مسألة : الإفخارستيا
1- يتدرَّج المسيح في هذا القول بذِكْر الحقائق الآتية:
2 - الحق الحق أقول لكم: إنَّ مَنْ يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية، ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة «(يو 24:5).
3- آباؤكم أكلوا المَنَّ في البرية وماتوا. هذا هو الخبز النازل من السماء، لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت. أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء. إنْ أكل أحدٌ من هذا الخبز يحيا إلى الأبد.
والخبز الذي أنا أُعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم. «(يو 47:6-51)
4 - وهنا يدخل المعنى في تصوير مستيكي أي سرِّي شديد الشفافية، بمعنى أن المسيح سيُقدِّم جسده على الصليب ذبيحة حيَّة مقدَّسة للآب عن خلاص العالم. وهذه الذبيحة الحيَّة المقدسة لكي يتم عملها في الإنسان، بإعطاء الخلاص والغفران والحياة والبر، يتحتَّم أن يأكل منها الإنسان لكي يكون شريكاً في فعلها الإلهي السرِّي الفائق.
5- مَنْ يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية، وأنا أُقيمه في اليوم الأخير «(يو 54:6). ولكي يرفع عن ظنِّ الإنسان أنه يأكل خبزاً ساذجاً وخمراً ممزوجاً ساذجاً، عاد فأكَّد: » لأن جسدي مأكلٌ حقٌّ ودمي مشربٌ حقٌّ «(يو 55:6).
6- وهكذا أعطى المسيح عهداً أبدياً موثَّقاً أن كل مَنْ يأكل من الخبز المكسور الفصحي والخمر الممزوج الفصحي، الذي نعبِّر عنه بسرِّ الإفخارستيا، يكون قد أكل المسيح بحال ذبيحة فصحية على الصليب مَنْ يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه «(يو 56:6).
7- دخلنا في صميم العهد الجديد وجوهره الذي صنعه الله الآب معنا بدم ابنه الوحيد الذي شربناه من يده، فتغلغل الابن في أحشائنا ودخلنا نحن في عمق أعماقه وصرنا في وحدة أمام عين الآب أهَّلتنا للبنوَّة وميراث الابن الوحيد.
8- فإنسان المعمودية الجديد من فوق، هو روح ثابت لا يتغيَّر ولا يزول، على صورة خالقه. أما الإفخارستيا فهي سرُّ التجديد الدائم للإنسان
9- إذن، فليس بالفكر والدرس والاجتهاد نعثر على المسيح أو نجد الملكوت والحياة الأبدية. فهذه متاهة عشناها قروناً وآن الوقت لندرك أن المسيح فينا والحياة الأبدية كائنة في قلوبنا. فماذا نقول؟ نقول: عودة إلى القلب وحصر الإيمان والصلاة والرجاء في القلب، لأن في القلب يُستعلن لنا الإنسان الجديد
10- فالله لم يكن مقصِّراً أبداً معنا ولا تركنا نواجه الحياة بأجسادنا العتيقة وخلقتنا الترابية. فلم يكن الله ظالماً لكي يطالبنا بالسماويات وكل أدواتنا وأسلحتنا من التراب.
مسألة : العلاقة بالمسيح
1- إما ينحصر الإيمان في المدارك العقلية ليبقى المسيح شخصية أخرى يقترب منها العقل وقتما يشاء ويتأمل ويناظر ويصف ويتحدث عن شخص اسمه يسوع المسيح، حتى ولو بلغ أنه هو ابن الله، والله ظهر في الجسد، وأنه المخلِّص والفادي، ولكن كل ذلك من مدارك العقل والحفظ والاستذكار؛ 2- وإما يكون الإيمان عن شهادة الروح والإحساس بالانطباع الكياني الذي أنشأه المسيح في الإنسان الجديد الجواني عن الابن الوحيد المحبوب وحيد الآب، الذي طبع بصمات جروحه على الصليب في هيكل جسدنا الجديد ووهبه روح قيامته، فصار للمسيح وجود وكيان مذبوح حيٌّ قائم من بين الأموات في أغوار خلقتنا الجديدة
3- فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ (غل 20:2)
، توثيقاً لشهادة المسيح الإلهية الصادقة: » أنتم فيَّ وأنا فيكم «(يو 20:14)، » اثبتوا فيَّ وأنا فيكم. «(يو 4:15)
4- فالإيمان بالمسيح يكون على درجتين:
الأولى: الدرجة الإنسانية العقلانية الذكية الفاهمة لماهية الرب الإله التي يمكن أن نكتب عنها الكتب ونتكلَّم ونتحدث باستفاضة عن كيان إلهي آخر نراه من بعيد ونحكي عنه.
والثانية: الدرجة الروحانية التي عن وعي الروح ترى الرب الروح وتحسُّه، لا إحساس الآخر، ولكن الإحساس الذي يتلاشى فيه “الأنا” أي الذات، فمنه هو أستمد إحساسي بذاتي، إذ لا وجود لي إلاَّ به وفيه: » الذي من أجله خسرت كل الأشياء، وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح، وأُوجد فيه «(في 8:3و9).
5- هذا الإدراك الروحي الواعي بشخص المسيح المالئ الكل لا يمكن أن يدركه العقل على الإطلاق، لأن العقل يدرك الآخر ولا يدرك نفسه، والإيمان الروحي بالمسيح جعل المسيح هو نفسي، لم أعُدْ آخر للمسيح ولا المسيح عاد آخر بالنسبة لي: » وأما مَنْ التصق بالرب فهو روح واحد «(1كو 17:6)
6- مَنْ يفعل الخطية فهو من إبليس، لأن إبليس من البدء يخطئ «(1يو 8:3)، وأن المسيح قد جاء لينقض إبليس وأعمال إبليس: » لأجل هذا أُظْهِرَ ابن الله لكي ينقُض أعمال إبليس «(1يو 8:3).
7- لذلك تنحصر هنا الخطية في معنى “العمل ضد الله”، كونها من عمل إبليس. ولهذا يصبح حقاً أن المولود من الله لا يعمل خطية أي لا يعمل عملاً ضد الله، لأن زرع الله - أي روح الحياة - فيه، ويستحيل أن روح الحياة في المسيح يعمل ضد الله.
8- القديس يوحنا يفرِّق بين خطية مميتة ليس لها غفران (1يو 16:5و17) وهي إنكار المسيح ابن الله أنه جاء بالجسد، أي إنكار استعلان الحياة الأبدية؛ وخطية أخرى غير مميتة وهي كل خطية لا يدخل فيها إنكار المسيح ابن الله أو استعلان الحياة الأبدية بالتالي. هذه لا يخلو منها أي إنسان: 9- إن قلنا إنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا «(1يو 8:1). إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل، حتى يغفر لنا خطايانا ويُطهِّرنا من كل إثم «(1يو 9:1)، » ودم يسوع المسيح ابنه يُطهِّرنا من كل خطية. «(1يو 7:1)
10- وبهذا يكون القديس يوحنا قد ضمن بقاءنا في الحياة الأبدية في شركة مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح بصورة ثابتة، إذ أخضع الخطية تحت سلطان الشفاعة والغفران، فأصبحت حياتنا مؤمَّنة ضد الموت والهلاك، بل مكفول لها الثبات في المسيح والفرح الكامل.
11- ثم يعود القديس بولس ويؤكِّد أن الإنسان الجديد هذا أو الخليقة الروحانية الجديدة فينا الآن إنما تتجدَّد بالمعرفة (استعلان الله الآب) لتكون على صورة خالقها تمهيداً لبلوغ حالة الشركة مع الآب والابن.
12- وهذه الحقيقة العظمى أهملها العلماء والدارسون للأسف المرير. ونحن نتعجب لماذا نحتقر عمل الله العظيم هذا كونه يُلبسنا الإنسان الجديد المخلوق على صورة الله في البر والقداسة ليكون لنا الحق في حالة الشركة المجانية مع الله الآب وابنه يسوع المسيح.
13- ولكن إن اكتفينا بجسدنا المادي هذا الذي نعيش فيه، وأهملنا خليقتنا الروحية الجديدة فينا التي نلناها بالمعمودية والمسحة ونفخة الروح القدس، والتناول من الجسد والدم الأقدسين، والتي هي على صورة الله والمسيح في البر وقداسة الحق؛ فنحن نكون حينئذ أشقى خليقة، ويكون المسيح قد تعب من أجلنا عبثاً.
14- والخطورة في إهمالنا مواهب الخليقة الجديدة فينا أن ذلك يحرمنا من الشركة مع الآب والابن يسوع المسيح، لأنه بدون الإنسان الجديد فينا لا يكون لنا علاقة حقيقية مع المسيح، وبالتالي مع الآب.
15- لأن الإيمان المسيحي لا يصدر من مركز الإنسان المادي أي العتيق لأنه لا يستطيع. لأن فيما يقوله القديس بولس: » لأنك إن اعترفتَ بفمك بالرب يسوع، وآمنتَ بقلبك أن الله أقامه من الأموات، خلَصْتَ «(رو 9:10)
16- فالإيمان هو عمل الإنسان الجديد، لأن الإيمان بالمسيح لا يخص ولا يمت للإنسان الترابي بصلة. أما الاعتراف بالفم فهو من نصيب الحواس: » الذي كان من البدء، الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه، ولمسته أيدينا، من جهة كلمة الحياة «(1يو 1:1). وهكذا يأتي الاعتراف بالفم من نصيب الحواس والعقل.
17- نعلم أن كل مَنْ وُلِد من الله لا يخطئ، بل المولود من الله يحفظ نفسه (أو هو محفوظ بالروح)، والشرير لا يمسُّه «(1يو 18:5)
18- كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم، لنكون قدِّيسين وبلا لوم قدَّامه في المحبة.» (أف 4:1)
أنْ نكون قديسين وبلا لوم قدَّامه في المحبة، ليست شرطاً، بل هي إحدى مكوِّنات الإنسان الأساسية الداخلة في صميم خلقته حسب قصد الله قبل تأسيس العالم.
19- وأنتم الذين كنتم قبلاً أجنبيين وأعداء في الفكر، في الأعمال الشريرة، قد صالحكم الآن في جسم بشريته بالموت، ليُحضركم قدِّيسين وبلا لوم ولا شكوى أمامه، إنْ ثبتُّم على الإيمان، متأسِّسين وراسخين وغير منتقلين عن رجاء الإنجيل... «(كو 21:1-23). إذن، فقد أخذناها كهبة من المسيح.
20- هذا يجعل من الاقتراب إلى الله والترائي أمامه والسجود له بالروح والحق عملاً مُلحًّا لحساب الله ولمسرة نفسه، لا يكون إلى لحظات؛ بل ينبغي أن تُكرَّس له الحياة والسنون والعمر كله، لأن هذا يسرّ قلب الله!
21- بهذا ينكشف لنا سر إلحاح المسيح على ضرورة الصلاة التي أكمل نموذجها البديع بالذهاب إلى الجبال للصلاة طول الليل! فـ “اللحظة” عندنا في الصلاة، عبَّر عنها المسيح بـ “طول الليل في الصلاة”، ليوضِّح لنا مدى الإمكانية الموهوبة لنا فيه! فحينما طلب أن “نُصلِّي كل حين”، فمعناه أن نجعل اللحظة لحظات في اختبار وقوفنا أمام الله؛ وحينما قال: “صلُّوا ولا تملّوا” (انظر لو 1:18)،