين 222) البقرة

وإذا ولدت ذكراً تنجُس 7 أيام + 33 يوماً، بينما إذا ولدت أنثى تنجس الضعف أسبوعين + 66 يوماً (لاويين12)، تكاد المرأة تكون مرادفاً للنجاسة في هذه الشريعة.

وإذا شكّ الزوج أنّ امرأته خانته يسقيها الكاهن ماءً مقدّساً جالباً للعنة ملوّثاً بغبار أرض المسكن، فإن كانت خائنة يتورّم بطنها وتسقط وركها وإن كانت طاهرة تبرأ وتحمل بنين عد5/ 11-31، ولكن ماذا إن كانت هي طاهرة وأرض المسكن التي أخذت منها الغبار ملوّثة بفيروس أو بكتيريا أو طفيل؟! ما مصير بطنها ووركها؟ (قارن هذا باللعان في الإسلام)

وشريعة موسى ورّثت المرأة عد27/ 8، لكن فرضت عليها أن تتزوّج من عشيرة سبط آبائها ليرث كلّ واحدٍ من بني إسرائيل ميراث آبائه ولا يتحول ميراث من سبط إلى سبط عد35/ 8-9

وفرض على الأرملة التي مات زوجها ولا نسل له أن تتزوّج بأخيه تث25/ 5

ومن شرائعه قطع يد المرأة إذا حاولت أن تنقذ زوجها من يد ضاربه فمدّت يدها وأمسكت عورة الرجل تث25/ 11-12

وبعد أن اشترك هارون ومريم في إثم التكلم على موسى سوءاً نزل عقاب الربّ بمريم فقط فأصيبت بالبرص عد12/ 10-11، (تماماً كما تحمّلت حواء إثم الأكل من الشجرة) وحجزت خارج المحلّة سبعة أيام "فكلّم الربّ موسى وقال: لو أنّ أباها بصق في وجهها أما كان يلحقها العار سبعة أيام؟ لذلك احجزها سبعة أيام خارج المحلّة.." عد12/ 14

وممّن ظلمته شريعة موسى أيضاً الأبرص فهو نجس (لا13/ 3) وهو شبه معاقب "يلبس ثيابه مشقوقة ويكشف رأسه ويغطي شاربيه وينادي: نجس نجس.." لا13/ 45-46، ويمنع الأبرص من نسل هارون من الأكل من القرابين المقدّسة لا22/ 4، ولم يُذكَر أنّ الأمراض الجلدية تعالج عند طبيب ولكن يتوجه المريض إلى الكاهن ليحبسه أسبوعاً أو اثنين ليتحقّق من وجود البرص أو عدمه حتى يحكم بطهارة الشخص أو نجاسته (لاويين13)، ولم تكف شريعة موسى عن التشديد على الأبرص حتى بعد شفائه حيث أثقلته بدفع الكفارات والقرابين ورشرشتِهِ بالدم والزيت وتزييت أذنه وغير ذلك من الاجراءات العجيبة لا14.

ملاحظة: البرص Albinism مرض غير معدٍ سببه نقص أو انعدام صبغة الميلانين في الجلد والشعر والعيون نتيجة خلل جيني متعلّق بالإنزيم المنتج للميلانين ويظهر المريض أبيض شاحب.

وفي النسخ الإنكليزيّة من العهد العتيق يستعمل مصطلح Leprosy وهو بالعربيّة (الجذام) وهو مختلفٌ تماماً عن البرص، فهو داءٌ بكتيريٌّ معدٍ من أعراضه التقرّحات الجلديّة

والظاهر من النص أنّ هناك عدّة أمراض أطلق عليها جميعاً البرص، منها البرص نفسه عند الحديث عن شعرٍ أبيض ولمعة بيضاء في الجلد، ومنها أمراض جلدية تتفشّى في البدن، وفي تفسير على الشبكة الإلكترونية يبرّر أحد علماء النصارى عدّ البرص نجساً بأنّه "سمة عارٍ وضعها الربُّ على الخاطئ".
http://st-takla.org/pub_Bible-Interp..._00-index.html


وهذا الكلام غير مقبول فإنّه ليس كلّ أبرص خاطئ ولا كل خاطئ أبرص.

وتسمية الأمراض الجلدية برصاً وترجمة ذلك Leprosy، فضيحة مدوّية وخطأ علمي ولُغوي واصطلاحي فادح.

وبين البرص والـ Leprosy والكلمة العبرية التي "تعني كل الأمراض الجلدية بما في ذلك عفن الثياب والبيت" -كما في حاشية النسخة التي لديّ- يظهر مقدار التخبّط واللبس والخلط في فهمهم وترجمتهم وتفسيرهم لكتابهم المقدّس. ولعلّ هذا الفهم الجاهل وتلك الترجمة الرديئة هما ما ظلم (الأبرص) ونجّس عيشته.

وأصحاب الحاجات الخاصة -كالأعمى والأعرج ومكسور اليد والرجل- يعدون دنسين ويمنعون من تقديم الطعام للإله "ولا يتقدّم إلى المذبح إذ به عيب فلا يدنّس معبدي.." لا21/ 16-23

ووضع لهم موسى شرائع الحرب المقدّسة تث20، مثل شريعة التخيير بين السلم والجزية أو القتل تث 20/ 10-14، وبرّر ذبح وإبادة الأمم الأخرى "لئلا يعلموكم أن تفعلوا الرّجاسات التي يفعلونها في عبادة آلهتهم فتخطأوا إلى الربّ إلهكم" تث20/ 18
ويبدو موسى قائداً دموياً يأمر بقتل كل ذكر وكل أنثى ضاجعت رجلاً وسبي الباقي عد31/ 17-18، كما أنه وضع للشعب سياسة استعلائية في التعامل مع الأمم الأخرى تث7/ 2-3، تث7/ 23-24، ومن سياساته الإبادة الجماعية مثل توصيتهم بمحو ذكر بني عماليق من تحت السماء تث25/ 19، وإبادة الأمم الكافرة تث20/ 16-17، ومن شرائعه السّبي تث21/ 10-14

في المقابل وصايا موسى الأخيرة حثّت على كثير من الأخلاقيات والرقائق مثل العمل بأوامر الرب دون زيادة كلمة عليها أو إنقاصها تث 4/1-2، وألّا ينسوا الأمور التي رأوها بأعينهم بل يعلموها لبنيهم وبني بنيهم تث 4/ 9، وكرّر تذكيرهم بنعم الله، وذلك ليبقوا على التوحيد "والربُّ أراكم ذلك كله لتعلموا أنّه هو الإله ولا إلهَ سواه" تث4/ 35، ويقول: "الربّ إلهنا ربٌّ واحدٌ فأحبوا الربّ إلهكم بكل قلوبكم وكل نفوسكم" تث6/ 4-5، ونهاهم عن اتّباع آلهة الأمم الأخرى لئلّا يبيدهم الرّب تث6/ 14-15، وحذّرهم من الممارسات الوثنية المتنوّعة تث18/ 9-14، ووصّاهم بالغريب واليتيم والأرملة تث24/ 17-22

وبشّرهم بالنبي محمد صلى الله عليه وسلّم (18- أقيم لهم نبيّاً من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلّمهم بكل ما أوصيه به 19- ويكون أنّ الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلّم به باسمي أنا أطالبه) التثنية 18، (أقبل الربّ من سيناء، وأشرق لهم من جبل سعير، وتجلّى من جبل فاران) تث 33/ 2، وفيها بشارةٌ بالنبي عيسى عليه السّلام أيضاً، كما حذّر من الأنبياء الكذّابين وبيّن صفاتهم تث18/ 20-22 وأنّ هؤلاء الدجّالين قد يأتون بمعجزات عظيمة ليدعو لعبادة غير الله تث13/2-4، وحكم عليهم بالقتل تث13/ 6

وموسى بشيرٌ ونذير؛ ولكنّ البشارة والنذارة ليست بالجنّة والنّار، بل البشارة بالسلام والهيبة بين الأمم والبركة والخصب، والنّذارة بلعنة المدن والحقول والنسل، وبالوباء، والهزيمة (تث28)، وهكذا كلّ أنبياء العهد العتيق بشّروا بسلام المملكة والهيبة والخصب والبركة، وأنذروا من السيف والوبأ والجوع، وحتى القرآن خاطبهم بذلك إلى جانب الجنّة والنّار (ولو أنّهم أقاموا التوراةَ والإنجيلَ وما أُنزِلَ إليهم من ربّهم لأكلوا من فوقهم ومن تحتِ أرجلهم) 66 المائدة

ولعّل أهمّ ما جاء به موسى عليه السّلام هو سفر التثنية فقد تضمّن كلّ ما يحتاجونه في دينهم ودنياهم وكرّر الوصايا العشرة ولخّص تاريخهم وفيه البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلّم

وفي وصيّة الربّ الأخيرة لموسى يخبره أنّ هؤلاء الشعب بعد موته سيفجُرون ويعبدون آلهةً غريبة فيغضب عليهم تث 31/ 16، وموسى عليه السلام كان متأكّداً من ذلك تث 31/ 27، ولأنّهم كذلك استبدلهم الربّ تث32/ 20-21

مات موسى مغضوباً عليه "والربّ غضب عليّ بسببكم وأقسم أن لا أعبر الأردن ولا أدخل الأرض الطيّبة التي يعطيها الربّ إلهكم ملكاً لكم" تث4/ 21، وحرمه الربّ من عبور الأردن واستبدل به يشوع لقيادة الجيش عد27/ 12-23

وبعد وفاة موسى حدث ما حذّرهم منه مراراً وتكراراً، فقد تمرّدوا وعصوا وأشركوا بالله كما تبيّن أسفار أنبياء العهد العتيق فيما بعد، كما أنّهم حرّفوا التوراة كما شهد عليهم أنبياؤهم " كيف تقولون: نحن حكماء وشريعة الرب معنا؟ أما ترون أنّ قلم الكتبة الكاذب حوّلها إلى الكذب 9 خزي الحكماء وخابوا وانخدعوا. فها هم نبذوا كلام الرب، فماذا فيهم من الحكمة ... فهم جميعاً من صغيرهم إلى كبيرهم يطمعون بالمكسب الخسيس.." ارميا 8/ 8-10
وهذا تماماً كما حكى عنهم القرآن (.. فنبذوهُ وراءَ ظهورِهم واشتَرَوا بهِ ثمناً قليلاً فبئسَ ما يشترون) 187 آل عمران

وما لم يحرّفوه عبثوا بتفسيره تارةً و أساؤوا فهمه تارةً أخرى، وقد ذكر ابن قيّم في كتابه (إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان) أمثلةً على ذلك، وممّا ذكره: تفسيرهم "ولحماً فريسةً في الصحراء لا تأكلوه وللكلب ألقوه" خر22/ 30 أي إذا ذبحتم ذبيحة ليس بحسب فرائض الشريعة فبيعوها لمن ليس من أهل ملّتكم! (هل يذكّركم هذا بالطّعام المسرطن والفاسد المكبوب على العرب من إسرائيل؟!)

وممّا فسّروه بطريقةٍ حمقاء "لا تنضجوا الجدي بلبن أمّه" خر23/ 19 الربّ يأمرهم ألّا يتركوا الجدي الذي سيقدّم قرباناً وراء أمّه ليكبر بل يعجّلوا في تقديمه، ولكنّهم فهموا ذلك: ألّا يطبخوا الجدي في القدر بلبن أمّه! وحرّموا بالتالي أكل اللحم واللبن معاً! وفي حاشية نسخة الكتاب المقدّس التي عندي يبرّر علماء النصارى ذلك بأنّ طبخ الجدي بلبن أمه (عادة كنعانية) وهو تبريرٌ مضحك فضلاً عن أنّه لا دليل عليه، فما معنى أن ينهاهم الربّ عن عادة طبخٍ فقط لأنّ قوماً ما يفعلونه؟! وهل عادات طبخ اليهود مختلفة عن باقي الأمم؟!

رسالة موسى عليه السلام في القرآن الكريم

بدأ الله تعالى وحيه لموسى عليه السلام بالواد المقدّس بقوله: (إنّي أنا ربّكَ فاخلع نعليكَ إنّك بالوادِ المقدّس طُوى 12 وأنا اخترتُك فاستمِع لِما يوحى 13 إنّني أنا اللهُ لا إله إلّا أنا فاعبُدني وأقِمِ الصّلاةَ لذكري 14 إنّ السّاعة آتيةٌ أكاد أخفيها لتُجزى كلّ نفسٍ بما تسعى 15 فلا يصُدّنّكَ عنها من لا يؤمنُ بها واتّبَعَ هواهُ فتردى 16) طه

فأوحى له بالوحدانيّة وإقامة الصلاة وأخبره بالساعة وأمره بمجانبة من لا يؤمن بها.

كما أرسله إلى فرعون (اذهب إلى فرعون إنّه طغى24) طه

ورسالة موسى إلى فرعون لم تكن فقط من أجل طلب إطلاق بني إسرائيل معه كما تذكر التوراة "قال الربّ إله إسرائيل: أطلق شعبي ليعيّدوا لي في البريّة" خر5/ 1، ولكنّ موسى كُلّف أن يدعو فرعون إلى عبادة الله تعالى أيضاً (اذهب إلى فرعون إنّه طغى17 فقُل هل لكَ إلى أن تزَكّى18 وأهديَكَ إلى ربّكَ فتخشى19) النازعات، وهذه نقطةٌ مهمّة لم تذكر التوراة عنها شيئاً.

وبعد أن مرّت الأيّام العصيبة في مصر وأهلك الله تعالى فرعون وأورث القوم الذين كانوا يُستَضْعَفونَ مشارقَ الأرض ومغاربها كانت وظيفة موسى عليه السلام الأولى هي استصلاح نفوس بني إسرائيل

يقول سعيد حوى في تفسيره (الأساس في التفسير): "لقد عاش بنو إسرائيل في العذاب طويلاً، عاشوا في ظلّ الإرهاب وفي ظلّ الوثنيّة الفرعونيّة كذلك، عاشوا يقتل فرعون أبناءهم ويستحيي نساءهم، فإذا فتر هذا النّوع البشع من الإرهاب الوحشي عاشوا حياة الذّل والسّخرة والمطاردة على كلّ حال. وفسدت نفوسهم وفسدت طبيعتهم والتوت فطرتهم وانحرفت تصوّراتهم وامتلأت نفوسهم بالجبن والذّل من جانب وبالحقد والقسوة من الجانب الآخر... عمليّة استصلاح نفوس بني إسرائيل من ذلّ الطاغوت الفرعوني هي التي سيواجهها موسى عليه السلام بعد خروجه ببني إسرائيل من مصر وتجاوزه بهم البحر وسنرى من خلال القصص القرآني هذه النفوس وهي تواجه الحريّة بكلّ رواسب الذلّ وتواجه الرسالة بكلّ رواسب الجاهليّة وتواجه موسى عليه السلام بكلّ الالتواءات والانحرافات والانحلالات والجهالات التي ترسّبت فيها على مرّ الزّمن الطّويل". مج4/ص2002 سورة الأعراف

وأوّل فسادٍ وقع فيه بنو إسرائيل بعد النجاة قولهم حين رأوا قوماً يعكفون على أصنامٍ لهم: (يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة) 138 الأعراف

فردّ عليهم ردّه الحازم: (إنّكم قومٌ تجهلون 138 إنّ هؤلاء مُتبّرٌ ما هم فيه وباطلٌ ما كانوا يعملون 139 قال أغيرَ اللهِ أبغيكُم إلهاً وهو فضّلكم على العالمين 140) الأعراف

وهذا كان أسلوب موسى عليه السلام دائماً؛ ردّهم إلى الصراط المستقيم كلّما زاغوا عنه مع تذكيرهم بنعم الله تعالى عليهم.

وبعد النجاة بأربعين ليلة جاء موسى إلى سيناء فكلّمه الله تعالى وأعطاه الألواح (وكتَبنا له في الألواحِ من كلّ شيءٍ موعظةً وتفصيلاً لكلّ شيءٍ فخُذها بقوّةٍ وأمُر قومَكّ يأخذوا بأحسنها سأُريكُم دارَ الفاسقين 145) الأعراف

قال المفسّرون: (من كلّ شيء) أي كلّ شيءٍ كانوا محتاجين إليه في دينهم من المواعظ وتفصيل الأحكام مبينة للحلال والحرام، (موعظةً) ليتّعظوا بها، (وتفصيلاً لكلّ شيء) لكلّ التّكاليف الشّرعية، وهنا يتبادر سؤالٌ إلى الذهن: هل من الممكن أن تكون شريعة هندسة ديكور المسكن وتصميم أزياء الكهنة مشمولةً في قوله تعالى (وتفصيلاً لكلّ شيء)؟!

والجواب: لا يوجد دليلٌ على ذلك، لقد توقّفتُ طويلاً أمام هذا السؤال ثمّ تذكّرتُ قوله تعالى عن القرآن: (ونزّلنا عليكَ الكتابَ تِبياناً لِكُلّ شَيء)89 النحل، وقوله (وكُلَّ شيءٍ فصّلناهُ تفصيلاً) 12 الإسراء، وقوله: (ما فرّطنا في الكتب من شيء) 38 الأنعام، فالقرآن بيّن وفصّل للنّاس كلّ ما يحتاجونه في أمور دينهم ودنياهم، ولكنّه لم يذكر هندسة ديكور للمسجد النبوي مثلاً أو للمسجد الحرام أو يفرض على المؤمنين أقمشة وألوان خاصة في حياتهم بل هي أمور بشريّة متروكة لاجتهاد الناس وذوقهم حسب ما يناسبهم، ينطبق عليها قوله تعالى (أُحِلّ لكمُ الطيّبات).

وفي الوقت الذي كان الله تعالى يكلّم فيه موسى عليه السلام في سيناء كان بنو إسرائيل يعبدون العجل الذي صنعه لهم السّامريّ وليس النبي هارون عليه السّلام كما ذكر محرّفو التوراة.

فرجع إليهم موسى غضبان أسفاً ووبّخهم (يا قومِ إنّكم ظلمتم أنفسكم باتّخاذكمُ العجلَ فتوبوا إلى بارِئِكُم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خيرٌ لكُم عندَ بارِئِكُم فتابَ عليكُم إنّه هو التوّابُ الرّحيم) 54 البقرة، وحرّق العجل ونسفه أمام السّامريّ وذكّر بني إسرائيل بإلههم (وانظُر إلى إلهكَ الذي ظلْتَ عليهِ عاكفاً لنحرّقنّهُ ثمّ لننسِفَنّهُ في اليمِّ نسفاً 97 إنّما إلهكمُ اللهُ الذي لا إلهَ إلّا هوَ وسِعَ كُلّ شيءٍ عِلماً 98) طه

ثمّ اختار منهم سبعين رجلاً من خيرة القوم للاستغفار من عبادة العجل (واختارَ موسى قومَهُ سبعينَ رجُلاً لميقاتِنا) 155 الأعراف

ولكنّ خيرة القوم هؤلاء قالوا له (لن نؤمِنَ لكَ حتّى نرى اللهَ جهرة) 55 البقرة، فأخذتهم الصاعقة فماتوا، فقام موسى يتضرّع لربّه (قال ربِّ لو شئتَ أهلكتّهُم من قبلُ وإيّاي أتُهلِكُنا بما فعلَ السّفهاءُ منّا إن هيَ إلّا فتنتُكَ تُضلُّ بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت وليّنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خيرُ الغافرين) 155 الأعراف

يتّضح ممّا سبق أنّ وظائف موسى عليه السلام كانت الدعوة والهداية والقيام على رؤوس القوم حتى لا يزيغوا، فإن زاغوا تذكيرهم بوحدانية الله ونعمه عليهم والتضرّع لله ليعفو عنهم.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ 5 وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ 6) ابراهيم

ومن وظائفه الدّعاء لله لتفريج كروب الشعب،كاستسقائه لقومه (وإذِ استسقى موسى لقومه فقُلنا اضرِب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً قد علمَ كلّ أُناسٍ مشربَهم) 60 البقرة، وذلك بعدد أسباطهم حتى لا يقتتلوا على الماء

وكما دعا من قبل في مصر أن يكشف الله عن آل فرعون الطوفان والجراد والقمّل والضفادع والدّم (قالوا يا موسى ادعُ لنا ربّكَ بما عهِدَ عندك) 134 الأعراف

وهو القائد المجاهد صاحب القول الليّن والوعظ البليغ (وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياءَ وجعلكُم ملوكاً وآتاكم ما لم يؤتِ أحداً من العالمين20 يا قوم ادخلوا الأرض المقدّسة التي كتب الله لكم ولا ترتدّوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين21) المائدة

ويبدو من القرآن أنّ الله لم ينزل بهم عذاباً إلّا وهم مستحقّون له بجدارة، كنزول العذاب بهم حين طلبوا رؤية الله جهرة (55 البقرة) وكنزول العذاب بهم حين دخلوا القرية على أدبارهم بدل دخولها سجّداً كما أمروا وقولهم (حبة في شعيرة) بدل (حطّة) (58-59 البقرة)

ومن وظائف موسى عليه السلام بينهم حل المشاكل كحادثة قتل النفس والأمر بذبح البقرة (67-73 البقرة) والتّوراة لم تذكر شيئاً عن هذا.

والقرآن يصدّقُ أنّ شريعة بني إسرائيل كانت مشدّدة، فقد علّمنا أن ندعو: (ولا تحمِل علينا إصراً كما حمَلته على الذينَ من قبلنا) 286 البقرة، و(الإصر) هو التكاليف الشاقّة، ولكنّ الرسول صلى الله عليه وسلّم يبيّن أن سبب تشديد تلك الشرائع هو بنو إسرائيل أنفسهم

قال صلى الله عليه وسلم: "لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم ، فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم". رواه أبو داود

فعلى سبيل المثال شدّدوا في السؤال عن البقرة التي أمروا بذبحها فشدّد الله عليهم، ولو تركوا السؤال وذبحوا أيّ بقرة لنفعتهم.

وبعض الأحكام شدّدت عليهم بسبب ذنوبهم كتحريم بعض الأطعمة عليهم بعد أن كانت حلالاً (فبِظُلمٍ من الّذينَ هادوا حرّمنا عليهم طيّباتٍ أحلّت لهم ..) 160 النساء

ومن وظائف موسى عليه السّلام طلب العلم إلى جانب كونه معلّماً فقد سافر إلى الخضر ليتعلّم منه (قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) 66 الكهف.

وذكر القرآن أمثلة على المعاملات في شريعة موسى (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكونَ دماءكُم ولا تُخرجونَ أنفُسكم من دياركم ثمّ أقررتم وأنتم تشهدون) 84 البقرة

وأمثلة على الأحكام (وعلى الّذين هادوا حرّمنا كلّ ذي ظُفُر ومن البقر والغنم حرّمنا عليهم شحومَهُما إلّا ما حملت ظهورُهُما أوِ الحوايا أو ما اختلط بعظمٍ ذلك جزيناهم ببغيهم وإنّا لصادقون) 146 الأنعام

وأمثلة على العقوبات (وكتبنا عليهم فيها أنّ النّفسَ بالنّفسِ والعين بالعينِ والأنفَ بالأنفِ والأذنَ بالأُذنِ والسنَّ بالسنِّ والجروحَ قِصاص..) 45 المائدة

وأمثلةً على الأخلاق والعبادات (وإذ أخذنا ميثاقَ بني إسرائيل لا تعبدونَ إلّا اللهَ وبالوالدينِ إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكينِ وقولوا للنّاس حُسناً وأقيموا الصلاة وآتوا الزّكاة) 83 البقرة

وذكر القرآن أنّ لموسى صحفاً غير التوراة وموضوعها المواعظ (... إنّ هذا لفي الصحف الأولى18 صحف إبراهيم وموسى19) الأعلى، (أم لم يُنبّأ بما في صحف موسى36...) النجم

ورسالة موسى كرسالة محمد صلى الله عليهما وسلّم ليست للإنس فقط وإنّما للجن أيضاً (وإذ صرفنا إليك نفراً من الجنّ يستمعون القرآن فلمّا حضروهُ قالوا أنصتوا فلمّا قُضيَ ولّوا إلى قومهم منذِرين 29 قالوا يا قومنا إنّا سمعنا كتاباً أنزِلَ من بعد موسى مصدّقاً لما بين يديه يهدي إلى الحقِّ وإلى طريقٍ مستقيم 30) الأحقاف

ومن وظائف موسى عليه السلام التبشير بمحمد صلى الله عليه وسلّم ونعته لهم وهذا ما كتمه وجحده فريقٌ منهم (الّذينَ آتيناهُمُ الكتابَ يعرفونَهُ كما يعرفونَ أبناءهُم وإنَّ فريقاً منهم ليكتُمون الحقَّ وهم يعلمون 146) البقرة
(الّذينَ يتّبعونَ الرّسولَ النّبيَّ الأميَّ الّذي يجدونهُ مكتوباً عندهم في التّوراةِ والإنجيل ...) 157 الاعراف

وقد أسلم أناسٌ من بني إسرائيل وشهدوا أنّ محمداً صلى الله عليه وسلّم هو رسول الله الذي يجدون نعته في كتبهم، كعبدالله بن سلام (وشهِدَ شاهدٌ من بني إسرائيلَ على مثلِهِ) 10 الأحقاف

الخلاصة: ذِكرُ موسى عليه السّلام يشغل حيّزاً من القرآن، هو واحدٌ من أولي العزم من الرّسل (35 الأحقاف)

اصطفاه الله تعالى على أهل زمانه (قال يا موسى إنّي اصطفيتك على النّاس برسالاتي وبكلامي)144 الأعراف، واستخلصهُ الله لنفسه (واذكُر في الكتابِ موسى إنّه كان مُخلَصاً وكان رسولاً نبيّاً) 51 مريم، وهو كليم الله (وكلّمَ اللهُ موسى تكليماً) 164 النساء.

وأرسله برسالةٍ عظيمةٍ إلى فرعون وبني إسرائيل، فأمّا فرعون فكذّبَ وعصى، فأغرقه الله وجنوده، وأمّا بنو إسرائيل فقليلٌ منهم آمن (ومن قوم موسى أمّةٌ يهدون بالحقّ وبه يعدِلون)159 الأعراف، والباقي خانوا مواثيقهم وظلموا وعصوا فباؤوا بغضبٍ من الله، وآذوا موسى مراراً وتكراراً (وإذ قالَ موسى لقومهِ يا قومِ لمَ تؤذونني وقد تعلمونَ أنّي رسولُ اللهِ إليكم فلمّا زاغوا أزاغَ اللهُ قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين) 5 الصف

ولم يغضب عليه الرب بسببهم كما يقول محرّفو التوراة "والربّ غضب عليّ بسببكم.." تث4/ 21 ، بل :(فبرّأهُ الله ممّا قالوا وكانَ عندَ اللهِ وجيهاً) 69 الأحزاب

وأيّده بالمعجزات العظيمة والآيات الكبيرة (وما نُريهم من آيةٍ إلّا هي أكبرُ من أختها) 48 الزخرف

وأرسل معه أخاه هارون استجابةً لدعائه، وهو أفضل دعاء قدّمه أخ لأخيه (واجعل لي وزيراً من أهلي29 هارونَ أخي30 اشدُد بهِ أزري31 وأشرِكهُ في أمري32 كي نُسبّحكَ كثيراً33 ونذكُركَ كثيراً34 إنّكَ كُنتَ بنا بصيراً35 قال قد أوتيتَ سؤلَكَ يا موسى36) طه

الإيمان بنبوّته من أركان الإيمان في الإسلام (قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ 136) البقرة

وهو يحسن الظن بالله تعالى (قال أصحابُ موسى إنّا لمُدرَكون 61 قال كلّا إنّ معيَ ربّي سيهدين 62) الشعراء، وليس كما تصوره التوراة المحرّفة أنّه يشكك بصدق الرب "الشعب الذي أنا فيما بينهم هم ستمئة ألف راجل وأنت قلت إنّك تعطيهم لحماً يأكلونه شهراً من الزّمان فهل يكفيهم ما يُذبح لهم... فقال الرب لموسى: هل يد الرب قصيرة؟ الآن ترى هل يتم ما كلّمتك به أم لا" عد11/ 21-23، وهو مهذب في خطاب ربه (قال ربِّ لو شئتَ أهلكتّهُم من قبلُ وإيّاي أتُهلِكُنا بما فعلَ السّفهاءُ منّا إن هيَ إلّا فتنتُكَ تُضلُّ بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت وليّنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خيرُ الغافرين) 155 الأعراف، وليس كما تصوره التوراة المحرّفة "لماذا تسيء إلى عبدك ولماذا لم أجد حظوةً عندك حتى وضعت أثقال جميع هؤلاء الشعب علي؟ هل أنا الذي حبل بهؤلاء الشعب كلّهم؟.." عدد11/ 11-12، وهو وهارون مؤمنان محسنان (... سلامٌ على موسى وهارون 120 إنّا كذلك نجزي المحسنين 121 إنّهما من عبادنا المؤمنين 122) الصافات، وليس كما تصورهما التوراة بأنّهما لم يؤمنا إيماناً يظهر قداسة الرب على مرأى بني إسرائيل (عد20/ 12)

ووصف الله تعالى التوراة التي أنزلها على موسى في القرآن بأنّها: (الكتاب والفرقان) 53 البقرة، منزلة من عند الله هدى للناس (2 آل عمران)، (فيها حكم الله) 43 المائدة، (فيها هدىً ونور يحكم بها النبيّون) 44 المائدة، (نوراً وهدى للنّاس) 91 الأنعام، (ذِكر) 43 النحل،و 105 الأنبياء، (الفرقان وضياءً وذِكراً للمتّقين) 48 الأنبياء، (بصائر للنّاس وهدى ورحمة) 43 القصص، (الكتاب المنير) 25 فاطر، (الكتاب المستبين) 117 الصّافّات، (إماماً ورحمة) 17 هود،و 12 الاحقاف.

والإيمان بأنّها منزلةٌ من عند الله تعالى ركنٌ من أركان الإيمان، ولكنّها تعرّضت للتّحريف اللفظي والمعنوي (يُحَرّفونَ الكَلِمَ عن مواضِعِهِ ونسُوا حظّاً ممّا ذُكِّروا به) 13 المائدة

أمّا علاقة رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم برسالة موسى: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّنُ لكم كثيراً ممّا كنتم تُخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نورٌ وكتابٌ مبين) 15 المائدة، (الّذين يتّبعون الرسول النبيّ الأميّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلُّ لهم الطيّباتِ ويحرّمُ عليهمُ الخبائثَ ويضعُ عنهم إصرَهم والأغلال التي كانت عليهم) 157 الأعراف

فقد جاء مصدّقاً لنبوّة موسى وبيّن لهم بعض ما أخفوه من دينهم، وأحلّ لهم الطيّبات التي كانت محرّمةً عليهم بشؤم ظلمهم وأبقى الخبائث كالميتة والدم والخنزير محرّمةً، كما خفّف عنهم ما كُلّفوه من التكاليف الشّاقّة التي تشبه الأغلال كقتل النفس في التوبة وما يتعلّق بأحكام الطّهارة.

وعلاقة القرآن بالكتب السماوية السابقة أنّه أُنزِلَ (مصدّقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه) 48 المائدة، قال ابن تيمية: "إنّه أنزلَ هذا القرآنَ مهيمناً على ما بين يديه من الكتب والمهيمن: الشّاهد المؤتمن الحاكم، يشهد بما فيها من الحقّ ويبيّن ما حرّف فيها ويحكم بإقرار ما أقرّه الله من أحكامها وينسخ ما نسخه الله منها، وهو مؤتمنٌ في ذلك عليها".

وفي هذا الزمان لا يستطيع أحدٌ أن يؤمن بموسى عليه السّلام وكتاب موسى ومعجزات موسى ويعرف الحقّ عن رسالة موسى إلّا من خلال الإيمان بالقرآن الكريم، فهو الدّليل الوحيد على نبوّة موسى ورسالته ومعجزاته، فلا أحد رأى تلك المعجزات بعينه ولا الخبر عنها متواتر، أمّا الكتاب المقدّس فهو "تراث وتاريخ" أكثر منه كتاباً سماويّاً.

فهل يدرك أهل الكتاب قيمة ما ضيّعوه وخطورة ما كتموه وعظيم ما اقترفوه وحجم ما فوّتوه على أنفسهم؟!