الغزالي فارس المنبر وأديب الدعوة

الشيخ الدكتور يوسف جمعة سلامة
خطيـب المسـجد الأقصـى المبـارك


تاريخ النشر: الجمعة 18 مارس 2011


أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن عبدالله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- قال: (سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جُهَّالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علمٍ، فضلوا وأضلوا) (أخرجه البخاري)، هذا الحديث حديث صحيح أخرجه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب العلم باب كيف يُقبض العلم خمسة عشر عاماً مرت على وفاة العالم العامل والداعية المجاهد فضيلة الشيخ/ محمد الغزالي رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته .

ومن المعلوم أن المرحوم الشيخ محمد الغزالي أحمد السقا ولد في 5 ذي الحجة سنة 1335هـجرية، الموافق 22 من سبتمبر 1917 ميلادية، في قرية «نكلا العنب» التابعة لمحافظة البحيرة بمصر، وسمّاه والده بـمحمد الغزالي تيمنًا بالعالم الكبير أبو حامد الغزالي المتوفي في جمادى الآخرة 505 هـ .

ونشأ في أسرة كريمة مؤمنة، وأتم حفظ القرآن الكريم بكتّاب القرية في العاشرة، ويقول الإمام محمد الغزالي عن نفسه وقتئذ: (كنت أتدرب على إجادة الحفظ بالتلاوة في غدوي ورواحي، وأختم القرآن في تتابع صلواتي، وقبل نومي، وفي وحدتي، وأذكر أنني ختمته أثناء اعتقالي، فقد كان القرآن مؤنسا في تلك الوحدة الموحشة)، والتحق بعد ذلك بمعهد الإسكندرية الديني الإبتدائي وظل بالمعهد حتى حصل منه على شهادة الكفاءة ثم الشهادة الثانوية الأزهرية، ثم انتقل بعد ذلك إلى القاهرة سنة (1356هـ الموافق 1937م) والتحق بكلية أصول الدين بالأزهر الشريف حتى تخرّج بعد أربع سنوات في سنة (1360هـ - 1941م) وتخصص بعدها في الدعوة والإرشاد حتى حصل على درجة العالمية سنة (1362هـ - 1943م) وعمره ست وعشرون سنة وبدأت بعدها رحلته في الدعوة من خلال مساجد القاهرة. وقد تلقى الشيخ العلم عن الشيخ عبد العظيم الزرقاني، والشيخ محمود شلتوت، والشيخ محمد أبو زهرة والدكتور محمد يوسف موسى وغيرهم من علماء الأزهر الشريف.

لقد عمل شيخنا الجليل أستاذاً في الأزهر الشريف بجمهورية مصر العربية ، وفي الجامعات السعودية، وفي دولة قطر، وفي الجمهورية الجزائرية، وطاف بلاداً عديدة داعياً إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.

لقد رفع الإسلام مكانة العلماء عالية خفاقة {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} (سورة الزمر الآية 9)، كما وجاءت الأحاديث النبوية الشريفة تبين ذلك، حيث يقول- صلى الله عليه وسلم- (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر ) (أخرجه أبو داود والترمذي) .

ويقول- صلى الله عليه وسلم- أيضاً ( إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم يهتدى بها في ظلمات البر والبحر ، فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة ) (أخرجه أحمد) .

كما وبين- صلى الله عليه وسلم- أن علمهم يبقى صدقة جارية إلى يوم القيامة كما ورد في الحديث الشريف (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح 
يدعو له ) (أخرجه مسلم)، وهذا من علامات الساعة التي أخبر عنها النبي- صلى الله عليه وسلم - بقوله ( إن من أشراط الساعة أن يُرفع العلم ويكثر الجهل ) (أخرجه البخاري).

ولهذا حذر النبي- صلى الله عليه وسلم- من وقوع الأمة في هذه الآفة المهلكة، فكان مما أوصى به أصحابه الكرام في حجة الوداع الحرص على طلب العلم قبل أن يرفع، لما ورد عن أبي أمامة- رضي الله عنه- قال: لما كان في حجة الوداع قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: (خذوا العلم قبل أن يُقبض أو يرفع، فقال أعرابي : كيف يرفع ؟ فقال: ألا إن ذهاب العلم ذهاب حملته - ثلاث مرات ) (أخرجه أحمد والطبراني) .

إن موت العلماء مصيبة كبيرة ، حتى قال بعضهم : لموت قبيلة أيسر عند الله من موت عالم!! وقال آخر : إذا مات العالم ثلمت في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا عالم غيره ، ومن أشد الأخطار على الأمة أن يموت العلماء ، فيخلفهم الجهلاء، الذي فرغت رؤوسهم من العلم، وقلوبهم من التقوى، فيفتون الناس بغير علم، فيضلون ويضلون!! وكان عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- يقول: ( عليكم بالعلم قبل أن يرفع، ورفعه موت رواته) (روضة العقلاء- للإمام ابن حبان ص37)،

وعن الحسن البصري رحمه الله أنه قال (كانوا يقولون : موت العالم ثلمة في الإسلام، لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار) (أخرجه الدارمي). ولا شك أن موت العالم خسارة جسيمة تحلُّ بالأمة، ولا يتم تعويضها إلا بحرص الشباب على طلب العلم، والأخذ عن العلماء الصالحين، واغتنام وجودهم قبل موتهم، وتفريغ نخبة من شباب الأمة لتحمل أمانة العلم الشرعي والتخصص فيه بصدق وإخلاص

وهذا ما نبه عليه الحديث الصحيح الذي قاله نبينا- صلى الله عليه وسلم- (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم « وفي رواية لم يبق عالماً « اتخذ الناس رؤوسا ًجهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) (أخرجه الشيخان) .

هذه نظرة الإسلام إلى العلماء الذين يرشدون الناس إلى الخير والهدى، ويبينون لهم أحكام دينهم الإسلامي الحنيف .

لقد كان شيخنا- رحمه الله متفائلاً بأن المستقبل لديننا الإسلامي حيث قال في إحدى محاضراته: (إن المستقبل مكفول للأمة الإسلامية ، لكن عندما ترث الأرض فتصلحها، إنما أن ترث الأرض بعقلها الحالي فلا تحسن إصلاح شيء فيها، بل خبالا، لا لن تعطي لنا الأرض بل سيحاسبنا الله تبارك وتعالى على هذا التخلف العقلي والخلقي والتربوي والاجتماعي والعلمي الذي تعيشه الأمة الإسلامية .

لكنني مع هذا لا أيأس قط من عودة الإسلام وانتصار مبادئه في العالم مرة أخرى، وقد قرأت حديثا نبوياً يقول فيه : (ليبلغن هذا الأمر «يعني أمر الإسلام» ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر، إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر) (أخرجه أحمد)، وقد جاء هذا الحديث مصداقاً لقوله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» (سورة الصف الآية 9)، فرغم هذا الحاضر المرعب الذي يعيشه العالم الإسلامي إلا أنني لا أياس قط من هذا الواقع ومن عودة الإسلام مرة أخرى للعالم كله).

لقد ترك شيخنا- رحمه الله- تراثاً ضخما يتمثل في عشرات الكتب في العقيدة والتفسير والفقه والفكر، والأدب والتاريخ، والتربية والإصلاح ، كما ويتمثل في مئات أو آلاف المقالات التي نشرها، كما و ترك الشيخ-رحمه الله- مئات الأشرطة من دروس ومحاضرات، وفتاوى، رحمه الله رحمة واسعة ، وغفر له ، وتقبله في 
عباده الصالحين .

ومن المعلوم أن فضيلة أستاذنا الشيخ/ محمد الغزالي- رحمه الله- قد انتقل إلى رحمته تعالى في الرياض بالمملكة العربية السعودية يوم السبت الموافق 9/3/1996م أثناء حضوره مهرجان الجنادرية الثقافي، ليشارك في ندوة عن ( الإسلام والغرب)، وخرجت أنفاس الشيخ- رحمه الله- وهو يدافع عن الإسلام ويذود عن حماه ، وقد شرفه الله سبحانه وتعالى بأن دفن بالقرب من مثوى رسول الله- عليه الصلاة والسلام- ومسجده الشريف ، بمدافن البقيع بالمدينة المنورة، التي ألف فيها كتابه القيم ( فقه السيرة ) ودمعه يختلط بالمداد تأثراً وحباً للرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم-، وقبره- رحمه الله- في موضع متميز ، قريب جداً من قبر الإمام مالك، وقبر الإمام نافع أحد القراء السبعة، رضي الله عنهم جميعاً.

نسأل الله الكريم أن يكرم نزلهم، وأن يعوضنا عنهم وعن غيرهم من العلماء العاملين خير العوض، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم، اللهم أمطرهم وابل رحمتك ورضوانك، وأنزل السكينة في قلوبنا حتى نبصر المعالم فلا نتعثر، وهبنا من فضلك وعنايتك حتى تقوى سواعدنا على حمل الأمانة، وارزقنا اخلاصاً في العمل ، وصبراً على وعورة الطريق ، واجعلنا في مرضاتك على كل حال.


www.yousefsalama.com