لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن الله -تعالى- أنعم علينا بنعم عظيمة لا تقدر بثمن؛ فهي أغلى وأنفس من الدنيا وما فيها، فمن هذه النعم العظيمة: نعمة العمر الذي هو الوقت والأيام، والليل والنهار، والدقائق واللحظات؛ فهو من أعظم نعم الله -عز وجل- على العباد.

وهو رأس مال العبد، وهو الثروة النفيسة الغالية التي يمتلكها العبد، ولكن كثيرًا من الناس أهدروها! فما عرفوا قدرها، ولا قيمتها؛ فهي الثروة المهدرة.

ومن عِظم هذه النعمة الغالية والثروة النفيسة أقسم الله -تعالى- بها؛ لبيان أهميتها وقدرها؛ فأقسم الله -تعالى- بالعصر، وبالليل والنهار، والفجر، والضحى؛ فقال الله -تعالى-: (وَالْعَصْرِ . إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ . إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر)، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "العصر هو الزمن".

قال الرازي -رحمه الله-: "أقسم الله بالعصر لما فيه من الأعاجيب؛ ولأن العمر لا يقوم بشيء نفاسة وغلاءً".

وقال الله -تعالى-: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى . وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى) (الليل:1-2).

وقال -تعالى-: (وَالضُّحَى . وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) (الضحى:1-2).

وقال -تعالى-: (وَالْفَجْرِ . وَلَيَالٍ عَشْرٍ) (الفجر:1-2).

وقيمة العمر أو الوقت تكمن في أن الله -تعالى- جعله فرصة للإيمان والعمل الصالح، وهما سبب السعادة في الدنيا والآخرة.

قال الله -تعالى-: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) (الفرقان:62).

قال بعض السلف: "من فاته طاعة الله بالليل كان له من أول النهار مستعتب، ومن فاته طاعة الله بالنهار كان له من أول الليل مستعتب".

ودلت السنة المطهرة كذلك على أهمية العمر الذي هو الزمن، وخطره وقيمته في العمل الصالح والتزود منه ليوم الحساب، وأن التفاضل بين الناس في الخيرية إنما هو باستثمار الأعمار في حسن العمل، وأن العبد يسأل عن عمره الذي هو الهبة الربانية, والنعمة الإلهية، فيسأل العبد يوم القيامة سؤالين عن الزمن: عن عمره فيما أفناه عامة، وعن شبابه فيما أبلاه خاصة.

قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ تَزُولُ قَدَمَا ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ، وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ) (رواه الترمذي، وقال الألباني: صحيح لغيره).

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (خِيَارُكُمْ أَطْوَلُكُمْ أَعْمَارًا، وَأَحْسَنُكُمْ أَعْمَالا) (رواه أحمد والبزار، وصححه الألباني).

- وعن أبي بكرة -رضي الله عنه-: أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: (مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ). قَالَ: فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ قَالَ: (مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).

فالزمن من جملة أصول النعم، فهو: نعمة جليلة ومنحة كبرى، لا يدريها ويستفيد منها كل الفائدة إلا الموفقون الأفذاذ الذين يدرون قدرها وقيمتها، وإلا فإن أكثر الناس مغبونون فيها، يضيعونها ثم يندمون عليها في وقت لا ينفع فيه الندم، والموفق من بذلها في طاعة الله، فكل نفَس من أنفاس العمر جوهرة ثمينة، والسعيد من اشتراها في الخير، والزيادة في الحسنات وفعل الطاعات والصالحات.

عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ: الصِّحَّةُ، وَالْفَرَاغُ) (رواه البخاري). والغبن هو: عدم معرفة قدر الشيء وقيمته ونفاسته، فيبيعه صاحبه بثمن بخس أقل من قيمته بكثير؛ فيخسر قيمته، ويبخس ثمنه.

قال قتادة -رحمه الله-: "اعلموا أن طول العمر حجة".

فنعوذ بالله أن نعيَّر بطول العمر، قال الله -تعالى-: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) (فاطر:37).

قال يحيى بن معاذ الرازي -رحمه الله تعالى-: "الفوت -ضياع الوقت- أشد من الموت؛ لأن الفوت انقطاع عن الحق، والموت انقطاع عن الخلق". فالموت يقطعك عن الدنيا وأهلها؛ أما الفوت فإنه يقطعك عن الله وعن الدار الآخرة.

فالعبد يزداد خيره وعمله بطول عمره أو ببركة عمره، فطول العمر خير للمؤمن؛ لأنه لا يزيد المؤمن إلا خيرًا.

قال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِم..ِ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني)، وذلك لشيبته في الإسلام، وكثرة عمله الصالح وحسنه.

ويزداد عمل المسلم وخيره ببركة عمره، فيعمل العمل الكثير في الوقت القليل، فيكون عمله أكثر من غيره ممن طال عمره.

نظر العلماء إلى علم الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- فقالوا: "ينبغي أن يكون إمامًا وهو في بطن أمه"! أي ما حصَّله من العلم في عمره المبارك يزيد على ما حصله غيره ممن طال عمره.

عن عائشة -رضي الله عنها- قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (وَصِلَةُ الرَّحِمِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ وَحُسْنُ الْجِوَارِ يَعْمُرَانِ الدِّيَارَ، وَيَزِيدَانِ فِي الأَعْمَارِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

فهذه الخصال الثلاث تزيد في العمر، وتملأ الديار خيرًا وبركة ورزقًا، وزيادة العمر إما على الحقيقة بما في اللوح المحفوظ بما قدره الله -تعالى- زيادة في عمر العبد الذي يصل رحمه ويحسن خلقه ويحسن جواره دون غيره من الناس فهو أقصر عمرًا منه؛ لفقده الخصال الثلاث، أو الزيادة هنا هي البركة في العمر، فيعمل الأعمال الكثيرة في الزمن القصير فيعوض طول عمره ببركة فيه.

وعن عمرو بن سهل -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: (صِلَةُ الْقَرَابَةِ مَثْرَاةٌ في المَال مَحَبَّة فِي الأَهْلِ مَنْسَأَةٌ فِي الأَجَلِ) (رواه الطبراني والطيالسي، وصححه الألباني).

قال الشافعي -رحمه الله-: "صحبت الصوفية فما انتفعت منهم إلا بكلمتين: سمعتهم يقولون: "الوقت سيف، فإن قطعته وإلا قطعك"، ونفسك إن لم تشغلها بالحق وإلا شغلتك بالباطل".

الوقت أعز شيء يغار عليه أن ينقضي بدون منفعته، فإذا فاتك الوقت لا يمكنك استدراكه البتة؛ لأن الوقت الثاني قد استحق واجبه الخاص، فإذا فاته وقت فلا سبيل له إلى تداركه.

يقول ابن القيم -رحمه الله-: "أعلى الفِكر وأجلها وأنفعها ما كان لله والدار الآخرة، فما كان لله فهو أنواع.. ".

ثم قال -رحمه الله-: "النوع الخامس: الفكرة في واجب الوقت ووظيفته، وجمع الهم كله عليه، فالعارف ابن وقته، فإن أضاعه ضاعت عليه مصالحه كلها، فجميع المصالح إنما تنشأ من الوقت، فمتى أضاع الوقت لم يستدركه أبدًا".

يقول ابن رجب -رحمه الله-: "السعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات؛ فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار، وما فيها من اللفحات".

عن مجاهد -رحمه الله- قال: "ما من يوم إلا يقول: ابن آدم.. قد دخلت عليك اليوم ولن أرجع إليك بعد اليوم، فانظر ماذا تعمل فيَّ فإن انقضى طواه، ثم يختم عليه فلا يُفك حتى يكون الله هو الذي يفض ذلك الخاتم يوم القيامة".

عن بكر المزني -رحمه الله- أنه قال: "ما من يوم أخرجه الله إلى أهل الدنيا إلا ينادي: ابن آدم اغتنمني لعله لا يوم لك بعدي، ولا ليلة إلا تنادي: ابن آدم اغتنمني لعله لا ليلة لك بعدي".

يقول ابن الجوزي -رحمه الله-: "ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه، وقدر وقته فلا يضيع منه لحظة في غير قربة، ويقدم الأفضل فالأفضل مِن القول والعمل".

وقال أيضًا:

"والذي يعين على اغتنام العمر أو الزمن: الانفراد والعزلة مهما أمكن؛ إلا أن يخالط الناس في الخير: كالجمعة والجماعة والأعياد، والحج، وتعليم العلم، والجهاد، والنصيحة، ويعتزلهم في الشر وفضول المباحات، والاختصار على السلام، أو حاجة مهمة لمن يلقى، وقلة الأكل؛ فإن كثرته سبب النوم الطويل، وضياع الليل، ومن نظر في سير السلف وآمن بالجزاء بان له ما ذكرته؛ لأن مخالطة أهل الدنيا مضيعة للوقت، قاطعة طريق الآخرة".

وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزدد فيه عملي".

قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: "إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما".

وقال الحسن البصري -رحمه الله-: "يا ابن آدم إنما أنت أيام، فإذا ذهب يوم.. ذهب بعضك"، وقال أيضًا: "أدركت أقوامًا كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصًا على دراهمكم ودنانيركم".

قال ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-: "الكسل عن الفضائل بئس الرفيق، وحب الراحة يورث من الندم ما يربو على كل لذة، فانتبه وأتعب نفسك، واندم على ما مضى من تفريطك، واجتهد في لحاق الكاملين ما دام في الوقت سعة، واسق غصنك ما دامت فيه رطوبة، واذكر ساعتك التي ضاعت فكفى بها عظة، ذهبت لذة الكسل فيها، وفاتت مراتب الفضائل، وإنما تقصر الهمم في بعض الأوقات، فإذا حُثَّت سارت، وما تقف همة إلا لخساستها، وإلا فمتى علت الهمة فلا تقنع بالدون".

وقال النووي -رحمه الله تعالى-: "ينبغي للمتعلم أن يغتنم التحصيل في وقت الفراغ والنشاط، وحال الشباب وقوة البدن، ونباهة الخاطر، وقلة الشواغل قبل عوارض البطالة".

إذا كان رأس المال عمرك فـاحترز عليه من الإنفاق في غير واجب

فبين اختلاف الليل والصبح معرك يـكـر علينا جـيـشـه بالعــجائـب

فالله الله في مواسم العمر.. والبدار البدار قبل الفوات.. واطلبوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات رحمة ربكم، واعملوا الليل لما خلق، واعملوا النهار لما خلق له.

نسأل الله -تعالى- أن يبارك لنا في أعمارنا وأوقاتنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.