العبادة في الإسلام.. مفهوما وغاية

محمد حلمي عبد الوهاب

تعد العبادة جزءا أساسيا من نظام الإسلام، فهي التي تجعل التصور الإسلامي للوجود حيا في النفوس لجهة نقل هذا التصور من حيز الفكر المجرد إلى حيز التطبيق، ومن منظومة الأوامر والنواهي إلى رحاب العقل والقلب والوجدان. فضلا عن أنها الوسيلة الناجعة التي تنقل الإنسان من حال العلم والاقتناع العقلي بوجود الله تعالى، إلى مقام الإحساس والشعور بإشراقه وهيمنته وعلمه سبحانه بـ«خائنة الأعين وما تخفي الصدور»، وبحتمية لقائه والوقوف بين يديه والعرض عليه للحساب يوم الدين: «يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم».
كما أن العبادة في الإسلام لا تنفك تذكر المسلم بموقعه الحقيقي من الوجود، وبخلافته في الأرض. وآية ذلك أن الله، عز وجل، قرن في كتابه الكريم بين إخلاص العبادة والتمكين في الأرض، فقال سبحانه: «وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون». على أن الوصول إلى هذا المقام (معرفة موقع الإنسان من الوجود) يقتضي - فيما يقتضي - أن يقف المرء أولا على حقيقة وغاية الشعائر التعبدية حتى يصبح قيامه بها بمثابة الإشعاع المضيء الذي يضيء له ولمن حوله من الخلق.

خاصة أن من الشيء المستحيل في حق الخالق، عز وجل، أن يكون قد فرض علينا عبادة خالية من المعنى، فارغة من الحكمة، وهو الذي زودنا بعقول لإدراك الغايات البعيدة وفهم الأهداف القريبة، فقال سبحانه في حق كتابه: «لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون»، وقال أيضا: «إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون»، «قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون»، «كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون»، «كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون»، «إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون».. إلى غير ذلك من الآيات.

وعلى الرغم من استحالة أن يكون الله، سبحانه وتعالى، قد سخرنا كالتروس الميكانيكية التي لا تعرف الحكمة في حركتها ودورانها؛ فإن بعضا منا لا يزال يستنكر القول إن غاية العبادات في الإسلام تكمن في تزكية النفس! ناهيك عمن يتهم القائلين بذلك صراحة بأنهم يعملون على هدم الإسلام، واصفين دعوتهم بـ«الخبيثة»!! في حين يتذرع البعض الآخر بالتساؤل: ولماذا لم يأتنا هذا الاستنباط في كتاب الله نصا صريحا وفي سنة رسوله، إذا كان هذا الاستنباط مفروضا علينا كما تقولون؟! متجاهلين بذلك اعتبار أن الله، سبحانه وتعالى، قد وهبنا وسيلة لإدراك هذا الاستنباط، وجعله حجة علينا كما تفيد بذلك الآيات السابقة، ناهيك عما ورد عنه، صلى الله عليه وسلم، من تشبيهات تقرب المعنى المقصود من العبادة، كقوله في أمر الصلاة: «أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم.. فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بها الخطايا»، حيث وصفها بأنها بمثابة الطهر والغسل المعنوي مما ران على المصلي من لمم وذنوب قبلها.

وبالعودة إلى إمكانية استكشاف موقع الإنسان في الوجود بتدبر غائية العبادات، يمكن القول: إن الإنسان يتذكر بدنه من غير مذكر، إذ يدفعه الجوع أو العطش إلى الطعام والشراب، وذلك في محيط أو دائرة نفسه، مثلما يتذكر زوجه وأولاده بحكم قربهم منه، وذلك في محيط عائلته، ويتذكر من يشاطرونه المقام في الوطن، وذلك في محيط قومه.. إلخ. وهكذا كلما ابتعد الإنسان عن محيطه القريب وعاجله وآجله وحاضره، كان أحوج إلى من يذكره بدوائر انتمائه، وكلما كان وعيه للبعيد الآجل قويا كان أقرب إلى الكمال، وأرقى روحا وعقلا.

ولذا، فإن الحلقة النهائية من الحلقات التي يتموضع فيها الإنسان، والدائرة القصوى التي تعد أهم الدوائر، هي تلك التي تحدد موقعه من الكون وخالقه، باعتباره جزءا من الكون أولا، ثم تريه موقعه هو من الكون باعتبارهما وجودا عارضا بالنسبة إلى الوجود الأزلي ثانيا، فيستقر في وجدانه أنه مخلوق لخالق، وخاضع لمخضِع، ومأمور لآمر، وضعيف بالنسبة لقوي، ومفتقر لغني عن وجود ولقائم بنفسه وذاته.

تتوسط العبادات في الإسلام إذن بين كل من: العقيدة من جهة، والمعاملات من جهة أخرى. ومرد ذلك أن العقيدة الصحيحة هي أساس العبادات، كما أن الأخلاقيات والسلوكيات العملية لا يستقيم أمرها إلا بعد تمام كل من: العقيدة والعبادة معا. ومن هنا تبرز وسطية العبادة هذه أهميتها لجهة أنها الوسيلة الأكيدة لإحداث الوعي بالشريعة وصاحبها من جهة، وربط الدين بالدنيا من جهة أخرى. فبينما تربط العقيدة الإنسان بخالقه متجاوزا بذلك روابطه الأخرى: الشخصية القريبة، والغيرية البعيدة، تربط العبادة صاحبها برباط آخر: بحياته وواقعه، بإنسانيته وغايته، بمبدأ وجوده ومنتهى بشريته.

يتحصل مما سبق، أن المؤمن الحقيقي هو ذلك الذي يدرك أن بلوغ أرقى مراتب الوعي الإنساني مرتبط - بالدرجة الأولى - بإدراك موقعه من الكون والحياة، وأن جوهر العبادة في الإسلام يجيب بسهولة بالغة عن الأسئلة الثلاثة التي حيرت الإنسانية ردحا طويلا من الزمان، ألا وهي: من أين؟ وإلى أين؟ ولماذا؟ حيث عبرت الآية القرآنية الكريمة: «وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون» عن الغاية الكبرى التي انتدب الله، سبحانه، الإنسان لأجلها، بعد أن عجزت السماوات والأرض والجبال عن حملها وأشفقن منها: «إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا».

ومما يدل على كون العبادة بمثابة تجديد للعهد مع الله، سبحانه، ما ورد من تأكيد على ضرورة توافر النية لكل عمل تعبدي حتى يكون العبد المؤمن يقظا لكل ما يأتي من تعبد يناجي به ربه من عهود ومواثيق. فبالنية الصادقة تتجمع العزائم مع العقائد حتى يصبحا شيئا واحدا، فلا يكون للغفلة سبيل ولا سلطان على صاحب النية الصادقة، والوعي الحاضر والعزم المتين. وبذلك نفهم معنى الاستثناء الإلهي من قول إبليس: «رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين».

على أن العبادة في الإسلام تتميز بمجموعة من المزايا الفريدة في مقدمتها: شموليتها، حيث أسبغ الإسلام على جميع أعمال الإنسان - تقريبا - صفة العبادة، شريطة إخلاص النية لله تعالى. ولعل من أبرز الآيات القرآنية التي تبين هذا المعنى بوضوح تام ما قاله، سبحانه وتعالى، في معرض حديثه عن المجاهدين في سبيله: «ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون». على نحو ما سنفصل القول فيه لاحقا.

* كاتب مصري