الرفق منهج الإسلام في العبادات والمعاملات



الجمعة ,25/02/2011


“ما دخل الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه” . . هكذا أعلنها النبي صلى الله عليه وسلم من بداية البعثة، مؤكداً أن الرفق منهج إسلامي بامتياز، وموجباً على أتباعه في الوقت ذاته أن يجعلوه منهج حياة في تعاملاتهم مع الآخرين . . مسلمين كانوا أو غير مسلمين .

وفي هذا يقول الدكتور عمر عبدالعزيز أستاذ الدعوة بكلية الدعوة الإسلامية في جامعة الأزهر: أراد الإسلام من البداية أن يعلنها صريحة حينما قال “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير” . . وهذا يعني أن الناس في منطق الإسلام فروع شجرة واحدة، وأساس الصلة بينهم هو التعارف والتعاون .

يؤكد الدكتور عبدالعزيز أن الإسلام لا يأمر أتباعه بالرفق من فراغ، ولكن لأنه منهج تشريعي فقد ألزم الإسلام به نفسه كتشريع، بل أنكر القرآن وشدد النكير على أصحاب نزعة التحريم المطلقة التي يشددون بها على أنفسهم من دون سند ودليل .

فالقرآن أنكر على من شدد على نفسه وحرم الطيبات والزينة التي أخرجها الله لعباده، فقال تعالى: “قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق . .” (الأعراف: 32) .

أساس التشريع

ويعلق الدكتور عبدالعزيز: إذن الرفق وعدم التشدد والرحمة بالناس منهج إسلامي بامتياز، جعله الله أساساً للتشريع في العبادات والمعاملات، ولهذا تواردت النصوص القرآنية على هذا المعنى، منها قوله تعالى: “لا يكلف الله نفسا إلا وسعها” وقوله: “يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا” .

ويوضح أن منهج الرفق في الإسلام يتأكد من خلال الرخص الكثيرة التي شرعها في مجالات شتى، وأوجب النبي صلى الله عليه وسلم العمل بها قائلا: “إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته”، وفي رواية “كما تؤتى عزائمه” .

وقال أستاذ الدعوة الإسلامية، الملاحظ لنصوص القرآن يرى أنه لم يذكر الشدة والغلظة إلا في موضعين اثنين فقط، ولحكمة تقتضيها أيضاً الطبائع البشرية، والموضعان هما:

1 في قلب المعركة ومواجهة الأعداء، حيث توجب العسكرية الناجحة الصلابة عند اللقاء، وعزل مشاعر اللين والرفق مع المحاربين لحين القدرة عليهم، قال تعالى: “قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة . .” .

2 الموضع الثاني أثناء تنفيذ العقوبات الشرعية على مستحقيها، حيث لا مجال لعواطف الرحمة في تنفيذ الحدود والعقوبات لأجل استقامة المجتمع، قال تعالى: “ . . ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله . .” .

وما عدا ذلك كما يؤكد الدكتور عبدالعزيز فإنه لا مكان في القرآن للعنف والخشونة، وإنما يوجب الرفق واللين في التعامل مع البشر ومع غير البشر من نبات وحيوان وحتى جماد!

ولذا يؤكد د .عمر أن المسلم مطالب بإبراز سماحة الإسلام من خلال اتخاذه الرفق منهجاً وسبيلاً في تعامله مع الآخر، مسلماً كان أو غير مسلم .

رحمة المؤمن

وفي تدليله على منهجية الرفق في الإسلام قال د .عبدالعزيز: “دائماً المسلم ينبغي أن يكون ذا قلب رحيم لأن مثله الأعلى هو التخلق بأخلاق الله جل وعلا، بحيث يكون له نصيب من أسمائه الحسنى سبحانه وتعالى، وأجلها رحمة الله عز وجل . .” .

ويوضح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرب لأصحابه هذا المعنى حين رأى مع أصحابه امرأة تمسك بولدها وتحتضنه، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم: “أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟!” قالوا: لا، قال: “فالله أرحم بعباده من رحمة هذه بولدها . .” .

وبالتالي يربط النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بهذه المعاني الرقيقة، ويؤكد لهم أن هذه الرحمة لن تنال إلا من يتشبه بها، فيقول صلى الله عليه وسلم: “إنما يرحم الله من عباده الرحماء” ويقول: “من لا يرحم لا يرحم”، ويقول: “ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء” . .

ويؤكد أستاذ الشريعة أن رحمة المؤمن لا تقتصر على إخوانه المؤمنين فحسب، وإنما أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم عموم الرحمة في قلب المؤمن فقال: “لن تؤمنوا حتى ترحموا” قالوا: يا رسول الله كلنا رحيم، قال: “إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكنها رحمة العامة . .” .

ويلفت الدكتور عبدالعزيز إلى أن هذا الخلق كان غالباً على أعمال المسلمين الأوائل، ووضحت آثاره في سلوكهم، حتى مع الأعداء المحاربين، فنجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يغضب حين يمر في إحدى الغزوات فيجد امرأة مقتولة، ويقول: “ما كانت هذه لتقاتل!” .

وينهى عن قتل النساء والأطفال والشيوخ ومن لا يشارك في قتال المسلمين، فيوصي قواد جيشه ويقول: “لا تقتلوا امرأة ولا طفلاً ولا شيخاً ولا تعقروا نخلاً ولا تقطعوا شجرة مثمرة، وستجدون رجالاً قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما أفرغوا أنفسهم له . .” يقصد الرهبان والعباد داخل الكنائس أو الأديرة .

ويقول لعمر رضي الله عنه في توجيه نبوي مباشر يظهر رحمة الإسلام: “اتقوا الله في الفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب . .” .

وهذا الغرس النبوي كما يؤكد عبدالعزيز هو الذي جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما رأى رجلاً يسحب شاة من رجلها ليذبحها يقول له معنفاً: “ويلك . . قدها إلى الموت قوداً جميلاً . .” .

الرسول القدوة

ويؤكد المعاني السابقة الدكتور عبدالله بركات عميد كلية الدعوة الإسلامية في جامعة الأزهر سابقا، ويقول: “حين نتحدث عن الرفق لا بد من أن نؤكد أن الأسوة والقدوة في ذلك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كان أرفق الناس بالعصاة، ولا تمنعه معصية أحدهم من أن يفتح له قلبه، وينظر له نظرة الطبيب إلى المريض، وليس نظرة الشرطي إلى المجرم” .

ويؤكد الدكتور بركات أن المسلم مطالب بالاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، مدللاً بقوله تعالى: “لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا . .” .

لكن الدكتور بركات يستدرك قائلاً: “لكننا الآن نرى الناس وقد قست قلوب بعضهم على بعض، فلا رحمة من الكبير للصغير، ولا احترام من الصغير للكبير، ولا حنان من القوي على الضعيف، ولا رحمة ولا رفق بأصحاب المعاصي ومحاولة علاجهم، بل تحول كل الناس إلى رقباء على بعضهم، وكأنهم ليسوا أصحاب معاص .

ويؤكد بركات على منهج النبي صلى الله عليه وسلم في الرفق قائلاً: المتأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجدها كلها دليلاً سلوكياً على هذا الحنان والرفق في تعاملاته مع الجميع، فعندما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري إلى اليمن غرس فيهما هذا المعنى قائلاً: “يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا” .

ويضرب الدكتور بركات مثلاً بقول أنس رضي الله عنه خادم النبي صلى الله عليه وسلم: “خدمت رسول الله عشر سنين، فما قال لي أف قط، ولا قال لي لشيء صنعته: لم صنعته؟ ولا لشيء تركته: لم تركته؟ وكان لا يظلم أحداً أجره” .

وتقول عائشة رضي الله عنها: “ما ضرب رسول الله شيئاً قط بيده، ولا امرأة ولا خادماً، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل من شيء فينتقم من صاحبه، إلا أن ينتهك شيء من محارم الله، فينتقم لله” .

وحتى العصاة

ويضيف الدكتور بركات قائلاً: أين المسلمون الآن في معاملاتهم مع زوجاتهم، ومع خدامهم، ومع جيرانهم، بل مع أطفالهم، من معاملة النبي صلى الله عليه وسلم، التي كان أساسها الرفق واللين؟

ويوضح الدكتور بركات أن منهج النبي صلى الله عليه وسلم في الرفق لم يكن مع أصحابه فقط، بل كان مع العصاة أيضا .

ويدلل على ذلك برواية المرأة الغامدية التي زنت وهي محصنة وحملت من الزنا وجاءته صلى الله عليه وسلم ليطهرها بإقامة الحد عليها، وبعد مرات عديدة لأسباب منطقية، أقام النبي صلى الله عليه وسلم عليها الحد، وبعده خرجت من خالد بن الوليد جملة أساء فيها للمرأة، فقال النبي مغضباً: “أتسبها يا خالد؟! والله لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين بيتاً من أهل المدينة لوسعتهم، وهل ترى أفضل من أن جادت بنفسها لله . .” .

وكذلك الصحابي الذي كان يشرب الخمر، ونهى صلى الله عليه وسلم عن لعنه، حتى لا يعينوا الشيطان عليه.