****تفسير العلاقة بين إبليس والصليب.. لا يكون إلا بفهم معنى الصليب.. الصليب وثن.. هذا ما قاله رسول الله ?..

عن عَدِيّ بن حاتم، قال: أتيت رسول الله ? وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: (يا عدي.. اطرح هذا الوثن من عنقك!) قال: فطرحته، وانتهيت إليه وهو يقرأ في سورة براءة، فقرأ هذه الآية: ?اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله? [التوبة: 31] قال: قلت: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدهم! فقال: (أليس يُحرِّمُون ما أحل الله؛ فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله؛ فتحلونه؟!) قال: قلت: بلى. قال: (فتلك عبادتهم)().

ومعنى الصليب –كشكل- يفسره قول الله عز وجل: ?قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم? [الأعراف: 16] وهذا المعنى يكمن في العلاقة بين الصليب والصراط..

ونبدأ بهذا الحديث..

عن عبد الله، قال: (خط لنا رسول الله ? يومًا خطًّا، فقال: (هذا سبيل الله) ثم خط عن يمين ذلك الخط وعن شماله خطوطًا، فقال: (هذه سُبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها) ثم قرأ هذه الآية: ?وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله?() [الأنعام: 153].

فإذا كان رسول الله ? قد رسم خطًّا ليعبر عن معنى صراط الله المستقيم في تفسير هذه الآية.. فإن التعبير عن قول الله عز وجل: ?قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم? [الأعراف: 16] سيكون رسم خطٍ مستقيمٍ يمثل صراط الله المستقيم، وخط يقطعه ليمثل كلمة ?لأقعدن? أي: لأقطعن.. ليكون الشكل النهائي: خطًّا يقطع خط وهو الصليب..! الذي يمثل الصورة الرمزية لقعود إبليس للناس على صراط الله سبحانه وتعالى.

ولكن قطع إبليس لصراط الله المستقيم ليس له أثر على حقيقته عند الله، ولكن القطع أمرٌ متعلق بالبشر الذين أضلهم إبليس؛ ولذلك أثبت القرآن حقيقة الصراط بعد قَسَم إبليس بإضلال البشر؛ لتكون حقيقة الصراط بعد قسم إبليس هي عجزه عن إضلال عباد الله المخلصين، وإدخال الضالين من البشر إلى الجحيم: ?وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين * قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين * قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون * قال فاخرج منها فإنك رجيم * وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين * قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم * قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين * قال هذا صراط علي مستقيم * إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين * وإن جهنم لموعدهم أجمعين * لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم? [الحجر: 28-44].

فيصبح الصليب رمزًا جوهريًّا لمن اتبع إبليس من الغاوين في جميع الوثنيات، ابتداءً بالفرعونية التي كان يُعبَّر فيها عن الصليب بمفتاح الحياة.. وانتهاءً بالنصرانية المحرَّفة التي تَعتبر هذا الرمز الفرعوني إرهاصة تاريخية للصليب الذي يعبدونه، حتى أطلقوا على صليبهم نفس اسم الصليب الفرعوني.. «مفتاح الحياة».

ومن الغريب حقًّا أن يعتبر النصارى أن هذا الشكل الفرعوني دليلًا على الجذور التاريخية للصليب (!!) دون أي حساسية من الوثنية الفرعونية الواضحة التي يكون الإله فيها هو (الجعران يلعب بروثه!) ويلبس الناس فيها على وجوههم أقنعة القطط والكلاب..!!

ولكن إبليس لم يتوقف بالصليب عند هذا الحد الرمزي، بل زاده وضوحًا، وذلك عندما قذف في عقول النصارى أن المكان الذي صُلب عليه المسيح -حسب بدعتهم- هو المكان الذي دُفن فيه آدم، ويسمونه (الجلجثة) وهي كلمة آرامية معناها: الجمجمة «أي: جمجمة آدم» وبذلك يؤكد إبليس على معنى الخط المقطوع، وهو الصراط الذي ترسمه حياة جميع الأنبياء، ابتداءً من آدم عليه السلام..

ومن هنا قال الإمام السيوطي: ?صراط الذين أنعمت عليهم?: أي طريق الأنبياء، ?غير المغضوب عليهم? قال: اليهود، ?ولا الضالين? قال: النصارى.

ووسوسة إبليس إلى النصارى بفكرة «الجلجثة» تؤكد الدلالة المطلوبة من البدعة، وهي أن الصليب رمز لقطع صراط الله المستقيم؛ أي: طريق الأنبياء ابتداءً من آدم عليه السلام، ومن هنا أصبح الصليب عند إبليس هو الشكل المقابل لصراط الله بكل صفاته..

فكما ارتبطت عبادة الله بطلب الهداية إلى الصراط المستقيم كما في الفاتحة التي تقرأ في كل صلاة.. ارتبطت عبادة النصارى بالصليب دون التفكير في هذه العبادة التي لم ترد قطعًا عن المسيح في حياته؛ لأنه لم يكن -بحسب زعمهم- قد صُلب بعد..!

وبتفسير معنى الصليب يأتي الإحساس الشرعي الواجب تجاه هذا الشكل، حيث تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله ? كان لا يترك في بيته شيئًا فيه تصليب إلا قضبه).

وكان بعض أئمة الإسلام إذا رأى صليبًا أغمض عينيه عنه، وقال: لا أستطيع أن أملأ عيني ممن سب إلهه ومعبوده بأقبح السب..!

عيسى والصليب:

ولكن إثبات أن الصليب هو الشكل التعبيري عن قطع الصراط يمثل جانبًا من القضية.. أما الجانب الرئيسي فيها فهو إثبات العلاقة التناقضية بين شكل الصليب بمعناه وعيسى ابن مريم، الأمر الذي يتطلب تفسير العلاقة بين عيسى ابن مريم وحقيقة الصراط.

فالصراط هو الطريق المؤدي إلى الله.. وله معالم يهتدي بها السائرون فيه، وأهم هذه المعالم: رسل الله: ?يس * والقرآن الحكيم * إنك لمن المرسلين * على صراط مستقيم? [يس: 1-4].

ومنهم محمد ?: ?فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم? [الزخرف: 43].

ومنهم عيسى ابن مريم.. الذي كان له ارتباط خاص بحقيقة الصراط أثبته القرآن في عدة مواضع، منها قوله عز وجل: ?ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون * ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون * وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم? [مريم: 34-36].

فجمعت الآيات قضية عيسى ابن مريم، وفي نهايتها جاء القول الفصل: ?هذا صراط مستقيم?.. دليلًا على أن قضية عيسى عليه الصلاة والسلام هي من مضمون الصراط المستقيم.

وكذلك قال الله عز وجل على لسان عيسي: ?إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم? [آل عمران: 51]، ?إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم? [الزخرف: 64].

وكذلك كان الارتباط بين عيسى ابن مريم والصراط من خلال حقيقة الآخرة: ?وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم? [الزخرف: 61].

وفي هذه الآية جمع الله بين محمد ? وعيسى عليه السلام والصراط في آية واحدة: ?وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم? [الزخرف: 61].

فكلمة: ?واتبعون? تعود إلى محمد ?.. إثباتًا للارتباط بين محمد وعيسى عليهما السلام، ومعنى الصراط، باعتبار أن الآخرة هي منتهى الصراط.. وأن عيسى عَلَم على الساعة.. ودليل على قرب وقوعها.

واعتبار أن الصراط هو صراط الذين أنعم الله عليهم كما قال الله: ?صراط الذين أنعمت عليهم? [الفاتحة: 7]، وأن الذين أنعم الله عليهم هم كما قال الله: ?ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا? [النساء: 69].

وبهذين الاعتبارين جاء تفسير الصراط: عن أبي العالية: (الصراط المستقيم.. رسول الله ? وصاحباه من بعده) قال عاصم: فقلت للحسن: إن أبا العالية يقول: (الصراط المستقيم.. رسول الله ? وصاحباه) قال: صدق ونصح، وكذلك روى الحاكم عن ابن عباس مثله.

أما تفسير موضوع الخنزير فهو أن

«استحلال الخنزير» عندما يقول رسول الله ? في نزول عيسى في آخر الزمان: «ويقتل الخنزير» فإن لهذا الكلام معنى يجب فهمه، حيث يأتي قتل الخنزير ضمن أربعة أعمال، تمثل المهمة الأساسية التي سينزل عيسى ابن مريم في آخر الزمان من أجلها، حيث قال بعد ذكر هذه العناصر: «ويصير الدين ملة واحدة»، وهو ما يعني أن عناصر هذه المهمة هي عناصر إقامة الدين في آخر الزمان..

ومن هنا كان الربط بين الخنزير والشرك في قول الله سبحانه وتعالى: ?قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت? [المائدة: 60].

وكذلك في قول الله سبحانه: ?حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به? [المائدة: 3].

وكان الربط بين تحريم بيع الخنزير والأصنام: «إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» ().

ومن هنا أيضًا كان تحديد رسول الله ? لموانع الإسلام..

فقد روى قتادة قال: قال رسول الله ? لأسقف نجران: «يا أبا الحارث.. أسلم» قال: إني مسلم، قال: «يا أبا الحارث.. أسلم» قال: قد أسلمت قبلك، فقال نبي الله ?: «كذبت..! منعك من الإسلام ثلاثة: ادعاؤك لله ولدًا، وأكلك الخنزير، وشربك الخمر».

وقد يفهم هذا المعنى بصورة واضحة من كسر الصليب باعتباره رمز التحريف ومضمونه، وإذا كان الصليب كمضمون للتحريف يمثل الجانب الاعتقادي فيه، فإن قتل الخنزير يمثل الجانب الشرعي في هذا التحريف، وباجتماع الصليب والخنزير ضاع الدين بجانبيه العقدي والشرعي..

وهذا هو الجانب الأول في ذكر قتل الخنزير بجانب كسر الصليب..

أما الجانب الثاني فهو أن استحلال الخنزير يمثل أقوى دلالات التحريف في النصرانية، وذلك لعدة أسباب:

أولاً: أن حكم تحريم الخنزير من الأحكام التي لا تقبل النسخ، بسبب أن علة تحريمه راجعة إلى طبيعته التي لا تتغير..!

وهناك دلالة ثابتة للتعبير القرآني: «لحم الخنزير» وهي أن لحم الخنزير ينفرد من بين جميع اللحوم المذكورة في آيات التحريم بأنه حرام لذاته؛ أي لعِلة مستقرة فيه، أو وصف لاصق به، أما اللحوم الأخرى فهي محرمة لعِلة عارضة عليها، فإذا ذكيت فلحمها حلال طيب ولا تحرم إلا إذا كانت ميتة أو ذبحت لغير الله.

وتفسير معنى اسم «الخنزير» ومشتقاته التي تدور جميعًا حول معنى «النتن» تؤكد هذه الدلالة..

فجذر الاسم: خنز يخنز إذا أنتن، ومنه الخنزوان وهو الخنزير، والخنازير: قروح صلبة تكون في الرقبة، والعرب تضرب بالخنزير مثل القبح والخبث، فيقولون: القبح ضد الحسن يكون في الصورة كقبوح الخنازير، ويقولون: السحت هو ما خبث من المكاسب كثمن الخنزير والجمع أسحات، كما يقول العرب الخزنزر: سيِّئ الخلق، وأخزر: المرأة البغي، ويقولون: يعفر.. الخنزير الذكر، وهو أيضًا الرجل الخبيث، وهذا المعنى هو الوارد في تفسير قول الله عز وجل: ?حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به? [المائدة: 3].

عن أبي الطفيل قال: نزل آدم بتحريم أربع: «الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به» وأن هذه الأربعة أشياء لم تحل قط، فلما كانت بنو إسرائيل.. حرم الله عليهم طيبات أحلت لهم بذنوبهم، فلما بعث الله عيسى ابن مريم عليه السلام نزل بالأمر الأول الذي جاء به آدم، وأحل لهم ما سوى ذلك.. فكذبوه وعصوه().

ثانيًا: أن حكم تحريم الخنزير حكمٌ قياسي لكل أحكام التحريم، بدليل قول رسول الله ?: «من لعب بالنردشير فكأنما وضع يده فى لحم خنزير ودمه»().

وكذلك قياس حكم شرب الخمر بدليل قول رسول الله ?: «من استحل بيع الخمر.. فليستحل بيع الخنزير»()، وفي رواية: «فليكن للخنازير قَصَّابا» أي: جزارًا.

وعندما أراد بولس أن يبرهن على حِلِّ الخنزير قال: (ليس ما يدخل فم الإنسان ينجسه، ولكن ما يخرج منه)، وصيغة هذه القاعدة مطلقة.. غير مقيدة بزمان أو مكان، مما يعني: أن الخنزير لم يكن حرامًا في أي وقت مضى! وبالتالي لم يكن هناك ضرورة للتحليل أصلا..!

() سنن الترمذي (3095).

() مسند أحمد (4142).

() صحيح مسلم (3/1207) رقم (1581).

() تفسير ابن كثير (2/8)

() النردشير: هي ألعاب الميسر التي يستخدم فيها حجر النرد، والحديث رواه مسلم (4/1770) رقم (2260).

() رواه أبو داود في سننه
منقول