الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين

الإيمان بالقدر أركان الإيمان السته وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره

الإيمان بالقدر طريق الخلاص من الشرك ولا يتم توحيد الله تعالى إلا لمن أقرَّ أن الله وحده الخالق لكل شيء في الكون ،وأن إرادته ماضية في خلقه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، فكل المكذبين بالقدر لم يوحدوا ربهم ، ولم يعرفوه حق معرفته ، والإيمان بالقدر مفرق طريق بين التوحيد والشرك . فالمؤمن بالقدر يُقرُّ بأن هذا الكون وما فيه صادر عن إله واحد ومعبود واحد ، ومن لم يؤمن هذا الإيمان فإنه يجعل من الله آلهة وأرباباً .
ان الإيمان بالقدر يجعل الإنسان يمضي في حياته على منهج سواء ، لا تبطره النعمة ، ولا تيئسه المصيبة

القدر في الاصطلاح : "ما سبق به العلم ، وجرى به القلم مما هو كائن إلى الأبد ، وأنه عز وجل قدَّر مقادير الخلائق ، وما يكون من الأشياء قبل أن تكون في الأزل ، وعلم سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده تعالى ، وعلى صفات مخصوصة، فهي تقع على حسب ما قدرها"
قال شيخ الإسلام ( مذهب أهل السنة في هذا الباب ما دل عليه الكتاب والسنة
وهو أن الله خالق كل شئ ومليكه وقد دخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بنفسها وصفاتها القائمة بها كالأفعال للذوات (مجموع فتاوى شيخ الإسلام : 8/ 449 ).

يقول ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى : " قال العلماء القضاء هو الحكم الكلي الإجمالي في الأزل ، والقدر جزيئات ذلك الحكم وتفاصيله ") فتح الباري :11/477 .

فالقضاء والقدر – بناء على هذا القول – أمران متلازمان ، لا ينفك أحدهما عن الآخر ، لأن أحدهما بمنزلة الأساس وهو القدر ، والآخر بمنزلة البناء وهو القضاء ، فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه "جامع الأصول :10/104 .

الخير والشر : أن الله أعلم بالشاكرين وأعلم بالظالمين وهو العليم الحكيم يضع الأشياء في مواضعها
ثم إن في وجود الشر من الحكمة ما لا يعلمه إلا الله كالجهاد والصبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن قيل أليس قادرا علي إيجاد هذه الخيرات دون وجود الشر . كان الجواب الله على كل شئ قدير ولكن السؤال يناقض بعضه بعضا، إذ مقتضاه أن يوجد نهي عن المنكر دون وجود منكر تماما كمن يسأل ويقول أليس الله قادرا علي أيجاد طفل دون أب وأم – نعم قادر ولكن الله شاء أن يوجد الشي بأسبابه حكمة وعدلا.
مراتب القدر الاربعة
المرتبة الأولى العلم :وهي أن يؤمن الإنسان إيمانا جازما بأن الله بكل شئ عليم وأنه يعلم ما في السماوات وما في الأرض جملة وتفصيلا سواء كان ذلك من فعله أو من فعل مخلوقاته
فعلم الله تعالى للأشياء تفصيلي وليس إجماليا و علم الله تعالى سابق على وجود الأشياء
وهو ما يعبر عنه البعض ( بالعلم القديم ) كشيخ الإسلام في الوسطية أو العلم الأول أو العلم الأزلي {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (الاحزاب 40})

و علم الله تعالى للغيبيات لا يشاركه فيه أحد {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59الانعام)

علم الله جل جلاله شامل لما كان وما يكون
وما لم يكن لو كان كيف يكون ومعنى القول وما لم يكن كان كيف يكون
أي يعلم لو آمن فرعون كيف كان حال إيمانه
وماذا سيكون مآله وهذه الجزئية يدخل فيها ملايين التفاصيل وكل ما جاء
في القرءان بلفظ لو أو لولا فهو من هذا الباب ( وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (الانعام28)
و (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ) (74الاسراء)


الإيمان بعلم الله تبارك وتعالى يورث العبد تواضعا فلا يغتر بعلمه دينيا أو دنيويا حيث ضل الفلاسفة وبعض من يتسمون بالمثقفين فإعتقدوا أن العلم يغني الإنسان عن الإله
والإيمان بأن الله يعلم ما يكون يورث اطمئنانا بأن الله تعالى أحاط علما بما يدبره أعداء الدين مع قدرته تعالى أن يجعل كيدهم في نحورهم ويجعل تدميرهم تدبيرهم.
(مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (ال عمران 179)

المرتبـة الثانيـة : الكتابـة وهي أن نؤمن بأن الله كتب ما هو كائن إلي يوم القيامة في اللوح المحفوظ
( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) ( 12سورة يس)

المرتبة الثالثة: الإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة
أن نؤمن بأن ما في الكون من حركة أو سكون و لا خير أو شر ولا أفعال اضطرارية
ولا اختيارية للمخلوقين إلا بمشيئة الله وقدرته وإرادته ، فما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39الانعام)

ان الانسان ميسر ليس مسيرا بمعني أنه مجبور علي فعله فإن له مشيئة في فعله وليس مخيرا بمعني أنه لا سلطان لله عليه، فإن لله مشيئة في فعله إذاً هو مخير له قدرة ومشيئة ولكن قدرته ومشيئته تحت مشيئة الله وقدرته ( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (التكوير29)

ونحن عندما نثبت لله مشيئة في فعل العبد ننزه الله تعالى عن أن يوجد شئ في الكون
دون إرادته أو رغماً عنه فمن نفى مشيئة الله فهو يقول ان أفعال العباد وجدت
رغما عنه تعالى الله عما يقولون فهم وإن زعموا أنهم ينزهونه عن الظلم
إلا أنهم يصفونه في الوقت نفسه بالعجز وهكذا الأهواء تضل ولا تهدي.
والآيات الكثيرة تدل علي عدم وجود ما لم يشأ الله وجوده لعدم مشيئته لذلك لا لعدم قدرته علية فإنه تعالى على كل شئ قدير.
(وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (المائدة48)

المرتبة الرابعــة الْخَلق : ومعناه أن نؤمن بأن الله علم ما الْخَلق عاملون ثم كتب ذلك في اللوح المحفوظ ثم شاء وجوده ثم خلق أفعال العباد ومشيئتهم التي بها فعلوا الخير والشر.
وهذا معني أن نؤمن بالقدر خيره وشره فنسبة الشر إلي الله هي نسبة خلق وإيجاد وليس أن تقدير الله عز وجل هو الشر فليس معني أن الله خلق الشر أنه فعل الشر.
فمثلا الزنا شر الذي فعل الزنا العبد والذي خلقه هو الله فالله مكنه من الفعل
أي خلق له قدرة وإرادة وجسما وآلة فعل بها ذلك الشر ففعل الله تعالى غير فعل العبد.

( فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94)قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98الصافات)

وقال رسول الله (الله خالق كل صانع وصنعته).(صحيح الجامع حديث رقم‌:‌1777)

والله خلق الفعل وليس معنى ذلك أنه جبر العبد عليه فالفعل يتكون من أمرين القدرة عليه والإرادة له
متى تخلف أحدهما لم يخرج الفعل إلي حيز الوجود وقد خلق الله في العبد الإرادة والقدرة آلتان بهما يفعل الفعل فكان بذلك خالقا للفعل الذي ينتجح عنهما .(القضاء والقدر للشيخ ابن العثيمين صـ 24 ، 25)

وأقرب الأمثلة في ذلك هو مثال الولد و الأم والأب فالله تعالى خلق الولد من الأب ولأم
أب و أم انجبوا طفلا
فالله خالق الأب وخالق الأم وخالق الولد. ومع ذلك لا يقبل بحال من الأحوال أن يرمي الوالدان ولديهما في الشارع قائلين بأن الله هو الذي خلقه فهو يتولاه

ان النبي خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القدر فنهاهم عن ذلك وأخبر أنه ما أهلك الذين من قبلكم ألا هذا الجدال (ابن ماجة في المقدمة ، باب في القدر رقم 85)

ان الزعم بأن الأيمان بالقدر يستلزم ترك الأعمال ومقتضى القول كالذين يريدون ذرية دون الزواج،
وهناك من غالوا في إثبات قدرة العبد واختياره حتى نفوا أن يكون لله تعالى مشيئة أو اختيارأو خلق فيما يفعله العبد
وزعموا أن العبد مستقل بفعله حتى غلا طائفة منهم وقالوا إن الله تعالى لا يعلم ما يفعله العباد إلا بعد أن يقع

"إننا لو قلنا بقول الفريق الأول الذين غلوا في إثبات القدر لبطلت الشريعة من أصلها لأن القول بأن فعل العبد ليس له فيه اختيار يلزم من أن لا يحمد على فعل محمود ولا يلام على فعل مذموم ... إن الله تبارك وتعالى نفى أن يكون للناس حجة بعد إرسال الرسل لأنهم قامت عليهم الحجة بذلك فلو كان القدر حجة لهم لكانت هذه الحجة باقية حتى بعد بعث الرسل لان قدر الله تعالى لم يزل ولا يزال موجودا قبل إرسال الرسل وبعد إرسال الرسل أذن فهذا القول تبطله النصوص ويبطله الواقع ... أما أصحاب القول الثاني هم في الحقيقة مبطلون لجانب من جوانب الربوبية وهم أيضا مدعون بان في ملك الله تعالى ما لا يشاء ولا يخلقه"(محمد بن صالح العثيمين)

ان الله سبحانه وتعالى جعل بابَ الهداية مفتوحاً لمن أراد. فالرسلُ والانبياء عليهم السلام تدلُّ على طريق الإيمان، والحق، والفضائل، وتدعو إليها بالحكمة والحسنى،

( يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنْ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنْ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37الاعراف)

وروى الترمذي في سننه أن عمر بن الخطاب قال للرسول "يا رسول الله أرأيت ما نعمل فيه ، أمر مبتدع أو مبتدأ ، أو فيما فرغ منه ؟ فقال : فيما فرغ منه يا ابن الخطاب ، وكلٌّ ميسَّر ، أمّا من كان من أهل السعادة فإنّه يعمل للسعادة ، وأمّا من كان من أهل الشقاء فإنّه يعمل للشقاء ".
قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح 4/445ورقم الحديث :2135

أهل السنة يثبتون للعبد قدرة ومشيئة بها يقع الفعل وعليها سيحاسب ولأجلها تنسب الأعمال للعبد وتصير من كسبه يسأل عنها ويثبتون فوق ذلك مشيئة لله وقدرة تقتضي أن يكون الإنسان عبدا مربوبا فمن أضله الله فبعدله ومن هداه فبرحمته يضع الشيء في موضعه وهذا معني العليم الحكيم وربك لا يظلم مثقال ذرة ولم يجبرهم لأن الجبر عجز
ولن يدخل أهل النار النار إلا وحمد الله تعالى في قلوبهم لا يستطيعون إلى غير ذلك سبيلا.

( تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13 سورة الملك)