ذلك "الصحوي" الذي أجهدته أثقاله



الكاتب: محمد صالح الشمراني

مازلتُ أذكر بحنين وإكبار.. حديثَ ذلك الشاب "الصحوي" العظيم، كان يحادثني بحرقة، وحمية، عيناه تُصدِّق ذلك وتُثبته، كان يُعلِّق على إحدى "المخالفات الشرعية" في بلاد الحرمين الشريفين، والتي جاءت بدعم ومباركة "عليا"، يُقسم بالله أنه لم يستطع النوم ليلة البارحة، بات حزيناً، يحترق فؤاده، ويؤرقه همه، ويتضاءل مع ذلك جسده النحيل !

جلستُ مرةً أتأملُ حالَ هذا الصديق "الصحوي"، وأحوال "شباب الصحوة" من خلفه.. أَستعرضُ تاريخهم، ومنجزاتهم، وفِعالهم، تراءيتُ كل ذلك جملةً واحدة، فلم أتمالك نفسي حينها، ولم أشعر إلا وأنا أنحني إجلالاً وتقديراً لهم، أستغفر الله.. لم أنحنِ لهم على الحقيقة، بل كان مجرد خيال عابر، مرّ أمام ناظري سريعاً.

أُقسم ثلاثاً.. بأني أحبك أيها "الصحوي" الأنيق، أنت أنيقٌ بفكرك، وعالميتك، واهتماماتك، وهمومك، أعلم يقيناً بأنك تحمل هموماً وطموحات عظيمة، ربما هي أكبر بكثير من قدراتك البشرية المحدودة، ولكن.. كذلك هم العظماء دوماً، يَحرقون زهرة شبابهم لأجل إسعاد البشرية.

"الصحوي".. كائنٌ خرافي، بطاقةٍ عظيمة لا تنضب، ولا تنتهي، يُنشئ مشاريعَ، يبتكرها، يزور العلماء والوجهاء، يدعوهم للعمل لدين الله، ولتصحيح الأخطاء، وفي نفس الوقت.. يَنظر هذا الصحوي العظيم إلى تتابع المخالفات الشرعية من حوله، فيتألم، ويحزن، فهو يريد تحقيق مراد الله، وتحكيم شريعته "من دون نقصان" !

الصحوي؛ عالميةٌ هي أفكاره، وتطلعاته، لا يُلهيه الانتباه إلى موضع قدميه عن التفكير في أولئك القاطنين في أقاصي الدنيا، فهو لا يمل السؤال عن أحوال إخوته المهجر، يسأل عن مآلات جهادهم في أفغانستان وأخواتها، يتعاطف لأجل مُسلمة تؤذى في حجابها، يحترق لأجل إهانة مقدساته، يحزن لأجل مصائبَ أو كوارث تحل بالمسلمين هنا أو هناك، يهتم بالإصلاح في معناه الشمولي الواسع.

يرفع "الصحوي" عينيه إلي السماء، يتفحص نجومها، يُطيل التأمل في قمرها، تلسعه المسئولية بحرارتها، وثقل وطأتها، فتذرف دمعاته، يتمنى الخير للكون كله، يتمنى أن يشاركه فيه جميع البشر، يتمنى لو خُلق بألف روح، وألف قلب، وألف جسد.. لينذرها لله وحده.



الصحوي؛ لا يتملّق سياسياً، ولا سلطاناً، ولا وطناً، ولا يلهث خلف منصب أو جاه، مرجعيته وولاؤه لدينه، لأجله يحيا، ويخاصم، ويموت، هو صاحب مبدأ راسخ، وعقيدة متجذرة، لا يزايد عليها، كل أعاديه يعرفون ذلك ولو أنكروه، أما غيره من أصحاب "الموضات الفكرية" فلربما باع كلَّ أفكاره، وكل قناعاته التي أزعجنا بها، وملأ الصفحات بتكرارها.. ربما يبيع كل ذلك بمكالمة واحدة من أحد أصحاب المعالي، لأجل سواد عينيه يتنازل عن كل شيء، قد يبيعها لأجل ذلك، أو لأجل عمود صحافي أو تصدير إعلامي !

بل.. هل تصدقون إنْ قلتُ بأن بعضهم يبيع مبادئه وأفكاره بثمنٍ بخس، من أجل رشفةٍ واحدة من "كأس فوار"، في سهرة ملونة، مع عشيقةٍ "حمراء" ملتهبة ؟!

أليس من المسلّم به أن هذا الصحوي هو الشخص الوحيد في "الساحة" الذي قدّم دماءه وجسده وماله قُرباناً بين يدي فكرته ؟ هل يحتاج ذلك إلى بيان واستدلال ؟!

ألا يكفي أن "شانئه" لا يُحسن سوى تدبيج المقالات والخطب في سبيل اصطياد هفواته، وتضخيم أخطائه ؟! يَكتبُ مقالَه المحشو حقداً وبهتاناً في وضعية "خاصة جداً"، إنه يكتب تشنيعه وتحريضه الرخيص..بنفسية رائقة للغاية، وهو ينشق نوعاً ثميناً من السجائر، وينتظره موعدٌ غرامي متجدد.. مع إحدى الغواني بعد منتصف الليل!

كلما أقرأ مثل هذا الحيف والبهتان العظيم في حقه؛ فلا أدري لماذا أتذكر فوراً أولئك المربين "الصحويين" العِظام، لا أدري ماهو الرابط بين الموضوعين! إلا أنني أتذكر أن أحدهم يقضي عمره بين الفتيان، يعلمهم دينهم، ويتفانى في تربيتهم، وتكريس الانتماء في قلوبهم، يبذل من ماله ووقته، يغيب عن أهله طويلاً، لا تكاد تستطيع ضرب موعد معه.. كلما أرى عظيماً من هذا الصنف، وأرى لحيته التي اختلط بياضها بسوادها، فإني -ولعمر الله- أخجل من نفسي، وأدعو كل شخص نالهم بسهامه أن يجرب "الخجل من نفسه" ولو قليلاً، على الأقل يجربه مرة واحدة في حياته، ويتفكر ولو برهة قصيرة قبل أن يدنس "ذاته" بيديه!

ليس ذلك فحسب، بل إن هذا الصحوي العظيم؛ فَعل الممكن وضِعفه معه، فقد ضربَ بسهمٍ في كل شيء، فقط.. قلِّب ناظريك ذات اليمين وذات الشمال، ستجد أنه ملأ الدنيا وشغل الناس، فقد أنشأ دوراً للتربية المتخصصة، نشر العقيدة الصحيحة في كل مكان، أجهز على كثير من البدع والخرافات، رسّخ التدين في قلوب الناس، نابذ بشراسةٍ كل الأفكار المستوردة، أحيا شعيرة الجهاد في سبيل الله.. حتى لا تكاد تجد "ساحة جهاد" إلا والصحوي في طليعتها يحمل سلاحه ودعوته !

كما كان في طليعة المساهمين إنشاء الهيئات التطوعية؛ الطبية منها، والإنسانية، والأخلاقية، وتنفيذ المؤسسات الاجتماعية المختلفة التي تهتم بكافة أطياف المجتمع، بدءاً بالمؤسسات المتخصصة في العناية بالأطفال، وكذلك الشباب، والفتيات، وكبار السن، مرورا بخدمة العزاب، والعوانس، والفقراء، والمرضى، وأصحاب السوابق، والمجرمين، والمساجين، .. !

ليس ذلك فحسب، بل خيره وصل إلى أصقاع الدنيا، إلى أدغال أفريقيا المظلمة، فأنارها، واستحوذ على قلوب أهلها، كما ضرب له بسهم كبير في الأنشطة المعرفية.. تأليفاً، ونشراً مرئياً، ومقروءاً، ومسموعاً.

أليس هو من ابتكر فكرة المخيمات، المهرجانات، والفعاليات الشعبية المختلفة ؟!

لقد فعل كل ما يمكنه فعله، وزيادة !

أرجوكم.. ذروني أتغنى به وحده، وأفخر به، وأقف احتراماً بين يديه.. في زمن التراجعات، وزمن الأفكار المستوردة، وموضة النقد القاسي، وجلد الذات.

إنه باختصار.. الأب الشرعي والروحي لفكرة العمل التطوعي والاجتماعي في منطقتنا !

بعد كل ذلك وأكثر، يأتي أحدهم وبكل برود، وصفاقة.. واضعاً يده على وجهه الخالي "تماماً" من الشعر والمروءة، ويزم شفتيه بتكلف ووضاعة، ويقول: ما هي إيجابيات الصحوة ؟! هؤلاء الصحويون هم أساس البلايا، ومستودع التطرف، أين هي إنجازاتهم، ومساعيهم في خدمة المجتمع ؟! لابد من اجتثاث فكرهم، وتخلفهم، و... !

صدقوني.. بأنني أحتار كثيراً في معرفة الأسلوب الأمثل الذي يجب أن يُتخذ إزاء هذه "الكائنات العجيبة"..!

فهل لديكم اقتراح فعّال، يناسب "دناءة المقام" ؟!

بعد كل هذا؛ ألم تؤمنوا لي، وتصدقوا : كم هو أنيقٌ وعظيمٌ هذا "الصحوي" ؟!

***

ثم ماذا بعد ؟!

أعرف وتعرفون.. عدداً من نقاط ضعف هذا "الصحوي"، وقصوره، وبعض الجوانب التي تأخر فيها، وربما أخفق فيها، ولكن ليس هذا موضع مثل ذلك، فأنا الآن أتغنى بروعته، وأناقته، وكبريائه النادر.. فانصرفوا راشدين!

ثم ماذا بعد.. أيضاً ؟!

أعرف وتعرفون.. أن جسد هذا "الصحوي" تنتشر فيه بعض الجراح، وبعض الخدوش، وبعض الآلام، تسببت بها فئة قليلة تجمع بين "السلطة" و "الدناءة"، تحيك له، وتوصد الأبواب دونه، وتتمنى له التعثر، والسقوط..!

ولكن.. عليهم أن يعوا جيداً بأن هذا الصحوي قد يكبو جواده، وقد تُثلم بعض أطرافه، وربما يتعثر؛ لكنه أبداً.. لا يسقط، وأبداً لا ينحني، هامته تعلو، وهمته ترتفع، والجراحُ تبقى دوماً في عينه جراحاً، وستلتئم يوماً ما، بل ستستحيل براكينَ تحرق كل من تورط فيها !

بالله عليك أيها الصحوي الأنيق، لا تقلق إن قالوا بأنك تعيش "أصعب أيامك"، أو أنك تتخندق حول عباءتك العتيقة، وتمارس دور المدافع، لا تقلق أبداً -فإنْ هم صدقوا- فمركز الدفاع ليس معيباً، بل وقف فيه حبيبك الكريم، وصحابته من خلفه، وتيقن بأنه سيأتي ذلك اليوم الذي تتخلى فيه عن "وضعية الدفاع"، وسيجيءُ لا محالةَ يومٌ تلوِّح فيه بحربتك، وتستعرض بها متبختراً في طليعة المشهد.

صدقني.. بأنه سيأتي ذلك اليوم الذي تَكتب فيه بيانك الانقلابي الأول، وتصدح بأغنيتك الصاخبة الأولى..

صدقني بأنه قريب !

فقط.. تحلّ بطول النفَس، وتربص، وانتظر.. فإنا منتظرون.