سيرة وحياة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز وما قيل فيه من شعر ونثر

آخـــر الـــمـــشـــاركــــات


مـواقـع شـقــيـقـة
شبكة الفرقان الإسلامية شبكة سبيل الإسلام شبكة كلمة سواء الدعوية منتديات حراس العقيدة
البشارة الإسلامية منتديات طريق الإيمان منتدى التوحيد مكتبة المهتدون
موقع الشيخ احمد ديدات تليفزيون الحقيقة شبكة برسوميات شبكة المسيح كلمة الله
غرفة الحوار الإسلامي المسيحي مكافح الشبهات شبكة الحقيقة الإسلامية موقع بشارة المسيح
شبكة البهائية فى الميزان شبكة الأحمدية فى الميزان مركز براهين شبكة ضد الإلحاد

يرجى عدم تناول موضوعات سياسية حتى لا تتعرض العضوية للحظر

 

       

         

 

    

 

 

    

 

سيرة وحياة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز وما قيل فيه من شعر ونثر

صفحة 4 من 4 الأولىالأولى ... 3 4
النتائج 31 إلى 37 من 37

الموضوع: سيرة وحياة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز وما قيل فيه من شعر ونثر

  1. #31
    تاريخ التسجيل
    May 2006
    المشاركات
    8,993
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    26-02-2024
    على الساعة
    08:13 AM

    افتراضي

    ذكريات أليمة
    عبد الله بن فرحة القرني
    قبل عشرين عاماً ونيفاً، وأنا أعيش في أحد أرياف منطقة عسير كانت أولى ذكرياتي عن سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله باز -يرحمه الله- فلقد كان الشخصية التي ارتبط اسمها بالسماحة والفتوى، والمرجعية الدينية في ذلك الريف قبل أن نعرف الهاتف والصحف أو تكون هناك أي وسيلة اتصال سوى المذياع، أو المسافرين الذين اغتربوا في ذلك الزمان لطلب الرزق، وحملوا لنا غريب الأخبار ومنها أخبار سماحة الشيخ وعلمه وزهده، وبراعته في الفتوى، والذكرى التي تركت أثراً مؤلماً في نفسي تلك الأيام، أن أحد أولئك المغتربين نقل لنا في إحدى ليالي السمر نحتفل فيها بهم خبراً مفجعاً عن أن سماحة الشيخ قد توفي، ولكن سرعان ما تبين أن سماحته بخير بعد أن نفى بعض الحاضرين المطلعين على الأخبار هذا النبأ فساد الأنس المجلس مرة أخرى، ولكن ذلك الخبر لم يمر عليَّ مروراً عابراً فلقد أصبحت أخشى وقوعه منذ ذلك اليوم، ولم تمر على تلك الأيام سوى أعوام قليلة عندما قدر لي أن أنتقل إلى الرياض في وفد طلابي، وكان المرة الأولى التي أفارق فيها قريتي لأعود إليها

    بذكريات ثلاث تركت أثراً في نفسي، الأولى: ركوب الطائرة عندما لم يكن أحد من أقراني أو الذي يكبرونني قد رآها بالعين المجردة فضلاً عن أن يركبوها، والثانية: عن الصحراء التي عشت فيها أسبوعاً كاملاً داخل خيمة، والثالثة: عن سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز عندما استضافته جامعة الإمام في ذلك المخيم، ورأيته على المنصة في موكب جليل، وتواضع جم، وسماحة لم أر مثلها، مرتدياً ثوباً لم أر مثله في حياتي مما جعلني أتوهم أنني أمام الحسن البصري الزاهد لولا يقيني "أني أعيش في القرن الخامس عشر، والعجيب في ذلك أن بساطته جعلتني أدرك أن هذا الإنسان يختلف عن أي إنسان آخر منذ أن عرفت معنى الإنسان، وكان القاسم المشترك بين هذه الذكريات الثلاثة هو العلو والرحابة والعظمة، ثم تدافعت الأيام والسنون حتى كان عام اثني عشر وأربع مئة وألف عندما صحبت أحد المشايخ إلى مكتب سماحته، وكان صاحبي هذا على علم بالفقه وأصوله وسعة إطلاعه يريد أن يستفتي سماحة الشيخ في أمور لا يفتي فيها إلا مثله؛ لأن قوله فيها هو الفصل ليس بالهزل. ولا أخفي أني ذهبت معه لا لشيء إلا لأستمتع برؤية سماحة الشيخ للمرة الثانية عن قرب؛ لأنه ما زال في نفسي شيء من ألم تلك الليلة المشؤومة التي نقل إلينا فيها ذلك المغترب خبره الكاذب عن وفاة الشيخ مع أنه يفصل بيني وبينها ما يزيد على أربعة عشر عاماً. ولا أنكر أني عندما اقتربت وصاحبي من باب المكتب غشيتني هيبة حتى لكأني سأدخل مكاناً مقدساً ذلك

    أني على أعتاب أكبر مرجع للفتوى في العصر الحديث. وما أن سلمت أنا وصاحبي حتى قام الشيخ وحيانا فقد كان يعرف صاحبي كما يعرف أحد أبنائه، وكنت أظن أنه سيصافحني ثم ينصرف لصاحبي، ولكنه على عادته أعارني اهتماماً فسألني عن اسمي كاملاً ومن أي قبيلة أنا؟ ثم عن تخصصي وحالتي الاجتماعية ثم دعا لي، وما هي إلا برهة حتى قمت وصاحبي من بين عشرات الجالسين مع سماحته إلى مختصر داخلي في مكتبه لأن فتوى صاحبي خاصة، ومع ذلك لم أسمع منهما وأنها معهما شيئاً، وإن كنت تعمدت عدم السماع إلا أنني كنت أيضاً مشغولاً بالتفكير في الشيخ والمكتب فقد اكتشفت أن له مكتباً مكوناً من طاولة وكرسي كأي مكتب لرجل مثله، لكنه لا يجلس عليه إلا نادراً أما المكتب العام الذي يستقبل فيه الناس ويقضي يومه فيه معهم ومع المعاملات التي تنهال عليه من أنحاء الأرض فيختلف عن مكتب أي مسؤول في الواقع المعاصر. ذلك أنك عندما تدخل على الشيخ لا تمر على المكاتب والدهاليز، ولا تمر الحجاب العابسين أو المفتونين بتعطيل مصالح الناس، بل تدخل من الباب الرئيس ليكون الشيخ أول جالس أمامك ليس له مكان مميز، وإنما هو جالس على كرسي "كنب" أصفر اللون تماماً كالذي يجلس عليه الحاضرون لم يميز مجلسه عن الآخرين بشيء إلا أن الذي يجلس على الكرسي الأوسط هو صاحب السماحة، وأن الذين يجلسون على بقية الكراسي هم من أصحاب التعاسة مثلي، وما هي إلا برهة حتى قمنا من ذلك

    المجلس. ولم أكد استوعب تلك الفترة في لحظتها لأن الخواطر والرؤى كانت تمر في ذهني بسرعة كأنها لمعان أضواء المصورين عندما يستقبلون أحد الرؤساء.
    ألح الشيخ علينا إلحاحاً شديداً لنتناول معه وجبة الغداء وكلنا انصرفنا ومعي صاحبي وهو يحدثني عن كرم سماحة الشيخ وعن مجلسه العامر بالضيوف في كل غداء وعشاء حتى ذكر لي أن الشيخ يصرف على هؤلاء الضيفان الذين يأتون من كل أنحاء العالم في مجلسه المفتوح ما يزيد على ألف ريال يومياً هي بالضبط المبلغ الذي يتقاضاه على عمله من الصباح إلى بعد صلاة الظهر، أما عمله إلى ما بعد العاشرة ليلاً فهو احتساب لا ينتظر الأجر فيه إلا من الله فلما حسبت ذلك وجدت أن راتب الشيخ لا يكفيه للضيافة فضلاً عن نفقات أمور البيت والصدقات وغير ذلك. وبعد هذا اللقاء مكثت يوماً كاملاً في حالة غريبة ذلك أن سماحة الشيخ كان أول عظيم ألتقي به في حياتي فهو المرجعية الدينية الأولى في العالم بلا منازع شاء الله ألا تكون إلا له، فالسماحة والفتيا أصبحتا سمتين بارزتين لا ينصرف الذهن إلى غيرهما عندما يرد اسم الشيخ، ولعل بعض طلابي الذين درست لهم في الجامعة يذكرون تلك اللحظات النادرة عندما اصطحبتهم في أحد أيام النشاط الطلابي إلى سماحة الشيخ فكان يوماً عجيباً من أيام حياتهم رأوا فيه السماحة والعلم واستفتوا حتى نفضوا ما في جعبهم من التساؤلات ولم يجدوا ما يسألون عنه، وليس العجيب

    في مقدرته على الفتوى فغيره يفتي، ولكن سماحته يختصر الطريق ويقع على الدليل كما تقع النحلة على الرحيق، ويحكم بالاستدلال ويسهل المسألة فلا يفكر السائل في فتوى غيره لعلهم يذكرون ذلك اليوم جيداً وبخاصة في صبيحة هذا اليوم جيداً وبخاصة في صبيحة هذا اليوم الجمعة الذي شيع فيه مئات الألوف جثمان سماحته بجوار الكعبة المشرفة وسط حشد هائل من الشخصيات الإسلامية، يتقدمهم خادم الحرمين الشريفين -أثابه الله- وجمع غفير من العلماء وطلبة العلم والمحبين والعامة الذين ستكون عيونهم عندما تغيم بالدموع وأصواتهم عندما يجهشون بالبكاء أكثر شاعرية من المعلقات التي علقت حول الكعبة.
    وتصرمت الأيام وأنا كغيري من الناس الذين يتحسسون أخبار سماحة الشيخ عندما سمعت بالداء العضال الذي ألم به، ولم أشأ أن أنقل هذا الخبر لأن مجرد التفكير فيه فقط كان يؤذيني حتى كان يوم الخميس السابع والعشرين من المحرم في عام عشرين وأربع مئة وألف عندما التقم أحد الوعاظ مكبر الصوت بعد الفراغ من الصلاة وقام يحدث ويعظ عن الموت ويذكر المصاب الجلل دون أن يصرح بشيء فلم يقع في ذهني غير صاحب السماحة وما زال الواعظ يبكي ويرفع صوته حتى أيقنت أن سماحة الشيخ قد نضا ثوب الحياة ليترك علمه فينا شاهداً حباً على العبقرية الخالدة. وكنت في تلك اللحظة كما قال أبو الطيب:


    طوى الجزيرة حتى جاءني خبر




    فزعت فيه بآمالي إلى الكذب


    حتى إذا لم يدع لي صدقه أملاً




    شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي


    فأخذ المصلون على اختلاف جنسياتهم يتهدجون بالبكاء ولم يكن أحدهم ينظر إلى وجه الآخر، وكان يوماً على المؤمنين عسيراً، فاللهم أجرنا في مصيبتنا واخلفنا خيراً منها.

    ```


    كوكب غار ضوؤه




    بقلم الشيخ الأديب: عبد الله بن محمد بن خميس
    الآن يستريح المجاهد!! الآن يلقي الشيخ عصا الترحال الطويل، الآن تنقضي رحلة طويلة من الجهد والجهاد والمثابرة الدؤوبة فيما ينفع العباد في دينهم ودنياهم.
    وبالأمس القريب نعى الناعي الشيخ الجليل، بالأمس فقط عادت مسيرة الوداع المليونية وقد وارت الثرى جثمان الشيخ الطاهر، عادت ضارعة رافعة أكفها بالدعاء الطويل للشيخ بالرحمة والمغفرة، وقد غفر الله للخاطئين التوابين، فكيف بالشيخ الجليل وقد رفعت أكف جميع أهل هذه البلاد الطيبة المباركة في نهار يوم فيه ساعة لا يواتيها عبد وهو قائم يصلي ويدعو الله إلا واستجاب له الله، كيف بالشيخ وقد صلى عليه الملوك والأمراء والشيوخ والعلماء وعامة الشعب من تلامذته ومحبيه ومستمعي فتاواه وقارئي كتبه، كيف بالشيخ وما زال لسانه رطباً بذكر الله وقلبه مفعم بحب الله وخشية الله، كيف بالشيخ ووقته زاخر بعبادة الله وتفسير كتاب الله وتعليم شريعة الله، كيف بالشيخ ولم يزل رنين هاتفه لا ينقطع محدثاً للعباد ومفتياً في قضاياهم وناصحاً وهادياً

    لضالهم.
    وما أحسب أن هذه التقنية الحديثة حملت في أسلاكها حديثاً في الله مثلما حمله هاتف ابن باز.
    الناس يضنون بأرقام هواتفهم الشخصية حتى على الأصدقاء، ولكن هواتف الشيخ ورفاقه لم تكن شخصية بل كانت جماهيرية! وهكذا تكون الأثرة ونكران الذات.
    لم يكن وقت الشيخ ولا جهد الشيخ ملكاً لنفسه.. كان أباً حانياً على كل ابن ضال، يتعهده بالنصح والإرشاد حكمة وموعظة حسنة كان أخاً صادقاً صدوقاً لكل باحث عن الأخوة في الله، وكان شيخاً أميناً لكل باحث عن الحقيقة وكان معلماً للجميع.
    كان الشيخ عالماً نادراً في جيله وفي زمانه، نهل من بحور العلم يافعاً.. وقد حُرِم نعمة البصر في صباه، ومُنح نعمة البصيرة النافذة، هو كما قال الشاعر:
    هيهات أن يأتي الزمان بمثله




    إن الزمان بمثله لبخيل


    وكان الشيخ حكيماً.. ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً.. كان حكيماً في فتاواه.. حكيماً في تناوله لأخطر قضيا الأمة.. حكيماً حليماً في الرد على سفهاء الأمة وما أكثرهم.. يأخذهم باللين

    في مكان اللين وبالشدة في مكان الشدة.
    وكان الشيخ جريئاً..كان جريئاً في الحق..ما أن تحل بالأمة نائبة أو يدلهم بها خطب، إلا وتساءل الجميع.. ماذا يقول الشيخ؟
    كان الشيخ لسان الأمة الصادح بالحق وفؤادها النابض بالتقوى.. كان رأيها الصادق الأمين.. يصدر الفتوى جريئة قوية صادحة بالحق، فتطفئ لهيب الباحثين عن الحقيقة، وتوغر صدور الحاقدين.. ولم يكن الشيخ يأبه.. كان جريئاً في الحق.. لم تكن تأخذه فيه لومة لائم ولا عتاب جاهل ولا تقول زنيم.. كانت فتاواه وما زالت تقود خلافاً ويدور حولها جدول واسع كانت الدنيا تقوم ولا تقعد.. وهو ثابت كالجبل.. هادئ كالبحر.. شامخ كالطود.. لا تهزه ردود الأفعال ولا تثنيه عن كلمة الحق الأهوال.
    وكان الشيخ كريماً.. كان جواداً معطاء ينفق إنفاق من لا يخشى الفقر.. أقبلت عليه الدنيا فأعرض عنها ومنحها للغير.. وما أكثر ما لجأ إليه المحتاجون وطرقوا بابه.. كان بابه مفتوحاً.. يلجه الجميع في أي وقت يستقبلهم ببشاشته المعهودة ويقضي حوائجهم ما استطاع.. كان لا يرد أحداً أبداً، إن استطاع قضى حاجته وإلا فإن كتابه للمسؤولين كان أضعف الإيمان.. ولم تكن قياداتنا الملهمة الرشيدة ترد كتاباً لابن باز.. كانوا يعلمون أنه ما كتبه لا لدنيا يصيبها ولا لجاه يبتغيه ولا لنفع يرتجيه.. كان وجه الله هو غايته في دنياه..

    وكان وجه الله هو مراده في آخرته.. ولا نحسب إلا أن الله قد بلغه مراده، فهنيئاً لك أيها الشيخ بلقاء رب تحبه، ونحسبه يحبك.
    وكان الشيخ ودوداً.. يلقاك هاشاً باشاً.. في حديثه ألفة.. في ابتسامته مودة.. وفي ضحكته الخفيفة أدب وذوق، فهل فارقتنا تلك الابتسامة الودودة والوجه الطليق والصوت العميق الذي يتسرب بهدوء. وقوة في أعماق ووجدان وعقول سامعيه فيفعل فيها فعل السحر؟
    كان في حديث الشيخ لسامعيه ود وألفه تحسبه صديقاً قديماً.. ينادمك الفقه والتوحيد والعبادات.
    وكان الشيخ ناصحاً أميناً.. كان خير بطانة لخير قيادة.. التقى النصح بالعدل والعلم بالعمل فكانت خير زيادة لخير أمة أخرجت للناس حكماً وعلماً.. يقول الشيخ فتسمع له الأمة من أقصاها إلى أقصاها.. يقول الشيخ وقوله الحق.. فيقطع قول كل خطيب.. كان منار فخر لبلادنا ومصدر اعتزاز لأمتنا.. أعان الله خلفه.
    وكان الشيخ موحداً.. بل كان إمام الموحدين في عصره.. حمل راية التوحيد بأمانه وصدق وقوة في عالم إسلامي يضطرم بنار الفتنة والخلافات ويشتعل بفتيل الفرقة والشتات وتعشش في أرجائه البدع والخرافات.. فحمل الشيخ ورفاقه زماناً وما زلنا أكثر البلدان استقراراً في تطبيق شرع الله الحنيف وتثبيت دعائمه على هدي من كتاب الله المبين وسنة نبيه الأمين.. وكان وما زلنا مصدر إشعاع ونور هداية للأمة

    .. فجزى الله الشيخ ورفاقه عنا خير الجزاء.
    وكان الشيخ ممن أراد الله بهم خيراً ففقهه في الدين، وكان ممن أحبهم الله فحبب فيه خلقه.. كانت حياته كلها صدقة جارية من البر والإحسان للمحتاجين، والنصح والهداية للضالين، والعلم والفقه للباحثين عن الحقيقة.
    فدارت المطابع كأن لم تدر من قبل بمطبوعات ابن باز، ورن الهاتف كأن لم يرن من قبل بحديث ابن باز، وكتب الصحفيون والإعلاميون كأن لم يكتبوا من قبل آراء ابن باز وصدح المذياع والتلفاز كأن لم يصدحا من قبل بأحاديث ابن باز، فهل من صدقة جارية أكثر من هذه؟
    ثم اختاره الله إلى جواره.. فصلى عليه وشيعه أكثر من مليون مصل ومشيع في الحرم المكي وحده، وعدة ملايين أخرى في أرجاء المملكة نهار الجمعة المباركة، وآخرون من محبيه وتلامذته في معظم الأقطار العربية والإسلامية.. فأنعم بها من حياة.. وأنعم به من ختام كان الشيخ من زمرة من قال فيهم الشافعي:
    إن لله عباداً فطناً




    طلقوا الدنيا وعافوا الفتنا


    نظروا فيها فلما علموا




    أنها ليست لحي وطنا




    جعلوها لجة واتخذوا




    صالح الأعمال فيها سفنا


    فاللهم لا تفتنا بعده ولا تحرمنا أجره، وامنحنا اللهم بعد رحيله صبراً.. كما نفعت المسلمين بحياته حكمة وعلماً وموعظة حسنة.. واعن اللهم خلفه كما أعنته و )إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(.

    ```


    هذا النموذج لئلا يكذب التاريخ




    د. عبد الله بن محمد العجلان
    كل مسلم مدعو إلى المسارعة في الخيرات والتنافس في الطاعات والحياة ساحة رحيبة تتسع لكل المشاركين في هذا السباق إلى الله وكسب مرضاته والتماس عفوه وغفرانه، والعاقل من يدخل هذه الحياة بروح مؤمنة عاملة بطاعة الله كافة عن مناهيه مقدمة ما تستطيع من خدمة لهذا الدين والإسهام في استقامة المجتمع الذي يعيشه فيه وتسييره على جادة الحق ومنهج الصواب وتعبيده لله وتعريفه بحقيقة وجوده والغاية من هذا الوجود، والناس في هذا السباق المطلوب متفاوتون في المنازل )فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ(وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده وعلى العبد السعي وعلى الله نتائج الأعمال، والناس في الحياة شهود الله على عباده، ومحبة أولياء الله تقذف في القلوب وتحفر في ذاكرة المجتمعات المسلمة، والفضل يعرف بميزان الشرع وقدر الأعمال، ولله في كل شأن من الشؤون حكمة بالغة. ولا شك أن حدث وفاة والدنا الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز الذي نذر نفسه للدعوة إلى الله منذ فجر حياته من الأحداث الهامة والمؤلمة، وإن الأمة بأسرها تشعر بعظم الفاجعة وألم

    الفراق لوفاته، وأنها بفقد هذا العالم الجليل فقدت أعظم رجل في تاريخها الحديث هي في مرحلة أشد ما تكون إليه وإلى أمثاله حاجة لما يعيشه العالم الإسلامي من أزمة شديدة في عالم الفكر والأخلاق والقيم وفي الأطروحات التي تطرح في الساحة المجتمعية على مستوى العالم والمشاريع الهدامة التي يروج لها اليوم، والناس في هذه المرحلة أشد ما يكونوا إلى العلماء العاملين المخلصين الذين يملكون من موازين العلم الشرعي ما يزنون به كل الأطروحات ويكون لهم من الرصيد الشعبي والقبول الجماهيري ما يجعل قولهم فصلاً في مختلف الأطروحات والقضايا.
    وفقيدنا اليوم ليس فقيداً للشعب السعودي وحده، ولكنه فقيد العالم الإسلامي كله من أقصاه إلى أقصاه، وفقيد الدعوة الإسلامية والدعاة إلى الله، فقيد العلم والعلماء والمحققين وفقيد الفقراء والمساكين، فقيد كل المحتاجين والمنكوبين.
    فهو مع الدعاة الداعية الأول يجهر بكلمة الحق ويدعو إليها ويناصر أصحابها بكل ما أوتي من قوة وجاه، يدعمهم بالمال والتوجيه والرعاية وييسر لهم سبل العمل النافع ويرفد من يحتاج إلى رفد، ويرعى من يكون من الدعاة في حاجة إلى الرعاية ويخصص الرواتب والمكافآت للمستحقين من الدعاة إذا نابهم الزمان أو عضتهم الحاجة، يعمل كل ذلك في صمت وسرية لا يعلمها كثير من خواصه، راتبه

    لمساعدة الدعاة ومدارس العلوم الشرعية والدعوية لا يكف في طلب المساعدة من أهل الخير في طول البلاد وعرضها لهؤلاء الدعاة والمشاريع الدعوية.
    كما يبذل كل ما يملك من جاه وثقة الناس به في دعوة القادرين على بناء المدارس والمساجد ورعاية طلاب العلم في طول البلاد الإسلامية وعرضها وبفقد هذا العالم العامل فقد الدعاة شيخهم وإمامهم وأكبر سند لهم.
    فقيدنا في صفوف العلماء عالم متميز فهو من علماء الحديث قبل أن يكون من أئمة الفقه، وقد جمع الله له ما بين العلم بالأصول والفروع، وبين حسن المأخذ وسداد الرأي وحسن العمل والقبول عند العلماء، فإليه ينتهي العلم وبه يقطع الرأي.
    وقد حباه الله من كرم النفس ما جعله كريماً بماله وكريماً على طلاب العلم بوقته وكريماً على الجميع بحسن أخلاقه وكمال أدبه فهو مضرب المثل في التواضع وحسن الخلق والشفقة على الناس والرحمة بكل شرائح المجتمع، وضع الله له القبول في نفوس الناس والمحبة له عند الجميع، بيته مفتوح للناس كل الناس، ومعظم جلسائه وطلابه وزواره من الفقراء والمساكين وذوي الحاجة، لا يتناول طعامه إلا معه جمع من الناس معظمهم من الفقراء وطلاب العلم الوافدين من مختلف أقطار الأرض وبعض السعوديين، وهو بينهم يؤنسهم

    بالأحاديث ويسأل عن أحوالهم ويشاركهم في كل شيء على قدم المساواة.
    لا يشك من عرف فقيدنا بأنه فريد عصره ونموذج من النماذج التي ندرت في عالمنا الإسلامي اليوم -عالم الماديات- فقد كان زاهداً في الدنيا منذ فجر حياته، متجرداً للعمل بطاعة الله علماً وتعليماً ودعوة وجهاداً لا يفتر في ساعة من ساعاته أو يوم من أيامه، تأتي إليه الدنيا صاغرة فيدفعها بكلتا يديه، ويأتيه الجاه فلا يزيده ذلك إلا تواضعاً، ويقبل عليه الناس فلا يزيده ذلك إلا رحابة صدر واستغراقه لأكبر وقت يمكن بذله لهم في توجيههم وإفتائهم وقضاء حاجاتهم.
    لقد قرأنا في تاريخ بعض علماء أمتنا المسلمة على امتداد التاريخ ولا سيما في صدر الإسلام ما يشبه الخيال في سيرهم الوضيئة وحياتهم المشرقة، حتى ليخيل إلى القارئ أنه ممزوج بنوع من الخيال والصناعة لتلك السير ولكن حين شاهدنا وخبرنا حياة فقيدنا اليوم وما فيها من فضائل وشمائل يصعب حصرها وقد لا يصدق بكلها أقام عليها دليلاً بأن ذلك التاريخ حقيقة وواقعاً عاشه كثير من علماء هذه الأمة وأن هذه النماذج أقامها الله للعباد حتى لا يكذب التاريخ فيما نقل لنا من صفوة هذه الأمة ونماذجها الفذة، وأن هذه الأمة هي خير أمة أخرجت للناس وأن الخير باقياً فيها وفي دعاتها حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

    الصامد غير المتردد الفصل في الموقف حين اختلفت وجهات النظر في معالجة هذا الحدث، كما له مواقف مماثلة في أحداث أخرى، وكان يداً قوية في معالجة المشاكل على اختلاف مستوياتها، وكانت مواقفه في كل المناسبات معتدلة، يميل إلى معالجة الأمور بالحكمة والهدوء بعيداً عن الإثارة وكسب الجماهير، كان محل ثقة الحاكم والمحكوم، وكان واسطة خير بين المجتمع والدولة، وبين أفراد المجتمع كله، ويمثل خطاً ساخناً لنقل مشاكل الجمهور إلى القيادة.
    وإنني إذ أعزي نفسي وأهل وإخواني وكل المجتمع السعودي والدولة السعودية وأسرة الفقيد وإخواني الدعاة في العالم الإسلامي كله لأدعو الله أن يتغمد فقيدنا برحمته وواسع مغفرته.
    وأن أشكر دولتنا الرشيدة التي أكرمت هذا العالم الجليل طيلة حياته، كما أكرمته بعد وفاته وأن تكمل فضلها عليه وعلى الناس بوفاء ما عليه من دين بعد مماته، وهي جديرة بذلك إن شاء الله.
    ونرجو الله أن يجعل في ذرية فقيدنا الصلاح والفلاح وأن يخلفنا فيه خلفاً حسناً والله المستعان وهو الهادي إلى سواء السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل.


    ذلك الذي أفل: أمة .. في " رجل"




    عبد المحسن بن علي المطلق
    الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده مطلع:
    يُثني عليك لسان من لم تولهِ




    خيراً.. لأنك بالثناء جديرُ


    بعد أن ذهب هول المفاجأة.. وخفّ وقع النبأ.. وسلّم العبد بالقضاء، يستيقظ المرء.. ليردد:
    سبحان الله ما كل هذا الحب لذلك الفقيد؟ وما كل تلك الدموع التي انهمرت؟ والآهات.. التي سكبت.. والأحزان التي اندلعت على ذلكم الفقيد.
    ومن تابع الإعلام المقروء ليلاحظ حجم ما ثلمته الأمة.. من هذه الرزية كما قال عبد العزيز السالم: (وكما احتشدت الجموع الزاحفة من أنحاء البلاد للمشاركة في الصلاة على الشيخ الجليل وتشييعه إلى مثواه الطيب. كذلك احتشدت الأقلام الصادقة لتملأ صفحات الصحف بالحديث عن مآثره الطيبة نثراً وشعراً) هل لأنه أهل ذلك فقط -رحمه الله-



    أسبل الدمع.. فهذا وقته




    فلمثل الشيخ.. قد أعددته


    فإذا لم يبكه القلب.. لمن




    يا تُرى هذا البكا أوقفته؟


    أو لأنه النموذج الذي نخاف ألا نعوض مثله شمله الله برضوانه، أم لأنه الحبيب المحبوب! أم لأنه القدوة.. التي تتسنّم ذواتنا إليها؟
    أم لأنا.. وجدنا به ما نتمنى بنا
    كبير أن تكون لنا المصابا




    لقد متعتنا حججا..عذابا


    أم لأنه -رحمه الله رحمة واسعة- قدم لنا صورة المسلم الحقيقي، بل ربما لكل ذلك علم الله -وبلا تأله: أن لو كان خاصة الأمة- من علماء وولاة -مثل شخصه- تلميذ الإسلام النجيب لخضع للإسلام العالم.. بلا عتاد.
    فقد كان رحمه المولى إنساناً يتمثل المنهج الدعوي تطبيقاً وتوجيهاً.. ونصحاً.. وحباً.
    وكان يتمثل المسلم الحقيقي -في زمن عز على الكثير إلا ما شاء الله أن يكون كذلك- في صفاته وأعماله وكان المرآة العاكسة للسماحة والإخلاص والطيبة والعفو.

    وكان الرمز الذي يشار إليه.. لمن يشحذ القدوة... أو يلتمس نور المعرفة.
    وكان كالركن الذي يتمسح بنهج علمه وعمله.
    وكان معينه للذي يفهو إليه.. كل من يسلك طريق الدعوة والعلم.
    روى عنك أهل الفضل كل فضيلة




    فقلنا حديث الحب ضرب من الوهم


    فلما تلاقينا وجدناك فوق ما




    سمعنا به في العلم والأدب الجمِّ


    فلم نر شيخا قبل "بازنا"




    يصيد فلم يؤذي المصيد بدم


    بل... وكان.. وكان..
    إنه سماحة الوالد.. العالم العلامة/ الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 1330هـ/1420هـ.
    الذي تقلد في حياته الباكرة القضاء في منطقة الخرج والتدريس في المعهد العلمي بالرياض، وفي كلية الشريعة بالرياض، ثم عُيّن عام 1380هـ نائباً لرئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وفي عام 1390هـ تولى رئاسة الجامعة الإسلامية بعد وفاة رئيسها الشيخ محمد

    بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله-. وفي 1395هـ صدر الأمر الملكي بتعينه في منصب الرئيس العام لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد برتبة "وزير" ثم صدر الأمر الكريم في 20/1/1414هـ بتعيينه مفتياً عاماً للمملكة العربية السعودية.
    وله -رحمه الله- إلى جانب ذلك كله العمل في هيئة كبار العلماء التي كان رئيسها.
    والشيخ حنبلي في أصول الفقه لا أعرف له اجتهاداً يخالف الأصول عند الحنابلة، وهو حنبلي في الفقه بالجملة، ولكنه يجتهد في دائرة أصول أحمد على طريقة أهل الحديث، ويطلب الدليل، ولهذا خالف الحنابلة في مسائل يسيرة كزكاة الحلي، وبعض صور الطلاق البدعي ويستأنس بترجيحات شيخ الإسلام ابن تيمية.
    فقيد بني الإسلام في كل موطن




    يزينك بين الناس خلق مهذب


    فزهد: عنوان وحلمك واسع




    لك الصبر عزم والسماحة مذهب


    خدمت صروح العلم مذ كنت يافعاً




    وكهلاً لأعلام الشريعة مكسب




    يعز علينا أن تغيب في الثرى




    ولكن حكم الله ما منه مهرب


    نعم: حكم الله القائل سبحانه: )وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً(.
    لكن هي الدموع التي قال فيها e: ((إن القلب ليحزن.. وإن العين لتدمع ولا نقول إلا ما يرضي الرب، إنا لله وإنا إليه راجعون)).
    ودّعت دنيانا بجسمك بعدما




    ودعتها بالقلب منك سنيناً


    وزهدت فيها هي ذات تبرج




    جعلت محب دلالها مفتونا


    عزيت فيك العلم والعلماء قد




    منحوك حباً في القلوب ثمينا


    عزيت فيك المسلمين جميعهم




    فقدوا بفقدك مرشداً ومعينا


    فسبحان من بيده الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، وسبحان من فضل عباده على بعض، فجعل لهم من القبول والمحبة في قلوب الناس ما لا يستطاع تحصيله بمال ولا بجاه: )إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً(.. بل وَلِمَ لا؟ وحجة.. من له حاجة يردد

    وأفضل الناس ما بين الورى رجل




    تقضى على يده للناس حاجات


    واشكر فضائل صنع الله إذ جعلت




    إليك لا لك عند الناس حاجات


    إذ كان يعطي من علمه وماله وجاهه - ومن يملك لايوم مثل ذي الحسان.. إلا ما ندر - :
    وإذا امرؤٌ أهدى إليك صنيعة




    من جاهه.. فكأنها من ماله


    كيف لا.. وذاته " الكبيرة" تبدي عليه
    وإذا كانت النفوس كباراً




    تعبت في مرادها الأجسام


    وإليه تعيد:
    ولكن.. بالصبر تبلع ما تريد




    وبالتقوى يلين لك الحديد


    قرأنا في تاريخ الإسلام عن علماء منهم من صار مجتهداً في العلم فشغله ذلك عن العامة، ومنهم من زهد في الدنيا فلم يستطع قضاء حاجات الناس، ومنهم من اعتزل فلم يصبر على أذى الخليقة، ومنهم من أفتى ولم يؤلف، ومنهم من كتب ولم يعلّم..

    لكن " ابن باز" شيء آخر، جمع فضائل هؤلاء جميعاً،. فهو عالم مجتهد، رجل عامة، إمام زاهد ذو منصب وجاه أب للأرامل والمساكين، أفتى وحاضر وعلم وخطب وراسل وشفع وضيف ودعا وجاهد، فعلاً.
    كم مات قوم وما ماتت مكارمهم




    وعاش قوم وهم في الناس أموات!


    لكن..
    أخو العلم حي خالد بعد موته




    وأوصاله تحت التراب رميم


    وذو الجهل ميت وهو يمضي على الثرى




    يعد من الأحياء وهو عديم


    كان -كما قال ابن عقيل:
    كان -رحمه الله- شجى في حلوق المبتدعين، ولم يتفرغ للتأليف سوى كتيبات تمس إليها الحاجة، وإنما بث علمه بالتدريس والوعظ وحلقات القراءة والفتوى والردود على المخالفين والرسائل.. وعند الناس من رسائله التي لم تصدر بأرقام رسمية مئات.
    أمعلم الأجيال علم شريعة




    كادت عصور الجهل تحجب صوتها




    أنجبت من فقهاء عصرك أمة




    قد أثمرت بالعلم حيث غرستها


    وأريت -بالأخلاق- أية سيرة




    للمصطفى أثرتها فتبعتها


    ومع هذا.. فلا أظن أن بيتاً -في وطن التوحيد- يخلو إلا ما شاء الله من كتاب.. أو رسالة أو مذكرة أو حتى فتوى لعالمنا الفقيد -رحمه الله- .
    على أن له ما يقارب 210 مؤلف ثمين في شتى علوم الدين الإسلامي الحنيف ومنها مجموعة فتاوى من عدة أجزاء..
    للشمس فيه وللرياح وللسحاب




    وللبحار وللأسود وشمائل


    هزمت مكارمه المكارم كلها




    حتى كأن المكرمات قبائل


    علامة العلماء واللج الذي




    لا ينتهي ولكل لجٍ ساحل


    لو طاب مولد كل حي مثله




    ولد النساء وما لهن قوابل


    يا أبي: هل في نشيج مدادي.. ما يخفف عني.. فكان أن أسهبت هذه الأسطر عسى!

    رحلت.. وكنت ملء القلب أنساً




    وملء العين.. أصدقهم خطاباً


    لقد فزعت.. كل الناس حباً




    فكيف وأنت أزمعت الغيابا


    إمام العلم.. أوجعت المآقي




    وحزنك أسبل العين انسكاباً


    رحلت.. وأمة الإسلام.. تشكو




    من الأحداث.. أنكاها.. عذابا


    أبا العلماء.. والفقراء.. إنا




    نكاد نعيش دنيانا.. اغترابا


    رحلت.. وفي القلوب هواك يسري




    وحبك نبتة طابت.. وطابا


    لكني أعود.. مردداً إيجاز قول "إبراهيم التركي" بكاه الجميع:
    ألا التراب تضاحكت ذراته




    وشدت ترحب فاللقاء جميل


    رحم الله "عبد العزيز بن عبد الله بن باز" وأسكنه في "علّيين" مع الذين أنعم الله عليه من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

    ختاماً:
    تسلى الناس بالدنيا..




    وإنا لعمر الله بعدك.. ما سلينا


    للفقيد في سويداء القلب منزلة لا تدانى، إذ له من الأفضال ما لا يحصى وله من المآثر ما يندّ عن الحصر، ويكفيه علمه الشرعي، وإنَّ فقد "العالم" لخسارة عظمى..
    لعمرك ما الرزية فقد مال




    ولا شاة تموت ولا بعير


    ولكن الرزية فقد نفس




    يموت بموتها بشر كثير


    رحمك الله يا أبي رحمة واسعة، ونسأل الله أن يكتب أعمالك في ميزان حسناتك وأن يعوض المسلمين عنك خيراً.. وأن يلهمنا ويلهم الأمة الصبر والسلوان فيك أيها الفقيد الغالي و )إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ(..
    لكل اجتماع من خليلين فرقة




    وكل إلى دون الممات قليل







    وأنَّ افتقادي واحداً بعد واحد




    دليل على أن لا يدوم خليل


    جعلنا الله وإياه وإياكم ممن لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون.

    ```


    * الرياض: الثلاثاء 10 صفر 1420هـ، 25 مايو 1999م - العدد 11292.

    * الجزيرة: الجمعة 13 صفر 1420هـ، الموافق 28 مايو 1999م - العدد 9738.
    اللهم اغفر لأبي وأمي وارحمهما كما ربياني صغيرا

  2. #32
    تاريخ التسجيل
    May 2006
    المشاركات
    8,993
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    26-02-2024
    على الساعة
    08:13 AM

    افتراضي

    الجوانب العلمية في حياة الشيخ ابن باز

    بقلم/ عبد الوهاب بن عبد العزيز بن زيد
    أحد تلاميذ الشيخ:
    في فجر الخميس 27/1/1420هـ نُعي المسلمون في وفاة شيخ الإسلام، ومفيد الأنام، إمام أهل السنة والجماعة، فقيه المحدثين، ومحدث الفقهاء بلا خلاف، شيخ الشيوخ، مفتي العامة والعلماء بقية السلف، سلوة الصالحين، معين الضعفاء والمساكين، إمام الأئمة -شهد له بذلك الموافق والمخالف-، ولعل الناس لم يروا مثله، ولعله لم ير مثل نفسه.
    أقول هذا في الوقت الذي تتابعت فيه التعازي والرثاءات، والمقالات والكلمات، في فجيعة الناس بهذا المصاب العظيم، وهو وفاة والد الجميع الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله رحمة واسعة، وألحقه بالنبيين، والصديقين، والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا-، نسأل الله أن يجير المسلمين في مصيبتهم، ويخلفهم خيراً منه، إنه سميع مجيب، لطيف خبير.
    وإنني في هذا المقام لا أتكلم عن الشيخ استكثاراً وتسلية، وإنما لغرضين مهمين، لأجلهما تكتب هذه المقالات:


    الأول: الوفاء بحق شيخنا شيخ الإسلام، والذكر الطيب له، رجاء دعاء الصالحين له، وتنادهم بمحاسنه وعلمه.
    الثاني: التذكرة والعبرة؛ لمن أراد الاقتداء بالصالحين، العلماء الربانيين، أهل الدعوة والدين، ولهذا فلن أتكلم هنا عن حياة الشيخ الأكاديمية، وسيرته الذاتية -وبحمد الله هي معروفة للجميع- وإنما الكلام هنا عن خمسة جوانب في حياة الشيخ العلمية والعملية:
    الأول: أبوة الشيخ للجميع: وهذه الأبوة تكاد تنعدم في زماننا الحاضر، قليلة في الزمان الغابر، الجميع من أهل العلم وعامة الناس صغيرهم وكبيرهم، قريبهم وبعيدهم يشعر بأبوة الشيخ له؛ فإذا صادف أحدهم كلاماً ورأياً للشيخ يأخذ به دون تردد، ولا يشعر إلا أن والده هو الذي يتكلم. وهذه الصفة في الشيخ إنما جاءت لسماحته الظاهرة مع إخوانه وأبنائه، وموافقيه ومخالفيه، يرشد ويدعو إلى الخير، لا يجادل إلا بالتي هي أحسن، هذا شيء.
    والآخر: همُّ الدعوة في نفسه، فالشيخ دائماً وأبداً يستشعر أنه ممثل للإسلام؛ وأن وظيفته تكليف لا تشريف، لا ينتظر أن يأتيه الخبر والخطر، وإنما هو الذي يتبنى الدعوة، ويسعى إليها بكل ما يملك، فهمه الأول والأخير دعوة أخيه ومخالفه إلى الحق، لا يهمه نصرة نفسه، أو ارتفاع ذكره، أو إسقاط خصمه وإنما هدفه أن ينتفع خصمه بالحق، وإن طال الأمد.


    الثاني: الجانب العملي التربوي عند الشيخ.
    وهذا يتمثل في أمرين:
    أحدهما: التربية الأدبية لطلابه ومحبيه، وجلسائه، فالشيخ نموذج حي لأخلاق السلف، من الخلق والسماحة، والفضل والكرم، والجود، والمحبة لإخوانه وتلاميذه، فمن يجالس الشيخ أو يحضر دروسه العلمية؛ فإنه يرى أدباً لا نظير له يتأثر به الجليس بمجرد أن يراه، كثير التسبيح عند سكوته، وربما بكى أثناء الدرس عند ذكر الصالحين، ألحقه الله بهم.
    والآخر: سلوك الشيخ للطريقة العملية في التدريس؛ فدروس الشيخ يطغى عليها الجانب العملي، فعلى سبيل المثال في تدريسه لعلم الحديث؛ تجد الجانب العملي من التخريج، والنظر في الرجال، ومراجعة الطرق والأسانيد، وهذا كله أثناء الدرس، ومن هذا يتعلم الطالب هذا العلم بسهولة، ودون تعقيد بخلاف ما إذا درسه نظرياً.
    الثالث: المشاركة في فنون العلم:
    جمع الشيخ في سنين تحصيله فنون العلم؛ فقل علم إلا للشيخ فيه معرفة، ومشاركة، وتأصيل، فالشيخ في الاعتقاد هو إمام أهل السنة بلا مدافعة، وفي التفسير وأصوله وأحكام القرآن إمام بارع؛ مع حفظ وسرد لآيات الأحكام قلَّ له في ذلك نظير، وفي الحديث وعلومه فهو الإمام


    المشار إليه في ذلك، وأكثر مشايخنا أخذوا علم الحديث عن الشيخ، بل إن الشيخ أكثر من اعتنى بهذا العلم بنشره وتدريسه، واعتماده في المسائل الفقهية، وفي الفقه وأصوله له فيهما تأصيل وإتقان؛ مع الدقة، والفهم، والاستنباط، ومراعاة مصالح الأمة بما لا يجهل مقدار الشيخ فيه، ولو جمعت آراء الشيخ الأصولية بأمثلتها وحررت لأغنت وأوفت، وفي الفرائض -وهو على نفيس- له فيه اليد الطولى، وله التأليف المختصر المشهور والمسمى: "الفوائد الجلية في المباحث الفرضية" فيه من الشمول والاختصار، والدقة والإتقان ما أجمل به هذا العلم الجليل في سفر صغير، وفي اللغة والنحو له المشاركة القوية، والشيخ له اختصاص بذلك، وهذا ظاهر في دروسه وفتاويه. فالشيخ -رحمه الله- جامعة كاملة، لم يتخصص في علم واحد؛ كما هو حال زماننا هذا الذي فقد فيه التأصيل العلمي، إذ كل فن له صلة وتعلق بالآخر؛ فالحديث لا يستغنى عنه صاحب الاعتقاد، ولا الفقيه، ولا المفسر..، وكذا الفقه وأصوله لا يستغني عنه المحدث، ولا المفسر، فمن تتلمذ على الشيخ استفاد من هذا كله، وعاد بحظ عظيم، نسأل الله أن ينفعنا وإخواننا ومشايخنا مما تعلمناه على يديه، وأن يبارك لنا ولإخواننا في العلم والعمل.
    الرابع: الدعوة إلى الله:
    إذا ذكرت الدعوة إلى الله؛ فأول ما ذكر هو سماحة الشيخ ابن باز، وهو الداعية إلى الله بكل مفاهيم ومعاني الدعوة إلى الله، إذ قبل كل شيء هم الدعوة في قلب الشيخ، يعرف ذلك لك قريب من


    الشيخ أو بعيد، والشيخ -رحمه الله- عالمي الدعوة، قلَّ أن يجود الزمان بمثله، هو عون لإخوانه الدعاة بالنفس والمال، والجاه والقلم، وكل ما يستطيع، نذر الشيخ نفسه للدعوة على أصولها العلمية المنبثقة من الكتاب والسنة، لا يحيد ولا يميل، ولا يكل.
    يستخدم الشيخ أسلوبه الخاص في الدعوة إلى الله، فيخاطب الكبير والصغير، البعيد والقريب، المخالف والموافق، كل ذلك بمنهج الدعوة بالحسنى، يستغل المواقف للدعوة إلى الله، لا يحتاج المسلمون -في أي مكان- إلى نجدة إلا ويكون الشيخ أول المسعفين، لا يأتيه أحد إلا ويقوم بحقه، إما بالمال، أو الكتابة والشفاعة، أو النصح والتوجيه، والشيخ -رحمه الله- في باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ينصح، ويرشد ويوجه الصغير والكبير والقريب والبعيد الحاكم والمحكوم همه النصح والهداية، والإرشاد، مع تأنٍ في الاستجابة والنتائج، فالشيخ في هذا الباب أمة وحده، نسأل الله أن يتقبل منه كل خير وبر، وأن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
    الخامس: اقتضاء العلم والعمل:
    إن للعلم حقوقاً وواجبات، وما تقدم من جهود الشيخ هي نتيجة لهذا الأصل العظيم، إلا أنني هنا أخصص باباًِ حثت عليه الشريعة الإسلامية، وفاضت بذكره آيات الكتاب العظيم، وسنة نبيه الأمين e، وهو باب إطعام المساكين، وسد حاجة المحتاجين، وهذا باب غفل عنه


    الكثير من أهل العلم، فالشيخ -رحمه الله- جاهد في ذلك بالغالي والنفيس، وكأن الشيخ خلق لهذا، فبفضل الله كم من أسرة عاشت على نفقة الشيخ، وكم أرملة رأت الخير على يدي الشيخ، وكم من يتيم شملته أبوة الشيخ، وكم من عائل أوسع الله على يدي الشيخ وكم من فقير أغناه الله على يد الشيخ، لا يدخر ما في يده من مال، بل إن الشيخ ينفق على هؤلاء وغيرهم بالدَّين أحياناً، وهذا يعلمه المقربون من الشيخ، فالشيخ -رحمه الله- في هذا يرجو حديث رسول الله e: ((الساعي على الأرملة والمسكين، كالمجاهد في سبيل الله، أو كالذي يصوم النهار، ويقوم الليل)) وهنا سؤال يطرح نفسه: ما الذي أوصل الشيخ لهذه الدرجة العظيمة من محبة الناس له؟
    جواب ذلك من جهتين: الأولى: ما تقدم ذكره كأبوة الشيخ، وغير ذلك.
    الثانية: وهي عزيزة نادرة الوجود، قلَّ أن توجد إلا في أحب خلق الله إليه، وهي: سلامة الصدر، فالشيخ -رحمه الله- من عرفه ظهرت له هذه الميزة من أول وهلة، فهو يحب الجميع، يعتبرهم أبناءه لا يحسد أحداً، ولا يكره الخير لأحد، بل يحب الخير لكل المسلمين، يسعى لإرضاء إخوانه ومخالفيه، لذا أحبه الموافق له والمخالف، نسأل الله أن يجعل ذلك شافعاً له في علو الدرجات، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، والجوانب العلمية والعملية في حياة الشيخ أكثر من أن تحصر، إلا أن المقام يضيق بذكرها، وفي ما تقدم تذكرة وعبرة.


    أسأل الله أن ينفعنا بعلمه، وأن يجعل لنا قدوة في العلم والعمل.
    ولعل أشبه ما يوصف به الشيخ هو ما وصف الشافعي به أحمد بن حنبل بقوله: خرجت من بغداد، وما خلفت بها أفقه ولا أزهد، ولا أروع، ولا أعلم من أحمد بن حنبل، وبهذا أختم كلمتي هذه راجياً من العلي القدير، الحي القيوم أن يغفر لشيخنا ابن باز، وأن يلحقه بالنبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، وأن يبارك في علمائنا، ومشايخنا، وإخواننا؛ فالحمد لله لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق إلى يوم القيامة.
    وإن في مشايخنا وأئمتنا خلقاً صالحاً، وعلى رأسهم سماحة المفتي الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ وفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، والشيخ عبد الله بن جبرين، والشيخ صالح بن فوزان، والشيخ عبد الله بن غديان، وغيرهم من المشايخ الأعلام، بل قلَّ أن يوجد من المشايخ الكبار مثل وجودهم في هذا العصر، ونسأل الله أن يرفع عن الشيخ العلامة الإمام ناصر الدين الألباني ما أصابه، وأن يجمع له بين الأجر والعافية، وأن ينفع به الإسلام والمسلمين.
    والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.





    عالم الأمة الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله الباز




    عثمان الصالح
    من ينس لا ينس عَلَماً في العلم نادراً. وحيد في الدعوة والنصح محبوب من الجميع لتسامحه ورحابة صدره ونزاهته وبعده عن الدنيا وقربه عند الله في تأدية ما به أمر وما عنه حذَّر، واليوم نعيش بذكرى سيدنا الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز.. الذي توفاه الله الليلة البارحة.
    لا شك أن الشيخ الباز -رحمه الله- عَلَمٌ من أعلام الدين صرف عمره التسعين في خدمة دين الله الذي شرف الله به نبي المسلمين ورسوله بنشر هذه الدعوة التي له فيها التبشير والدعوة الراشدة فأكمله في هذه السنين الطويلة. ونشر الدين بما لديه من طلاب آمنوا بالله ورسوله ودعاته وكانت دعوته في الشرق والغرب دوّت وأصبحت كتبه في كل قلب وفكر مضيئة إضاءة عمّت العالمين في المشرقين والمغربين لمن أراد الله له هداية. ولهذه الدولة من آل سعود الفضل الأول في نشر الدعاة وعلى رأسهم خادم الحرمين الملك فهد وولي عهده، ثم سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز.. إن دولتنا السعودية ديناً والسعودية وطناً رائدة في مجال الدعوة الحقة.. وإنَّ ابن باز عميد الدعاة إرشاداً وإيصالاً وهداية في الكلمة إلى العالمين عامة.. إنّ وفاة شيخنا لكارثة وفاجعة للجميع صغيراً وكبيراً وللعالم أجمع.


    وإنّ المملكة العربية السعودية في جزعها وألمها لفراقه لفي غاية الحزن والأسى ومليكها وولي عهدها ونائبها الثاني والأسرة السعودية ليدعون الله للفقيد أن يغفر له ويسكنه فسيح جناته لقاء ما عمل، إلا أن ما دوّنه في صدور كتبه وبحوثه وفتاواه لهو الكنز الأغلى والمال الأوفى الذي هو نبراس على الطريق، والذي هو ذخر في العقيدة والصلاح والإصلاح.
    وإننا إذ نعزي خادم الحرمين وولي عهده ونائبه الثاني في وفاته وانتقاله إلى جوار ربه تاركاً وراءه كنزاً من العلوم الربانية وثروة حوتها كتبه الجمّة وآراؤه المهمة في كل ما يعود على المسلم بالخير والهدى.. إنَّ الشيخ عبد العزيز -رحمه الله- ما كانت الدنيا تخطر على باله ولم يسع لها وقد جاءته من جميع الجوانب، ولكنه عزف عنها ونأى عن ملذاتها مكتفياً بالقليل لضيف أو لمستحق، فرحم الله شيخنا وغفر له وجعل خلفه من فيهم الخير والبركة، وإننا أيضاً نعزي الابن عبد الله وأحمد والإخوة بنين وبنات والأحفاد في هذا الصرح الذي راح.. والثروة العلمية التي وأدنا.. ولكنها باقية بقاء الليل والنهار.
    وكان رحمه الله على باله فكراً ولساناً هذه الدعوة فإذا علم أن إنساناً نسب إليه أمر ذهب إليه ونصحه بنفسه وقليل مثله في الموعظة والعظة وكان حريصاً إذا التقى بضيف وافد بيان أول ما يقوله له:
    إن على الجميع واجب النصح لله ولرسول الله. ثم يذكر له أن نقاء الدين والعقيدة هما كل شيء في الدعوة إلى الله.. وكان -


    رحمه الله- متواضعاً كريماً جواداً بما يملك من راتب.. ومقبولاً جداً بين المواطنين والدولة تراه والداً في نصحه، والداً في علمه.. محبوباً في بلده (المملكة العربية السعودية) وكل بلاد المسلمين عامة. كان يعيش في أفكارهم وأذهانهم فرحمه الله رحمة واسعة ولنا من تلاميذه وكتبه وبحوثه وفتاواه ما يجعله بين عيوننا وفي أفكارنا وأذهاننا على أن المعين الذي خلفه لنا ثروة لا تنسى ومجد لا ينسى وكنزاً لا يفنى سواء ما كان مسجلاً أو مجموعاً.. فرحمة الله على الفقيد وجعل -سبحانه- من أبنائه خلفاً صالحاً وإننا لنذكر أحد أبنائه بالعلم والخير والصلاح فإنه أديب وطالب علم يتحلى بالخلق العالي والنبل الشريعة التي حمل شهادتها وتحلى بنتاجها وبنو الشيخ على مستوى عالٍ من الفهم بنين وبنات في ميدان نشر العلوم والمعارف كأبيهم يسيرون مساره وينهجون نهجه في العمل الصالح وقد كان -رحمه الله- يعرف للسارين في هذا المسار فضلهم ورعايتهم وتطبيقهم لأوامر الله.. بارك الله فيهم وجزاهم كل خير وإنني أوجه لزملائي وإخواني طلاب العلم بما أوتوا من علم وإدراك أن يدعوا له بالمغفرة والجزاء الأوفى سواء من الطلبة أو الدعاة لدين الله أو ممن حذقوا على ما لديه من علم مبذول ومعرفة نشرها كما للمواطنين في المملكة تعزية منا خالصة ولمن هم في الخارج أيضاً تعزية محبة وإجلال.. والله مع الجميع.



    الكتابة عن الشيخ ...!!





    علي بن إبراهيم النملة
    عضو مجلس الشورى
    قال شيخي الفاضل: لم أقرأ لك شيئاً عن سماحة الوالد رحمه تعالى.. قلت لشيخي الفاضل: وماذا عساي أن أكتب لعلم من أعلام الأمة، اجتمعت فيه صفات قل أن تجتمع في شخص واحد، ولم نعلم نحن متابعوه ومحبوه إلا قليلاً من هذه الصفات، إلا أن الصحافة التي كتبت عنه أبرزت بعضها، من خلال معايشة بعض طلابه ومحبيه له والإذاعة والتلفزيون أسهمتا في ذلك بقدر معقول ومع هذا فمن ذلك الكاتب أو الكاتبة الذي يملك أن يحيط بهذه الشخصية النادرة التي يصدق عليها بحق ما يقوله مترجمو علماء التراث وأعلامه من أنه فريد عصره وزمانه، رجل أمضى أكثر من سبعين عاماً في طلب العلم وأمضى هذه المدة نفسها في التعليم والتوجيه والفتوى بل وأكثر من ذلك إذ امتدت حياته -رحمه الله- من 1330-1420هـ.
    § رجل تحلى بأخلاق العلماء والدعاة والمصلحين من الرفق والحلم والصبر.
    § رجل حباه الله تعالى بعد النظر وسعة الأفق والتروي والأناة.


    § رجل احترم الوقت فاستغل الساعات أيما استغلال حتى في دعوات التكريم التي يجيب عليها بالذهاب إلى الداعين يستغل وقتها في قراءة من كتاب أو كلمة طيبة أو إجابة على مسألة.
    § رجل زرع المهابة في النفوس رغم أنه كان رحمه الله على قدر عال من التواضع الجم الذي زاده رفعه بين الناس القريبين منه والبعيدين على حد سواء.
    § رجل كان -رحمه الله- مشغولاً طول الوقت يجيب على أسئلة الناس مباشرة وعلى "الهواتف" وليس الهاتف الواحد ويجاوب على مسائلهم.
    § تهيأ لي شرف التردد عليه -رحمه الله تعالى- أكثر من مرة في الرياض والطائف ولمست منه معاملته الخاصة لكل من يفد إليه، وكان هذا الوافد هو الوحيد بين يديه، وبين يديه يقف المئات يسأل عنك ويطمئن على أسرتك وعملك إذا عرفك معرفة قريبة سأل عن أمور تظن أنها لا تعني أحداً لا سيما عالم مثله "ابن باز".
    § توجهت إليه في مسألة عويصة لها أبعاد عقدية وسياسية فوجدت الإجابة لديه جاهزة وكانت على خلاف ما توقعت ولكنها كانت مطابقة لما أردت وليس كل ما نريد يكون مقبولاً دينياً واقتصادياً أو حتى سياسياً، ذلك إني تشرفت بالعمل مديراً عاماً للمكتب التنفيذي للهيئة العامة لاستقبال التبرعات للمجاهدين الأفغان، عندما


    كانوا يحاربون الروس وعندما وقفت المملكة العربية السعودية معهم حكومة وشعباً وذلك تحت إشراف مباشر من صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض الذي وجهني حال تسلمي للمهمة بالاتصال بسماحة الوالد -رحمه الله- لتلقي توجيهاته في وجوه الصرف للتبرعات المادية والعينية التي كانت تتلقاها الهيئة فسافرت إليه في الطائف بعد أن علمت أنه يمكن أن يشرفني بلقائه وعندما دخلت عليه وجدته كعادته مشغولاً في أشياء علمية كثيرة، فطرحت عليه موضوعاتي فكانت إجابته -رحمه الله- جاهزة وكم تمنيت أن أمضي معه وقتاً أطول مما يغطي الموضوعات، فحققت الرغبة عندما أصر علي أن أتناول معه طعام الغداء في منزله في الطائف ومن منا لا يرغب في أن يبقى مع مثل هؤلاء النادرين مدة أطول. وحتى لا يذهب الذهن بعيداً فإن المعضلة التي واجهتها عندما تسلمت المهمة في الهيئة هي توزيع التبرعات على الفصائل التي كثرت على الساحة الأفغانية والتي تتنوع بعضها عن بعض، ولوحظ على بعضها ملحوظات عقدية قد تؤدي إلى حجب التبرعات عنها إذا نظرنا إليها نظرة سريعة، ولكن بعد النظر وسعة الأفق لدى سماحة الوالد -رحمه الله- حسم هذا الموقف بتوزيع الأنصبة بالتساوي على الجميع تأليفاً لقلوب أولئك الذين أثيرت عليهم ملحوظات. فجمع سماحته بين البعدين الديني والسياسي في إجابة جاهزة عند عالم بحر مثل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز وهكذا كانت حاله في


    هذه الأمور وفي غيرها من القضايا التي حملتها إليه -رحمه الله- فقال فيها قولاً فصلاً.
    ومع هذا فقد أكد عليّ شيخي أن أكتب عن شيخ الجميع كتابة تتعرض لصفات لم يتطرق إليها من كتبوا عنه، وأملى علي بعضاً من هذه الصفات التي وجدتها قد قيلت في الوقفات التي توالت في ذكر محاسن الشيخ الكثيرة وكم رجوته أن يكتب هو ما أملاه عليَّ لأكتبه ولكن الذي يظهر أنه يهاب الكتابة مما يدلني على أن هناك كثيرين يرغبون في الكتابة عنه -رحمه الله- ولكنهم يهابون الكتابة، ولكن الجميع - مع هذا - قريبهم وبعيدهم لا يهابون أن يتوجهوا إلى الله تعالى بالدعاء للوالد والرحمة والمغفرة والرضوان محشوراً مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً وحب هؤلاء الرجال يكمن في تقصي ما خلفوه من خير وتبنيه على أنهم من القدوات الحسنة التي ورثت الأنبياء الذين ورثوا العلم فمن أخذ منه أخذ منه أخذ بحظٍ وافر وأزعمُ أن سماحة الشيخ قد أخذ منه بحظ وافر، نحسبه كذلك رحمه الله رحمة واسعة.
    والمهم إننا نؤمن جميعاً أن النهاية التي وصل إليها الشيخ هي النهاية التي يصل إليها كل مخلوق في هذه الدنيا، وأحداث وفاة المصطفى e التي استمرت ثلاثة عشر يوماً هي خير عزاءٍ لنا على فقد قيادتنا العلمية التي تترك فراغاً كبيراً كلما حل بها الأجل المحتوم، إلا أننا مع هذا ندعو الله تعالى أن يعوض المسلمين خيراً.


    المهم كذلك أن يبقى علم الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ذا التأثير الذي كان عليه في حياته، وذلك برصده رصداً موسوعياً وتعميمه على الناس بعد ترتيبه وتنظيمه وإدخاله في وسائل نقل المعلومات الحديثة التي تسارعت الآن في إشاعة المعلومات النافعة والضارة، يقوم بهذا فريق عمل علمي من طلبة العلم الذين نهلوا من العلم الشرعي الذي خلفه الشيخ من بعده ويظهر بصورة تليق بسمعة الشيخ وتليق كذلك برغبة الشيخ في تعميم العلم بعيداً عن الحسن الإعلامي أو الدعائي والنظرة المادية، وأزعمُ أن هناك رجالاً من أهل اليسار على استعداد لتبني مشروع هذه الموسوعة العلمية بتمويلها بقدر ما يخرجها بالصورة التي تليق بمحتواها العلمي المفيد للجميع.
    والمهم كذلك عدم اللجوء إلى أي أمر قد لا يرضي الشيخ فيما لو كان بيننا وهذا ولله الحمد هو القائم في مجتمعنا المتدين الذي يحترم العلم والعلماء بدءاً بالقيادة إلى القاعدة ومع هذا فإنه من الطيب جداً أن تسمى مدرسة باسم الشيخ كما عمدت وزارة المعارف بتسمية مدرسة ثانوية باسم الشيخ والأطيب من ذلك تدريس ما خلفه رحمه الله في المدارس في الحدود التي تسمح بها المناهج.
    ثم أعود لشيخي بعد هذا لأقول له: وماذا عساي أن أكتب عن هذا العلم الذي جمع صفات العلماء فكان أمة في رجل وكان إمام أهل السنة في هذا الزمان، وكان نادراً من نوادر الزمان خلف وراءه


    إرثاً علمياً عظيماً. ومن يخلف وراءه العلم فإنه لا يموت فما بالكم إذا ترك وراءه أبناء صالحين يدعون له وأبناء شيخنا الصالحون الذين يدعون له كثيرون ومتوزعون فيهم الكبار ومنهم الصغار ومن بينهم أبناؤه الصالحون من صلبه الذين تقع على عاتقهم مباشرة متابعة ما تركه من خير وراءه ومن مسؤوليات كان يضطلع بها في حياته ومن أعمال خيرية كان يقوم بها، ومن كفالات للدعاة والعلماء كان يتحملها ومن أعمال أخرى عرف بها رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وألهمنا بعده جميعاً الصبر والسلوان ومهما كتب عنه في صحافة أو إعلام أو كتابات علمية ودراسات وبحوث ورسائل عالية فإنه يستحق هذا كله مثل وأكثر منه معه فكان الله في عون من سيبقون على ذكراه وكان الله في عون الجميع.

    ```
    كان موته موت أمة!





    بقلم: أ. د. علي بن سلطان الحكمي
    كانت وفاة سماحة شيخنا الجليل عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله- وأفسح له في قبره، وأنزله الفردوس الأعلى من جناته، حدثاً عظيماً عصف بقلوب المسلمين، ومصاباً جللاً اشتدت على القلوب وطأته، ولم تحتمل النفوس هول الصدمة به.
    لقد كانت وفاته إحدى فواجع هذا الزمان، ونكبة من نكباته، تساوت فيها مشاعر المسلمين العامة والخاصة؛ فعبّرت فيما نطقت وكتبت عن جلال الرزء فيه ومبلغ الحزن عليه.
    ولم تكن الفاجعة بوفاة شيخنا الجليل مقصورة على المسلمين في المملكة العربية السعودية فحسب، بل عم المصاب بها المسلمين في مختلف أنحاء الكرة الأرضية؛ فقد استقبلوا النبأ بوفاته، واستقبلوا معه الجزع العظيم، والحزن الأليم، فكان مصابنا مصابهم، وما روعنا روعهم، وما أبكى العيون هنا أبكى العيون هناك:
    بكى الشرق فارتجّت له الأرض رجة




    وفاضت عيون الكون بالعبرات




    ففي الهند محزون وفي الصين نادب




    وفي مصر باك دائم الحسرات



    وفي الشام مفجوع وفي الفرس نادب




    وفي تونس ما شئت من حسرات


    لم يكن موت سماحة شيخنا موت واحد؛ بل كان موت أمة؛ بما أحدثه من فراغ كبير قد لا يتهيأ من يسدّه فراغ في العلم، والفتوى، والزهد، والتقى، وفي البر والصلة، والرعاية لشؤون المسلمين؛ الأرامل والأيتام، وسائر المحتاجين؛ ممن وصلهم بعطفه ورعايته.
    وكما كان موته موت أمة بما أحدثه من الفراغ الكبير، فقد كان موته موت أمة بما أحدثه من خسارة فادحة، وحسرة باقية؛ لكأنه المقصود بقول الشاعر:
    فما كان قيسٌ هلكه هلك هالك




    ولكنه بنيان قوم تهدّما


    كان الخطب بوفاة شيخنا الجليل عظيماً بعظمة المكانة التي تبوّأها في قلوب المسلمين بعلمه الراسخ، وزهده الواضح، وتقواه التي امتحن الله بها قلبه، وما اتصفَّ به خلال تجلي مآثرها عن الإفصاح؛ لكأنما عناه الشاعر في قوله:


    لقد كان مقصود الجوانب آهلاً




    تطوف به الآمال مبتهلات





    مثابة أرزاق مهبط حكمة




    ومطلع أنوار وكنز عظات


    لقد كانت الفاجعة بوفاة شيخنا أكبر من أن تتحملها القلوب؛ التي التفت حوله، والتقت به في الدرس والمراجعة، والصلة المستديمة، ناهيك عمن وطأتها على نفوسهم لا يهون منها إلا الصبر على القضاء، وتذكر المصيبة بموت المصطفى e:
    وإذا أتتك مصيبة تشجى بها




    فاذكر مصابك بالنبي محمد


    لكأن الله قد اختار لها هذه النهاية الفاجعة لقلوبنا للمكافأة الكبرى في جنة الخلد، وملك لا يبلى مع المؤمنين والمؤمنات )يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(.

    ```




    * الدعوة: العدد 1693 - 12 صفر 1420هـ، 20 مايو 1999م.

    * الجزيرة: الثلاثاء 3 صفر 1420هـ، 18 مايو 1999م - العدد 9728.

    * الجزيرة: الثلاثاء10صفر1420هـ، 25مايو 1999م - العدد 9735.

    * البلاد: الخميس 12 صفر 1420هـ، الموافق 27 مايو 1999م - العدد 15651.
    اللهم اغفر لأبي وأمي وارحمهما كما ربياني صغيرا

  3. #33
    تاريخ التسجيل
    May 2006
    المشاركات
    8,993
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    26-02-2024
    على الساعة
    08:13 AM

    افتراضي

    لذي خسرناه بفقد الشيخ ابن باز

    د. علي بن عبد الرحمن الحسون
    جامعة الملك سعود
    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
    لا أحب الكتابة وما كنت لأكتب لولا أن ابنتي الحبيبة استثارت همتي بجملتين: الأولى قالت: (ونحن نتحدث عن موت الشيخ ابن باز في الأيام الأولى) يا ليت ما يجري كان حلماً. وهذا يصور تصويراً دقيقاً ما يعتلج داخل الأسر من مرارة فقد الشيخ رحمه الله تعالى.
    العبارة الثانية: قالت بعد ذلك: يا أبي اكتب عن ابن باز.. فقلت: قد كفيت ذلك فقالت: إذا لم تكتب عن الشيخ ابن باز فعمن تكتب؟ رحمك الله يا ابن باز يا من دخلت في قلب كل محب للخير وحتى مريدي الشر لم يجرؤوا أن يعادوه بل قد يلجأون إليه عندما يحمى الوطيس ضدهم اعتذاراً وطلباً للتخفيف عليهم من وطأة الناس!.
    أعود إلى الموضوع فأقول: إننا افتقدنا وخسرنا عالماً فذاً وطوداً شامخاً وجبلاً أشم وعلماً من أعلام الدعوة فقدنا عالماً من علماء الإسلام وبحراً من بحور العلم فهو رحمة الله تعالى من الأئمة القلائل المجتهدين في هذا الزمان فهو يعتبر بحق بقية السلف وخاتمة المحققين،


    بل أنه هو الذي بعث من جديد مدرسة الأخذ بالدليل والخروج على التعصب المذهبي من الأخذ بالراجح حسب الدليل والتي أسسها ابن تيمية -رحمه الله تعالى- فكان من ثمرتها ما يجري حالياً في المملكة من الأخذ بالراجح بناء على الدليل حيث يأخذ بذلك الآن كافة أهل الفتوى كما أن القضاة أيضاً ينتهجون هذا المنهج.
    ومع هذا كله فإنني لا أرى أن الخسارة التي خسرناها بفقد الشيخ هي العلم ذاته أعني العلم المجرد لأن العلماء في العالم الإسلامي كثر وطلاب العلم أكثر، كما أن العلم في بطون الكتب وأرفف المكتبات إضافة إلى أن المدرسة الفقهية التي انتهجها ما زالت تسير كما أن علمه وفتاويه في الغالب قد دونت وخرج كثير منها إذاً ما الذي فقدناه برحيل الشيخ؟!
    أقول إننا افتقدنا علماً من نوع خاص أعني ذلك العلم الذي اتصف حامله بصفات خاصة يصعب توفرها في شخص واحد ومن فضل الله على شيخنا أن هذه الخصائص قد اجتمعت له فبارك الله في علمه ونفع به مما جعل وفاته تحدث خرقاً كبيراً في الأمة الإسلامية، وهذه الأمور التي اتصف بها الشيخ التي جعلت من علمه علماً ذا قيمة كبيرة والتي فقدناها فعلاً هي ما يلي:
    أولها: الإخلاص والعمل:
    أي العمل بما يعلم وما يُعلّم غيره مخلصاًَ النية لله تعالى في ذلك فهو رحمه الله تعالى من العلماء العاملين حيث أنه يتصف بالتقى


    والورع والزهد والطاعة المتناهية لربه وعدم الركون إلى الدنيا بل لم يعرف عنه أنه طلب الدنيا لنفسه. والعلماء العاملون في هذا الزمان قليلون جداً حيث يكثر في هذا الزمان صنفان من الناس، إما علماء غير عاملين أو عاملون بغير علم شرعي. أما العلماء العاملون فقليلون وهم الذين قرر الله تعالى منهجهم بقوله: )فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ(. وبهذا نرى أن الشيخ اجتمعت له شروط قبول العمل وهي: الإخلاص والمتابعة والعمل.
    وثانيها: القدرة الفائقة على الدعوة حيث كان رحمة الله عليه داعياً إلى الله على بصيرة حيث كان يعلم الناس الخير ويدعوهم إليه ويبصرهم به بل إنّ جل وقته كان لدعوة الناس وتعليمهم فكان يقضي جل نهاره وبعضاً من ليله في العلم والتعلم والدعوة حتى أنه لم يستطع أن يجد وقتاً لتدوين علمه وإخراجه للناس بسبب ما هو عليه من الشغل الشاغل في سبيل الدعوة بل أن ما أخرجه للناس من كتب ورسائل كانت غالباً فتاوى ورسائل للدعوة حيث كان لا يترك جهة ولا بلداً إلا أرسل إليهم وبين لهم الطريق المستقيم.
    وثالثها: الصبر: فكان -رحمه الله تعالى- على جانب كبير من الصبر والمثابرة والجلد والحكمة والحلم فكان يتمثل قوله تعالى: )ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ(. ودرب الدعوة دائماً درب شائك تحفة المخاطر والمواقف الحرجة ولكنه -رحمه الله تعالى- كان لا يفرق في دعوته بين مريديه ومناوئيه


    بل كان يتوكل على ربه في نشر دعوته ولا يخاف في الله لومة لائم ولذلك كان له أثر كبير في شتى أقطار العالم الإسلامي.
    ورابعاً: التواضع: فقد كان -رحمه الله تعالى- على جانب كبير من الخلق الرفيع والتواضع الجم، دمث الأخلاق سهل الانقياد فيما لا يغضب الله تعالى، يتنزل لمخاطبه حسب نوعه ولا يرفع نفسه عنه، تأخذ المرأة والصغير والجاهل بيده إلى جانب من الجوانب فيذكرون حاجتهم فيقضيها لهم بكل صدر رحب، وقدوته من ذلك رسول الله e.
    والمتحدث مع ابن باز -رحمه الله تعالى- يراه في فئة السهل الصعب فهو شخص عظيم في نفسه كبير في قيمته مرموق في منصبه، لكنك إذا طلبته وجدته مصغياً إليك مقدراً لك مهما كانت منزلتك... ويا ليت كثيراً من قومي يعلمون!.
    وخامسها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وما أدراك ما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي عده بعض العلماء ركناً سادساً من أركان الإسلام. فكان -رحمه الله تعالى- في هذا المضمار صاحب الجواد السابق وخصوصاً في فرع النهي عن المنكر، ولا أظن أحداً يجهل جهوده في ذلك حيث كان سداً منيعاً ضد الباطل فلا يسمع صيحة هنا ولا هيعة هناك إلا امتطى جواده إليها ليرد الحق إلى نصابه.
    فكان -رحمه الله تعالى- يقف لأهل المنكر في أي مكان كانوا وفي أي منزلة صاروا وسواء كان ذلك في الأسواق أو المؤسسات


    العامة والخاصة أو الجرائد والمجلات أو الكتب أو غير ذلك. وكان -رحمه الله تعالى- لا يخاف في الله لومة لائم حيث كان ينهى عن المنكر سواء صدر من قريب أو بعيد ورفيع أو وضيع وصغير أو كبير ومما ساعده على ذلك عفته المتناهية عن الدنيا حيث كان لا يرجو أحداً ولا يخاف أحداً إلا الله، ولذلك كانت له هيبته لدى أهل المنكر. إضافة إلى أنه في هذا المجال لا يتعجل فلا يأخذ بقول المخبر ثم يصدر الحكم بل كان يتأكد بنفسه ويسأل أهل الاختصاص، ولذلك كانت صدور المسؤولين رحبة دائماً لما يقول رحمه الله تعالى.
    وسادسها: المساندة المادية والمعنوية للمحتاجين من الأفراد والجماعات والمؤسسات الخيرية: فكان -رحمه الله تعالى- قد وهب نفسه وماله وجهه لذلك حيث كان يدفع من ماله الخاص ويسعى بجاهه إلى أهل الخير فنشأت بذلك قنوات ومرافق خيرية معتمدة اعتماداً كبيراً على جهود الشيخ وهي بلا شك من ستفقد الشيخ بعد رحيله وإني في هذه الأسطر أضم صوتي إلى الذين يقترحون أن تتولى هذه الأمور بعد الشيخ مؤسسة يتولاها أبناؤه والمقربون منه وتكون باسم الشيخ -رحمه الله تعالى- رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.



    ورحل العالم المخلص





    بقلم: د. علي بن مرشد المرشد
    الرئيس العام لتعليم النبات
    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه، أما بعد:
    فإن الموت حقٌ كتبه الله على كل حي في هذه الحياة يقول سبحان وتعالى: )إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ(، والمسلم يتقبل هذه المصيبة بقبول حسن لإيمانه أن كل من دنت منيته وانتهت أيامه في هذه الحياة فلن يتأخر ساعة واحدة، كما قال الله -عز وجل- : )وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ(.
    ولذا فإن حق الميت على عارفي فضله الدعاء له والبر به بعد موته وموت العلماء بخاصة له أثره في نفوس المسلمين وذلك لما عرف به العلماء من أعمال صالحة وخصال جليلة، وقد بيّن لنا البشير النذير e قيمة العالم وما يتركه رحيله عن هذه الدنيا من نقصان العلم بقوله عليه الصلاة والسلام: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس ولكن بقبض العلماء)) الحديث.


    وفضل العلماء كبير ومنزلتهم عند الله عالية يقول الله سبحانه وتعالى: ) يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ(، ويقول تعالى: )إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ(، ويقول رسوله e : ((العلماء ورثة الأنبياء)). وقد تأثر جميع المسلمين بوفاة سماحة والدنا فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جناته، فهو من العلماء الأفذاذ الذين سخروا أوقاتهم لخدمة الإسلام والمسلمين، والدعوة إلى الله على بصيرة والعمل على إعلاء كلمة الله، وسجل سماحته حافل بجليل الأعمال وذلك من خلال ما تقلده رحمه الله من مناصب، وما قام به في حياته المديدة من أعمال تمثلت بالقضاء والفتيا، والتدريس، ورئاسة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ثم عمل في إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، ومن خلال ما قام به من جهود في الأعمال التي كان يشارك بها غيره من العلماء مثل هيئة كبار العلماء ورابطة العالم الإسلامي والمجلس الأعلى للمساجد وغير ذلك من الأعمال الجليلة التي يصعب تعدادها وكلها تصب في خدمة هذا الدين ونشره وإعلاء كلمة الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
    ولقد عرفت سماحته -رحمه الله- عن قرب أثناء عمله في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وكنت آنذاك أعمل بإدارة تعليم البنات بالمدينة، واستمعت إلى دروسه العلمية والمتمثلة في شرحه لصحيح البخاري وغيره من الدروس العلمية الكثيرة.


    وكنت ممن استفاد منه في شرح صحيح البخاري، واستفدت من دروسه وما يرويه من تجاربه أثناء عمله وكان يتسم رحمه الله بلطف المعشر، محباً للعلماء وطلبة العلم يؤنسه وجودهم معه، فهو يأنس بأحبته وزائريه ويبش في وجوههم، وهذه أخلاق العلماء المعهودة والمعروفة عنهم، كان رحمه الله رجلاً فذاً من طراز العلماء الذي يذكر بسلفنا الصالح في سمتهم ومعشرهم وصدق أحاديثهم وحبهم للإطلاع وبعدهم عن المظاهر، ولم يثنه كبر سنه -رحمه الله- وتأثر صحته في أيامه الأخيرة عن شيء مما كان يقوم به من واجباته العلمية والعملية.
    لقد كان سماحة الشيخ -رحمه الله- نسيج وحده ومن علماء الرعيل الأول الذين يندر وجود أمثالهم في هذا الزمن الحاضر فهو العالم المخلص الذي نذر وقته للنصح والإخلاص لله ورسوله ولولاة الأمر وعامة المسلمين يدعوهم إلى الخير بحكمة وبصيرة وعلم.
    رحم الله سماحة الشيخ عبد العزيز وأسكنه فسيح جناته فقد عاش محمود السيرة سليم القلب عالماً محققاً محباً للعلم والعلماء مسخراً وقته من أجل إعلاء كلمة الله وخدمة الإسلام والمسلمين، -رحمه الله رحمة الأبرار- وأحسن عزاء أسرته ومحبيه وطلبته وعموم المسلمين، وجعل في ذريته الخير والبركة ليعيدوا سيرته ويتأسوا به وبأمثاله من سلف هذه الأمة وعلى رأسهم المصطفى e الذي أمرنا الله بالتأسي به بقوله سبحانه وتعالى: )لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ


    حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ(.
    إنه ولي ذلك والقادر عليه ونحمد الله على قضائه وقدره.. و )إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(..
    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
    ```


    في وداع "الشيخ"





    بقلم: د. غازي القصيبي
    إذا قيل "الشيخ" عرف الناس الرجل المقصود...
    جاءه اللقب من الجموع...
    لم يحصل عليه من الجامعة...
    ولم تُنعم به هيئة...
    ولم يصدر بتحديده مرسوم...
    كان -الشيخ- كبيراً...
    وكان كبيراًًً جداً..
    كان كبيراً بعلمه
    وكان كبيراً جداً بتواضعه
    وكان الشيخ كريماً..
    وكان كريماً جداً..
    كان كريماً بماله..
    وكان كريماً جداً بنفسه..
    وكان الشيخ طيباً.


    وكان طيباً جداً...
    كان طيباً.. لا يخدع أحداً...
    وكان طيبا جداً.. لا يغضب من أحد خدعه...
    كان بعض اجتهاداته موضع خلاف
    أما نزاهته الفكرية كانت محل إجماع...
    قولاً واحداً...
    ...ذات يوم...
    قرع الباب بمنزلي في حي"الروضة" بالرياض... وفتحت زوجتي الباب وجاءت، مذهولة، تخبرني أنَّ -الشيخ- عند الباب يستأذن في الدخول...
    وذهلت بدوري...
    كان البعض -غفر الله لنا ولهم- قد دقوا بين الشيخ وبيني "عطر منشم"...
    ونقلوا إليه ما نقلوا مشوهاً... ومحرفاً... وخارج سياقه...
    وكان بيني وبين الشيخ عتاب لم يخل من حدة...
    وتحمل الشيخ الحدة...
    كما يتحمل الأب الصبور نزوات الابن المشاغب...
    وهرعت... استقبل الشيخ...


    رغم الحمى التي كانت -وقتها- زائرة ثقيلة... بلا حياء...
    قال الشيخ أنه سمع بمرضي وجاء يعودني...
    وتحدثنا طويلاً...
    وقال عن عملي في وزارة الصحة ما يخجلني حتى بعد هذه
    السنين أن أردده..
    ودعا لي... وخرج...
    وذهبت، ذات مساء، أزوره...
    وكان يجيب على أسئلة الرجال والنساء...
    كعادته بعد صلاة المغرب...
    عبر هواتف أربعة لا تنقطع عن الرنين...
    ...ثم خلا لي وجهه...
    وتحدثنا ما شاء الله أن نتحدث...
    وقبل أن أخرج قلت متردداً:
    يا سماحة الشيخّ
    هل تسمح لي بإبداء نصيحة شخصية؟
    وابتسم، وقال:
    "... تفضل! تفضل!".
    قلت:
    هذه الفتاوى الفورية على الهاتف...


    ألا يحسن أن تؤجل حتى تكتب وتدرس؟
    وقال الشيخ:
    "جزاك الله خيراً!
    أنا لا أفتي إلا في المعلوم من الدين بالضرورة...
    أو في الأمور البسيطة التي يحتاجها عامة الناس في اليوم...
    أما ما يحتاج إلى بحث وتمحيص...
    فليس مكانه الهاتف".
    وشكرت له سعة صدره...
    وخرجت...
    ومرت الأيام.. والأعوام....
    نلتقي بين الحين الطويل... والحين...
    وكان... كل مرة...
    يحييني تحية الوالد الشفوق...
    رغم العطر المسموم...
    الذي لم يكف تجار الوقيعة عن تسويقه...
    وجاء احتلال الكويت...
    وخاف من خاف...
    وسعى للغنيمة من سعى...
    وطمع في الزعامة من طمع...


    وانتهز الفرص من انتهز...
    وانتظر الناس "كلمة الشيخ"...
    ووقف الشيخ...
    وقال ما يعتقد أنه حق...
    ولم يبال بردود الفعل العنيفة...
    وبدأ الشيخ الضئيل عملاقاً في عباءته الصغيرة...
    والزوابع تدور حوله...
    مزمجرة... هادرة... شرسة...
    كل زوبعة تحاول أن تجرف الشيخ معها...
    وكان الشيخ الضئيل صامداً كالجبل الأشم...
    جاءت الزوابع...
    وذهبت...
    وثارت العواصف...
    وهدأت...
    وبرنامج الشيخ لا يتغير...
    الصلاة... والدروس في المسجد... وتلاميذه بلا عدد...
    الدوام في المكتب... ومراجعون بلا حساب...
    وضيوف الغداء... وضيوف العشاء...
    والباب المفتوح أمام الجميع...


    واللسان العف حتى مع المخالفين الذين لا يعرفون
    عفة اللسان...
    والهاتف لا ينقطع عن الرنين...
    و"الشيخ" كل لحظة من لحظات الصحو معلماً... أو متعلماً...أو عابداً..
    يحمل هموم المسلمين في كل مكان...
    حتى لكاد ينوء بها جسمه الضئيل..
    لا يقول إلا ما يعتقد أنه الحق...
    ولا يرجو رضا أحد سوى الله...
    ومات "الشيخ"...
    ذهب بهدوء..
    كما عاش ببساطة...
    وترك الجموع الواجمة...
    تصلي على جنازة الرجل الذي لم يتأخر يوماً عن
    الصلاة على جنازة مسلم... معروفاً كان أو مغموراً...
    رحم الله "الشيخ" الضئيل... العملاق..
    عبد العزيز بن عبد الله بن باز...
    وأسكنه بعد سجن الدنيا الضيق...


    جنة عرضها السموات والأرض...
    أحسبه -ولا أزكي على الله أحداً-
    أحب لقاء الله...
    وأرجو -وأستغفر الله أن أقول ما ليس لي به علم- أن الله أحب لقاءه...

    ```



    رحم الله الشيخ



    فهد الشريف
    الشيخ عبد العزيز بن باز -يرحمه الله- يسكن أفئدة كثير من البشر، ليس فقط في المملكة بوصفهم من أبناء جلدته، ووطنه، بل ثمة آخرون من أقطار إسلامية، يحملون في ضمائرهم حباً جماً، وإحساساً صادقاً نحو الشيخ ابن باز، تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته.
    وهذا اللقاء الحميم، والتعلق الروحي والشعور الصادق، لا يأتي من فراغ، وإنما هي دلائل لمكانة الشيخ في نفوس هذا العالم الإسلامي، وتأثيره البين على الأمة الإسلامية، فلا نعلم عن داعية إسلامي أو عالم إلا مكان اتجاهه نحو الشيخ ابن باز للتشاور معه فيما يشكل ويستعصي أمره.
    وفي هذا البلد هناك أفئدة تحمل في سرائرها ما تعتز به تجاه العالم الشيخ عبد العزيز بن باز، وهذا يعود لتواضعه مع كل شخص يذهب إليه يسأله علماً نافعاً ينتفع به، وهذه المحبة الصادقة مظهر اجتماعي إسلامي ألفه المسلمون منذ نشأة الإسلام، وانبثق نوره في مهبط الوحي، وتاريخ المسلمين يكشف لنا حقائق هذا التآلف والتآخي بين


    الأخوة في الإسلام.
    وتاريخ الأئمة والصالحين والدعاة ورجالات الدرس الديني والشرعي يعطينا تصوراً واضحاً عن العلاقة المتينة بين العالم أو الداعية بين الإمام وبين ذويه سواء كانوا تلاميذ له، أو رفاقه أو من قيادة الدولة.
    والنهج الإسلامي لم يتغير في هذا البلد الخير، فنشأته كانت تنطلق من هذه الثنائية المتلازمة بين الدولة والدين، وتاريخ نشأة الدولة السعودية الأولى منذ تأسيسها في عهد الإمام محمد بن سعود يدل على أنها كانت تسير وفق العقيدة السمحة ومعاضدة العلماء والدعاة.
    وتعاون الإمام محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب هو اللبنة الأولى والقاعدة الأساسية في بناء هذه الدولة العملاقة، وما استمرارها وازدهارها إلا لحفظها وتمسكها بهذه العقيدة وبالثوابت وبما وهبها الله من رجال أكفاء سخروا كل ما بوسعهم في الحفاظ على هذه الثوابت والدفاع عنها.
    والشيخ عبد العزيز بن باز -يرحمه الله- فقدناه جسداً لكننا سنذكره وسيظل علمه خالداً ونتاجه الفكري زاداً يتزود به كل شباب الأمة الإسلامية.
    سيذكرني قومي إذا جد جدهم




    وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدرُ





    وجهوده عديدة لا يستطيع هذا المقال حصرها، ولعل حصوله على جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام يُغني عن التفصيل في هذا القول، على أن سعيه الحثيث وقضائه في أمور المسلمين وحرصه على حل مشكلاتهم وتذليل العقبات التي تواجههم امتداد لرفعة شأن هذه الجهود، ولم تكن تلك الجهود فيما يخص أبناء هذا الوطن فقط، بل وقف مع قضايا المسلمين في أنحاء العالم بالدعم المستمر.
    فرحم الله الشيخ عبد العزيز بن باز رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.

    ```



    عالم الأمة





    لطف الله خوجه
    مات عالم الأمة.. فما عسانا أن ننتظر في هذه الدنيا إلا الموت يأخذ عالمنا وجاهلنا، مات عالم الأمة.. ففقدت الأمة عزيزاً، مات عالم الأمة... فبكى كل مؤمن على وجه الأرض، بل كل رطب ويابس، وكل جماد وحيوان، بل السماوات والأرض ظلت باكية، مات عالم الأمة.. ففرح الشيطان وأتباع الشيطان، فقد ذهب سد منيع كان يحمي الناس من الشبهات ويحذرهم من الشهوات، مات الشيخ الجليل الوالد الكريم عبد العزيز بن باز، نُشهد الله على حبه، ونسأله أن يجمعنا به في جنته، مات بعد عمر مديد في طاعة ربه، يعلم الناس ويربيهم ويقوم بالحق ولا يخاف في الله لومة لائم، لم تغره الدنيا ولا مناصبها، عاش حياة الزاهدين، ملبسه ما تهيأ، مطعمه ما تيسر، مسكنه متواضع، فكان مثالاً صادقاً لما ينبغي أن يكون عليه العالم من الانعكاف عن الدنيا والتعالي عن زخرفها وتركها لأهلها والزهد في مباهجها، اجتمعت عليه الكلمة تلاقت القلوب على محبته، لأنه كان رحيما شفيقاً بالكبير والصغير بالقريب والبعيد بالحاكم والمحكوم، لم تؤثر عنه كلمات قاسية أو عبارات جارحة أو سب أو شتم حتى مع


    مخالفيه، بل كان يدعو لهم ويحسن خطابهم بشيء لم يكن مخالفوه يجودون عليه بمثله، كان قمة في حسن الخلق وحسن العشرة وحسن الظن بالمسلمين، لا يتكبر ولا يتعالى بل يتواضع ويخفض جناحه للمؤمنين، والحقيقة أنا كنا نسمع ونقرأ عن علماء السلف الصالح وما كانوا عليه من علم وحسن خلق ومعشر وتقوى وورع وزهد وخوف لله تعالى وقيام بالحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فننظر في زماننا لنرى من مثلهم أحداً فلم نكن نجد تلك الخصال قد اجتمعت في أحد كاجتماعها في شيخنا الجليل -رحمه الله- وأمثاله، فهو نماذج السلف كان يعيش بيننا، كنا إذا رأيناه ذكرنا الله، وأولياء الله هم الذين إذا رأيتهم ذكرت الله، كنا إذا ذكرناه قلنا: الأمة بخير ما دام هذا العالم وأمثاله فيها، واليوم قد مات، فلا حول ولا قوة إلا بالله، نسأل الله أن يجبر مصابنا فيه.. إن من علامات الساعة رفع العلم وظهور الجهل، وذلك بقبض العلماء فقد قبض عالم الأمة.. فإنا لله وإنا إليه راجعون. كان الشيخ -رحمه الله- عالماً، لكنه لم يكن يتقرب بعلمه إلى الناس طلباً لدنيا أو منزلة، بل كان يتقرب إلى الله تعالى، فكم سئل عن مسألة فأوكل العلم فيها إلى الله وقال: (الله أعلم)، وكان أحياناً يقول (نبحث فيها) وهذه تربية لطلاب العلم أن لا يستنكفوا أن يقولوا مثل ما قال عالمهم إذا هم جهلوا الحكم في مسألة ما.. كان عالماً عاملاً، خرج بعلمه إلى الناس، لم يكتمه فأدى زكاته،


    حتى طار الناس بفتاواه في كل العالم، فإذا قال ابن باز في مسألة قولاً ما فالقول ما قال، والنفس مطمئنة للأخذ بفتاواه، لأنه كان تقياً ورعاً صادقاً مع قضايا أمته، فقد كان من العلماء القليلين الذين حملوا قضايا الإسلام في كل بلاد المسلمين، كان يخاطب الكل الحكام والرؤساء والملوك في أمور المسلمين، يعظهم وينصحهم ويرشدهم إلى الصواب، كما كان يخاطب عامة المسلمين، كان يتألم لواقع المسلمين، فيبذل من وقته وماله وجهده في الذب عن المحرومين والمظلومين وقضايا الإسلام على كبر سنه ما لم يكن يقوم بمثله إلا قلة، كان هو أمثلة من العلماء محط آمال طلاب العلم وأهل الدين والخير في علم يتعلمونه إما دلالة على معروف أو إصلاح خطأ أو خلل، لم يكل ولم يمل من خدمة دين الله تعالى حتى في ليلة وفاته كان جالساً إلى الناس يجبيهم ويعلمهم... ذكر ذات مرة سيرة عالم صالح فصارت دموعه تتحدر على خده، كان رقيق القلب سريع الدمع خاشعاً، يبكر إلى الصلاة ويأخذ لها أحسن اللباس والزينة، يمشي إلى المسجد ويقطع الطريق بقدميه رغبة في تحصيل الثواب على الرغم من كبر سنه ورقة عظامه... كان متواضعاً لا يأنف أن يسمع ممن دونه في العلم، ويجلس له حتى يقضي كلامه، ليربي طلاب العلم على أدب الاستماع، فإذا كان عالم الأمة يسمع ممن دونه فأين الذين يأنف من الجلوس للذكر من هذا الأدب الرفيع من هذا العالم الجليل؟... كان الشيخ واسع الصدر كثير


    التحمل هادئ النفس، أعطاه الله نفساً مطمئنة لا تجزع ولا تضجر، كان كذلك حكيماً في كل الأمور، حريصاً أن يجنب الأمة كل سوء وفرقة، لذا كان يتروى في مواقفه وأحكامه كثيراً وينظر في الأمور من كل الزوايا فلا يغلب جانباً إلا بقدر الضرورة، ويبذل في نصح الأمة بتوسط وعدل من غير تهور أو إحجام.. تحمل من أجل أمته، حتى صار وحده أمة في هذه الأمة، فما من مسألة إلا قالوا: اسألوا ابن باز، وما من مشكلة إلا قالوا: ما رأي ابن باز؟ وما من حدث إلا قالوا: أخبروا ابن باز،... فقد ذهب اليوم ابن باز، نسأل الله أن يعوض الأمة خيراً، وأن يبارك في البقية من العلماء.. كانوا يقولون: (موت العالم ثلمة في الإسلام) لأنه بموته يفقد الناس نوراً كان يهديهم بإذن الله، ولأن بموته يتخذ الناس رؤوساً جهالاً فيفتون بغير علم فيَضلوا ويُضلوا، ولأن بموته ينهدم جدار كان يقف سداً منيعاً يحفظ التوحيد والعقيدة والإيمان والأخلاق من هجمات المغرضين والمفسدين والمنافقين، ولأن بموته يفقد الناس عالماً أفنى سنين عمره في تعلم العلم والرسوخ فيه، والتعويض يحتاج إلى زمن.. ما أصيب المسلمون بمصيبة مثل موت رجل عالم صادق صالح كشيخنا الجليل -رحمه الله- ، وودّ كل مسلم لو فداه بنفسه وأهله وبنيه، لما مات عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- دخل الناس حزن عظيم وكرب كبير وودوا لو فدوه بأنفسهم، ولما مات عمر بن عبد العزيز أصاب الناس مثل ذلك.. إن الله حافظ دينه،


    لكنه جعل أسباباً لذلك منها وأهمها وجود العالم الصالح العامل، فذهابه لا ريب مصيبة كبرى لو شعر الناس، أنّ الله ليدرأ الشر عن الأمة بوجود الصالحين العاملين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر: )وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ(، فإذا ذهبوا فلم يبق آمر بالمعروف وناه عن المنكر أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده، أفليس هذا شراً ومصيبة كبرى؟ فهؤلاء العلماء الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر كالدرع للأمة يمنع عنهم حلول سخط الجبار، وشيخنا -رحمه الله- كان منهم... إذا مات العالم لم يجد الناس من يبين لهم دينهم الذي فيه صلاحهم في الدنيا ونجاتهم في الآخرة، فيموج الناس بعضهم في بعض، ويظهر المتعالمون الجهال، فيلعبون بدين الله، ويضلون عباده، أليست هذه مصيبة كبرى؟، بلى إنها لمصيبة ليس لها مثيل، لكن كثيراً من الناس لا يشعرون لأنهم لا يعرفون قدر الأعلام، والسبب في ذلك أن عنايتهم بالدنيا أعظم من عنايتهم بالدين، ولذا فإن حزنهم على ذهاب أهل الدنيا أعظم من حزنهم على ذهاب أهل الدين إن الشيخ قد ذهب إلى ربه، وله المقام العظيم عنده بإذن الله، يخبرنا رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه أن الأمة إذا اجتمعت على الشهادة لرجل بالخير كان كذلك عند الله، ففي الصحيحين أنه مر e بجنازة، فأثنوا عليها بخير، فقال e : ((وجبت))، ومر بأخرى فأثنى عليها بشر، فقال: ((وجبت))، فقال عمر:


    يا رسول الله ما وجبت؟ فقال رسول الله e: ((هذا أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض))، فبعض السلف يرى جواز الشهادة لمعين بالجنة إذا اجتمع المؤمنون على الثناء عليه بالخير، استناداً لهذا الأثر (انظر شرح الطحاوية تحقيق الألباني ص 387)، ولا نعلم عن شيخنا إلا أن كل المؤمنين يشهدون له بالخير -رحمه الله- . ولذا فإن جنازته كانت مشهودة.. ذهب الشيخ وآجره على الله على ما قدم، ذهب كما ذهب غيره وقد جاء في الأثر في البخاري عن أنس: ((لا يأت زمان إلا والذي بعده أشر منه))، فالزمان كلما تقدم تعاظم الشر، إذا انضم إليه فَقْدُ عالم كبير، فنعوذ بالله من شر ما يأتي، ونسأله خير ما يأت.. اللهم ارحم شيخنا، وأعظم أجره، ونور قبره، واجمعنا به في جنتك، وقيض للأمة من أمثاله كثيراً، واحفظها من كيد الكائدين، اللهم توكلنا عليك في نصرة دينك وصلاح أحوالنا يا رب العالمين.

    ```



    * الجزيرة: العدد 9741.

    * الرياض: السبت 29 صفر 1420هـ، 15 مايو 1999م - العدد 11282.

    * جريدة المدينة: الأربعاء 4 صفر 1420هـ

    * الشقائق: العدد الحادي والعشرون.
    اللهم اغفر لأبي وأمي وارحمهما كما ربياني صغيرا

  4. #34
    تاريخ التسجيل
    May 2006
    المشاركات
    8,993
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    26-02-2024
    على الساعة
    08:13 AM

    افتراضي

    الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى، فقد قال الله تعالى: )وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ([(145) سورة آل عمران].
    وقال تعالى: )كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ([(35) سورة الأنبياء].
    أخيتي في الله:
    إنني أعزيك وأعزي نفسي وأعزي الأمة الإسلامية كلها بوفاة منبع الفضائل شيخنا إمام الدعوة وعالم الأمة في هذا القرن، من ضرب مثلاً بالصلاح والإصلاح والتقوى، فقدت الأمة بفقده طوداً راسخاً وجبلاً شامخاً وسداً منيعاً في وجه كل من تسول له نفسه الإساءة لهذا الدين وأهله.
    ونفع الله بعلمه كثيراً من طلبة العلم فجزاه الله عن الإسلام


    والمسلمين خير الجزاء. هذا وقد كتب الله على هذه الأمة أن يذهب العلم بموت العلماء فإن العلم لا ينتزع انتزاعاً ولكن يذهب بقبض العلماء فإنا لله وإنا إليه راجعون وعزاؤنا في مصيبتنا موت نبي هذه الأمة نبينا محمد عليه الصلاة وأتم التسليم، فكل مصيبة بعده جلل هذا عزاؤنا بوفاة والدنا الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز من نذر حياته لدينه وأمته وسعى لنشر العلم وإصلاح ذات البين مترفعاً عن حطام الدنيا وشهواتها فضرب للناس مثلاً بالبذل والعطاء فحين أن الناس مشغولون بدنياهم كان هو مشغولاً بهم وبما يصلح شأنهم وبما يقودهم إلى جنات الخلد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح لكل مسلم بأسلوبه الفريد وتواضعه الجم وحسن خلقه لا فرق بين صغير وكبير، يحنو على الغني والفقير والأرملة واليتيم، فكان مدرسة حية في كل ما يقول ويذر، فحق للقلوب أن تحزن، وحق للعيون أن تبكي وإن القلب ليحزن وإن العين لتدمع وإنا لفراقك ولفراق صوتك يا شيخنا لمحزونون ولا نقول إلا ما يرضي الرب فإنا لله وإنا إليه راجعون...
    اللهم أجرنا في مصيبتا واخلفنا خيراً منها، واللهم اغفر لشيخنا وارفع منازله في عليين وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة، اللهم اجعل قبره روضة من رياض الجنة اللهم اجمعنا به ووالدينا في جنات النعيم، اللهم أجبر كسر المسلمين بفراق شيخهم وثبتنا وإياهم بالقول الثابت في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وإن حقاً على كل مسلم صعقه نبأ وفاة الشيخ وما ينتج عن ذلك من مشاعر يعجز عنها القلم، ففي ذلك دروس وعبر لمن


    كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ومن أهم تلك الدروس ما يلي:
    1- إن خروج الملايين في جنازة الشيخ مما يدل على صدق ما قاله الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- موعدنا يوم الجنائز وعاجل بشرى المؤمن شهادة عباد الله له بالخير.
    2- فضل العلم والعلماء ورفعة منزلتهم في الدنيا والآخرة.
    3- إن ما تميز به الشيخ -رحمه الله- من قضاء حوائج المسلمين والسعي فيما ينفعهم فخير الناس أنفعهم للناس.
    4- اتصاف الشيخ بالعفة والنزاهة وقول الحق فأنزل الله في قلوب العباد هيبته ومحبته فمن أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس ومن أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس.
    5- الورع والزهد في المتاع الزائل والترفع عن الدنيا وشهواتها ديدن ورثة الأنبياء في كل عصر فيا ليت الشيخ يكون قوة لنا في ذلك هذا وحقاً على كل من فجع بالشيخ وأحبه حياً وميتاً أن يسير على ما سار عليه من نهج قويم رفع ذكره وأنار سيرته.
    جعلني الله وإياكم من يستمعون القول فيتبعون أحسنه وأحسن عاقبة المسلمين ووقاهم شر الفتن ما ظهر منها وما بطن وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.



    قبيل الفقد مفقود المثال





    بقلم: د. مازن عبد الرزاق بليله
    رئيس تحرير جريدة المدينة
    فقدان النفس فاجعة، لأنه صعب التعويض، ولكن الفاجعة تكون مضاعفة عندما يكون النفيس نفيساً وفريداً حتى قبل فقدانه، وهذه هي الصورة الرائعة التي استطاع المتنبي أن يبدعها بريشة الفنان ليرسم لوحة حزينة، بالغة الأسى للفقيد الذي فقد المثيل له حتى في أثناء حياته، فكيف بعد مماته، لذلك يقول:
    وأفجع من فقدنا من وجدنا




    قبيل الفقد مفقود المثال


    وقد رزئت الأمة الإسلامية في السنوات الثلاث الأخيرة، بثلاثة فقداء من هذا النوع النادر الذي صوره المتنبي في هذا البيت، فقبل عامين فقدت الأمة المفكر الإسلامي الكبير الشيخ محمد الغزالي خلال مشاركته في ندوة الإسلام والغرب بالرياض، والعام الماضي رزئت الأمة بوفاة الداعية الإسلامي الكبير فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي، وهذا العام رزئت الأمة بوفاة إمام العلماء الداعية الزاهد سماحة الشيخ


    عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وكل هؤلاء الثلاثة أعلام للفكر والدعوة، والعلم الشرعي يندر أن يجود الزمان بمثلهم وهم أحياء فكيف بعد مماتهم؟
    والعلماء هم ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً وإنما ورثوا هذا العلم الذي ينتفع به الناس وجهود هؤلاء الدعاة في نشره وتوعية الناس به مشكورة، وقد تركوا إرثاً من العلوم والمعارف التي لا تنقطع خيراتها وبركاتها إلى يوم الدين.
    إن إحياء ذكرى هؤلاء الدعاة يكون بتدريس مناهجهم ومؤلفاتهم وتحليل آرائهم في الفكر والدعوة، وتجميع كل ما تركوا من رسائل وكتب وأشرطة وبحوث لتصبح في متناول الفرد والباحث ويصل إليه الأجر والمثوبة لكل من ينتفع بها ويستفيد منها. علينا توجيه طاقة الحزن والأسى نحو جوانبها الإيجابية التي تجعلنا نوقر علماءنا، وننمي شبابنا على العمل الصالح وحب العلوم الشرعية وإيجاد البدائل لأن الأمة التي أنجبت هؤلاء الكبار ستكون بالتأكيد قادرة على مواصلة هذا العطاء.

    ```


    جوانب من سيرة الإمام
    عبد العزيز بن عبد الله بن باز






    بقلم: الشيخ محمد بن إبراهيم
    سيرة هذا الإمام الفذ يصعب حصرها بل يتعذر الإتيان عليها، وفيما يلي ذكر بعض تلك الجوانب:
    الصبر: فللإمام -رحمه الله- قدح معلى، ونصيب أوفى من تلك الخصلة الكريمة. وجوانب الصبر فيها كثيرة جداً، فالشيخ صبور على التعليم والتعلم حتى بعد أن كبر وأصبح مرجع المسلمين الأول، فلا تره إلا مكباً على العلم متزوداً من الفائدة سواء من بين طلابه أو في سيارته وهو في طريقه إلى العلم ونحو ذلك، والشيخ صبور في تصديقه للناس وحله لمشكلاتهم وإجابته عن أسئلتهم وسعيه في الإصلاح بينهم، وحرصه على الشفاعة لهم حتى إن الزائر للشيخ قد يصيبه الضجر والملل من جراء مضايقة الناس له وكثرة إلحاحهم عليه وسوء الأدب الذي يصدر من بعض الناس أحياناً تجاه الشيخ، والشيخ لا يفارقه الهدوء ولا السكينة بل يستقبلهم بوجه طلق ونفسٍ راضية وسكينة عجيبة.
    والشيخ صبور بل محب لمن يقصده بالزيارة حتى إن الزائر


    ليستحي من تكرار الزيارة، خشيةً من إحراج الشيخ أو إضاعة وقته، ولكن الشيخ يفرح بذلك أيما فرح ويذكر زائريه بفضل الزيارة والمحبة في الدين.
    والشيخ صبور على الألم والمرض فربما بلغ به الألم مبلغه ومع ذلك لا يلاحظ عليه تكدر أو تغير مع أن المرض -كما هو معلوم- تتغير به الطباع فلا تبقى الأخلاق على اعتدال ولا يقدر معه على احتمال، ولسان حال الشيخ يقول:
    لست ممن يفقد الأنس إما




    أصبح الروض كئيباً أغبرا


    لزوم الاعتدال: فالاعتدال سمة ملحوظة في سيرة الشيخ وذلك في شتى الأمور: في أحكامه، وفتاويه، وتعامله، بل في تبسمه وضحكه؛ فلا هو بالفظ الغليظ ولا هو بالمسرف بالضحك من القهقهة، بل هو معتدل في مأكله ومشربه، فما يمتنع من طعام ولا يكثر من الأكل والشرب منطلقاً بذلك من قوله تعالى: )وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا(، ولهذا متعه الله بالصحة والعافية، عدا ما يعرض له من الأمراض العارضة، وعدا ما أصابه قبيل وفاته.
    أما غير ذلك فإن الشيخ قد سلم من كثير من الأمراض التي تعتري أكثر الناس خصوصاً ممن هم في سنه أو في مكانته ممن يتصدون للناس فالشيخ لم يصب بالضغط ولا بالسكر ولا بغيرها من


    تلك الأمراض.
    الأدب الجم: فالشيخ لا يؤذي أحداً بكلمة ولا يجرح مشاعر الآخرين بأذية، وحتى إن المخالفين له ليكبرون فيه هذه الخصلة، فتراه لا يزيد على من يميل عن الحق ولا يخرج عن طوره إذا أراد الرد على أحد، بل تراه ينبه المخطئ بألطف عبارة وأحسن إشارة، ربما استدعى المخالف أو اتصل به فيدنيه وينصح له ويأخذ بيده ويشير عليه فلا يكاد المخالف بعد ذلك أن يخرج عن إشارة الشيخ ورأيه وإذا لجّ المخالف في الخصومة ومشى في غلوائه بعد استبانة الحق له وخشي الشيخ أن يصل الناس بسبب ذلك -أخذ بالتي هي أرضى لله- وردّ على المخالف بما يناسب حاله ومقامه.
    قيامه بصغار الأمور وكبارها: فذلك من أسرار عظمته وتميزه ففي الوقت الذي يقوم فيه بجلائل الأعمال، من مراسلات لكبار المسؤولين ومناصحة لرؤساء الدول، واستقبال للوفود من أعلى المستويات وقيام بالدروس والفتوى والرد على الأسئلة المتتابعة وترؤس الاجتماعات، سواء في الرابطة أو في هيئة كبار العلماء أو غيرها، تجده لا يهمل دقائق الأمور وصغارها بحجة اشتغاله بما هو أهم، بل تراه يعطي كل ذي حق حق، فتراه يمازح الصغار ويداعب قائد سيارته والعاملين معه ويسألهم عن أحوالهم وأحوال ذويهم بل تراه لا يغفل عن الثناء على الوجبات التي يعملها طباخ المنزل، وهكذا حاله مع الناس.


    ولم يكن أحد يلهيه عن أحد




    كأنه والد والناس أطفال


    وهذا سر من أسرار عظمته وحلوله في سواد العين وسواد القلب عن الخاصة والعامة، فكل له كيانه الخاص وكل له شأنه عند نفسه.
    إقبال على المتحدث: حتى إنه ليُخيل إليك والشيخ يحدثك أنه لا يعرف غيرك وليس لديه قضية إلا قضيتك.
    لا يحمل أحداً ذنب أحد: فلا تحمل مشكلات العمل للمنزل أو للزائرين فإذا جلس إلى أحد ظن أن الشيخ خلي من الهموم، وهذا من أعظم ما يعين على القيام بمسؤولياته بخلاف الكثير من الناس ممن إذا كدر عليهم فكدر نال الغضب كل من حولهم وكل من يتصل بهم.
    سلامة الصدر: فلا يعرف الحقد طريقه إلى قلب الشيخ بل قلبه مفعم بالحب والرحمة والرغبة في إسداء الخير للآخرين فالشيخ يصل من قطعه ويعي من حرمه ويعفو عمن ظلمه ويحسن إلى من أساء إليه، وهذا أمر يعرفه القاصي والداني.
    الثقة والسرعة في إنجاز الأعمال: فإذا حضرت مجلس الشيخ سواء في "الرياض" أو الطائف أو مكة في أوقات الحج أو غير ذلك رأيت الجمع الغفير من الناس ممن قدموا للسلام على الشيخ أو من ذوي الحاجات والمشكلات أو ممن وقع منهم الطلاق أو ممن يريدون الفتوى


    فيضيق المجلس بهم، ويتقدمون إلى الشيخ ما يريدون ويكون في أغلب الأحيان اثنان من كتاب الشيخ أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله وكل واحد منهما قد ملأ جعبته من الأسئلة والمعاملات التي تعرض على الشيخ ويكون بجانب الشيخ هاتفان لا يتوقف رنينهما.
    فإذا رأيت هذا المشهد أيقنت أن هذا الجمع لن ينفل، وأن تلك المعاملات تحتاج إلى أسبوع على الأقل؛ ليتم التخلص من بعضها، وما هي إلا فترة يسيرة ثم تنفل تلك الجموع وكل قد أخذ نصيبه من الشيخ إما بتوجيه معين أو برد على سؤال أو استجابة لطلب مع أن الشيخ في ذلك الوقت يستمع ممن على يمينه ومن عن شماله من الكتاب ومن أمامه من المراجعين أو المستفتين، ويرد السلام على من يسلم ولو أدى ذلك إلى قطع القراءة ولو كانت طويلة ويرد في الوقت نفسه على الهاتف ثم يعود إلى القارئ أو يرد السلام على من يسلم ممن يأتي من فوره إلى مجلس الشيخ فيحتفي به الشيخ ويلح عليه بتناول طعام الغداء أو العشاء لديه، وما أن تنتهي الجلسة إلا وقد قام الشيخ بأعمال عظيمة لا يقوم بها أولو القوة من الرجال مع أن الشيخ كفيف البصر كبير السن ومع أن كلمته هي الفصل التي يتوقف عليها أمور عظيمة ومع ما يلقاه من فظاظة بعض المراجعين فهذا هو نظامه اليومي في الظهر وبعد المغرب وقبل الظهر زيادة على ذلك يوم الخميس.


    قوة الذاكرة: فلقد متعه الله -عز وجل- بذاكرة تستوعب كافة القضايا ومع تقادم سن الشيخ إلا أن ذاكرته تزداد قوة سنة بعد سنة، وقد حدثني بذلك الشيخ الموسى -حفظه الله- فمنذ سنوات عديدة إلى أن توفي الشيخ وهو يحدث بذلك، كلما سألته عن ذاكرة الشيخ قال: إن ذاكرة الشيخ هذا العام أقوى من العام الذي قبله.
    إن من أعظم نعم الله على الشيخ وعلى الأمة أن حفظ الله على الشيخ ذاكرته وعقله، فلم يصبه الخرف ولم يفقد علقه حتى فارق الدنيا.
    الكرم المتناهي: كريم في خلقه، كريم في عفوه وصفحه، كريم في علمه ووقته وراحته، ولا يخلص زائره منه إلا بعد لأي وجهد.
    ثم إن الذي بيد الشيخ ليس له ولو سُئل ما سُئل لأعطى فربما سُئل مالاً بل ربما سُئل عباءته التي يلبسها فأعطاها من سأل، وربما أتته الهدية في المجلس فسأله أحد الحاضرين إياها فأعطاها إياه، وقد أهدي إليه مرة عود فاخر فسأله أحدهم إياه فقدمها الشيخ له، كل ذلك بنفس راضية فهو يتلذذ بالعطاء أكثر من تلذذه بالأخذ.
    تراه إذا ما جئته متهللاً




    كأنك تعطيه الذي أنت سائله


    ولو لم يكن في كفه غير نفسه




    لجاد بها فليتق الله سائله


    والحديث عن كرمه يبدأ ولا يكاد وينتهي..


    الوفاء: فالوفاء سمة بارزة في الشيخ فهو وفيٌ مع مشايخه وزملائه، فلا يكاد يذكر شيخه سماحة الإمام محمد بن إبراهيم -رحمه الله- إلا وتغرورق عيناه بالدموع، وربما ذكر زميله سماحة الإمام عبد الله بن حميد فبكى.
    ومن وفائه تذكره لأبناء أصحابه وحبه لهم وعنايته بهم ومن ذلك سؤاله المتكرر عن معارفه واتصاله بهم.
    المحافظة على الوقت: وهذا من أعجب ما يلحظ في سيرته فلا تضيع لحظة من لحظات حياته من غير فائدة، سواء كانت شفاعة أو نصيحة أو إجابة لسؤال أو كتابة لمستفت أو رداً على الهاتف أو مطالعة في كتاب أو إلقاء الدرس أو تعليق على كلمة.
    وإذا خلا من ذلك أو وجد فرصة يفرغ منها من أعماله لهج بذكر الله مسبحاً مهللاً محوقلاً مكبراً، والعجيب في سيرة الشيخ وقته في المواعيد حتى إن الناس لتعرف نظامه اليومي طوال العام سواء كان في "الرياض" أو "مكة" أو "الطائف" أو "المدينة" عدا ما يكون من إخلال بسبب بعض العوارض، والشيخ دقيق في معرفة أوقات الصلوات، فإذا تأخر المؤذن أقل من الدقيقة تنبه الشيخ لذلك، ولقد بارك الله في وقته أيما بركة.
    طيب النفس وحسن الخلق: وهذه الخصلة يبدأ الحديث عنها ولا ينتهي فلا تجد عند الشيخ ضيقاً ولا تبرماً حتى إن الشيخ إذا أتى من


    الدوام قبيل العصر منهكاً مكدوداً قد بلغ به الإعياء مبلغه، ودخل مجلسه والناس ينتظرونه للسلام عليه أو سؤاله أو طلب الشفاعة منه أو عرض بعض المشكلات عليه أقبل عليهم بجبين طلق ونفس كريمة وابتسامة مشرقة مع أنه قد أتى من الدوام وقام بأعمال يعجز عن القيام بها الرجال الأفذاذ، ومع أنه قد قام منذ آخر الليل يتهجد إلى أن يؤذن للفجر ثم يصلي الفجر ويبدأ بإلقاء دروسه إلى قريب الثامنة صباحاً ثم يذهب على المنزل ويمكث فيه قليلاً ثم يذهب إلى الدوام، فما الظن بمن هذا حاله هل يلام إذا تكدر أو تبرم؟.. لا؛ فماذا يقال إذا كان الأمر عكس ذلك تماماً الجواب:
    )وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ(.
    العدل في الأحكام: ومن أمثلة ذلك أنه إذا قرئ عليه كتاب أو سمع كلاماً لأحد من الناس قرأه أو سمعه وكأنه خالي الذهن عن معرفة ذلك القائل أو الكاتب فحكم عليه بما يستحق ثناء أو نقداً فلا تأخذ معرفة الإنسان وقربه منه إلى مجاملته والتغاضي عن أغلاطه، لا يأخذ الجهل به أو بعده عنه أو كثرة كلام الناس فيه أن يرد ما عنده من صواب بل يقبل الحق ويثني عليه لو كان من أبعد الأبعدين.
    وهذه منزلة عالية وتجرد خالص لا يستطيعه كل أحد من الناس.
    التشجيع: فلا تكاد تزور الشيخ وتخرج من عنده إلا وتشعر بأن روحاً جديدة قد دبت في جسدك.


    سعة الأفق: فالشيخ من أوسع الناس أفقاً وأبعدهم نظراً وأرحبهم بالخلاف صدراً وأكثرهم للمعاذير التماساً والشيخ لا يأنف من سماع الحق ولا يحرج صدره من قبوله ولا يستنكف من الرجوع إليه والأخذ به.
    والشيخ لا يلزم الناس باجتهاداته ولا يضلل كل من خالفه، ومن عظيم سعة الأفق عنده أنه يستمع من الكبير والصغير والجاهل والعالم والعام والخاص.
    هذه بعض الجوانب من سيرة الإمام عبد العزيز ابن باز، والمقام لا يتسع لأكثر من ذلك.
    فرحم الله شيخنا، وأجزل له الأجر والمثوبة.

    ```



    لمثل هذا فليعمل العاملون





    محمد بن إبراهيم العبد السلام
    الملحق الثقافي (سابقاً) بالمغرب
    ماذا عساني أن أكتب، والفقيد في حجم ومكانة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز الذي رحل إلى الدار الآخرة مودعاً باللوعة وبالتكبير والتهليل من مئات الآلاف من بني وطنه، ومن المؤمنين برسالة العلم وبموقع الدعوة والعمل الصالح في حياة الأمة.
    تتعثر الكلمات وتتشتت، ويقف البيان عصياً وكالَّاً، وصور مشهد الصلاة على سماحته في المسجد الحرام، وتدافع المشيعين له في مكة المكرمة في تأثر بالغ على فقيد العلم، فقيد الدعوة، المحدث المحقق فقيد الإنسانية في أسمى صورها، نصير الضعفاء والأتقياء، محضن من شعر بالضياع في متاهات الخطيئة، فجاء ملتمساً كريم الهداية والنصح كل هذه المشاهد المتدافعة تجعل الأفكار مضطربة، والجمل غير مترابطة، لكن مع ذلك لا نقول بداية إلا ما أوصى به قرآننا العظيم في مثل هذه النازلة: )إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(، وأن ندعو الله وهو أرحم الراحمين فنقول: اللهم آجرنا في فقده، واجبر مصابنا في رحيله، واجعل الخير في عقبه، وفيمن يخلفه.


    لقد تسلق الرجل العظيم بوطنه وبرسالته العالمية، فلم يقبل مغادرة تربته الطاهرة حتى وهو في أمس الحاجة -مؤخراً- إلى تلمس مزيد من العلاج الناجع، ولم يترك الرحيل إلى مكة المكرمة في قيادة الدعوة والإفتاء طيلة أزيد من ستين عاماً إلا في الحج المنصرم حيث بلغ به الجهد مبلغه، وحين استراح قليلاً غادر الرياض ليلقى بقية من حجاج ينتظرون قدومه وتوجيهه ونصحه وتكريمه بفارغ الصبر وكأنه في رحلته الأخيرة على موعد مع قدر رحيله بجوار مقدسات المسلمين حتى يصلى عليه في يوم جمعة في المسجد الحرام من طرف خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده، وطائفة كريمة من إخوته، ومن علماء وفضلاء من العالم الإسلامي ومن حشود هائلة من أبناء الوطن العزيز والمقيمين فيه، قلّ أن تجتمع من أجل الصلاة على راحل مثلما اجتمعت له وفي ذلك مصداق لمضمون الحديث النبوي: ((إن الله إذا أحب عبداً، أحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض)).
    لقد أبكى خطيب المسجد الحرام، وخطباء آخرون في مساجد المملكة حينما نعوا -في أصوات متهدجة- فقيد الأمة الإسلامية وحبرها الرباني، ثم سردوا قدراً كريماً من خصاله، وجانباً من سيرته العطرة حتى أخذ المصلون يعزي بعضهم بعضاً، وكأن الفقيد العزيز أخ أو والد لكل منهم.
    لقد زاد تأثر ساكنة الرياض -على وجه الخصوص- حين


    شاهدوا عبر أجهزة الإعلام المرئية تأثر خادم الحرمين الشريفين، ومن حضر معه لأداء الصلاة عليه، وتأثر المصلين في المسجد الحرام، ثم تدافعهم بل تراكضهم حول نعش سماحة الفقيد ليسهموا ولو للحظات بنقل الجثمان.
    لم يخطر في بال أحد مهما كانت دقة ملاحظته أن يرى في الحرم المكي أقواماً ركبوا متن سياراتهم على عجل من الرياض ومن تبوك ومن القصيم، ومن محافظات أخرى، رغم طول المسافة وحرارة الطقس، قدماً لغرض واحد المشاركة في توديع سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى مرقده الأخير في بقعة من أكرم بقاع الأرض.
    لقد تعطل العد الأكبر من الوصول إلى مكة المكرمة حيث لا توجد مقاعد في الرحلات الجوية، ذهاباً أو عودة، مع أن المؤسسة العامة للخطوط السعودية أسهمت برحلات إضافية تقديراً للحدث، ولكن طالبي السفر أكثر بكثير من حجم المقاعد المتاحة.
    عجيب أمر هذا الراحل العزيز وأمر محبة الناس التلقائية له، لهو أبعد ما يكون استغلالاً لمهمته الكبيرة في استقطاب الآخرين عدا أن يحق حقاً، أو يذود باطلاً، بل إن أكره ما يكره أن يتزلف له وينافق بمديح أو يلبس له كاذب لباس التقوى، ومهما قيل في طهارة قلبه، وفي حمل الناس على ظواهرهم، فإن لسماحته -يرحمه الله- من حدث الإيمان ومن صفاء السريرة ما يمكنه من كشف المخادعين، وذوي


    النيات السيئة قبل أن يحققوا منتهى طلبهم.
    لقد تولى القضاء -رحمه الله- في سن مبكرة (27) عاماً، وفي أول مهمة عدلية يقوم بها، وكانت تسبقه إلى منطقة الخرج.. وقاعدتها (الدلم) حرسها الله سمعة علمية وإيمانية كبيرة، حيث يعد يومها ثالث ثلاثة يشكلون قمة علماء المملكة، سماحة المفتي السابق الشيخ محمد بن إبراهيم ثم يليه التلميذان المجيدان الشيخ عبد الله بن حميد الفقيه المعروف، والشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمهم الله-.
    لقد تدعمت هذه السمعة الكريمة لدى سكان الخرج بأمرين على جانب من الأهمية.
    1- أن مجموعة كريمة من كانت تدرس في حلقات المفتي آنف الذكر بالرياض، وتعرف من خلال مزاملة تلميذه الشيخ عبد العزيز ما يتميز به من نبوغ مبكر فضلت الرحيل معه إلى الدلم، وفي ذلك استمرار لصلتها بالشيخ، وطلب للمزيد من عمله واجتهاداته، فكان منهم من ينتمي إلى الدرعية، وإلى الرياض، وإلى ملهم وحوطة بني تميم ويمامة الخرج، وحريملاء وبلجرشي، وزملاء لهم من اليمن والحبشة والعراق، وكان لهم من جميل المساكن وموصول الاحترام لدى أهالي الدلم ما جعل غربتهم يسيرة سمحاء.
    لقد أثارت هذه المجموعة روح المنافسة العلمية في مدينة الدلم التي عرفت


    علماء فضلاء فكان الشيبان يتسابقون إلى حلقات الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز فجراً وعشاءً وتنامت هذه الجذوة المباركة حتى وصل البعض منهم في مراحل لاحقة إلى درجات مشرقة في التدريس وفي القضاء.
    2- الأمر الثاني الذي رسّخ من مكانة الشيخ -رحمه الله- في الشهور الأولى من وجوده بينهم وأعنى ساكنة الدلم وما حولها، همته السريعة في تشييد جامع كبير بدلاً من الجامع الذي تقادم بناؤه، دون أن يكون مع سماحته أو مع المواطنين في المدينة ميزانية لهذا الغرض.
    لكنه عوّض هذا العجز الواضح بتعاون جماعي، فاستنهض همة الحرفيين والبناة ليتطوع كل منهم بالأيام التي يقدر عليها، منتظمة أو متقطعة دون مقابل، ثم كان هذا الوضع مع الذين يعملون في قطع الحجارة الذين تطوعوا بتهيئة ما يلزم للأعمدة والمثلثات، ثم تطوع أصحاب الجمال بنقل الكمية المطلوبة إلى موقع المسجد.
    ولما جاء دور السقف تطوع أصحاب النخيل بالتبرع كل وطاقته بعدد من خشب الأثل وجريد النخل، وحتى أصحاب الجص تطوعوا بإحضاره وإحراقه وغربلته ليكون تحت تصرف الذين يتقنون تبييض الأعمدة والمحاريب.
    لم يبق إلا فرش المسجد بالرمل طبقاً لما هو معهود في تلك الفترة من عمر المملكة أعزها الله أواخر الستينات فقد تطوع كل النقلة من


    أصحاب الجمال والحمر الأهلية بإحضار ما يحتاجه المسجد.
    أما عن إطعام الحرفيين والبناة بشيء من جيد الأكل، فلم يكن متوفراً باستمرار لكن يحدث بين وقت وآخر تطوع بعض الميسورين إعداد وجبة جماعية دسمة أو يتغافل أحد العمال -المعروف بقوته الخارقة- وينتهز زيارة ميسور لتفقد ما تم في بناء المسجد فيخطفه حملاً على الكاهل، ولا ينزله حتى يعد العمال بأكله جماعية جيدة التكوين.
    وهكذا تم بناء جامع الدلم وتحول إلى خلية علم وعبادة ومدارسة للقرآن الكريم، ولأحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلام، ولعدد من المتون فقهاً وأصولاً ونحواً ومطولات في التاريخ والسيرة.
    تلك نقطتان أعطت للشيخ الراحل في نفوس سكان الدلم على الخصوص، موقعاً مميزاً إضافة إلى ما سبق وصوله من كريم ذكر وجميل خصال وغزارة علم وعظيم تقوى.
    سوف تهدأ شيئاً فشيئاً حرقة الوداع، ومرارة الحزن على الفقيد انسجاماً مع سنن الله الكونية، لكن من المؤكد أن أي مارّ بأحد بيوته الكريمة في مكة المكرمة، أو في الطائف، أو في الرياض، إلا سوف تستيقظ في نفسه مشاعر الحزن من جديد على فقد راحل ترك بصمته على كل من زاره، أو دارسه أو هاتفه، سوف تبكي مشاعره على فقيد كل فضيلة، ونصير كل خير، على الرجل الذي لم يتوقف عطاؤه إلا


    بالموت معلماً مستمعاً للذكر، تالياً داعياً، مكرماً ضيفه، متعاطفاً مع زائريه، مفتياً عن يمينه وعن شماله وبين يديه.
    تبكي المسؤول الكبير الذي لم يتمتع يوماً بإجازة، ولم يخرج يوماً لنزهة، بل إن الساعة التي يقضيها ضيفاً لدى أحد أحبابه الكثر يعطي لها مفهوماً خاصاً حين يأمر أحد مرافقيه بتلاوة آي من الذكر الحكيم، أو بقراءة طرف من أحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلام ليفسر منهما ما يحتاج إلى إيضاح، وفي أحيان أخرى يبدأ -رحمه الله- مباشرة بنصح عام وبموعظة حسنة.
    إن الذي يعرف الشيخ عبد العزيز عن قرب، أو تراسل معه بحثاً عن الحق، أو طلباً لنجدة، سوف يبقى إلى أمد غير قريب مترحماً على روح الفقيد، آسفاً لفراقه.
    إن آخر شيء أعتز به، بساطته الكريمة مع أحد النبلاء في وطننا العزيز، حيث تحمل مشكوراً تكاليف طبعة ثانية لكتاب (منهاج السنة النبوية) -تسعة مجلدات- للإمام ابن تيمية -رحمه الله- ، والذي كنت أهمُّ بالسفر إلى الطائف لأعرض على سماحته نسخة من هذه الطبعة، ولأستأنس بتوجيهه الكريم في عملية التوزيع، ولكن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
    رحمك الله أيها الشيخ الجليل رحمة الأبرار وأسكنك مساكن الأخيار، وجعل الخير في عقبك أنجالاً وحفدة، وفيمن يخلفك، وجبر


    مصاب الأمة في رحيلك.
    )إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(، وداعاً لمن فقدت الأرض سجوده، والسماء دعاه.
    وإذا كانت النفوس كباراً




    تعبت في مرادها الأجسام


    كأنما هذا الشاعر يصور جهاد الشيخ الطويل، وما أتعب نفسه من أجله، فأعطى هذا المعنى الحي لراحل كان يفتي الناس في الحج وهو مضطجع على يمينه بعد أن يبلغ به الجهد مبلغه.

    ```


    الشيخ الوالد...
    ذلك العلم الذي فقدناه






    بقلم: محمد بن أحمد الشدي
    استولت على تفكيري حالة الشيخ الوالد عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله- الصحية منذ أن علمت بترديها ثم دخوله المستشفى وخروجه.. ولكني رغم هذا قد فجعت بوفاته أيما فجيعة كأي مسلم زيادة على ما يربطني بسماحته من محبة صادقة بدأت بينه وبين والدي -رحمه الله- أيام طلب والدي للعلم بالقرب من الشيخ الجليل واستمرت صلة طيبة مستمرة.. وقد أحدثت هذه الفاجعة ووفاته المفاجئة لدي ما يشبه الذهول.. مما جعلني أتأخر في الكتابة الواجبة علي نحوه وكنت أعلل النفس وكأني سوف أمر للسلام عليه في أي وقت، بل إنني تماسكت في حزني على سماحته حتى ذهبت على مسكنه في الرياض ضمن جموع حاشدة للعزاء فوجدت أبناءه الكرام يقفون لتقبل العزاء فلم أتمالك نفسي عند رؤيتي لأبنائه ومجلسه المعتاد الذي كثيراً ما ألفيته فيه هاشاً باشاً بمن حوله، لقد كانت لي ولغيري مواقف كثيرة مع سماحته منذ أن عرفت الحياة العامة وعرفت من والدي عن حياة الشيخ في الخرج وتحديداً في الدلم في الستينيات


    الهجرية ما يجب أن يفخر به بحق كل مسلم وعربي فقد لم شتات طلبة العلم هناك واحتسب ذلك من أعمال الخير وتجمع عنده عدد من طلبة العلم من كل أنحاء المملكة وهيأ لهم السكن وما يلزم من أمور الحياة.. بل أن سماحته خصص لكل فرد منهم كمية من التمر يأخذها من بعض المزارعين الذين يقدمونها عن طيب قلب إلى هؤلاء الذين نذروا أنفسهم لطلب العلم.. وعندما أقام الملك عبد العزيز -رحمه الله- قصره في الخرج أخذ شيخنا ابن باز يحضر مجلس الملك وطلب منه مساعدة مالية لطلبة العلم فأعطاه الملك ما يريد على ضعف الإمكانات في ذلك الوقت، بل إنَّ سماحته أخذ يجمع من كل موسر ما يستطيع، وينفق على طلبته ولا تجده في مناسبة زواج أو خلاف ذلك إلا وطلبته معه ويبدأ مجلسه بالقراءة والذكر.
    وهكذا بدأ سماحته حياته بهذا الأسلوب المتجرد والصادق مع ربه ومع الناس، واستمر يزرع الخير ومحبة الناس له تنمو إلى أن رأينا كيف أضحت محبته عند من يعرفه ومن لا يعرفه في داخل بلادنا وفي خارجها من الرجال والنساء. وكما ذكرت فقد كانت معرفتي بسماحته مبكرة وكان -رحمه الله- يميز بين أصوات الناس وإذا ألقيت السلام عليه في أي مكان يرد قائلاً: محمد بن أحمد -تفضل هنا ويشير لي بالجلوس بالقرب منه- هكذا تعامله مع الكثيرين ممن حوله.. وعند بداية عملي في مجلة اليمامة طلبني بواسطة معالي الشيخ عبد الله بن عدوان رحمه الله ونصحني نصيحة الوالد الغيور على دينه


    والمدرك لدور الإعلام الخطير، وقال -أعانك الله ووفقك- احرص فأنت مسؤول وهناك خطر عليك عظيم من هذا السلاح الذي في يدك.. كانت كلماته رحمه الله أمامي طوال سنوات العمل التي قضيتها في رئاسة التحرير: وكان -رحمه الله- لا يصدق أحداً قال ما يخالف المألوف عني وإذا أغلظ الواشي وكل عامل في الإعلام أو غيره معرض لمثل هذه المواقف قال: ادعه لي وإذا حضرت واكتشف الحقيقة فرح فرحاً ظاهراً وقال لي ظني فيك الخير وابتسم بحنان أبوي، وودعني بنفس الكلمات الصادقة والدعاء الذي كنت في حاجة إليه.. وهكذا هو -رحمه الله- مع الجميع وليس معي فقط يتابع أعمال المسلم أينما كان هو ذلك الرجل وفي أي موقع هو فيه حتى ولو كان بائعاً في أحد الأسواق وبدر منه شيء يخالف الدين أو العرف وهو يبدأ من يمثل أمامه بالنصيحة واللطف ويتركه بعد ذلك يتدبر أمره بنفسه..
    ودارت بي الأيام والسنون ووجدتني أتحاور مع سماحته عندما عملت في مجال الثقافة والفنون كوظيفة رسمية.. فقد سعيت إليه هذه المرة بنفسي وأخذني بيدي وأغلق باب مكتبه الأمن خاصته.
    مفرداً من وقته الثمين لي ما يكفي لاستطلاع أمري وكنت بوقته ضنيناً وكان هو يمنحني بكل كرمه المعهود كل ما أريد من وقت وبدأ هو وقال: إنَّ المسؤولية عليك اليوم أكبر وأنك لفي جهاد كبير وأنت محل الثقة.. أريد أن تقول لي عن طبيعة عملك وشرحت لسماحته


    في وجل كل ما لدي وابتسم ثم قال: إذا كانت هذه حدود عملك فأنا أشارك معكم بمحاضرة في كل عام ضمن نشاطكم الثقافي وسألني بعض الأسئلة وطرح بعض الاستفسارات التي تلوح في خاطره بعد نقل تصورات خاطئة إليه عن طبيعة عملي وفعلاً فقد بدأ يلقي محاضرة في الرياض من خلال عملي وأخرى بالطائف رغم اعتراضات البعض التي تصله وأخذ يطلبني عند سماعه أي ملاحظة عابرة عن أي عمل ثقافي.. ثم أتيت سماحته مستفسراً عن إمكانية إقامة مهرجان في الطائف بمسمى مهرجان عكاظ -فقال: لا أرى في ذلك بأساً ما دام أن ما سيقدم في هذا المهرجان يخدم لغة هذه الأمة ويذب عن دينها وفي حدود الشريعة- والشعر كان ولا يزال من أهم أسلحة الإسلام، أما المسميات فلا تقف دون العمل ثم قال سماحته ومع هذا دعني أفكر وأتشاور مع الأخوان لدي وأجيبك إن شاء الله ثم قال: سبق أن قلت لك عند صدور مجلة التيوباد من عندكم بأنني أؤيد نشركم الكثير من القصائد العربية الأصيلة... فالشعر العربي يعلم الشباب الأنفة والفصاحة والرجولة فاحرصوا عليه أنت وأبو عبد الرحمن بن عقيل، لأن الأمة الإسلامية تحتاج إلى هذه الخصال في شبابها.. وأنتم تدركون خطورة هذا العصر على شاب الإسلام..
    لقد كان -رحمه الله- أديباً بطبعه فقد كان يتمثل بالكثير من الشعر العربي قديمه وحديثه في أحاديثه العامة والخاصة وكان يقرأ معظم


    المجلات الفكرية، لقد أسس نفسه على قواعد ثابتة في تعاملاته اليومية مع الناس من حوله وخصص وقتاً للقراءة في التاريخ وفي الدول الإسلامية وتاريخها واهتم بالإعلام بشكل خاص وبكل وعي مسبق لهذه الأداة العصرية وهدفه أن يخدم به الإسلام والدعوة إلى الله... يفعل كل ذلك دون حساب لشخصه أو وضعه في المجتمع..
    ثم إنَّ سماحته شخصية سياسية إلى جانب أنه شخصية دينية يخدم الفقراء في كل مكان وزمان وكان سماحته أثناء إقامته في الدلم بالخرج يزرع ويطعم الفقراء ودائماً هو يهتم بشؤون الناس في الأسواق والطرق والمياه والصحة.. بل إنه شخصية إسلامية عالمية بكل المقاييس سواء من خلال فتاواه المثبتة في كتبه أو مشافهة فهو يتحدث عن المسلم في كل مكان ومصدره الكتاب والسنة وعلمه بالحديث ورجاله الذي لا يضاهيه فيه أحد مما يجعل له قبولاً لدى الجميع.. يفعل ذلك دون سعي منه للشهرة وليس له مبتغى فيما يقول أو يفعل، هذا الرجل قضيته سعادة كل مسلم على ظهر هذه المعمورة فهو لا يتقيد بالجغرافيا ويراقب كل من يتجاوز حدود تجاه الدين أو الأعراف الإسلامية أو العربية المتعارف عليها.. وكلنا يتذكر مواقفه مع العلماء والرؤساء العرب أمثال الرئيس جمال عبد الناصر عند إعدام سيد قطب، وكذلك الرئيس معمر القذافي كيف حاوره بواسطة الرسائل وكيف كان يقول لو أتيحت لي مناقشته شخصياً لناقشته.. ثم نقاشه


    الفكري والراقي مع عدد من العلماء أمثال الشيخ الغزالي ورده على الشيخ الصابوني واعتراضه على معبد السيغ في الخليج وغير ذلك من القضايا التي برزت شجاعته الأدبية من خلالها.. وهو يكاتب كل مسؤول في الداخل والخارج من أجل مصلحة كل مسلم.. إن الرجل لا يقدم على مناقشة أية قضية إلا بعد التأكد من جميع جوانبها وبأن فيها فائدة الإسلام والمسلمين.. وهذا الشيخ محمد العبودي الذي عمل مع سماحته سنوات طوالاً يقول: إن الشيء الذي ربما لا يعرفه بعض الناس أن سماحته كان يطلب الاطلاع على الموضوع الذي له خلفيات سياسية أو تحيط به ظروف معنية ولو كان ذلك الموضوع متعلقاً بالشؤون الدينية. أخذ بالقاعدة الأصولية المعروفة في مراعاة المصالح وكون درء المفاسد مقدماً على جلب المصالح...
    لقد أصبح هذا الشيخ الذي فقدناه علماً من أعلام الإسلام ورمزاً للزهد والحكمة ومحبة الناس ولم يمنعه انشغاله اليومي طول حياته عن طلب العلم والتأليف مما يفيد الأمة ويصلح شأنها في كل ميدان..
    ولقد برع سماحته غفر الله له، في موضوع معالجة الطلاق وقد شهدت في مجلسه حالة لا أنساها، شاب فقد زوجته في حالة طيش ومعها منه ثلاثة أطفال فقربه منه وطلب من ذلك الشاب أن يصلح أمره ويعينه على نفسه بالتوبة والتحلي بأخلاق الإسلام ووعده بأن تعود له زوجته أم أبنائه، ثم مد الشيخ له يده وقال عاهدني على


    هذا ففرح الشاب وعاهده ودموعه تسبقه وهو يقبل الشيخ...
    وحسناً فعل سمو الأمير سلمان بن عبد العزيز السباق إلى كل خير عندما أطلق اسم الشيخ ابن باز على الشارع الذي سكنه في الرياض ونرجو أن يطلق اسمه على مكان سكنه في مكة والطائف أيضاً.
    وبعد لم أكتب كل ما أود عن شيخي الجليل وربما يكون لي عودة إلى هذا الموضوع. والله الهادي والموفق..

    ```



    ورحل الوالد العلامة





    د. محمد خالد بن فاضل:
    ودّع المسلمون في المملكة وفي أنحاء العالم يوم الخميس الماضي 27/1/1420هـ سماحة الوالد العلامة المفتي العام للمملكة العربية السعودية الشيخ عبد العزيز ابن باز -يرحمه الله وأسكنه فسيح جناته مع الشهداء والأبرار- وقد بكاه الجميع صغاراً وكباراً، نساءً ورجالاً، وحزنوا عليه حزناً عميقاً، وحق لهم أن يحزنوا على هذا الرجل العظيم الذي شربوا محبته مع الماء واستنشقوها مع الهواء لأن الله قد نشر له القبول في الأرض ومنّ عليه بصفات يندر أن تجمع في غيره، فتغلغل حبه في سويداء القلوب، وانعقد الإجماع على إمامته وريادته، وكان إجماعاً عالمياً ما عرف له نظير في هذا العصر، لكنه لم يتحقق بسهولة، ولم يكن نتيجة مجاملة أو محاباة، أو رغبة أو رهبة، وليس وليد يوم أو يومين أو عام أو عامين، وإنما هو حصيلة حياة جادة دامت أكثر من ثمانين عاماً كلها جهد وجهاد، وصبر ومصابرة، وجد ومثابرة، وعلم وعمل، وصلاح وإصلاح، وزهد وورع، وإيمان وتقوى، وطاعة وعبادة، وبذل وتضحية، ونبل وكرم، وحلم وحزم، إلى غير ذلك من الصفات الحميدة التي لا يخطر في بالك صفة منها إلا


    ووجدتها متمثلة حية في حياة الشيخ وسيرته، والذي يريد أن كتب عن الشيخ -رحمه الله- يجد نفسه أمام موسوعة شاملة، وحياة عامرة حافلة، لا يدري من أين يبدأ، ولا أين ينتهي، وكل خصلة من خصاله الحميدة يمكن أن يؤلف فيها كتاب، ولذا فإني سأقتصر على جانب واحد، وهو: منهجه -رحمه الله- في نشر العلم وحرصه على ذلك وصبره وجلده عليه واستثماره كل دقيقة من وقته في هذا المجال، بحيث لا تره إلا معلماً أو موجهاً أو فقياً أو ناصحاً، عبر الهاتف أو الإذاعة أو الصحف والمجلات أو دروسه اليومية في المساجد أو محاضراته العامة في المساجد أو النوادي أو المدارس والجامعات، أو في مجالسه الخاصة أو العامة أو الاحتفالات الرسمية التي يتاح له المشاركة فيها بكلمة، وفي أي مجال ومكان يوجد فيه الشيخ، ولا يكاد يوجد في برنامجه اليومي وقت لغير ذلك، حتى للحديث العادي المباح خوفاً من أن يجر ذلك إلى لغو ربما كان ضرره أكثر من نفعه، ويذكر عنه -رحمه الله- أنه ما إن يسمع من أحد جلسائه لغواً وغيبة أو نحو ذلك حتى يبادره قبل أن يكمل ويقاطعه قائلاً له: سبح سبح!! أي اشغل نفسك بالتسبيح عن هذا الكلام المرذول، ويروى عنه -رحمه الله- في بذل العلم وصبره على الناس واستثمار الوقت في ذلك قصص بعضها لا يكاد يصدق -سأورد بعضاً منها- ولولا أننا معاصرون للشيخ ونعرف عنه ذلك لوجدنا أن بعضها غريبة؛ ولذا


    فإننا لا نستغرب أن تصفنا الأجيال التي بعدنا بالمبالغة في بعض ما تحدثنا به عن الشيخ، كما أننا نصف بالمبالغة بعض الأخبار التي وصلتنا عن بعض علماء السلف، وإن كانت حقيقة، لكن المثل الذي يقول: "ليس راءٍ كمن سمعا" له نصيب من الصحة بلا شك.
    أما منهج الشيخ في نشر العلم فإنه قائم على الكتاب والسنة حسب فهم السلف الصالح، فهو إذن منهج سلفي أثري معتدل، وأبرز سماته الدوران مع النص حيث دار مع التوسط والتوازن والاعتدال، والتوسط والتوازن والاعتدال من أبرز صفات الشيخ وخصاله الحميدة في كل أموره؛ في الحب والبغض، والمدح والقدح، حتى مع المخالفين، فإنه ينصفهم ويترفق بهم ويبين ما عندهم من الخير ولا يسكت عن باطلهم بل ينبههم إليه وينصحهم ويوجههم، وقد سئل أكثر من مرة في مجالس حضرتها عن بعض الجماعات والطوائف وذكر له ما عند بعضها من مخالفات ثم وجّه نصيحة لهذه الجماعة ووجههم ودعا لهم بالتوفيق والهداية، ثم أشاد بما لديها من محاسن وفضائل لم يشر لها السائل. وهذا دأبه -رحمه الله- فلا يحمله كراهة ما عند المخالف من الأخطاء على عدم العدل والإنصاف.
    ومن صور بذله العلم واستثماره كل فرصة سانحة في ذلك، أنه يحب الاختلاط بالناس وغشيان مجالسهم، ويستجيب للدعوات الخاصة حتى من صغار تلاميذه، لكنه يعمر المجلس الذي يحضره بالعلم


    والذكر والطاعة، ولا يعطي فرصة لأي حديث مهما كان عادياً ويسيراً، وقد حضرت عدداً من هذه الدعوات في منازل بعض المشايخ والزملاء والأصدقاء من طلاب العلم، وما أن يصل الشيخ -رحمه الله- إلى المجلس ويأخذ مكانه في صدره ثم يسلم عليه جميع الحاضرين فيجيبهم واحداً واحداً ويحتفي بهم كل فرد باسمه في الغالب، حتى يسأل -رحمه الله- صاحب المنزل إن كانوا قبل مجيئه يتحدثون في موضوع أو قضية علمية أم لا، فإن قال المضيف نعم، سمع سماحته منهم ثم قال كلمة الفصل في ذلك، وإن قال المضيف: لا طلب سماحته من مرافقه أن يقرأ في كتاب معه، ثم يعلق الشيخ على ذلك، أو يطلب من أحد الحاضرين أن يقرأ ما تيسر من القرآن، ثم يتولى سماحته شرح هذه الآيات وتفسيرها واستنباط الأحكام والدروس منها بصورة موجزة ولا يطيل إطالة مملة، فإن بقي في الوقت متسع قبل الطعام فتح المجال للأسئلة والفتاوى إلى أن يقوموا للطعام، وبعد الطعام يودع الجميع وينصرف، ولا أذكر أنه عاد للجلوس بعد الطعام.
    ومن صور بذله للعلم وحرصه أن يستثمر تلك الدقائق التي تضيع عادة ولا يأبه الناس بها كمسافة الطريق بين البيت والمسجد على القدمين أو في السيارة، بل ما هو أقل من ذلك كالوقوف أمام المغسلة بعد الغداء أو العشاء، وأذكر أنني مرة تناولت الغداء في منزل سماحته مرافقاً لوفد من مسلمي أمريكا برئاسة الإمام وارث الدين


    محمد، وكان وقت الجلسة قبل الغداء مملوءاً بحديث شيّق بين سماحته والإمام وارث الدين -سأشير إلى مضمونه بعد قليل- وعند القيام للغداء اقتربت من سماحته وقلت له: لدي سؤال خاص، فقال -رحمه الله-: كن بجواري عند المغسلة واطرح علي سؤالك، فوقفت بجانبه وقلت له: يا سماحة الشيخ: ما رأيك في قول العامة عندنا: "ما صدّقْت على الله أن يحصل كذا وكذا" هل في هذه العبارة محذور من الناحية الشرعية؟ فقال -رحمه الله- "لا أرى فيها بأساً، لأن المراد -والله أعلم- ما توقعت أن الله سيحقق لي هذا الأمر، أو نحو ذلك". وقال لي أحد كتاب الشيخ وملازميه: لو لم تستفد أنت من هذه اللحظات لطلب الشيخ واحداً منا ليعرض عليه فيها شيئاً مما لديه، وهذا دأبه رحمه الله.
    أما مضمون حديث سماحته مع الإمام وارث الدين وجماعته في هذا اللقاء، فقد كان تتمة لحديث موجز بدأ عند زيارتنا لسماحته صباحاً في مكتبه، وقد أصر سماحته -كعادته مع كل من يزوره من ضيوف البلاد في مكتبه- أصر على مشاركته في طعام الغداء هذا اليوم في منزله فهي يومية عامرة ومفتوحة لزواره وضيوفه من داخل المملكة وخارجها. وفي منزل سماحته رحب -رحمه الله- بالإمام وارث الدين ومرافقيه وشكره وأثنى على عمله وجهوده مع جماعته في نشر الإسلام في أمريكا، ووجههم بعدة توجيهات ودعا لهم ووعدهم


    بالعون والمساعدة، ثم سأل -رحمه الله- الإمام وارث الدين عن أحوال المسلمين عموماً في أمريكا، وأحوال جماعته، وعن مساجدهم ومدارسهم والمناهج والكتب التي يدرسونها في هذه المدارس وأوصاهم بالعناية بالعقيدة والحرص على التمسك بمذهب السلف الصالح، ثم فتح الشيخ الحوار معهم واستمع إلى حديثهم ومشكلاتهم وأسئلتهم، وقد ظهر على الإمام وارث الدين انبهار وإعجاب بالشيخ: في علمه وسمته وهيئته وبساطته وإجاباته للسائلين عبر الهاتف وشمولية مجلسه وتوجهه لكل فرد في هذا المجلس بصورة تشعره بأنه محط اهتمام الشيخ وحده، ومن مظاهر إعجاب الإمام بالشيخ أنه قال له: نحن الآن نعدك يا شيخ منذ اللحظة شيخنا وإمامنا وقدوتنا ومستعدون أن نصدر عن رأيك في كل أمر من أمورنا، ويسرنا أن نستقبل في مساجدنا ومدارسنا كل من يأتينا من طرفك من الأئمة والدعاة والمدرسين، وأن ندرس لطلابنا ما تقترحه علينا من الكتب والمؤلفات، وأن نسير بتوجيهك في كل شأن، وقد شكره سماحته على هذا الشعور النبيل ودعا له وجماعته بالخير والهدى والتوفيق.
    هذه نماذج فقط من سيرة الشيخ العطرة في هذا المجال فقط، وبعض شمائله الحميدة فرحمه الله رحمة واسعة ما أعظم نفعه وما أبرك وقته وعمره الذي حقق فيه للإسلام والمسلمين في الداخل والخارج، ما لم يحققه عشرات الرجال بل مئاتهم، ونتمنى أن تحظى سيرته العطرة الحميدة بعناية خاصية لتقديمها للشباب والناشئة وطلاب


    العلم والدعاة، فهي سيرة عالم جليل تذكر بعلماء السلف الكبار، وفيها قبس من أخلاق النبوة، ورحمة الله رحمة واسعة وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة وجمعنا به ووالدينا في عليين، جعل البركة في ذريته وخليفته وعلماء هذه البلاد وسائر علماء المسلمين من بعده.

    ```



    الشيخ ابن باز... تواضع العلماء
    دون التفريط في هيبة الدين





    بقلم الأستاذ: محمد خضر
    جريدة المدينة
    هاجت في نفسي الأيام الأخيرة ذكرى الموت، وأحسسته قريباً مني وتخوفت كثيراً لأنني كيف ألقى الله وما قدمت لي علماً ولا عملاً واستشعر حتى أهلي في البيت أن نغمة الحزن التي اتضحت في كلماتي المكتوبة والمنطوقة معهم أيضاً تدل على أن شيئاً ما سيحدث، وأنه ربما اقترب الأجل المحتوم. هاجني هذا الشعور الداخلي سيما يوم الخميس الماضي فلم أذهب إلى موعد الطبيب المعقود معه، ولم أستشعر في نفسي إلا الانطلاق إلى مقر العمل وبسرعة ضارباً بكل شيء عرض الحائط، حتى من عرض علي رحلة سريعة لطيبة الطيِّبة نسلم فيها على خير خلق الله e وننعم في روضته ساعات طيبة، وجدتني مصروفاً عن هذا العرض، والذي ما رفضته قط في حياتي، وما أفرح فرحاً أكثر من فرحي به، ووجدتني مهرولاً إلى العمل لا ألوي على شيء لأسمع أول ما أسمع خبر وفاة والدنا ووالد الجميع وشيخنا وإمامنا وإمام أهل السنة والجماعة في عصره الشيخ عبد العزيز بن


    عبد الله بن باز ولو كان في الموت فداء لفديته بعمري وولدي وما أملك، لكن أمر الله ليس له دافع، ولا نملك إلا أن قول: )إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(.
    والشيخ ابن باز استطاع أن يضبط هذه المعادلة الصعبة والمتمثلة في التوفيق بين الالتزام الحقيقي بالدين مع التسهيل في أمره للمسلمين، أما التزامه بالدين فقد كان لا يخاف فيه لومة لائم، ولم يهب فيه كبيراً ولا جليلاً ما دام الأمر لله وانتصاراً لدين الله.
    أما إن كان الأمر فيما يخص الفتوى فكان يميل -رحمه الله- إلى الأسهل على الناس، وقد مررت بموقف لا يمكن أن ينسى لا مانع من سرده هاهنا، فقد جاءني أحد الزملاء يستفسر في أمر طلاق: رجل هدد زوجته إن ذهبت إلى بيت أخيها، واتصلنا على فضيلة الشيخ عبد الله المنيع عضو هيئة كبار العلماء والقاضي بمحكمة التمييز بمكة فقال لي: يقع الطلاق، ولا رأي عندي غير ذلك، وعبس صاحبي وهو يسمع وتقطب جبينه، ثم عقب الشيخ المنيع بقوله، اسمع اتصل على الشيخ عبد العزيز بن باز، فله رأي أسهل من رأيي في هذه المسألة وسوف يفيدك فيها، وعجبت ضاحكاً من تصرف الشيخ المنيع ومعجباً بسعة أفق العلماء الذين يحترمون رأيهم وآراء الآخرين من العلماء أمثالهم، وشكرت الشيخ المنيع واتصلت بسماحة الشيخ عبد العزيز فأجاب بأن هذا يعتبر تهديداً وليس طلاقاً ويلزمه كفارة اليمين فقط،


    بالطبع انفرجت أسارير الرجل الذي يجالسني وتبسم ضاحكاً من سماع فتوى الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وهو يدعو الله له بالتوفيق وطول العمر!!
    هذا موقف من مواقفه الجليلة في تسهيل أمر الفتوى، ولا شك أن هناك آلاف الفتاوى التي كان فيها مريحاً لبال الناس الحائرين في شؤون وشجون كثيرة تقلقهم وتحيرهم، وقد كان -يرحمه الله- في برنامجه اليومي يجيب عن أسئلة القراء فتصل الإجابات في أحايين كثيرة إلى ألف وخمسمائة فتوى في اليوم الواحد، وكان هاتفه لا يهدأ من الرنين والناس كل الناس من أبناء المملكة ومن غير أبناء المملكة يسألون والشيخ يجيب لهم فترتاح قلوب حيرى وأنفس مضطربة.
    وإلى الذين لا يعرفون فالشيخ عبد العزيز -رحمه الله- كان في مجلسه يفتح هاتفه للجميع وأكثر من خط تليفوني وأكثر من سماعة يرد فيها على كل سائل أو مستفسر. وهو لا يكل ولا يمل ويسجل للإذاعة في برنامجها الشهير نور على الدرب الذي كان هو أيضاً حلقة وصل مهمة بين سماحته وبين الناس، وكان متابعاً جيداً لكل ما ينشر في الصحف والمجلات وكثيراً ما كانت تأتينا توجيهاته -يرحمه الله- موجهاً وناصحاً ومبيناً للأمور التي يجب فيها التوضيح والتبيين.
    أما كرم الشيخ فحدث عن البحر ولا حرج، فقد كان مجلسه عامراً بالخير ودائم التحايا لضيوفه ومريديه. القهوة والشاهي والبخور


    يطلبها من القائمين على الخدمة لتمر على المجلس، فإذا جاء الغداء فالجميع على المائدة، والجميع يطعم من طعامه الطيب المبارك.
    وأما تواضعه فقد كان -يرحمه الله- في بيته يلبس القميص قميص الأجداد بقصره وكميه القصيرتين الواسعتين ويجلس كما يجلس الناس ويأكل مما يأكل الناس ويشرب مما يشرب الناس فلا يتكبر ولا يتعالى بمنصبه ولا بعلمه ولا بكبر سنه أو مقامه عليهم، فتحدثه وتستفسر منه وكأنه واحد منهم أو أقلهم، وهو خيرهم وأكبرهم سناً ومقاماً ومنزلة واحتراماً بين كل الناس من أمراء وعلماء ووجهاء وعامة.
    لقد كان -يرحمه الله- كما قلت من قبل سداً منيعاً حمى الله به الدين وثبت به أركانه وجعله سبباً في حفظ شريعة الله ودعوة الله ما يقرب من ثلاثة أرباع القرن، يعلم ويدرس ويفتي ويوجه وينصح ويزرع الخير في بلد الخير وبين أهل الخير ليس في المملكة فحسب بل في الدنيا كلها.
    أذكر أنه جاءنا الداعية الشيخ أحمد ديدات في زيارة إلى مقر الجريدة بجدة. فلما رحب به الناس قائلين مرحباً يا شيخ أهلاً يا شيخ، قال مستنكراً بتواضع: لست شيخاً، أنا أحمد ديدات، إنما الشيخ هو الشيخ ابن باز.. وعجبنا يومها له إذ يخرج نفسه عن دائرة المشيخة ويعتبرها ثوباً كبيراً عليه لا يليق إنما يليق بمن هو أهله وليس أحق بذلك من الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز.


    وكثيراً ما جاءنا في السنوات الماضية الكثير من العلماء والمفكرين والدعاة من أنحاء الأرض من أمريكا من فرنسا من بريطانيا من ألمانيا من بلدان شتى فتراهم إذا جاءت سيرة الشيخ ابن باز، يمدحونه ويثنون عليه الخير كله، وينزلونه منزلته التي تليق به.
    لقد كان -يرحمه الله- رجل علم ودعوة وإعلام أيضاً فهو يتعامل مع وسائله بما يخدم دين الله وهو يدعو الله إلى التعامل مع هذه الوسائل بكل التجرد لله تعالى خدمة لدين الله ونصرة لدعوة الإسلام بكل صورة وشكل.
    ألا رحم الله الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمة واسعة- بما قدم لأمته ولدينه ولشعبه ولمسلمي الأرض من نصح وإرشاد وحب لله ولرسوله، وعوض الأمة فيه خيراً وألحقنا به على خير وجمعنا به مع الحبيب المصطفى e)فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ(.
    اللهم اغفر لأبي وأمي وارحمهما كما ربياني صغيرا

  5. #35
    تاريخ التسجيل
    May 2006
    المشاركات
    8,993
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    26-02-2024
    على الساعة
    08:13 AM

    افتراضي

    بعض الملامح الثقافية
    والادبية في شخصية ابن باز
    بقلم: أ. د. محمد خضر عريف
    فقدت الأمة الإسلامية علماً آخر من أعلامها، وركناً متيناً من أركان الحق فيها، في وقت تتداعى فيه الأمم عليها كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. ففي هذا الزمن العصيب الذي تحتاج فيه الأمة إلى رجالها وعلمائها، فقدنا الكثيرين من العلماء الأعلام كان آخرهم الشيخ الصالح والإمام العادل سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز الذي كان ذخراً لهذه الأمة ومرجعاً لا غنى عنه للدارسين والمستفتين في كل بقاع الأرض، وسنداً متيناً لقضايا الإسلام والمسلمين، رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.
    وصدق من قال: إن الشيخ رحمه الله كان مثلاً حياً لسيرة السلف الصالح رحمهم الله في علمه وعمله وزهده وتواضعه ومنحه وبذله وغيرته على الدين، وصلابته في الدفاع عن الإسلام والمسلمين، ولينه ورقته مع الفقراء والمستضعفين وشدته وقوته مع الطغاة والجبارين، وتسخيره لحياته كلها في طلب العلم وتعليمه، وفي الحكمة والموعظة الحسنة.

    وقد يعلم الكثيرون أو لا يعلمون أن الشيخ رحمه الله لم يأخذ إجازة في حياته بل كرَّس حياته كلها للعمل والسهر على مصالح المسلمين. وكان يومه الكامل لا يتضمن وقتاً للراحة منذ استيقاظه في صلاة الفجر وحتى خلوده للنوم في ساعة متأخرة من الليل، مع مواظبته رحمه الله على قيام الليل. ويروى عنه رحمه الله أنه كان يتناول طعامه أثناء استماعه لأخبار المسلمين التي تلخص له من الصحف والمجلات والإذاعات ليكون على علم ودراية بكل ما يحدث من حوله في كل أنحاء العالم خاصة ما يتعلق بالإسلام والمسلمين.
    وكان لا يفوت فرصة بعد صلاة أو سواها دون إلقاء موعظة أو إسداء نصيحة للمسلمين، ولا يخلو يومه من الاستماع إلى الدروس ومن إلقائها على من يتحلقون حوله من محبيه ومريديه والمشغوفين بعلمه وحكمته.
    وكانت داره رحمه الله مفتوحة للقاصدين كبيرهم وصغيرهم، شيخهم وفتاهم، غنيهم وفقيرهم، لا يرد أحداً منهم، ولا يتناول طعامه إلا مع جمع من المسلمين، مع أن طعامه رحمه الله كان في كثير من الأحيان من أواسط ما يأكل الناس، أو أقل منه، فقد يكون في كثير من الأحيان خبزاً وجبناً وزيتوناً. وما كان ألذ طعاماً كهذا في صحبة العلماء الأجلاء الذين لا يتعالون بعلمهم ويتواضعون لكل من هم حولهم فيرفعهم الله.

    طالما زرناه رحمه الله أثناء وجوده في مكة المكرمة، فأخذنا إلى جواره، واستمع إلى ما عندنا، وأجاب مسألتنا، وحل مشكلاتنا، ووجه إلينا النصح والتوجيه، وإن نقلنا إلى سماحته فكرة جديدة، أو عرضنا عليه أمراً فكرياً أو عارضاً يمس الأمة في عقيدتها وفكرها، وجدنا منه تجاوب الأب الحاني والعالم الغيور، ولم ينحصر تجاوبه هذا في تصديقه على ما اقتنع به، بل كان يتجاوزه إلى المبادرة الفورية في اتخاذ بالاتصال بأصحاب الشأن في كل أمر ليسدي لهم النصح، سواءٌ كان ذلك هاتفياً أو كتابياً.
    ومن الجوانب المهمة في حياته رحمه الله التي لا تقل أهمية عن فتاواه الشرعية وعمله المخلص لنصرة قضايا الإسلام والمسلمين ليل نهار، تصديه للقضايا الفكرية والثقافية، ووقوفه وقوف الأسد في وجه التيارات الفكرية الهدّامة والمذاهب الوافدة بما في ذلك المتعلق منها بالأدب والفلسفة، وليس أدل على ذلك من موقفه الصريح والواضح من مذهب الحداثة، قال رحمه الله: "كنا.. بسبب عدم الاطلاع نظن أن قصيدة النثر المتسمة بالغموض الملقب بالحداثة المحاطة بهذه الهالة الإعلامية، نظن ذلك كله أنماطاً من التغيير في الشكل ولا علاقة له بمضمون الشعر، ولا بمعانيه ولا بمحتواه الفكري، لكن كُشف لنا أن الشكل لم يكن في ذاته هو هدف هذا التغيير وإنما جعل الشكل الجديد الملفوف بالغموض ستاراً لقوالب فكرية شحنت في كثير من نماذجها بالمعاني الهزيلة والأفكار الهابطة والسهام المسمومة الموجهة

    للقضاء على الفضيلة والخلف والدين، وتأكد أن استهداف الغموض من كثير من هؤلاء الشعراء في هذه القوالب الفكرية المسماة شعراً، وليس فيها من الشعر شيء، هو أمر مقصود ليحققوا به أهدافاً ثلاثة: الأول: التنصل من مسؤولية الكلمة، وتبعتها، حينما تلف بهذا الغموض الذي قد لا يدرك معناه بسهولة. الثاني: إماتة الشعر وسلب روحه وتأثيره وحرمان المسلمين من سلاح ماضٍ من أفتك أسلحتهم ضد أعدائهم.
    والثالث: وهو أخطرها، محاولة نبذ الشريعة والقيم والمعتقدات والقضاء على الأخلاق والسلوك باسم التجديد وتجاوز جميع ما هو قديم وقطع صلتها به.
    أخيراً: أحمد الله الذي قيض لهؤلاء الحداثيين من كشف أستارهم وبين مقاصدهم وأغراضهم الخبيثة وأهدافهم الخطيرة.. فقد كشف القناع عن عدو سافر يتربص بنا ويعيش بين ظهرانينا ينفث سمومه باسم الحداثة.. وبهذا الكشف والبيان تلقى مسؤولية عظيمة وجسيمة على علماء هذا البلد وقادته ورجاله وشبابه وغيرهم للتصدي لهذا الخطر. كتاب "الحداثة في ميزان الإسلام" ص 705.
    وبسماع هذه الكلمات المضيئة، كأننا أمام عالم بالمذاهب الفكرية، وناقد فحل متبصر بأدوات النقد، وعلامة في قضايا الأدب والشعر، إضافة إلى إلمامه التام بعلوم الفقه والدين، أضف إلى كل ذلك غيرة على الأمة ودين الأمة وفكر الأمة لا تعدلها غيرة في الماضي أو الحاضر.

    وقد يعلم الكثيرون أو لا يعلمون أن ذلك العالم الغيور الصلب في الحق، كان يحرص في الوقت نفسه على تيسير أمور المسلمين ودفع الحرج عنهم، وعدم التشديد عليهم في أداء واجباتهم، ولا أدل على ذلك من رسائله الكثيرة المتعلقة بالعبادات، فقد كان سماحته يدعو فيها جميعاً إلى نبذ البدع والخرافات والتمسك بسنة المصطفى e دون تحريفٍ أو تبديل، وفي الوقت نفسه يبين لجمهور المسلمين الرخص وما ورد عن النبي e من أحاديث تدل على التيسير لا على التعسير. ومن تلك الرسائل: كتاب "فتاوى مهمة تتعلق بالحج والعمرة" الذي صدر لسماحته عن مطابع دار الهلال بالرياض. فقد تضمن هذا الكتاب الصغير أموراً كبيرة يترتب عليها تيسير أداء مناسك الحج على كل المسلمين وتخفيف الزحام بشكل كبير، فقد أورد سماحته ما يدل على أن الترتيب في الأمور التي يفعلها الحاج أفضل ولكن سماحته قال: "إن قدم بعضها على بعض فلا حرج، لو نحر قبل أن يرمي أو أفاض قبل أن يرمي أو حلق قبل أن يرمي أو حلق قبل أن يذبح، كل هذا لا حرج فيه، فالنبي e سئل عمن قدم أو أخر فقال: ((لا حرج ولا حرج)).
    وهذا التسامح واللين والحرص على تيسير أمور المسلمين بالاستناد إلى القرآن والسنة، صاحبته صلابة وجرأة وقوة في الحق لم تعهد عن أحد من علماء المسلمين في العصر الحديث. ومن أمثلة ذلك البينة ما كان منه رحمه الله من إرسال برقية إلى جمال عبد الناصر بعد الحكم

    على الشيخ سيد قطب بالإعلام اتسمت بالقوة والصراحة والجرأة في الحق، ولا يماثلها شيء مما رفع إلى عبد الناصر بهذا الخصوص.
    رحم الله الشيخ الصالح رحمة الأبرار، وجبر الأمة الإسلامية في مصابها الجلل.
    موقف غير مستغرب من قادة هذه الأمة:
    هذا التجمع الكريم من قادة هذه البلاد للصلاة على فقيد الأمة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، الذي ضم خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده وسمو النائب الثاني وجمعاً غفيراً من الأمراء والمسؤولين والعلماء، هذا التجمع ليس غريباً على حكام بلاد تحكم بشرع الله، أسسها عبد العزيز بن عبد الرحمن قبل قرن من الزمان، ورسخ في جميع أبنائه من بعد إجلال العلماء وتكريمهم وتقديمهم، فقد جاء في وصيته لولي عهده الأمير سعود بن عبد العزيز عام 1352هـ ما يلي: "أوصيك بعلماء المسلمين خيراً، احرص على توقيرهم ومجالستهم وأخذ نصيحتهم، واحرص على تعليم العلم، لأن الناس ليسوا بشيء إلا بالله ثم بالعلم ومعرفة هذه العقيدة".

    ```


    الإمام الراحل




    قال الدكتور/ محمد بن سعد بن حسين
    إن شخصية كشخصية سماحة والدنا وأستاذنا الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، يتسع الحديث عنها إلى ما لا نهاية، وتضيق منافذ القول فيها حتى لا تجد منفذاً للحديث.. فكيف هذا.
    أما أن الحديث عنه -رحمه الله- يتسع إلى ما لا نهاية، فذلك حق لا مرية فيه، أو ليس ذلك العالم الموسوعي المتبحر في علوم الدين واللغة على نحو جعله إماماً متفرداً في ذلك كله، أعني في جميع أصول علوم الدين واللغة وفروعها، الأمر الذي جعله يملأ الدنيا تعليماً وإفتاء وتوجيهاً وإرشاداً، ودعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة كما قال الباري سبحانه وتعالى: )ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ([(125) سورة النحل].
    وقد امتدت دعوته إلى الله فتجاوز الحدود إلى حيث المسلمين في جميع أنحاء العالم قربت ديارهم أو نأت، وذلك بأحاديثه ومؤلفاته وفتاواه ورجال زودهم من علمه وتوجيهاته، ثم بثهم في الأرض يدعون إلى الله ويرشدون الناس إلى سبيل الرشاد ليخرجوهم من الظلمات إلى

    النور بإذن ربهم.
    ثم أليس هو المحسن الذي لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، وأليس هو العابد الذي يرجى له أن يكون من الذين عناهم الله بقوله: )وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً([(63) سورة الفرقان]. ثم هو الصوَّام القوام الزاهد الورع الذي لم يعرف عنه تكاسل عن عبادة، ولا تكالب على حطام الدنيا، بل ولا طلب لأي شأن من شؤونها التي يتكالب عليها الناس ويشتدون في التدافع في سبيلها، فلم يشغله -رحمه الله- شيء من ذلك كله، بل عاش للعبادة وللعلم وخدمة المولى ينشر دينه في الأرض امتثالاً لأمره وابتغاءً لمرضاته واتباعاً لخاتم رسله وأنبيائه محمد e.
    لقد كان الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، الأنموذج الذي لا يتكرر إلا نادراً جداً، يأتي في أمثال الأئمة، أحمد بن حنبل، وأحمد ابن تيمية، ومحمد بن عبد الوهاب، ومحمد بن إبراهيم، رحمهم الله جميعاً. أنا لا أقول إن الأمة قد عقمت كلا ففي علمائنا خير كثير، ولكن الحديث عن هذا العالم الفذ الذي أُصبنا بفقده، وذلك قضاء الله وقدره وسنة الله في خلقه: )وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً([(23) سورة الفتح].

    وأما أن منافذ الحديث عنه -رحمه الله- تضيق حتى لا تجد إليه سبيلاً، فلأن الإخوة العلماء والمفكرين والأدباء قد شغلوا وسائل الإعلام. وما يزالون يشغلونها بالحديث عنه، ومن حقه أن تملأ الدنيا بالحديث عنه.
    ولقد كنت من أوائل المتحدثين عنه -رحمه الله- حيث نشرت لي صحيفة الجزيرة لا أقول قصيدة بل أبياتاً تجاوزت عشرين بيتاً نشرت مع كلمة قصيرة وكان ذلك في أول يوم "أحد" بعد وفاته -رحمه الله- أرفقها مع هذه الكليمة:
    رحلة شيخ الشيوخ
    طوتك النوى من بعد ما أجفل الصحب




    وغيب أتراب، فحن لهم ترب(1)


    أجبت نداء الحق إذ كنت موقنا




    ترى الحق تقديراً قضى أمره الرب


    وأنت على ما كان في مدرج الرضا




    تروح وتغدو لا تمل ولا تكبو


    طويت بدرب الرشد تسعين حجة




    ففزت بما من دونه يقصر الوثب




    وفزت بها إن شاء ربك في الأولى




    لهم من نعيم الله مورده العذب([1])


    مع الأنبياء المصطفين ومعشر




    لهم شهد التنزيل فيما به ربوا


    فقد كنت قوّام الليالي تهجداً




    وقد كنت صوّاما تعاف الذي حبوا


    وكنت مناراً يهتدي بضيائه




    مريد سبيل الرشد، أو تكشف الحجب([2])


    درس وإفتاء وحكمة ناصح




    عليم بما ينجي إذا احلولك الخطب


    وكنت ملاذاً -بعد ربك- للذي




    رماه من الأيام صارمها العضب


    وكنت لأهل العلم ظلاً وروضة




    ينابيعها من دونها المنهل العذب






    وكنت مثالاً في التواضع والتقى




    وكنت جواداً دون راحاته السحب


    نهضت بأعباء ينوء بحملها




    أولو العزم، إلا الرسل والسادة الصحب


    ألنت لكل الناس جانب ماجدٍ




    حفي بهم كالخل لا بل هو الأب


    فلما قضى المولى -وكل ابن حرة




    على آله حدباء موئله الترب


    تقبلتها مستبشراً غير نادم




    وخلفتنا نبكي، وقد هدَّنا الرعب


    فماذا عسى أن ينفع الدمع والشجى




    وقد غاب عنا العالم الفذ والقطب


    مضى فعقول العالمين ذواهل




    بما قد دَهَا الإسلام فاستحكم الشعب([3])


    فغارت بشاشات، وأظلم مجلس




    أضاء بنور الباز حتى دها الخطب


    كذا سنة المولى، اجتماع وفرقة




    فللّه ما يؤوي، ولله ما يحبو




    رضينا بحكم الله فينا تعبداً




    وآمالنا موصولة، والمنى خصب


    وما أجدبت يوماً من العلم روضة




    على ساحها نور الإمامين ينصب


    لقد كان سماحة شيخنا الجليل عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله- على ما يفوق بسط المقال في علمه وفي سماحة خلقه، بل في كل حال من أحواله، أي إنه كان مثالاً يندر أن يتكرر.
    فلقد كان عصامياً كوّن نفسه بنفسه، وشق طريقه في الحياة بلا معين سوى رب العالمين، وكفى به سبحانه وتعالى معيناً.
    ولما كان إخواننا العلماء قد تحدثوا عنه -رحمه الله- وسوف يتحدثون، فإني سأقف حديثي في نقطتين صغيرتين، كنت فيهما من المستفيدين استفادة مباشرة، الأولى متصلة بكتاب "الفوائد الجلية" هذا الذي ألفه وهو في التاسعة والعشرين من العمر، وهذا دليل على نبوغه المبكر -رحمه الله- .
    وحين التحقت بحلقة شيخنا عبد اللطيف بن إبراهيم -رحمه الله- وجزاه عنا وعن العلم خير الجزاء، أمرني -رحمه الله- بحفظ هذا الكتاب إلى جانب متن "الرحبية" وتهميش الشيخ عبد الرحمن بن قاسم عليه، وحسين استزدته أعطاني "العذب الفائض" وما تزال هذه كلها

    عندي.
    أما النقطة الثانية: فكنت أنا في كلية اللغة العربية طالباً حيث كان -رحمه الله- أعني الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، يحضر نادينا الأدبي الذي كنا نقيمه كل ليلة جمعة، فكان -رحمه الله- يحضر ذلك النادي ويعلق على ما يُلقى، موجهاً ومرشداً، ومن قبل النادي نعمنا بالتتلمذ على سماحته حين كنا في المعهد طلاباً.
    في ذلك النادي ألقيت في عام 1378هـ رباعيات، كنت مواظباً على إلقائها كل ليلة جمعة فجاء في إحداهما قولي "طارت الروح إلى أرض الخلود". فلما نهض -رحمه الله- للتعليق قال: "إن مثل هذا حكم مسبق، وهذا ليس إلا لله" فطلبت التعليق وقلت: "يا شيخي ألا يحمل هذا على التفاؤل الذي يحبه النبي e" فقال: "أما على هذا فلا حرج" وهناك مواقف أخرى مشابهة، وغير مشابهة أثبتها فيما سميته "من حياتي" وربما كان لها حديث آخر.

    ```


    صفات متعددة




    يقول الدكتور: محمد بن سعد الشويعر
    في أحد الأيام بعد صلاة الفجر كالعادة كنت أقرأ على سماحته منفردين في المتيسر من فتاواه ومقالاته وكان يؤكد على من حوله: أن الوقت ليس مخصصاً للمراجعين، وأصحاب الحاجات، اخبروهم بأن الوقت المناسب بعد صلاة الجمعة، لأن وقت الجلوس لهم لسماع الدرس في تفسير ابن كثير ثم لقضاء حوائجهم وللراغبين في الغداء فالسفرة ممدودة كما هو طبع سماحته رحمه الله وكرمه.
    توقف سماحته عن الإصغاء والسماع، وأدركتُ أنه يفكر في أمر ومن باب الأدب معه توقفت عن القراءة فأخرج ورقة لمراجع في جيبه وقال الآن الوقت لك فهل توافق على قراءتها لقضاء حاجة صاحبها، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه... ولن أعطيك غيرها، فهو رحمه الله قد تأدب بالاستئذان مع أنه صاحب الكلمة إلا أن هذا نموذج من حسن أدبه مع العاملين معه.
    فخجلت من لطافته وحسن أدبه كيف يستأذنني وأنا تلميذه الصغير وآتمر بأمره ولكنه الخلق وحسن السمت الذي طبع الله به أخلاق هذا الرجل، ومن دون تكلف، بل هو سجيته مع الصغير

    والكبير والضعيف وذي الحاجة.
    تناولتها من سماحته... وبعد القراءة وجه بما يراه يرضي صاحب الطلب.
    ثم قال: لقد كلفتك كثيراً وتحملت المجيء في كل وقت: ليلاً ونهاراً أو الخميس والجمعة والأعياد وفي الشتاء والصيف وسوف آمر لك بمبلغ كذا.. خذها من فلان... فقمت وقبلت رأسه، وقلت: من حقي عليك أن تميت هذا الموضوع ولا تعطيني على عملي شيئاً، فقد أحببتك في الله، وأنا أخدمك محبة وتقديراً وخدمة للعلم وأهله وحطام الدنيا قد يفسد ما كنت أنوي من العمل وما قصدته من إخلاص في خدمتك وخدمة العلم وأنا والله بخير ومرتبي فيه بركة وقناعة، وإذا دخل طمع الدنيا القلب تطلعت النفس لهذا الحطام مرات، وقد أعانني الله على العمل بفضله ثم بدعواتك وهذا خير مكسب لي وجزاك الله خيراً وجمعنا في مستقر رحمته سوياً.
    قلت ذلك بتأثر بان من نبرات صوتي واغرورقت عيناي بالدمع، فرق قلبه رحمه الله وهو رقيق دائماً إلا على أهل البدع والمنكرات لأن غضبه لله سبحانه وتعالى. ودمعت عيناه... وبعد لحظة وجوم دعا لي بدعوات أرجو أن تكون قد قبلت... ثم استأنفنا القراءة في عرض الفتاوى والمقالات لمساحته وتعديلها منه.
    وبحمد الله لم يثر الموضوع مرة أخرى حتى لقي ربه... ذلك أن

    الرجل الكريم تتحرك خصال الكرم فيه دائماً وعند كل موقف، ولا تهدأ هواجسه إلا عندما يسخو ويبذل لترتاح نفسه، لأنه رحمه الله يحب الخير للناس جميعاً ويرتاح للإحسان إليهم وبذلك أحبه القاصي والداني وقد انطبق عليه قول الشاعر:
    ولو لم يكن في كفه غير روحه




    لجاد بها فليتق الله سائله


    وهذه حقيقة أسوق عنها نموذجاً واحداً وما أكثر نماذجها لدى سماحته منذ حداثته ومع قلة ما في يده في أول أمره فهو خلق جبل عليه والخلق أسمى من التخلق.
    ففي أحد الأيام كنت عائداً مع سماحته من الديوان الملكي في الجلسة الأسبوعية المعتادة، ولما دلفنا من باب البيت سلم على أهل المجلس المنتظرين قدومه، وهو في المدخل، ليطلب منهم التفضل للغداء... فإذا بأحد الضيوف وهو من إحدى الدول الأفريقية... من شرقيها يطلب من الشيخ أن يعطيه (شلحه) العباءة التي كانت عليه، لأنه يريد أن يلبس شيئاً منحه إياه الشيخ بن باز، رغم أنهم في بلادهم لا يلبسون هذه العباءات.. فقال له الشيخ نعطيك غيرها من البيت. قال: لا أريد إلا هذه والآن بدون تأجيل فخلعها سماحته وهو واقف، وسلمها له فلبسها الرجل في الحال... وقال: هذه أفتخرُ بها.
    لما حكيت ذلك لأحدهم قال: مثل الشيخ لا يحب أن يثقل عليه

    بالسؤال لأنه لا يرد سائلاً أبداً حتى لو طلب ثوبه الذي عليه لوعد السائل أن يعطيه إياه بعد أن يلبس ما يستره عنه.
    * يظن بعض الناس حسب ما أسمع مشافهة أو مما طفح على كتابات بعضهم أن الشيخ عبد العزيز يسمع الكلام وأنه يستعجل في حكمه وفتواه وهنا خطأ شنيع في الفهم، فالشيخ لا يحركه الكلام ولا يأخذ بالظنة، ولكن الله أعطاه ذكاء كذكاء إياس بن معاوية، عندما سئل عن تعجله في الحكم... فرفع أصابعه وأفردها وقال للسائل: كم هذه؟ فقال خمسة. فقال له لماذا تعجلت في الحكم..؟ قال: لأن هذا شيء واضح لا يحتاج إلى إعمال فكر... فقال إياس: وكذلك الحكم عندي والفتوى لأن الدليل محفوظ فلا يحتاج الأمر إلى تدقيق ومراجعة.
    وكذلك الشيخ من معايشتنا له، ومعرفتنا بعلمه وطريقته فهو دائم القراءة في كتب الحديث والفقه ودائم المراجعة ويعرف رجال الحديث ومنازلهم كمعرفته لأفراد أسرته ومن حولهم.. وإذا شك في نص حديث أو فحوى فتوى فإنه ينبه علينا عدم بعثها إلا بعد المراجعة، فيرجع للمصدر: سواء كان في الحديث أو الفقه ليؤصل الرأي ويمكن النص الصحيح الثابت عند أهل العلم وإن كان عندهم آراء متعارضة زكى سماحته أرجح الآراء عنده واعتمده.. ثم يأمر من حوله ممن عنده الفتوى أو غيرها ذات التوقف ليزيل الشك بما ثبت لديه من اليقين.

    ولم أره أخر شيئاً أكثر من يومين، لأنه يهتم بذلك، وبالبحث والمراجعة حتى يترجح عنده ما ترتاح إليه نفسه بالقرينة.
    وما أكثر الاستخارة عنده، تلك الاستخارة الشرعية التي يطمئن معها القلب. فيثبت في الفتوى أو الكلمة ما ارتاحت نفسه إليه بعد استخارة الله ودعائه سبحانه.
    * وحتى في شؤونه الخاصة، فأذكر قبل سنوات عندما أصيب بعد الحج بحصاة المرارة وهو صبور جداً لا يشكو إلا من شيء بلغ غايته. فقد ذهبت معه لصلاة الفجر في مكة، ثم عدنا وهو يحس بالألم لكنه متحامل على نفسه وكنا نقرأ عليه وما شعرنا بما يؤلمه فقام ليستريح كالعادة وذهبت إلى غرفتي للنوم قليلاً قبل الذهاب للعمل، وما كاد النعاس يداعب أجفاني حتى سمعت قرعاً على الباب وإذا بأحد العاملين في بيته يقول: أن الشيخ عاد إلى المجلس وهو يطلب حضورك.
    نزلت مسرعاً، فوجدته قد حنا ظهره على بطنه ووضع يديه على البطن متألماً فسألته عما به؟ فقال: أشكو ألماً شديداً في البطن.. فاطلب الدكتور.
    اتصلت بمدير مستشفى النور التخصصي الدكتور حسن الزهراني وهو من المحبين للشيخ جزاه الله خيراً فجاء مسرعاً ومعه فريق من الأطباء وبعد الكشف الأولي قرروا نقله للمستشفى للكشف بالأشعة

    للاشتباه بالمرارة... وفي المستشفى ثبت ذلك وقرروا العملية بالمنظار.. ولكن المسئولين وفقهم الله لما عرفوا أمروا بنقله في نفس اليوم لمستشفى الهدى بالطائف، وفي الليل وصل الأطباء من التخصصي بالرياض والقوات المسلحة بالرياض والنور بمكة علاوة على المختصين في مستشفى الهدى بالطائف.
    وقرروا في الصباح إعادة الكشف والتحاليل من أجل العملية، وتحديد مكان الحصاة، ولكن المفاجأة كانت كبيرة أمام الأطباء حيث لم يجدوا الحصاة بتاتاً وتبين أنها انزلقت وذهبت وزالت والشكوى فحاول الأطباء معه السفر للرياض لاستكمال الفحص فرفض.. وقال: كنت قد استخرت الله سبحانه في الليل فلم يرتح قلبي للعملية وقد كانت نفس حصاة المرارة جاءتني وأنا بالمدينة المنورة وأرسل الملك فيصل رحمه الله فريقاً طبياً وفي صباح اليوم الذي قرروا فيه العملية ذهب ما كنت أشكو منه وذلك لأنني استخرت الله تعالى في الليل وحصل لي ما حصل هذه المرة... فأنا متوكل على الله ولا أريد العملية.. وقد شفاه الله وتُوفيَّ ولم يشك من المرارة ولا حصاتها بعد ذلك رحمه الله.

    ```


    لكل أجل كتاب




    د. محمد بن سعد الشويعر
    الموت حق، لأن حكمة الله جلت قدرته، اقتضت أن الحياة الدنيا، دار فناء، وأن كل من عليها هالك ولا بقاء إلا لله سبحانه: )كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ(، وإنما الحياة الأبدية في دار الخلود بعد البعث والنشور: إما شقاوة أبدية لأهل الكفر بالله ومعاندي شرعه، الذي شرعه لعباده، وإما سعادة سرمدية لأحباب الله، المؤتمرين بأمره والمستجيبين لشرعه المنزل على رسله عليهم الصلاة والسلام.
    لو كان لأحد خلود لبقى رسول الله e أفضل الخلق، وأكرم الأنبياء والمرسلين على الله، ولما مات قبله الأنبياء والمرسلون... ولكنها سنة الله في خلقه، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. والموت طريق كل سالكه، مهما طال بالإنسان العمر، لكن وقعه أليم عندما يكون المتوفى ذا مكانة اجتماعية يسعد بوجوده خلق من البشر، أو عالماً طبقت شهرته الآفاق، أو محسناً يرق قلبه للضعفاء وأصحاب الحاجات: يواسي فقيرهم ويسعى في مصالح ضعفائهم، ويبذل من جاهه وجهده، وماله ما يدخل البسمة على شفاهٍ أضناها الحزن، ويفرح قلوباً عصرها

    الألم، وفقيدنا اليوم جمع تلك السجايا.
    لقد فقدت المملكة علماً من أعلامها، يعتبر من بقية السلف الصالح بعلمه وورعه، وبذل نفسه لصالح دين الله: دعوة ومساعدة، وتفاعلاً مع قضايا المسلمين في كل مكان... واهتماماً بشؤونهم لأن الدعوة إلى دين الله هي جل هاجسه. وتصحيح العقيدة من البدع والشوائب التي لم يأذن بها الله وتتصادم مع الصحيح من سنة رسول الله e هي شغله الشاغل.
    إنه العالم الجليل، المحبوب في مشارق الأرض ومغاربها، من جعل لله له القبول في قلوب أهل الإيمان، سماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز، مفتي عام المملكة العربية السعودية، ورئيس هيئة كبار العلماء بالمملكة وإدارة البحوث العلمية والإفتاء ورئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة الذي انتقل إلى رحمة الله يوم الخميس 27 محرم 1420هـ، الموافق 13 مايو عام 1999م.
    ولا يسع كل مسلم إلا الرضا والاستسلام لأمر الله والقول كما جاء في كتاب الله الكريم: )إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ( والحمد لله على ما قضى ودبر، والمصائب عندما تحل بالناس فإنما هي ابتلاء واختبار.
    ولا شك وفاته -رحمه الله- جعلت في الحناجر غصة، وفي

    القلوب ألماً لكن تحمل ذلك بالصبر الذي أمر الله به، والدعاء له بجنة الفردوس الأعلى، وقد بشر الله الصابرين بالخير العميم فقال سبحانه: )وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ( نسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم.
    فهو تغمده الله بواسع رحمته، لم يكن من ذوي العلم الذي يباهون بعلمهم، ولم يكن صاحب منصب يستأثر بمنصبه، لكن العلم يزهو بمثله، والمنصب يسعد بأمثاله.. حيث كان في جميع أعماله ينظر ببصيرة العالم الورع، فيراعي مصلحة الدين وتعاليمه قبل كل شيء.. ويهتم بالضعيف حيث يوصي من حوله دائماً، بقوله: ارفقوا بالناس وساعدوهم في قضاء حوائجهم. الله يرحم ضعفنا وضعفهم: إنما تنصرون بضعفائكم.. ويأمر بالسعي في مصالحهم وتتبع حوائجهم حتى تنتهي بتأكيدٍ ويقول: والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
    ذلك أن فقدان الشيخ فقدان لأمور كثيرة: تعلمناها منه.. وآداب رفيعة أخذناها عنه تطبعاً وحسن توجيه، فهو مع علمه الجم، مدرسة بأخلاقه، ومدرسة بحماسه للدعوة إلى دين الله، ومدرسة بحب الخير والمساعدة للقاصي والداني في كل شؤونهم بدون تمييز.. ومدرسة بالتواضع النادر مثله في هذا الزمان، يبين هذا عندما تأتي وفود

    من الخارج يريدون السلام عليه.. وبعد السلام والجلوس يسألني بعضهم: أين الشيخ ومتى يأتي حتى نسلم عليه ونشرح له قضايانا.. ولما أجيبهم: بأنه هذا الجالس الذي سلمتم عليه وبمجلسه المليء بفئات من البشر من آفاق الدنيا بدون تفريق، هذا الشيخ الذي وهبه الله خصالاً هي سمو الإسلام ومثالياته، ولقد بكى أمامي أكثر من شخصية إسلامية كبيرة بعد إخبارهم ليقولوا: تعودنا حتى من علماء بلادنا التعاظم والمواعيد المسبقة... إن هذا لا نظير له إلا فيما نقرأ من الكتب عن علماء السلف الصالح.
    أما الكرم فناهيك بهذه الخصلة التي تتمثل فيه أكثر مما سمعنا عن كرماء العرب بالسخاء والبذل والوجه البشوش وهو خلق لم يكن تكلفاً فيه، بل سجية تطبع بها، منذ حداثته وهو لا يملك من حطام الدنيا شيئاً فلما قدر سخره للضعفاء، ولذوي الحاجات.. إذ راحته في كثرة الضيوف.. وتوافر أصحاب الحاجات وإدخال السرور عليهم.
    ولئن كان الشاعر قد قال:
    لعمرك ما الرزية فقد مال




    ولا فرس يموت ولا بعير


    ولكن الرزية فقد شخص




    يموت بموته خلق كثير


    فإن الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز أسكنه الله فسيح جناته -

    قد عرفه الناس منذ تولى القضاء عام 1357هـ في الدلم بالخرج وحتى مساء الليلة التي توفي فيها- حيث لم يقعده المرض عن الاحتجاب عن الناس والسعي في مصالحهم: إجابة وافتاء ومساعدة وتشفعاً.
    قد عرف -رحمه الله- بذلك الخلق لم يتزحزح عنه ولم يتبدل ساعة من نهار، مواعيد جلوسه ثابتة ومجلسه مفتوح في المكتب والبيت، ومائدته ممدودة وهواتفه لا تسكت ليلاً نهاراً بالإجابات والتفاعل مع الناس في قضاياهم، وتبسيط الأمور أمامهم، لأنه يطبق حديث رسول الله e: ((يسروا ولا تعسروا)) وسجاياه الحميدة العديدة مستمرة ودائمة.
    فالمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها عندما يختلفون في أمر وتكثر أمامهم الآراء يلجأون بالهاتف من أي أرض لسماحة الشيخ عبد العزيز فيصدرون عن رأيه ويرضون بما يوجههم إليه.
    والجاليات الإسلامية في أنحاء المعمورة -رغم أنه لم يغادر المملكة طول عمره- لا يحل قضاياهم ولا يريح قلوبهم في أي أمر يريدون ولا يبذل الجاه لبناء مساجدهم ومراكزهم أو يمدهم بالكتب إلا الشيخ عبد العزيز بن باز.
    ومع هذا فمن واقع معايشتي معه: فهو لا يصدر في أموره عن رأي شخصي ولا من عاطفة ذاتية ولكنها حمية الإسلام والتوثق من الدليل الشرعي: آيةً أو حديثاً... ثم استخارة الله سبحانه بعد ركعتين

    يدعو الله فيهما فإن ارتاح قلبه اطمأن وعمل بعد التوكل على الله.
    ولذا فإن الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز أبٌ رحيم وعطوف: على اليتامى والمساكين وعلى الأرامل والفقراء، وعلى المحتاجين ومن لا تصل كلمتهم إلى المسؤولين فيوصلها بشفاعة ودعوات للمشفوع تجعل قلبه يرق ويده تسخو ولعل الله سبحانه قد حقق له حديث رسول الله e، الذي جاء فيه: ((إن الله إذا أحب عبداً جعل حبه في قلوب الناس)).. وما أحصي كثرة الخصوم الذين يعتذرون إليه كتابياً وهاتفياً ومشافهة عن النيل منه سابقاً والتحدث فيه.. فيدعو لهم ويسامحهم ويعفو عنهم وعمن لم يعتذر.
    وهذا من سماحة نفسه وطهارة قلبه الذي لا يعرف الغل، ولا يريد إلا الخير، وناهيك بالحديث في أمور الدنيا، تلك الخصلة التي لا تجدها في أي مجلس يجلس فيه: فإما سؤال عن أحوال المسلمين عليه إن كانوا من الداخل وعن أولادهم وأسرهم، أو استيضاح عن الدعوة إلى دين الله وطلاب العلم الشرعي، ونشاط العمل في هذا السبيل إن كانوا من الخارج أو من ذوي العلاقة بالدعوة والعلم في تفسير تلك الآيات واستظهار معانيها... وهكذا في المناسبات وفي حفلات الأعراس.
    بعد ذلك يجيب على أسئلة الحاضرين.. وإن بقي متسع في

    الوقت قبل انفضاض المجلس سأل عن الأخبار وأخبار المسلمين في كل مكان.
    ولئن كانت المنابر تبكي البلغاء والخطباء -كما يقولون- فإن الأقلام تعجز عن إيفاء الشيخ حقه أو التحدث بمآثره.. ولكن حقه علينا الدعاء.. ولا نقول في هذا المصاب الجلل إلا ما قال رسول الله e لما مات ابنه إبراهيم: ((إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وأنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون)) وكل مسلم عرف الشيخ فيقول: وإنا لفراقك يا أبا عبد الله لمحزونون... أحسن الله عزاء ذريته وأهله، وعوض المسلمين من يخلفه ويترسم خطاه.

    ```



    18 عاماً في صحبة الشيخ ابن باز




    محمد بن سعد الشويعر:
    ما أقسى فراق من ألفته القلوب، وما أصعب الكلمات التي تعبر عن ذلك الألم، لأن اللسان يتعثر والقلم يتلكأ ويعجز عن تصوير الفجيعة... ولكن العزاء يتم بالامتثال لأمر الله، والتأسي برسول الله e، وما فعله أصحابه الكرام، بعد مصابهم بوفاته e.
    والمصيبة بفراق الشيخ عبد العزيز بن باز، ألمها على المحيطين به. والسابرين أغوار نفسه، والعارفين بطباعه أشد وقعاً وأكثر ألماً، ولا نقول إلا ما يرضي الرب.. )إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(.
    وخدمة العلماء والقرب من مجالسهم فيها خير كثير، لأنهم كحامل المسك، إما أن يحذيك وإما أن تجد منه ريحاً طيباً والشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- عرفته عندما كنت طالباً بذكره الحسن وتواضعه الجم وبنصائحه القيمة في كل مناسبة بل في كل مسجد يصلي فيه. وكنت أحرص على حضور أحاديثه وتوجيهاته لأنها صادرة من القلب وتدخل في أعماق القلب.
    ثم لما تعينتُ في مدارس البنات جاءتني مهمة في المدينة المنورة، وزرته في الجامعة الإسلامية للسلام عليه فزودني بنصائحه، وإرشاداته،

    وحثي على أداء الأمانة في تعليم المرأة، والمحافظة على سترها ومحافظتها على أمر الله.
    ثم لما انتقل إلى الرياض في عام 1395هـ، كنت أسعى جاهداً للاستفادة من دروسه ومحاضراته والاستئناس بما فيها من توجيهات مخلصة نابعة من إخلاص وبصدق فتتعارف بكلماته الأرواح وتتمازج الخواطر وفي زيارتي له في بيته عام 1398هـ، أدركت أنه على اطلاع بما أكتبه بدليل أنه أخذني لغرفة جانبية وحاورني فيما كتبت عن الدعوة إلى دين الله، مع الأمم الأخرى في الخارج والموضوع بعنوان: حتى لا ننس ماذا يراد بنا؟. المنشور في مجلة الدعوة.. فعرض علي سماحته العمل في الدعوة بإحدى الدول الأفريقية.. وقد كنت محباً لذلك إلا أن ظروفي لا تسمح لي بالبعد عن والدي.. فآثرت الاعتذار لذلك.
    ولم يخطر ببالي في يوم من الأيام، أنني سأكون معه تلميذاً أنهل من علمه، ومصاحباً لمدة 18 عاماً أتأدب على يديه، وأستفيد من كريم سجاياه.. لكنها إرادة الله ولكل شيء سبب.
    كانت البداية في شهر رجب عام 1402هـ وكنت في مهمة تفقدية تتعلق بعملي: في الليث وخليص والكامل وعندما عدت في عطلة الأسبوع إلى مكة لأنها نقطة الارتكاز في العمل اتصلت بوالدي -رحمه الله- مهاتفاً كالعادة للاطمئنان والسلام فقال لي: أن سماحة

    الشيخ عبد العزيز بن باز اتصل ثلاث مرات يسأل عنك ويلح في الطلب.
    فيممت مطار جدة قاصداً الرياض وفي الطريق كانت ضربات القلب تتزايد، وهواجس النفس تختلج: ماذا يا ترى يريد مني الشيخ..ولأي سبب كان هذا التكرار والإلحاح؟ ثم بدأت أستعرض مجريات أيامي وأتحسس سطور كلماتي التي نشرت خلال الفترة الماضية محتسباً الخطأ. وراجياً ألا تكون زلتي توجب العتب لأن الخطأ من سمات البشر.. ولكن تأنيب العلماء أشد وقعاً من الحسام المهند.
    وما أقسى الانتظار، وما أشد ألم تلك الساعات المتثاقلة بين نبأ طلبه -رحمه الله- لي وبين مثولي بين يديه يعبر عن وقعها جفاف الحلق، وكثرة تناول الماء، وعدم الشهية للأكل.
    وقد حسم هذا الضجر، وقع لكماته الأبوية الحانية في ظهر الجمعة حيث طلبني للمكتبة، وأمر بوصد الباب فكان من حسن أدبه ودماثة خلقه: أن بدأ الحديث بالسؤال عن صحة الوالدين والأولاد، بعد السؤال عما عندي منهم ثم عرج مثنياً وداعياً لي، على ما أكتبه بالتوفيق والإعانة ومشجعاً بالاستمرار.. وسألني عن منطقة الكامل وأهلها لأنها آخر ما زرت قبل مثولي بين يديه.. وتحدث عنها وعن خليص حديث الخبير الفاهم وسأل عن قضاة كل منهما وعن رجالات من أهلها سؤال العارف الخبير.

    ثم قال: الموضوع الذي دعوتك إليه، هو خير إن شاء الله، فقد بحثنا في جلسة هيئة كبار العلماء الماضية موضع مجلة البحوث الإسلامية وأهميتها، وقدمت أسماء عديدة لرئاسة تحريرها منهم فلان وفلان، وعد لي أربعة، ولكن اتفق رأي المجلس عليك أنت، وقد فوضوني تكليمك في الأمر وأخذ موافقتك فما رأيك؟
    قلت: إنني أعتز بهذه التزكية من كبار علمائنا، ويرفع من قدري أن أكون بقرب سماحتكم... ولكن إن رأى سماحتكم الإذن لي بإكمال مهمتي بقية الأسبوع القادم أو ترون قطعها.. وخلال المدة أدرس الموضوع وأعطيكم رأيي لأن الأمر مفاجئ لي.. فقال: لا بأس أكمل عملك ثم اعطنا رأيك.
    ودعته للسفر وفي خلال الأسبوع فكرت في الأمر ودرست موضوع المجلة ثم استخرت الله تعالى فوجدت صدري منشرحاً فجئت لسماحته برسالة من صفحتين أبديت رأي المتضمن في أهم نقاطه: أن المجلة لا تستأثر بكل وقتي، لأنها فصلية، ومحكمة فهي لا تأخذ من الوقت أكثر من سدسه، والباقي فراغ عندي لا بد أن يستثمر ولذا أقترح أن أعمل معكم بالفترة المسائية وأعدكم بإذن الله أن تنتظم المجلة، وسلمت الرسالة أمين عام هيئة كبار العلماء وخرجت عائداً لمكتبي.. ولم أستقر به دقائق حتى هاتفني الأمين بقوله: سماحة الشيخ يطلبك.. ولما حضرت إليه قال: بارك الله فيك، نوافق على ما قلت، ما عدا

    وقت العمل، فلا بد من التفرغ عندنا وأريدك عندي في مكتبي زيادة على المجلة فشكرته ودعوت له وقلت له: عندي وجهة نظر أخرى، قال: ما هي؟ قلت: سأحررها لسماحتكم الليلة وفي الصباح إن شاء الله أودعها لدى فضيلة الأمين.. وقد كان، وهي تتضمن مطالب إدارية ومالية وتنظيمية تحتاجها المجلة ضماناً لسير العمل ولم أنس مطلباً شخصياً بتحسين الوضع الوظيفي.
    ذهبت لعملي وما إن استقر بي المكان، حتى تحرك جرس الهاتف، وإذ بصوت الأمين يخبرني بأنه عرض الرسالة الثانية على سماحة الشيخ وهو يطلبك الآن.. فأجبت الدعوة وحضرت لمجلس سماحته وطلب الاختصار معي، فأخبرني بأنه موافق على ما ذكرت وسوف يعمل جهده في تحقيق ذلك ما ذكرت إن شاء الله فقلت لسماحته: بقي لي مطلب واحد. قال: وما هو؟ قلت: سأحضره صباح غدٍ فرد علي غفر الله له: بقوله: اللهم اهده.
    في الصباح الباكر جئت بالرسالة الثالثة -وقصدي من ذلك الرد على الأقاويل- وسلمتها للأمين العام كالسابقتين ثم ذهبت لعملي، فبادر بقراءتها على سماحته، وطلب منه حضوري أيضاً.. كانت هذه الرسالة تتضمن اقتراحاً بأن يكون عملي عن طريق الندب لمدة عام، لا النقل، على أن يصرف مرتبي من عملي السابق حتى لا أثقل عليهم، بحسب ما يمليه الاتفاق، بين الجهتين، هذا من جانب، ومن جانب

    آخر وهو المهم كما ذكرت في الرسالة: أن أكون تحت التجربة فإن اطمأن الطرفان لبعضهما تم التواصل والاستمرار وأمكن التأصيل وإلا فكل يذهب إلى سبيله، ودار الإفتاء تبحث عن بديل وأنا أعود إلى عملي.. وفترة الاختبار السنوية كفيلة بإبانة الحقيقة والقدرة.
    حضرت لمجلس سماحته ومقره ذلك الوقت، بأول شارع البديعة، جوار مسجد العبيكان وكان الحديث في المختصر، فقال سماحته رحمه الله: نوافق على ما قلت وهو مناسب إن شاء الله فهل ما زلت متردداً؟ قلت: لا فقد خجلت من سماحتكم بعدما تحملتموني في الأيام الثلاثة فقابلتم ترددي برحابة الصدر وحسن الخلق جزاكم الله خيراً. فقال: على بركة الله، وأمر بإعداد ما يلزم بهذا... ثم قال: لا تذهب إلا والرسالة معك لأننا سنسافر بعد أيام قليلة للطائف إن شاء الله.. وستكون معنا ولا بد أن ينتهي الأمر.
    وبالفعل تم إنجاز الخطاب لمعالي الرئيس العام لتعليم البنات ولما دخلت عليه متأبطاً رسالة سماحته إذا به يخبرني بأن سماحة والد الجميع -رحمه الله- قد هاتفه متعجلاً الأمر، ولا بد أن تأخذ الجواب إليه بعد صلاة الظهر مباشرة، وكان قد رتب كل شيء قبل وصولي استجابة لمطلب سماحته فسلمت الرسالة لمدير شؤون الموظفين.
    أمور كثيرة مرت متسارعة وبدون تردد، وما كان لها أن تتم لولا عاملين مهمين: الأول: وقبل كل شيء التوفيق من الله سبحانه

    وتسهيل الأمور. الثاني: اهتمام سماحته -غفر الله له- شخصياً وحرصه ومتابعته فلا الاجتهاد من الإنسان كافياً حتى يجعل الأمور تسير وفق هواه. ولا شفاعة الشافعين بالتي تحرف مسار أمور لم يقدرها الله.. ولكنه العون من الله كما قال الشاعر:
    إذا لم يكن عون من الله للفتى




    فأول ما يجني عليه اجتهاده


    لقد كنا في أيام الدراسة نتحاور فيما بيننا ونتساءل مع مدرسينا: هل الإنسان مسير أو مخير؟ وكان الجواب الشافي الذي ترتاح إليه القلوب. ما يقوله مدرسونا في علم التوحيد: بأن الإنسان مسير ومخير في آن واحد وأن عون الله وتوفيقه هو العامل المهم في الأمر، ولذا يجب أن يسأل العبد ربه الخير والهداية، ويستعيذه من الشر وسوء العاقبة، وهذا ما تمثل أمامي في هذه المسيرة العملية وبداية المشوار مع الرجل الفاضل في علمه وخلقه وفي تواضعه وحسن أدبه، وفي منهجه التربوي والتعليمي الفذ، وفي أسلوبه الرفيع في الدعوة إلى الله والتعليم بشرع الله، ذلك الهاجس المكين عنده طوال حياته لحرصه واهتمامه بترسم خطى رسول الله e في كل أمر صغر أو كبر حيث لم أره حاد عن ذلك طوال مرافقتي لسماحته رحمه الله أو تراخي لأي سبب من الأسباب التي تعرض.
    سلمت رسالة الموافقة من رئيس مدارس البنات لسماحته..

    فوجدت منه خلال سنة التجربة، خير مشجع على العمل وخير موجه لمصلحة المجلة، وما يرفع من مستواها، مع النصح وحسن التوجيه وتذليل الصعاب، ولأنني لم أظفر بشيء مما كنت أرنوا إليه، فخفت من خيبة الأمل وفي هذه الأثناء تعين لمدارس البنات رئيس جديد، فسألني عن إمكانية عودتي لعملي.. مع استعداده لتأمين ما يريحني.. فوافقت بحثاً عن مصلحة عاجلة ولكن ألماً حزَّ في نفسي، عندما هممت بمفارقة الشيخ الذي ارتاحت نفسي للعمل معه وأمدني بتوجيهات وأدعية هي عندي أغلى من نفائس الدنيا.
    ولكن القنوط استحوذ على هواجسي، فاتفقت مع معاليه على صيغة مناسبة للاعتذار، وأن تكون المبادرة بعدم تمديد الإعارة مني، فكتبت رسالة مطولة لسماحة الشيخ عبد العزيز تتضمن الاعتذار وإبانة السبب وأن المصلحة تقتضي عودتي لعملي والبحث عن بديل لعل الله أن يجعل فيه خيراً، يرتفع به مستوى المجلة لعله ممن لديه حماسة وشجاعة تجعلانه يحقق ما لم يتم في فترة التجربة، حيث لم يصدر خلالها سوى عدد واحد وهو السادس ولم تحقق الرسائل التي وجهت لكثير من العلماء والكتاب بالمساهمة في المجلة نتيجة مرضية، ولكل ما تحقق هو موافقة وزير الإعلام على رئيس التحرير وموافقة المقام السامي على رفع مكافأة الكتاب وجعلها ثلاث فئات وموافقة الشيخ عبد الرزاق عفيفي -رحمه الله- على دراسة ما أقدمه له من شعارات للغلاف الخارجي للمجلة ليكون ثابتاً وأن تكون بحجم متوسط وبدون ألوان أو

    زخارف وأن تكون الأعداد برقم تسلسلي منتظم وتحديد البنط الذي تطبع به المجلة.. وتعليمات الكتاب بقواعد النشر.
    قبل انتهاء عام الإعارة بأسبوع كان خطاب الاعتذار جاهزاً فجئت لشيخي إبراهيم الحصين رحمه الله به وطلبت منه أن يقرأه على سماحته وبعد اطلاعه عليه وإدراكه لمضمونه، أعاده إلي قائلاً: خذ رسالتك ولن أقرأها على سماحته فإنه الذي جاء بك ولا أتدخل في الأمر وهذا شيء بينك وبينه فاقرأه أنت وخاطبه بما تريد.
    ثم ذهبت إلى الزميل عبد الله الخريف -رحمه الله- وهو ممن يعرض على سماحته فلما فهم محتوى رسالتي أعادها إلي بنفس مقالة الشيخ إبراهيم الحصين -رحمهما الله- ثم ذهبت إلى زميل ثالث وكان الرد كسابقيه فلم يسعني إلا التشجع وترك الخجل جانباً، لأن حسن خلقه فرض علي احترامه وترك مراجعته في أي أمر، فسلمت عليه بعد عودته من صلاة الظهر أول ما دخل المكتب وطلبت منه خمس دقائق في المختصر لموضوع خاص فانقاد معي -رحمه الله- بيسر وسهولة قائلاً: أبشر.. لما جبله الله عليه من دماثة خلق ورفعة في الأدب ولقدوته برسول الله e في الانقياد مع من يطلبه لحاجة عليه الصلاة والسلام.
    وفي المختصر: هات ما عندك؟ قلت: رسالة سوف أقرؤها، وأرجو موافقتك على ما فيها. قال: استعن بالله فقرأتها وهو يتملى بل

    لم يقاطعني فيها حتى انتهيت، وهذا من حسن سمته، وما يتحلى به من أدب جم، إلا أنه كان يضرب بيده على فخذه، وعرفت فيما بعد السر من الزملاء في العمل أن هذه طريقته إذا اهتم بأمر.. فلما انتهيت قال: لا تريدنا؟ قلت: بلى والله أريدكم ولكني بلغني من القيل والقال ما أقلق راحتي وكدر خاطري فآثرت العودة لعملي. فقال: أو تهتم بذلك؟ قلت: كيف لا والشاعر يقول: "إن البعوضة أدمت مقلة الأسد" ولتأثري من ذلك آثرت إخلاء المكان لغيري. فقال رحمه الله: إذاً خل رسالتك في جيبك واستمر في عملك وصم أذنيك وصفوة الخلق لم يسلم فكيف لا نتأس به.. واصبر وما صبرك إلا بالله.. وما يمسك خبرني به.. ثم نهض.

    ```


    * جريدة المدينة: الأربعاء 4 صفر 1420هـ.

    1- ترب: النظير والمثير.

    [1]- العذب: إشارة إلى ما في الآية الكريمة من سورة النساء )وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً(.
    اللهم اغفر لأبي وأمي وارحمهما كما ربياني صغيرا

  6. #36
    تاريخ التسجيل
    May 2006
    المشاركات
    8,993
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    26-02-2024
    على الساعة
    08:13 AM

    افتراضي

    الشيخ المنجد يتحدث عن مناقب الشيخ ومنهجه العلمي:
    كان الشيخ ورعاً في الفتوى
    وأحيانا يقول المسألة تحتاج تأمل



    كان الشيخ ورعاً في الفتوى




    كتب: سليمان الصالح
    تحدث فضيلة الشيخ محمد بن صالح المنجد حول مناقب سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله فذكر أن العلماء ورثة الأنبياء وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب.. فالعلماء يبلغون عن الأنبياء الذين ينقلون للناس أحاديث الأنبياء لكي يعلموها ويحفظوها...
    وقال الشيخ المنجد إن نجاة الناس والأمة منوطة بوجود العلماء فإن بقبض العلماء يهلك الناس، قال e: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً فينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)).
    وهذا موكب أهل العلم يسير ويقبض الله سبحانه وتعالى من شاء منهم ويذهب من العلم طائفة عظيمة لقبض عالم من العلماء أتدرون ما ذهاب العلم؟ يسأل ابن عباس فقالوا: لا، قال ابن عباس: ذهاب


    العلماء.
    قال الإمام أحمد -رحمه الله- : ((إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء يهتدى بها في ظلمات البر والبحر فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة)).
    لقد فجعنا وفج المسلمون في العالم برحيل الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله- "أبو عبد الله عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله من آل باز" المولود في الرياض في الثاني عشر من ذي الحجة 1330هـ والذي أصابه المرض مبكراً في عينيه فأصيب بالعمى في سن التاسعة عشرة -رحمه الله- لقد رزقه الله بصيرة ونوراً في قلبه وفراسة يميز الصادق من الكاذب، وكان قوياً في أمر الله على ما يستطيع ويقدر وهو الذي رد على أهل الباطل باطلهم.. فلما قام أحدهم يقول: إن القرآن فيه خرافات كقصة أصحاب الكهف وعصا موسى.. كتب الشيخ مبيناً أن ذلك ردة وكفر ولما كتب إليه ذلك القائل إنه لا يقصد وأنه متراجع، كتب الشيخ له آمراً إن كان صادقاً فليعلن توبته على الملأ كما أعلن كفره على الملأ.
    وهذه كتب الشيخ ورسائله حافلة بالرد على أهل الباطل وأهل البدع ترد عليهم باطلهم وبدعهم وهذه مقالات الشيخ بين أيدينا تحذر من البدع كالاحتفالات غير الشرعية والبدعية وهذه رسائله في


    المحرمات المنتشرة وفي البدع الكثيرة مع أخذه -رحمه الله- بالحكمة والموعظة الحسنة.
    نحن لا نبرئ الشيخ فهو بشر ولا نرفعه إلى رتبة الأنبياء فليس بمعصوم والحق ما وافق الكتاب والسنة.
    كان الشيخ -رحمه الله- يسعى لإزالة المنكرات وخطاباته في ذلك كثيرة، لم يطلع عليها الناس لأنه كان يخاطب صاحب المنكر وصاحب الشأن، ولا يريد الفضيحة والتشهير به، اجتهد الشيخ وتصدى للنوازل الكبار والمسائل الصعبة الشائكة التي وجدت في هذا العصر والمتعلقة بمستجدات العصر ومكتشفاته وذلك لما رزقه الله من العلم والفهم والبصيرة فترأس مجمع الفقه الإسلامي الذي أصدر عدداً من الفتاوى في النوازل الفقهية المعاصرة التي يحار العلماء فيها ويضطرون.
    كان الشيخ -رحمه الله- مجدداً جامعاً بين الفقه والحديث فظهر عدلاً وسطاً بين طرفين: طرف مال إلى الحديث ولم يشتغل بالفقه كما ينبغي، وطرف آخر مال إلى الفقه وأقوال العلماء ولم يهتم بالحديث كما ينبغي.
    فكان الشيخ جامعاً بين الفقه والحديث هذه كانت من أعظم ميزاته -رحمه الله-.


    كان الشيخ -يرحمه الله- زاهداً في الدنيا التي أقبلت عليه وكان ينفق راتبه وربما استدان لقضاء حوائج المسلمين، كان في غاية الأمانة يستأمنه الناس على الملايين من صدقات المسلمين وزكواتهم ويجتهد في إنفاقها في وجوهها.
    كان -يرحمه الله- مشاركاً للناس والأهالي ولم يكن منعزلاً عنهم.. لما داهمت السيول بلدة الدلم في سنة 1360هـ خرج الشيخ يشجع الأهالي على إقامة السدود وأخرج من بيته التمر والقهوة إلى مواقع العمل لخدمة الناس.
    وكذلك لما هاجمت أسراب الجراد البلد خرج الشيخ معهم لقتله بالجريد.
    ولما عين الشيخ مديراً للجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية عام 1381هـ وما بعدها كان يتفقد الفصول والطلاب ويعتني بالوافدين من البلدان الأخرى وقضاء حوائجهم وتوفير الكتب لهم والاهتمام بتعليمهم اللغة العربية، ولما عين رئيساً لإدارة البحوث العملية والإفتاء عام 1359هـ وغادر المدينة النبوية إلى الرياض حصلت مشاهد من التأثر لدى أصحابه وطلابه وألقى كلمة اختلط فيها الكلام بالبكاء والنشيج من الجميع.
    كان الشيخ رجلاً منظماً في وقته وعمله ودروسه وطعامه ومجلسه يعطي كل ذي حق حقه لم يشغله المنصب ولم تربطه الدنيا ولم يظلم


    من تحته.. كان متواضعاً وإدارياً ناجحاً.
    هذا الإمام العلم لن نزعم أنه أعلم من الشافعي أو أحمد أو ابن تيمية كلام والله ولكن أهميته في عصره لا تقل عن أهميتهم في عصورهم إن لم تكن أكثر لقلة العلماء في هذا الزمان بالنسبة للعلماء في الأزمنة الماضية.
    كان الشيخ ورعاً في الفتوى كثيراً ما كان يقول انظروا فيها تحتاج إلى تأمل، أكتبها إلى اللجنة ونبحثها مع الإخوة، ولا يستنكف أن يقول في درسه في صحن الحرم المكي على الملأ من الناس وسمعته بنفسي: المسألة مشتبهة عليّ ولا يجيب، وكم من مرة سألته فيتوقف عن الإجابة ولو عرضت على طالب علم صغير لتسرع فيها، كان صاحب خشية لله.
    كان حليماً عفواً سمحاً متسامحاً: دخل عليه أيام كان قاضياً بالدلم رجل سباب فسب الشيخ وأخشن والشيخ ساكت ولا يجيب، ثم سافر الشيخ للحج ومات ذلك الرجل فلما قدموه للصلاة عليه رفض إمام المسجد أن يصلي عليه وكان يعرف الواقعة وقال لا أصلي على شخص يسب العلماء.
    ولما عاد الشيخ من الحج وأخبر بموت الرجل الذي سبه وما حدث من قصته مع إمام المسجد، ترحم عليه وعاتب الإمام وقال دلوني على قبره فصلى عليه ودعا له.


    قلت للشيخ قبل موته بأيام أريدك يا شيخنا أن تسامحني فلا يخلو الأمر من خطأ في حقك أو تقصير أو إخلال في فهمك أو النقل عنك فقال الشيخ: مسامح سامحك الله. وهذا من أسباب اجتماع القلوب عليه ومحبة الناس له فلم يكن يصادم ولم يكن يرد الإساءة والسفاهة.
    ابلغوا ابن باز منا السلام:
    لقد وصل اسم الشيخ وعلمه وانتشر في العالمين شرقاً وغرباً ليس لدى طلاب العلم والمثقفين والمتعلمين فقط ولكن لدى عامة المسلمين حتى إن بعض الدعاة لما دخل في بعض بلاد أفريقيا وجدوا عجوزاً فقالت من أين أنتم فقالوا لها عبر المترجم من بلاد السعودية فقالت بلغوا سلامي إلى الشيخ ابن باز والله إذا رضي عن عبد وضع له القبول في الأرض..
    رحم الله الشيخ لقد عمل 58 سنة ولم يأخذ إجازة واحدة وكان لا ينام في يومه إلا أربع ساعات أو خمس، وكان مستحقاً للتقاعد منذ عشرين عاماً بكامل الراتب ولكنه استمر في خدمة الإسلام ونصرة الدين حتى آخر لحظة من عمره، فعندما كان يفيق من مرضه الأخير يقول لمن حوله من الكتاب والمساعدين هاتوا ما عندكم فيقرؤون الرسائل والخطابات ويقضي في الشكاوى وقضايا الطلاق وأيضاً الشفاعات والشكاوى من المنكرات.


    عزاؤنا في الشيخ:
    عزاؤنا في موت الشيخ موت أشرف الخلق وخاتم النبيين محمد e، تقول عائشة -رضي الله عنها- : فتح رسول الله e باباً بينه وبين الناس في آخر عمره فإذا الناس يصلون خلف أبي بكر، فحمد الله على ما رأى من حسن حالهم رجاء أن يخلفه الله فيهم بالذي رآهم فقال: ((يا أيها الناس أيما أحد من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعزى بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري فإن أحداً من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي)).
    عزاؤنا في الشيخ المصاب الذي لقيته الأمة بوفاة خير البرية محمد e وكل مصيبة دونه تهون.
    وعزاؤنا في الشيخ في الطلاب الذين تركهم والعلماء الذين خرجهم هذا الشيخ الفاضل وهذه الكتب والرسائل التي سطرت علمه فهو وإن رحل عنا فعلمه باق ونحن مسئولون عن نشره وتبليغه ومن حق الشيخ علينا أن نقوم بعد وفاته بنشر علمه وفضله ومناقبه وأن نترحم عليه وندعو له.

    ```



    أحسن الله عزاءكم يا مسلمون





    محمد بن عبد الله الشائع
    وكيل المعهد العلمي في محافظة شقراء
    منذ هممت أن أخُطّ خطّ عرفان ووفاء عن إمام جليل، ودوحة فارعة، فلق الله نواتها في هذه البلاد المباركة وتعهدها ووالاها حتى أخرجت شطؤها وامتدت وأظلت بلاداً، وعباداً، وراح راشحتها دانون وقاصون. منذ ذلك وأنا أتردد متهيباً مشفقاً أقدم وأحجم وإلا فكيف يسبر وليد أغوار والد وكيف تحيط بصمة في كف عملاق بخصيصة من خصائص ذلك العملاق ولكني مضيت أسترجع الأيام وأنادي الذكريات وأفتق الإكمام لعلها تبث ما استودع فيها من الأرواح الزكية التي تحمل من روائح الشيخ وروائعه ما تحمل لنا برقة هذه الخواطر.
    بنفوس ملأها الحزن، وعمّرها التسليم لقضاء الله وقدره تلقى المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها نبأ وفاة علم من أعلام المسلمين وعالم من علمائهم الأبرار فقدنا بفقده عالماً فاضلاً، مربياً لأجيال من العلماء وطلاب العلم إنه شيخنا ووالدنا سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز والذي توفي صبيحة يوم الخميس السابع والعشرين من شهر الله المحرم لعام ألف وأربعمائة وعشرين من الهجرة النبوية الشريفة


    عن عمر يناهز التاسعة والثمانين.
    لقد قضى حياته -رحمه الله- في سبيل العلم تحصيلاً وتعليماً، نفع الله به عدداً كبيراً من الطلاب الذين تتلمذوا عليه أو تتلمذوا على طلابه.
    إن الشيخ عبد العزيز -نور الله ضريحه- يحتل الصدارة بين العلماء في علمه وأدبه وأخلاقه وسداد رأيه وحسن تعلمه وكونه قدوة حسنة قولاً وعملاً لقد كان -رحمه الله- يحتل الصدارة بين العلماء في علمه وأدبه وأخلاقه وسداد رأيه وحسن تعامله. لقد كان -رحمه الله- صرحاً شامخاً في العلم والاجتهاد وبعد النظر، غاية في التأمل والاستنباط والحرص البالغ على نشر العلم وطرق تعلمه والتعايش مع طلبة العلم على مختلف مستوياتهم ومداركهم ومراحل تعلمهم.
    سماحة الشيخ -رحمه الله- تميز بالعلم الغزير والأخلاق السامية والنبرة الصادقة والألفاظ العطرة والعقل الراجح والورع الحقيقي والترفع عن سفاسف الأمور والصبر عند الملمات مما لا تكاد تجده مجموعاً عند غيره من الرجال، لقد سعى إلى نشر العقيدة الصحيحة في أنحاء الأرض وسعى كذلك إلى نشر التربية السلمية والأخلاق الحميدة فكان مدرسة فريدة في جمع الناس على الخير.
    كان -رحمه الله- طويل البال، واسع الاطلاع راسخ القدم، عميق التفكير دقيق التصوير، قوي الحجة، ناصع البرهان.


    كان يتصف بصفات يندر أن تجتمع في شخص ومن ذلك غزارة العلم ورجاحة العقل والزهد في الدنيا ومظاهرها وحب الخير للآخرين وإيصاله لهم وبذل جاهه وماله في ذلك.
    كان سماحته -رحمه الله- يبذل جاهه في خدمة الصالحين ومعونتهم ولا يرد صاحب حاجة يستطيع أن يقضيها له، وبالجملة فإن الشيخ كانت له عناية بالغة بأصحاب الحوائج والمعوزين وكان ينفق جزءاً كبيراً من راتبه في ذلك، لقد تمثل حديث المصطفى e وفيه: ((ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)) الحديث.
    إنّ قضاء حوائج الناس وإقالة عثراتهم وتفريج كرباتهم خلق جميل وسلوك نبيل وقد تجسد هذا الخلق في سماحته فقد كان رضي النفس كريماً متواضعاً يبسط يده بالخير ويبذل نفسه لقضاء حوائج الناس وكان حريصاً أشد أحرص على أن يكون عمله في ديوان السر، وكان -رحمه الله- يفد إلى بيته كل يوم طلبة العلم والدعاة وعامة الناس ممن يبغون الشفاعة في أمر من الأمور فكان بيته ملتقى الضيوف وذوي الحاجات ومنتدى العلماء وطلبة العلم.
    كان -رحمه الله- عفيف اللسان عن أعراض الناس لا يتكلم إلا بالخير ولا تراه إلا ذاكراً لله أو معلماً أو باذلاً أو داعياً إلى الله ولا يسمح لأحد أن يتحدث في مجلسه في أعراض الناس بل يرى للناس


    فضلهم وسبقهم، ولا يسمح لأحد أن يتحدث بسوء ومجال النصح عنده مفتوح وكان من أنصح الناس للناس فإذا سمع وتأكد أن فلاناً من الناس عنده خطأ أو عليه ملحوظة ينبهه على ذلك بحسن أدب وبحسن منطق وبرهان ولا ينتصر لنفسه ولا لرأيه، ولا يسفه في التعامل مع المخالف أو يرميه بالكلام البذيء الفاحش من القول بل يدعو بالتي هي أحسن عليه رحمة الله.
    لقد قضى حياته في العلم والتعلم وبناء الرجال وتربية النفوس وإثراء الأمة بالفتاوى العلمية والبحوث الشرعية التي تتسم بالعمق والأصالة ودقة التحقيق ولذا لا تكاد تجلس معه قليلاً من الوقت إلا وتخرج بفائدة علمية أو أدبية أو خلقية وكان حديثه يتسم بوضوح العبارة وصدق المقالة.
    لقد كان سماحته -رحمه الله- لين الجانب، دائم البشر، حسن الخلق، ليس بفظ، كثير التواضع، لا يحقد على أحد، لا يعجل ولا يجهل، وإن جُهل عليه احتمل، يحب في الله ويبغض في الله، تعلوه السكينة والوقار، وهبه الله ذاكرة نفاذة وقريحة وقادة بذل للحديث وللسنة النبوية كل جهده، وأنفق فيها شبابه وشيخوخته، ما كلَّ ولا ملَّ حتى بلغ الذروة في علمه وحفظه، وحتى صار بحق فقيهاً في المحدثين ومحدثاً في الفقهاء وإماماً لأهل السنة.
    لقد كان الشيخ نموذجاً طيباً يحتذى، وجوهرة وضاءة يُهتدى بها


    في السلوك والأخلاق وفي حسن التعامل مع ولاة الأمر وطاعتهم فيما يُرضي الله ونصيحتهم بالرفق واللين في السر والدعاء لهم.
    عاش سماحته آلام الأمة وآمالها فكان يدرك بعمق شراسة الغزو الفكري الاستعماري للمسلمين ويدرك ما يتعرض له شباب الإسلام من وسائل خادعة وأساليب ملتوية هدفها وغايتها إبعاد المسلمين عن دينهم وصرفهم عن عقيدتهم ولذا حذر وأنذر -رحمه الله- من ذلك وأوصاهم بالزوم التوقى على كل حال وقد كان - رحمه الله حريصاً أشد الحرص على التئام الصف وتوحيد الكلمة وإجماع الأمة والائتلاف بينها ونبذ الفرقة والخلاف الذي يهدد كيانها.
    حقاً لقد كانت وفاة الشيخ فجيعة كبيرة تألم لها المسلمون في أرجاء العالم الإسلامي. لقد وقع هذا الخبر في نفوس محبيه موقعاً عظيماً شعروا فيه بعظم الخسارة وفداحة الخطب وشدة المصاب.
    يا الله مات العالم الذي قلّ نظيره من العلماء لقد أذهلنا الخبر حقاً وبموته انطفأ مصباح من مصابيح العلم فخسرت به الأمة الإسلامية عالماً فذاًَ ورعاً زاهداً والآن قد لقي ربه من ذا سيسد ثلمثة؟
    سيذكرني قومي إذا جد جدهم




    وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر


    كان -رحمه الله- قبل وفاته في كامل وعيه تام الحواس ما عدا البصر سليم الإدراك لم يتغيب في عمله محتسباً معلماً حتى اللحظة


    الأخيرة التي ازداد عليه فيها الوجع لتخرج روحه إلى بارئها.
    لقد كان مشهد الجنازة مشهداً مهيباً مبكياً يذكر بمقولة الإمام أحمد (بيننا وبينهم أيام الجنائز) لقد اكتظ المسجد الحرام بالآلاف من المسلمين للصلاة عليه وتشييعه يتقدمهم خادم الحرمين الشريفين وولي عهده والنائب الثاني وبقية الأمراء والمشايخ والوزراء، لقد صلى على الشيخ وشيعه خلق كثير وعدد هائل من البشر لا يحصي عددهم إلا الله سبحانه وتعالى لقد ازدحمت الطرق والممرات المؤدية للحرم بالمشيعين بل لقد غصت الطرق والمقبرة بالمشيعين كل منهم يريد أن يلقي على هذا الفقيد نظرة أخيرة ويقول له وداعاً أيها الإمام وموعدنا معك في الجنة إن شاء الله.
    إنَّ مصابنا فيه كبير، وواجبنا أن نقول: (إنا لله وإنا إليه راجعون) رحم الله شيخنا أبا عبد الله وأسكنه فسيح جناته وألهمنا وأولاده وأهله وجميع المسلمين الصبر واحتساب الأجر وإنني إذ أُعزي العالم الإسلامي به أخص خادم الحرمين الشريفين وولي عهده والنائب الثاني وأبناء الفقيد وأهله وإخوته وجميع المسلمين بخالص التوجه بأن يحتسبوا مصيبتهم عند الله الذي له ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل.
    وأخيراً إن هذا المشهد العظيم الذي عاشته المملكة والبلدان الإسلامية في توديعها هذا العالم يدل على وعي هذه الأمة وتقديرها


    للمخلصين من رجالها والعلماء العاملين بعلمهم من أبنائها وهو آية من الآيات الدالة على الوفاء الذي تتميز به هذا الأمة المسلمة في مملكتنا الحبيبة للأوفياء لها، رحم الله فيقدنا المحبوب وعالمنا الجليل وشيخنا الفاضل وأسكنه جناته وأمطره الله بشآبيب رحمته وجعل قبره روضة من رياض الجنة وجمعنا الله به ووالدينا في دار كرامته ونرجو الله أن يعوضنا عنه خيراً.
    وشكراً جزيلاً لهذه الأمة على وعيها ووفائها وتقديرها للمخلصين من أبنائها والجادين من رجالها.

    ```



    يا شيخنا لقد أتعبت من بعدك





    بقلم الشيخ محمد بن عبد الله المجلي
    ملازم قضائي بالمحكمة الكبرى بالرياض
    الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه وبعد:
    فإنه لمصاب جلل وخطب عظيم أن توفي شيخنا ووالدنا الإمام الراسخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- وجعل جنات الفردوس مأواه فـ )إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(، اللهم آجرنا في مصيبتنا واخلفنا خيراً منها.. إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا على فراقك يا شيخنا لمحزونون... ولا نقول إلا ما يرضي ربنا..
    وإن قلبي لا يزال يبكي حزناً وتألماً لفراق ذلك العلم الجهبذ والعالم الفريد.. الذي نذر نفسه وحياته كلها لخدمة هذا الدين والقيام على مصالح المسلمين، فقد كان -رحمه الله- ذا همة عجيبة وعمل دؤوب وصبر جميل.. شمل همه كل المسلمين، فتجد في بيته الفقراء والمساكين، ودهماء الناس وكبرائهم وطلبة العلم والعلماء، فهذا يريد مالاً وهذا طعاماً وهذا يستفتيه وهذا يستشيره وذاك يطلب على يديه العلم وآخرون يريدون تزكية أو توصية أو شفاعة وغيرهم كثير، فتجده


    -رحمه الله- فاتحاً قلبه للجميع لا يرد أحداً ما استطاع، وغير ذلك فإنه لا ينسى المسلمين في أنحاء العالم، يتألم لألمهم ويحزن لمصابهم ويعينهم ويحث على إعانتهم ففي كل باب خير له سهم.. فهنيئاً له ثم هنيئاً له... كم من الأجور تجري له بعد موته... وكم من الدعوات تسدى له قبل وبعد رحيله..
    وإن الناظر إلى أعمال الشيخ ومآثره يعلم علم اليقين عظم المسؤولية التي خلفها ليتحمل عبْأها من بعده طلبة العلم والعلماء.. فيا شيخنا لقد أتعبت من بعدك..
    ويا طلبة العلم أسأل الله أن يعينكم على القيام بهذه المسؤولية وإعطائها حقها من الإخلاص والصبر والاجتهاد وأنتم أهل لذلك إن شاء الله.
    وإن مما يجدر التذكير به بعد وفاة شيخنا الإمام أمور كثيرة منها ما يلي:
    1- الحرص على نشر العلم الشرعي بين طلاب العلم خاصة والناس عامة وبذلك الجهد في ذلك مع الاحتساب والإخلاص وإضفاء الجو الإيماني على الدرس أو المحاضرة وتعليق القلوب بالله عز وجل لتستشعر عظمته.
    2- التمثل بالقدوة السحنة في كل الأمور للناس عامة ولطلبة العالم


    خاصة، حتى يرى الناس علماء ربانيين، يتضح عليهم سمت علمائنا من السلف الصالح.
    3- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل مكان وألا تأخذنا في الله لومة لائم.
    4- الالتزام بالمنهج الصحيح منهج السلف الصالح في الاتصال والتعامل مع ولاة الأمر ومن ذلك طاعتهم في المعروف والدعاء لهم بالخير والصلاح والتوفيق ومناصحتهم على الوجه الشرعي وعدم اليأس من الإصلاح.
    5- التفاعل مع جميع قضايا الأمة الإسلامية وإيضاح الرأي السديد فيها. وإني والله لأعلم أني لست كفؤاً لبيان ذلك لكم يا طلبة العلم ومقامي أقل من ذلك.. وأعتذر لكم عن الخطأ في العبارة، مع علمي أن هذا مما لا يخفى عليكم، وأن ما ذكرته عن الخطأ في العبارة، مع علمي أن هذا مما لا يخفى عليكم، وإن ما ذكرته من باب التعاون على البر والتقوى قوله تعالى: )وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ(، أسال الله تعالى أن يغفر لسماحة شيخنا وأن يحفظ علمائنا ويهديهم إلى التمسك بمنهج السلف الصالح وأن يرزقهم الصلابة في الحق وأن يجعلهم مصابيح خير وهدى لأمة الإسلام هو ولي ذلك والقادر عليه والحمد لله رب العالمين.



    بين عظم المصاب وحسن العزاء





    بقلم: الدكتور محمد بن عبد المحسن التركي
    مدير مكتب وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد للدراسات والبرامج
    إنما يعظم المصاب بعظم المصيبة، ولقد كانت المصيبة مفجعة والمصاب جللاً، ولكن الذي يستعصم به كل مسلم هو الرضا عن الله -عز وجل- واحتساب ما أصابه عنده، فإن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، ولولا أنه أمر حق ووعد صدق، وأن آخرنا لاحق بأولنا، لحزنا على أبي عبد الله حزناً غير هذا، ولكن تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا جلّ وعلا.
    لقد كانت الصدمة الأولى مذهلة أصمتت لها الألسنة والتاعت لها القلوب، وغلب كلاماً يجد من ألم المصيبة، وحرارة الفجيعة.
    ثم كانت الإفاقة من الصدمة، والرجوع إلى الواقع ليعايش كل حقيقة المصاب وأبعاده، وحرقته وأوجاعه:
    1- كان المصاب عظيماً لأن الشيخ -رحمه الله- كان الوعاء الذي


    جمع أنواع الفضائل ومآثر الخير وشوارد المعروف وخصال المروءة، في تكامل عجيب، فلا تكاد تذكر خصلة من خصال الفضل؛ إلا وللشيخ فيها أوفر الحظ والنصيب، ولا تأتي إلى الفضائل من وجه، إلا وأفضى بك إلى الشيخ، فعلى كل باب من أبواب الخير مصيبة بالشيخ، فيبكيه أهل العلم، ويبكيه أهل الكرم، ويبكيه أهل النسك، ويبكيه أهل الزهد، ويبكيه أهل المعروف، ويبكيه ذوو الحاجات المعوزون، وتبكيه الأرامل والأيتام، فلكل من مصيبته مصاب.
    2- عظم المصاب بالشيخ -رحمه الله- لأنه كان في حياته تجسيداً لدقائق السنن، في سمته وهيئته، وفي نسكه وعبادته، وفي أخلاقه وشمائله، وفي عمله ودعوته، حتى تكاد تجزم أنه لا ينطق إلا بسنة، ولا يصمت إلا بسنة، ولا يفعل إلا بسنة، ولا يترك إلا بسنة، لقد كانت حياته -رحمه الله- تطبيقاً عملياً لحديث رسول الله e وسنته، فليس شيء من السنة عنده مهجور، لقد كان دواوين السنة تمشي على الأرض.
    3- عم المصاب بالشيخ، لأنه كان تجسيداً عملياً للمروءات ومكارم الأخلاق، فكم يطربك أن تسمع أو تقرأ عن الحلم والكرم وصنائع المعروف، ولكن أعظم من ذلك وأبلغ أن ترى هذه الفضائل متمثلة في شهم يحييها للناس، فترى العيون مواقعها وصنائعها، وهكذا كان الشيخ فإنه أقام سوق المروءات فرآها الناس عياناً، بعد أن ظلوا زماناً


    يرددون: "الجود يفقر والإقدام قَتَّالُ".
    4- عظم المصاب بالشيخ -رحمه الله- لأنه كان محل الاتفاق عند الكافة، وملتقى طبقات المجتمع كلها على تنوعها وتفاوتها، فقد وسعهم جميعاً بعلمه وحلمه وحسن خلقه وطيب معشره، وفضائله ومروءاته، وواساهم بماله وجاهه، ولذا رأينا فئات المجتمع كلها ترثيه، الكبار والصغار، والرجال والنساء، الأمراء والوزراء، العلماء والعامة، الأدباء والمثقفون، في إجماع يندر أن ينعقد مثله على شخص، ولكنه فضل الله يؤتيه من يشاء، فسبحان من وضع له القبول في الأرض: )إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً(.
    5- عظم المصاب بالشيخ، لأنه شخصية لا تتكرر في كل الأمصار، ولا تتوالى في كل أعصار، لأن تلك الفضائل تكون في العادة مفرقة بين الأخيار، وهم قلة، أما أن تجتمع في وعاء واحد، فذلك لا يوجد إلا قليلاً أو نادراً، وقد كان الشيخ من هذا القليل النادر، لقد طوف كثيرون العالم الإسلامي والتقوا علماءه ورجالاته، فلما التقوا الشيخ، قالوا بفم واحد: ما رأينا مثل ابن باز، قالوا ذلك لا لأنهم لم يروا أعلم، ولا أكرم، ولا أحلم، ولكن لأنهم لم يروا هذا الصفات اجتمعت ثم ائتلفت في شخص واحد إلا أن يكون سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
    6- عظم المصاب بالشيخ -رحمه الله- لأنه كان عالماً متميزاً في علمه،


    فقد جمع بين العلم الراسخ، والفقه الدقيق والورع المتين، وذلك ما جعل فتياه محل الثقة والقبول في العالم كله.
    لقد كان الفقيه الراسخ الذي يأخذ من النصوص مباشرة، ويرجع إليها بلا واسطة، فكانت حياته موصولة بسنة رسول الله e ودروسه عامرة بكتبها، يؤلف بين نصوصها ومقاصد الشريعة، فإذا حزبت معضلة، أو نزلت نازلة فزع المستفتون إليه، فأووا إلى ركن شديد.
    7- عظم المصاب بالشيخ -رحمه الله- لأنه فقد رجل جُبلَ على الخير، فكانت مكارمه جبلةً لا تكلفاً، وطبعاً لا تطبعاً، وهذا السر في استمراره ودأبه وتألقه، فالمتكلف يكل، والمتطبع يغلبه الطبع، أما الشيخ فكانت المكارم جبلته، وفعالها سجيته لا يكل ولا يمل ولا ينقطع.
    لقد كان سروره بقضاء حاجة المحتاج أعظم من سرور صاحب الحاجة بانقضائها، وكانت راحته ومتعته في نفع الناس بكل أوجه النفع: تعليماً، وإعانة، وشفاعة، وقضاء حاجة، وإغاثة لهفة، هكذا كانت حياته، بل هكذا كان في مرض وفاته، لا يؤنسه ولا يريحه إلا هذه الفعال.
    8- عظم المصاب بالشيخ، لأنا كما أصبنا بعالم من أفذاذ العلماء، فقد أصبنا بكريم من أكرم الكرماء، جمع الكرم من أطرافه، وبلغ في غايته


    علياءها.
    9- عظم المصاب بالشيخ -رحمه الله- فأصاب الناس كلهم، ولا زالوا إلى اليوم يتبادلون فيه العزاء، ويعمرون بذكره المجالس، وما ذاك إلا أن الجميع لا زالوا يجدون ألم المصيبة، وحرارة الفجيعة، ولوعة الفراق، ولا يزال كل فرد في الأمة يعيش فجيعة اليتم بفقد ذلك الأب العظيم.
    وبعد، فلئن عظم المصاب في الشيخ، فإن في الله تعالى عزاء من كل مصيبة، وخلفاء من كل فائت، ودركاً من كل ذاهب، وقد كان من لطف الله في قدره ما أعان على جميل الصبر وحسن العزاء:
    1- فمن حسن عزائنا في الشيخ ما رأيناه من إطباق الأمة على الثناء عليه والدعاء له، وما رأى المتأخرون أحداً أطبقت الناس عليه كإطباقها على الثناء على الشيخ والشهادة له بالخير، وتلك عاجل بشرى المؤمن، وقد قال رسول الله e في جنازة أثنى عليها خيراً: ((أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، أنتم شهداء الله في أرضه)).
    2- ومن حسن عزائنا في الشيخ أنه انقلب إلى ربه الذي عبده وأحبه وعظمه ودعا له، فملأ قلوب الناس حباً لله وإجلالاً له، فنحتسب أنه سيلاقي ربه بثمانين سنة من العمل الجاد لهذا الدين والجهاد في سبيله وتعلمه وتعليمه والدعوة إليه، ونحتسب أنه سيلاقي ربه


    بإخلاص صادق وحبة عظيمة، ونحتسب أنه سيلاقي ربه بأجور أناس كثيرين دلهم على الخير ودعاهم إلى الهدى.
    3- ومن حسن العزاء في الشيخ أن الله حفظ عليه علمه، وقواه، فلقي ربه حاضر الذهن مجتمع العقل، لم يذهب وعيه لشدة مرض، ولم تفتر حدة ذهنه لكبر، وأعاذه ربه أن يرد إلى أرذل العمر، فمتعه بقوته ما أحياه، فلله الحمد والمن والفضل.
    4- ومن حسن العزاء في الشيخ أن علمه محفوظ في كتبه التي ألف، وفتاويه التي أملى، ودروسه التي سجلت بصوته، وكل ذلك محفوظ ميسور. ولم يكن شأنه شأن كثير من العلماء الذي أدرج علمهم في أكفانهم، وانقطع بوفاتهم، أما الشيخ فقد بقي بيننا بعلمه النافع الذي خلفه وتلاميذه الذين ربَّى.
    5- ومن حسن العزاء في الشيخ أنه قرت عينه بهذه النهضة العلمية المباركة، والتي كانت دروس الشيخ من مظاهرها، فبعد أن كان حضور دروسه في أواخر التسعينات آحاداً أو عشرات، صار في الأعوام المتأخرة مزدحماً بالمئات بل الألوف، فالحمد لله الذي أرى الشيخ ما أقر عينه وأسعد قلبه.
    6- ومن حسن العزاء في الشيخ ما رأيناه من عموم الفجيعة به، حتى لف


    المجتمع بكل فئاته من قادته إلى كافة أفراده، فلا ترى إلا مصاباً، ولا تسمع إلا داعياً ومثنياً، ولئن كان ذلك تزكية للشيخ، فهو تزكية للأمة، وعلامة خيريتها وحياة مشاعرها، وحسن صلتها بعلمائها وأهل الخير فيها.
    ثم بعد فإن الشيخ قدس الله روحه، وبوأه من الجنة أعلى منازلها لم يكن معصوماً، ولكنه كان مسدداً مهدياً، أنار الله بصر بصيرته، فهو يعبد الله على نور ويدعو إليه على بصيرة، ويجتهد في إصابة الحق فيوفق له، فرحم الله إمامنا رحمة واسعة، وجمعنا به في دار كرامته مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.

    ```
    اللهم اغفر لأبي وأمي وارحمهما كما ربياني صغيرا

  7. #37
    تاريخ التسجيل
    May 2006
    المشاركات
    8,993
    الدين
    الإسلام
    آخر نشاط
    26-02-2024
    على الساعة
    08:13 AM

    افتراضي

    وعظت الناس حيّاً وميتاً يا أبا عبد الله





    بقلم: د. محمد بن علي الصامل
    وكيل كلية اللغة العربية بالرياض
    للدراسات العليا والبحث العلمي.
    ذكرتنا جنازة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله- بما نقرؤه في التاريخ الإسلامي حين توصف جنائز علماء السلف الذين كان لهم الأثر الخالد في حياة الأمة، فجنازته كانت عظة وعبرة لكل ما شارك فيها أو شاهدها فلقد ألقى الدنيا وراء ظهره وأقبل على الله بكل جوارحه، وسعى في نشر الخير والنصح والإصلاح بين الناس ولم يكن يتوقف -رحمه الله- عن هذا المنهج في كل مجالسه في حياته، ويشاء الله سبحانه أن يستمر نصحه للأمة في موكب جنازته التي تسجد فيها نوع خاص من النصح يمكن تسميته النصح الصامت، أو النصح العملي التطبيقي، فكما كان قدوة في أقواله وأعماله في حياته منها: هي جنازته تحاط بقلوب الملايين من محبيه في أنحاء المعمورة، وها هي الدموع التي تذرفها مآقي مشيعيه تكاد تغسل الران عن قلوب أولئك الذين تعلقوا بالدنيا وزخرفها، فها هو النموذج الحي لمن قدم لأمته ما يرجو أجره من خالقه، ويسأل كل من


    تمنيه نفسه أن يكون لجنازته شيء مما شاهده في جنازة الشيخ، كيف تحقق للشيخ ذلك؟
    إن من هيأ الله له حضور مجالس الشيخ عليه رحمة الله يدرك أنها لا تخلو من ذكر الله وتسبيحه وتحميده، سواء أكان بكتاب يقرأ، أو بدرس يشرح، أو بموعظة ترقق القلوب، أو بنصيحة تهز الوجدان، أو بسؤال يتشوق الحاضرون لمعرفة رأي الشيخ فيه، وإن لم يكن هذا أو ذاك، فإنه يلتقط الهاتف، ليجيب عن سؤال، أو يحل مشكلة.. هذا ديدنه رحمه الله، هذا ما يعرفه كل من سعد بحضور مجالسه.
    ولعل مما يحسن تدوينه ما يلحظه الحاضرون لمجالسه من مواقف تذكر له رحمه الله فتشكر، وكل مواقفه مذكورة مشكورة، ولأن ما يكتب عنه -تغمده الله بواسع رحمته- سيكون وثائقاً للتاريخ تؤخذ منها المادة العلمية التي ترصد في سيرته ومسيرته المباركة.
    وإني لأدعو كل محب أن يشفع كتابته ودعاءه للشيخ وذكر مناقبه بذكر مواقف موثقة تبقي للتاريخ يقتدي بها الدعاة وطلبة العلم.
    وأبدأ بذكر بعض المواقف التي رأيتها بنفيس في مجالسه عليه رحمة الله:
    ففي شهر رمضان المبارك من عام 1416هـ استجاب رحمه الله لدعوة سمو الأمير الدكتور بندر بن سلمان آل سعود، فحضر إلى مقر


    إقامة ضيوف سمو الأمير وضيوف لجنة الدعوة في أفريقيا، وذلك في حي الراقوبة قرب باب عثمان في مكة المكرمة، وحين استقر بالشيخ المجلس -وكنت أدير الحوار- بدأ سمو الأمير بندر بتعريف الشيخ بضيوفه، وجلهم من العاملين في حقل الدعوة إلى الله في أفريقيا، وممن سبق أن درسوا على سماحته في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، فكان رحمه الله حين يذكر له الاسم يتوقف مع صاحبه، ويسأله عن نفسه وبعض زملائه -بذكر أسمائهم- وعن مدرسته، وحال الدعوة في بلده، بل كان يسأل عن كثير من القضايا التي تخفى على أكثر الناس متابعة لهذا البلد أو ذاك، مما يدل على متابعة الشيخ رحمه الله لأحوال إخوانه المسلمين ومعرفة أمورهم، ولا غرو فلا يوجد بلد إلا وفيه مسلمون من تلميذ أو محب، بل هناك فئة من الدعاة كثيرة العدد والنفع يتولى مكتبه الخاص دفع مرتباتهم.
    وموقف آخر يكشف دقة الشيخ رحمه الله حيث كنا في زيارته في مكتب سماحته بالعزيزية في مكة المكرمة مع مجموعة أخرى من الدعاة ضيوف لجنة الدعوة في أفريقيا، وحين سلم عليه الدعاة -وكان معهم من ليس منهم- استوقف أحد المسلمين عليه وطلب تكرار اسمه، وبعد انتهاء الزيارة أسرّ رحمه الله لسمو الأمير الدكتور بندر بن سلمان بأمر يدل على أنه لحظ على ذلك الشخص شيئاً، وبعد التثبت مما ذكر الشيخ تبين أن ظنه -رحمه الله- كان صحيحاً، وقد


    غاب هذا الأمر عن - أعضاء اللجنة - جمعياً مما يجعل سمو الأمير يلهج بالدعاء لسماحته على تفضله بتنبيه اللجنة إلى ذلك الأمر.
    وموقف آخر أختمُ به أن سماحته دعا ضيوف اللجنة للإفطار في أحد أيام العشر الأخيرة من رمضان المبارك عام 1418هـ فكان -رحمه الله- يتفقد الضيوف بأسمائهم، ليطمئن على إكرامهم.
    هذه بعض المواقف التي كنت أحد شهودها أذكرها ليطلع القارئ على نماذج حية لخصال الشيخ الحميدة التي لا يجهلها من رأى الشيخ أو سمع به.
    أسبغ الله على أبي عبد الله واسع رحمته وكريم عفوه ومنّه وجمعنا به في مستقر رحمته، والحمد لله رب العالمين.

    ```



    ابن باز ذلك البدر الذي فقدناه





    محمد هاشم الهدية
    رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية بالسودان
    الحمد لله القائل: )وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ([(155، 156) سورة البقرة]، لقد فجعت الأمة الإسلامية بوفاة سماحة العلامة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله- ولا شك أنه لمصاب عظيم في وقت الأمة أحوج ما تكون لمثله لما تميز به سماحته من سعة العلم وقوة الحجة وكريم الخصال وبفقده فقد العالم الإسلامي نبراساً كانت تهتدي به البشرية ولكن عزاءنا الوحيد -بعد حفظ الله لهذا الدين- هو أنه خلَّف لنا إرثاً عظيماً من المؤلفات والفتاوى الثرية التي تعالج قضايانا المعاصرة والمستجدة كما أن في هيئة كبار العلماء التي كان يرأسها خير خلف لخير سلف هذا فضلاً عن فضيلة العلامة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ والذي سوف يملأ هذا الفراغ الذي خلفه سماحته بإذن الله.
    ولقد عرفت سماحة الشيخ بن باز رحمه الله منذ فترة طويلة حيث جمعتني به المجالس العلمية عبر المؤتمرات الدورية التي تناقش قضايا


    المسلمين أو من خلال الاتصالات واللقاءات الفردية التي أحرص عليها عند قدومي إلى هذه البلاد الطيبة واستفدت كثيراً من نصائحه وإرشاداته الدعوية ولقد وجدته بحراً من العلم المتدفق جمع بين العلم والواسع والبصيرة النافذة ولهذا تجد أن فتاواه متميزة وتجد القبول لدى السواد الأعظم من المسلمين كما تميز -رحمه الله- بالورع والزهد ومناصرة المستضعفين في كل مكان ومناشدته للمحسنين وأهل الخير وإسهامه بنفسه في الإنفاق لأجل نصرة وإعانة المسلمين الذين يتعرضون للحروب والمجاعات إلا أكبر شاهد على ما ذكرناه هذا غير ما كان يتصف به سماحته من دماثة الأخلاق وطيب المعشر وسعة الصدر وقد رأيته يجلس الساعات الطوال من غير كلٍّ وملل مع محدثيه الذين يطرقون بابه ليلاً ونهاراً سائلين عن حكم شرعي أو حاجة يسعون لقضائها وليس ذلك غريباً على الشيخ، فلقد عرف باهتمامه بقضايا وأمور المسلمين ولقد امتد هذا الاهتمام بالأفراد والجماعات التي تعمل في حقل الدعوة الإسلامية في العالم وكان لاهتمامه بجماعتنا أكبر الأثر في نشر عقيدة التوحيد بالسودان وكان كثيراً ما يوصى الإخوة السودانيين بضرورة العمل والتعاون مع جماعتنا لأنها تسير على نهج السلف الصالح في الدعوة إلى الله عز وجل، وكانت له عبارة مشهورة يرددها للسودانيين وهي قوله أهنئكم بجماعة أنصار السنة المحمدية ولقد كان سماحته مهتماً بأمر دعوتنا غاية الاهتمام وحينما حاول البعض التشكيك في منهجها العلمي والعملي قام هو وإخوانه بهيئة كبار


    العلماء بالذب عنها وجددوا ثقتهم بالجماعة في الفتوى الصادرة برقم 16974 حيث جاء فيها: (لأنها جماعة إسلامية سنية تدعو إلى منهاج النبوة في التوحيد والتعبد والسلوك وتعقد الولاء والبراء على الكتاب والسنة) ولقد بادلناه حقيقةً حباً بحب وكنا نتابع أخباره وإصداراته أولاً بأول خاصة ما يقدمه من خلال إذاعة القرآن الكريم عبر برنامج نور على الدرب أو ما يقوم به من شروحات لأمهات الكتب، ولقد فجعنا بموته ولكن ما نقول إلا كما قال رسول الله e حينما توفى ابنه إبراهيم: ((إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضى ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون)) [رواه البخاري].
    ألا رحم الله شيخنا وتغمده برحمته وحشرنا وإياه في زمرة الأنبياء والصالحين إنه ولي ذلك والقدر عليه إنا لله وإنا إليه راجعون.

    ```




    * الدعوة: العدد 1694 - 19 صفر 1420هـ، 3 يونيو 1999م.

    * الجزيرة: الثلاثاء 10 صفر 1420هـ، 25 مايو 1999م - العدد 9735.

    * الدعوة: العدد 1692 - 5 صفر 1420هـ، 20 مايو 1999م.

    * الرياض: السبت 14 صفر 1420هـ، 29 مايو 1999م - العدد 11296.

    * الرياض: الاثنين 9 صفر 1420هـ، 24 مايو 1999م - العدد 11291.
    اللهم اغفر لأبي وأمي وارحمهما كما ربياني صغيرا

صفحة 4 من 4 الأولىالأولى ... 3 4

سيرة وحياة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز وما قيل فيه من شعر ونثر

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 16-11-2010, 02:48 PM
  2. شرح كتاب الطهارة من الروض المربع الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله الدي يقرا
    بواسطة ابو ياسمين دمياطى في المنتدى منتدى الصوتيات والمرئيات
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 07-05-2009, 06:23 PM
  3. التعليق على تفسير ابن كثير الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز رحمها هدية لجميع اخواننا
    بواسطة ابو ياسمين دمياطى في المنتدى منتدى الصوتيات والمرئيات
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 07-05-2009, 06:20 PM
  4. شرح كتاب الطهارة من الروض المربع الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله الدي يقرا
    بواسطة ابو ياسمين دمياطى في المنتدى منتدى الصوتيات والمرئيات
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 14-04-2009, 12:56 PM
  5. الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله آل باز -رحمه الله
    بواسطة نسيبة بنت كعب في المنتدى منتديات الدعاة العامة
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 17-10-2005, 01:42 PM

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  

سيرة وحياة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز وما قيل فيه من شعر ونثر

سيرة وحياة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز وما قيل فيه من شعر ونثر