إسلام أون لاين

6 / 3 / 2011م

الغربة بداية النهضة والعودة للريادة
قراءة جديدة في حديث غربة الإسلام


محمد أبو الخير السيد

يتخذ مفهوم "نهاية الزمان" موقعاً ذا شأن في النفوس والأذهان، ويطال تأثيره فعل الإنسان وفاعليته، ولا يقتصر هذا على فرد ما أو جماعة بعينها، بل هو من المشتركات بين الناس على اختلاف مللهم وثقافاتهم، وبالنظر في التصور الإسلامي لمسألة نهاية الزمان نجد أن المفهوم قد صيغ من معطيات النص (القرآن والسنة)، فبينما يسهب القرآن الكريم في الحديث عن قيام الساعة وما يحف بها من أحداث نعثر في السنة على كمٍّ وافرٍ من الأحاديث المصنفة تحت عنوان الفتن والملاحم وأشراط الساعة.

ورغم كون المسألة جزءاً أساسياً من مسائل العقيدة وأركان الإيمان فإنه لا مفر من القول بأن قدراً غير يسير من فاعلية الفرد والمجتمع المسلِمَيْن قد تأثر سلباً بما يُتصوَّر من أحاديث الفتن وعلامات الساعة، فقد صيغت من مجمل تلك الأحاديث رؤية ترى الحياة الإنسانية والفعل البشري على هذه الأرض يسيران على ما يشبه المنحدر، بحيث يتناقص الصلاح كلما تقدم الزمن ويزداد الفساد في المقابل إلى أن يَؤول الأمر في النهاية إلى قيام الساعة وفناء العالم.

والأحاديث التي يمكن أن يُفهَم منها ذلك عديدة، لكن أحد أهم الأحاديث التي زُجَّتْ في هذا التصور زجاً هو حديث غربة الإسلام أو غربة الدين، ونصه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء، الذين يُصلحون ما أفسد الناس"[1]، فقد غلب على أذهان كثيرين أنه يتحدث عن مرحلة "آخر الزمان" و"نهاية الدنيا"، ولعل نشأة ذلك كانت مع المحدثين الذين رتبوا هذا الحديث في مصنفاتهم بجوار أحاديث الفتن أو في أبوابها، ثم نسج بعض شراح الحديث على هذا المنوال فأخذوا –بناءً على هذا التصور- يدعون إلى العزلة ويرفعون من شأنها ويرون فيها خلاصاً من وطأة "الغربة" في آخر الزمان[2].

ولا يزال هذا التصور قائماً حتى في الخطاب الدعوي المعاصر، فما أن تُتداوَل أحوال المسلمين وشؤون مجتمعاتهم وما تفشى فيها من فساد ومنكر حتى يُستدعى حديث الغربة شاهداً في حالة من الرثائية المحزنة، ولا يبقى عندئذٍ للعمل الدعوي والإصلاحي من أفق يرنو إليه سوى أن يتحقق بما أشارت إليه الآية الكريمة: "معذرة إلى ربكم".

ولو أننا قرأنا هذا الحديث قراءة جديدة غير مقيدة بأُطُر الفهم الموروث ولا مستلبة لجزئيات الواقع المر لوقفنا منه على معنى يسير في الاتجاه الآخر تماماً، فإذا بالغربة تغدو مقدمة للنهضة بل وسُنةً فيها، وإذا بالغرباء صُناع أمل وبناة مجتمع جديد، وإذا بمستقبل يلوح في الأفق يبشر بالعالَمية الثانية للإسلام، عالَمية الظهور على الدين كله كما أخبر القرآن الكريم.

الإسلام بدأ ولم ينتهِ.. بل سيعود

وأول ذلك أن نوضح أن الحديث إنما يتكلم عن "بدء الإسلام وعودته" لا عن بدء الإسلام و"نهايته"، وشتان بين العودة والنهاية، إذ "بَدْء" الشيء في اللغة العربية يقابَل إما بـ"الانتهاء" وإما بـ"العودة"، فالنهاية فناء وعدم، والعودة بخلاف النهاية: إنها تجديد، أو هي استئناف لمرحلة جديدة من حياة الشيء، وهذا الفهم لمعنى البدء والعودة مستقى من لغة القرآن الذي اصطبغت به شخصية النبي صلى الله عليه وسلم فتجلى في حاله ومقاله، وحسبُنا بضع آيات تكشف لنا هذا الفرق الدقيق بين العودة وبين النهاية كقول الله تعالى: "إنه يبدأ الخلق ثم يعيده"، و"كما بدأكم تعودون"، و"قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين"[3].

الغربة بداية النهضة

وأما الغربة[4] فمرحلة مؤقتة تمر بها المجتمعات والأفراد، تأتي نتيجة لعوامل داخلية أو خارجية، وهي كذلك مرحلة مفصلية في حياة الأمم الناهضة، وشرط لا بد منه للتغيير[5]، أياً كان مجاله أو وجهته، إذ بدونها تبدو جميع الأمور سائرة على ما يرام، فهي التي توقظ الوعي وتحرك الهمم وتطلق الإرادات، ولم يسبق لمجتمع ولا لفرد أن استقام على سَنَنٍ جديد إلا من بعد أن اغترب عن حاله الراهنة، ففارقها واستبدل بها حالاً أخرى سعياً نحو الأرقى والأصلح.

وهذه حضارة المسلمين التي بزغت وتألقت فيما مضى واتسعت رقعتها وامتد أثرها إنما كانت ثمرة "الغربة الأولى" التي شكلت النقطة الفاصلة بين "جاهلية" زالت و"نهضة" قامت، فتلك الدعوة التي انطلقت غضّةً فتيَّةً في شعاب مكة، وأُلقيت في طريقها كل العقبات، وواجه أبناؤها شتى الصعوبات، هي التي غيرت وجه الدنيا بعد يسير من الزمن، وقد سَجَّلت قبل وعند انطلاقتها لحظةَ غربةٍ ومفارقة لجاهلية ذلك المجتمع وقيمه، فأبت أن تساير انحطاطه، ورفضت أن تكون جزءاً من ضلاله وفساده، فخرجت عن نسقه ومنظومته، ويممت وجهها شطر آفاق كريمة للوجود الإنساني، ونزل الوحي محرِّراً لوعي الإنسان وإرادته، ليستأنف عمله الصالح في إطار الاستخلاف والقيام بالقسط.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الغريب الأول يوم وقف وحده في وجه الجاهلية حتى وصفته الآية الكريمة: "لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا" فبلغَ من الغربة أن وَرَد ذكره في الآية بالوصف لا بالاسم، حتى إذا انضم إليه غرباء الرعيل الأول عرّفته الآية الكريمة: "محمد والذين معه"، ثم ما زالت الدعوة تتسع والنور ينتشر وتقوى شوكة الإسلام حتى أصبح أهله أمة غالبة، ودان لها القاصي والداني، وزالت الغربة بعد أن تبيَّن الرشد من الغي.

وقد دخل الإسلام غربته الثانية الشاملة[6] منذ نحو قرن من الزمان أو يزيد حيث تقلص دوره الحضاري وزال سلطانه السياسي، ووقعت بلاد المسلمين في قبضة الغاصب الأجنبي، وظهرت فيها تيارات التغريب والإلحاد، وانحسر دور الدين وقيمه ومفاهيمه في النفوس حتى غدا الدين في لحظة من لحظات الغربة الثانية تهمةً تُدرأ أو سُبةً تُكال أو عاراً يُستَتَر منه.

ولم تزل هذه الغربة قائمة إلى يومنا هذا وإن خفّت حدتها بعض الشيء، وهي غربة في انتظار من يمحوها، إذ ليست سوى مرحلة أو محطة في حياة الأمة، ولئن كانت الغربة مقدمة للنهضة وجزءاً من قانون التغيير، ومحفِّزاً للهمم والإرادات، فإن ذلك مشروط بأن تقترن بالفعل الصالح البنَّاء المتفائل بالمستقبل، وهذا ما كان عليه الرعيل الأول من الغرباء الذين لم تشهد غربتهم تلك عزلة ولا انكماشاً كما يدعو البعض، وإنما أتت الآفة في واقعنا الحالي من التعامل مع هذه الغربة باعتبارها قدراً محتوماً لا رادّ له ولا مفر منه، بحيث لا يكاد ينفع معه العمل، ولا يُرجى من ورائه أمل، ولو كان الأمر كذلك لما كان لعمل الدعاة والمصلحين أي داع أو مسوِّغ، وإنما المطلوب أن يُدافَع القدر بمثله، أو كما قال عمر رضي الله عنه: "نفر من قدر الله إلى قدر الله"[7].

الغرباء رواد النهضة وبُناتها

والغرباء –بموجب ما سبق بيانه- ليسوا ممن قعد ينتظر الساعة ويرتقب أشراطها، ولا هم مجرد "قابضين على الجمر" في عزلة عن الناس أو يأس من الظروف كما يُتصوّر، بل هم على العكس من ذلك فاعليةً وحراكاً: "يُصلِحون ما أفسد الناس" و"يُصلحون إذا فسد الناس"، فإصلاحهم قائم على التفاؤل بالغد من جهة، والثقة بنوازع الخير في كل إنسان من جهة أخرى، ولولا ذلك لاتخذوا الثورة سبيلاً للتغيير بدلاً من الإصلاح، أو قعدوا في محاريب اليأس وزوايا البطالة.

ولا بد من التذكير بأن هذا الإصلاح ليس -كما يُظَنُّ- وعظاً ساذجاً أو دعوة خجولة، بل هو تحرير للإنسان واستئناف للعمران، والإصلاح الذي يقوم بمهمة كهذه لا يمكن إلا أن ينبثق عن وعي عميق بكلٍّ من ظروف الواقع وملابساته من جهة، وآفاقه ومخارجه من جهة أخرى، وقد سبق أن قامت به الرسالة المحمدية في الغربة الأولى فأعادت الإنسان إلى رشده، وأطلقته من قيوده، ووضعته وجهاً لوجه أمام دوره ومسؤولياته، فإذا به يغير وجه الدنيا ويبني عالماً جديداً أفضل، فانقشعت الغربة الأولى عن وجه الإسلام، وامتد سلطانه السياسي على قلب العالم القديم، مثلما امتد شعاعه الفكري على أبعد من ذلك.

ولئن وقعت غربة الإسلام الثانية تدريجياً منذ نحو قرن أو أكثر بفعل عوامل عدة تضافرت من الداخل والخارج، فإن مرحلة الصحوة الإسلامية وما تلاها من مراجعات وتجارب لا تزال قائمة إلى اليوم تؤذِن ببوادر استئناف جديد[8]، وهاهم غرباء اليوم على اختلاف أعراقهم وأقطارهم[9] من رواد العمل الإسلامي يجنون من ثمار حراكهم ما لم يجنه الجيل السابق، وتنفتح آفاق أوسع للدعوة الإسلامية وحركتها بما يجعل البعض يحذر من "الخطر الأخضر" القادم أو يتحدث عن القرن الحادي والعشرين باعتباره قرن الإسلام بلا منازع، والأمر وإن كان في بداياته –كما هي طبيعة الأشياء- فإن المؤمَّل أن يستوي على سوقه ويؤتي أُكُله، ليؤول إلى التمكين وإرث الأرض بوعد القرآن الكريم: "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون"، وعندها تتحقق العالمية الثانية للإسلام، العالمية التي قال الله تعالى عنها: "هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا".

_________________________________________________


[1] الحديث مروي في صحيح مسلم وسنن الترمذي وابن ماجه ومسند أحمد وغيرها من مصنفات السنة بألفاظ متقاربة.
[2] يُنظَر مثلاً شرح النووي لهذا الحديث في صحيح مسلم وكتاب الغرباء لأبي بكر الآجري وكتاب كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة لابن رجب الحنبلي.
[3] العود بعد الموت استئناف لحياة جديدة في زمن جديد هو الآخرة، وعلى هذا فالموت ليس نهاية محضة، بل هو مجرد انتقال، أما التلاشي فيصيب البدن دون النفس، وأما عَوْد الذين كفروا، فجاء في مقابل انتهائهم وكفهم، وهو ما يؤكد التغاير تماماً بين العَود وبين الانتهاء.
[4] أصل الغربة في اللغة هو "البُعد".
[5] شرطٌ لازم غير كافٍ.
[6] ثمة غربة جزئية وجدت في بعض المجتمعات الإسلامية دون بعض، وفي بعض أفرادها وفئاتها دون بعض، وهي التي ظنها بعض شراح الحديث الغربة الثانية، وليست كذلك.
[7] كتب الدكتور الشيخ سلمان بن فهد العودة سلسلة بعنوان "رسائل الغرباء"، استعرض فيها بدراسة وافية غربة الإسلام الأولى وغربته الثانية، وتحدث فيها عن وسائل دفع الغربة، لكن الرؤية الكلية لدراسته تلك لم تجد في الغربة منطلق نهضة ثانية، بل بقيت أسيرة لمفاهيم "نهاية الزمان" وما يحف بها، كحديثه عن العزلة والخلطة وأحكامهما، وعلاقة الغرباء بالطائفة المنصورة في آخر الزمان، ونحو ذلك.
[8] أتاحت الصحوة الإسلامية للفكر الإسلامي أن يعود إلى ذاته بعد أن خَفَتَ بريق الحداثة الغربية بعض الشيء، لكن لم تكن –الصحوة- قادرة بما يكفي لتصوغ رؤيتها البديلة بسبب اتساع مساحة التراث لديها على حساب الاجتهاد والتجربة، وهذا ما أفسح المجال للتجديد أن يأخذ الدور مغتنياً من التجربة، ومنفتحاً على آفاق الوحي ومراتب الوعي.
[9] ورد في بعض روايات الحديث وصف الغرباء بأنهم "النُزَّاع من القبائل".