الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين

من أصول الإيمان التصديق الجازم بالرسالات التي أنزلها الله إلى عباده بواسطة رسله وأنبيائه ، والتصديق بأنهم بلَّغوها للناس
فلم يخلق اللهُ سبحانه وتعالى هذا الخلقَ من سموات وارض وما بينهاما وما نعلم وما لا نعلم عبثاً،
ولم يُنزِّل الشرائع على الرسل عليهم الصلاة والسلام ليلقوها إلى الناس تسليةً، او ليختاروا منها ما يناسب اهوائهم
إنما خلق اللهُ الخلقَ ليعبدوه وحده لا شريك له، ويتبعوا رُسُلَه ويعظموهم،

والذي أوحاه الله لرسله قد يكون نزل من السماء مكتوباً كالتوراة التي أنزلت على موسى ، : ( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا ) [ الأعراف : 145 ] . وقد يكون كتاباً ولكنه أنزل إلى الرسول بالتلاوة والمشافهة كالقرآن (وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً ) [الإسراء :106] .
والمنزل من السماء قد يجمعه كتاب كصحف إبراهيم والكتب المنزلة على موسى وداود وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم ، وقد يكون وحياً يلقى إلى الرسول أو النبي ، وليس بكتاب ، وذلك كالوحي المنزل إلى إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط والموحى به إلى نبينا من غير القرآن .
ويجب الإيمان بالوحي المنزل كله ( قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) [ البقرة: 136] .

نحن المسلمون نؤمن بما جاء في الكتب السماوية السابقة ، وأن الانقياد لها ، والحكم بها كان واجباً على الأمم التي نزلت إليها الكتب ، ونؤمن بأن الكتب السماوية يصدق بعضها بعضاً ، ولا يكذّب بعضها بعضاً ،
ومن أنكر شيئاً مما أنزله الله فهو كافر ( وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا )[النساء:136]
نحن نصدق بنسخ الشريعة اللاحقة للشريعة السابقة كلياً أو جزئياً ، فقد أحل الله لآدم تزويج بناته من بنيه ثم نسخ هذا والإنجيل أحلّ بعض ما حرّم في التوراة ( وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ) [ آل عمران : 50 ] .
والقرآن الكريم نسخ الكثير مما في التوراة والإنجيل
(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ )
[ الأعراف : 157 ]

" لقد جاء كلّ دين من عند الله ليكون منهج حياة ، منهج حياة واقعية ، جاء الدين ليتولى قيادة الحياة البشرية ، وتنظيمها ، وتوجيهها ، وصيانتها ، ولم يجئ دين من عند الله ليكون مجرد عقيدة في الضمير ، ولا ليكون مجرد شعائر تعبدية تؤدى في الهيكل والمحراب . فهذه وتلك – على ضرورتهما للحياة البشرية وأهميتها في تربية الضمير البشري – لا يكفيان وحدهما لقيادة الحياة وتنظيمها وتوجيهها وصيانتها ، ما لم يقم على أساسها منهج ونظام وشريعة تطبق عملياً في حياة الناس ، ويؤخذ بها بحكم القانون والسلطـان ، ويؤاخذ الناس على مخالفتها ، ويؤخذون بالعقوبات .
والحياة البشرية لا تستقيم إلا إذا تلقت العقيدة والشعائر والشرائع من مصدر واحد يملك السلطان على الضمائر والسرائر ، كما يملك السلطان على الحركة والسلوك ، ويجزي الناس وفق شرائعه في الحياة الدنيا ، كما يجزيهم وفق حسابه في الحياة الآخرة .
فأما حين تتوزع السلطة ، وتتعدد مصادر التلقي .. حين تكون السلطة لله في الضمائر والشعائر بينما السلطات لغيره في الأنظمة والشرائع .. ، وحين تكون السلطة لله في جزاء الآخرة بينما السلطة لغيره في عقوبات الدنيا .. ، حينئذ تتمزق النفس البشرية بين سلطتين مختلفتين ، وبين اتجاهين مختلفين ، وبين منهجين مختلفين .. ، وحينئذ تفسد الحياة البشرية ذلك الفساد الذي تشير إليه آيات القرآن في مناسبات شتى : ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ) [ الأنبياء : 22 ] ( وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ) [ المؤمنون : 71 ] . ( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) [ الجاثية : 18 ] .
"(سيد قطب/انظر الجزء السادس من ظلال القرآن : ص895 )

لما كانت الرسالات السابقة مرهونة بوقت وزمان فإنها لا تخلد ولا تبقى ، ولم يتكفل الله بحفظها ، وقد وكل حفظها إلى علماء تلك الأمة التي أنزلت عليها ، فالتوراة وكل حفظها إلى الربانيين والأحبار ، ( وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء ) [ المائدة : 44 ] .
ولم يطق الربانيون والأحبار حفظ كتابهم ، وخان بعضهم الأمانة فغيروا وبدلوا وحرفوا ، وحسبك أن تطالع التوراة لترى ما حلّ فيها من تغيير وتبديل ، لا في الفروع ، بل في الأصول ، فقد نسبوا إلى الله ما يقشعر الجلد لسماعه ، ونسبوا إلى الرسل ما يترفع الرعاع عن نسبته إليهم

أمّا هذه الرسالة الخاتمة فقد تكفل هو بحفظها ، ولم يكل حفظها إلى البشر ، قال تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) [ الحجر : 9 ] .

وانظر اليوم في هذا العالم شرقه وغربه لترى العدد الهائل الذي يحفظ القرآن عن ظهر قلب ، بحيث لو شاء ملحد أو يهودي أو صليبي تغيير حرف منه فإنّ صبياً صغيراً ، أو ربة بيت ، أو عجوزاً لا يبصر طريقه – يستطيعون الردّ عليه وبيان خطئه ، وافترائه ، ناهيك عن العلماء الذين حفظه وفقهوا معانيه ، وتشبعوا بعلومه ..
وانظر إلى تاريخ هذا الكتاب وكم نال من عناية ورعاية في تدوينه وتفسيره وإعرابه وقصصه وأخباره وأحكامه .
ما كان ذلك ليكون لولا ذلك الحفظ الإلهي الرباني ، وسيبقى هذا الكتاب إلى أن يأذن الله بزوال هذا الكون

والقرآن قائم على الكتب السماوية التي أنزلت من قبل يأمر بالإيمان بها ، ويبين ما فيها من حق ، وينفي التحريف والتغيير الذي طرأ عليها ،
والشريعة الإلهية الخاتمة لا تحتاج إلى شريعة سابقة عليها ، ولا إلى شريعة لاحقة لها ، بخلاف شريعة المسيح فقد أحال المسيح أتباعه في أكثر الشريعة على التوراة ، وشريعة الإنجيل مكلمة لشريعة التوراة ، ولهذا كان النصارى محتاجين إلى كتب النبوات المتقدمة على المسيح كالتوراة والزبور ، وكان الأمم من قبلنا محتاجين إلى محدَّثين ، بخلاف أمّة محمد :salla-s: ، فإنَّ الله أغناهم به ، فلم يحتاجوا معه إلى نبي ولا محدّث
مما يجب الإيمان به أن الله سبحانه أرسل رسلاً وأنبياء إلى أقوامهم، مبشرين ومنذرين من آدم عليه السلام إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
ان دعوة الرسل إلى الله تقترن دائماً بالتبشير والإنذار ، ولأنَّ ارتباط الدعوة إلى الله بالتبشير والإنذار وثيق جداً فقد قصر القرآن مهمة الرسل عليهما في بعض آياته ( وما نرسل المرسلين إلاَّ مبشرين ومنذرين ) [ الكهف : 56 ]
وتبشير الرسل وإنذارهم دنيوي وأخروي ، فهم في الدنيا يبشرون الطائعين بالحياة الطيبة ويخوِّفون العصاة بالشقاء الدنيوي ( ومن أعرض عن ذكري فإنَّ له معيشةً ضنكاً ) [ طه : 124 ]
وفي الآخرة يبشرون الطائعين بالجنة ونعيمها ويخوفون المجرمين والعصاة عذاب الله في الآخرة ، ( ومن يعص الله ورسوله ويتعدَّ حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذابٌ مُّهينٌ ) [ النساء : 14 ] .في الآخرة ،

ابا القاسم محمد


{يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزّل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل } [النساء:136].

ما من نبيِّ عصاه قومه وآذوه إلاّ دعا عليهم فأهلكهم الله، إلا نبينا محمد :salla-s: ، فإنه لم يدعُ على أمته وقومه لمَّا آذوه، بل دعا لهم وقال :salla-s:: "بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبُد الله وحده لا يشرك به شيئاً" (متفق عليه: البخاري3-3059

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً}

يعني بذلك جلّ ثناؤه: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا}: بمن قَبل محمد من الأنبياء والرسل, وصدّقوا بما جاءوهم به من عند الله. {آمِنُوا باللّهِ وَرَسُولِهِ} يقول: صدّقوا بالله, وبمحمد رسوله, أنه لله رسول مرسل إليكم وإلى سائر الأمم قبلكم. {والكِتابِ الّذِي نَزّلَ على رَسُولِهِ} يقول: وصدّقوا بما جاءكم به محمد من الكتاب الذي نزله الله عليه, وذلك القرآن. {وَالكِتابِ الّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} يقول: وآمنوا بالكتاب الذي أنزل الله من قبل الكتاب الذي نزّله على محمد صلى الله عليه وسلم وهو التوراة والإنجيل......
فقال جلّ ثناؤه لهم: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا} يعني: بما هم به مؤمنون من الكتب والرسل, {آمِنُوا باللّهِ وَرَسُولِهِ} محمد صلى الله عليه وسلم, {والكِتابِ الّذِين نَزّلَ على رَسُولِهِ} فإنكم قد علمتم أن محمدا رسول الله تجدون صفته في كتبكم, {وَبالكِتابِ الّذِين أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} الذي تزعمون أنكم به مؤمنون, فإنكم لن تكونوا به مؤمنين وأنتم بمحمد مكذّبون, لأن كتابكم يأمركم بالتصديق به وبما جاءكم به, فآمنوا بكتابكم في اتباعكم محمدا, وإلا فأنتم به كافرون. فهذا وجه أمرهم بالإيمان بما أمرهم بالإيمان به, بعد أن وصفهم بما وصفهم بقوله: {يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا}.
وأما قوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ باللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ} فإن معناه: ومن يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فيجحد نبوّته, فهو يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاَخر, لأن جحود الشيء من ذلك بمعنى جحوده جميعه وذلك لأنه لا يصحّ إيمان أحد من الخلق إلا بالإيمان بما أمره الله بالإيمان به, والكفر بشيء منه كفر بجميعه, فلذلك قال: {وَمَنْ يَكْفُرْ باللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ} بعقب خطابه أهل الكتاب, وأمره إياهم بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم تهديدا منه لهم, وهم مقرّون بوحدانية الله والملائكة والكتب والرسل واليوم الاَخر سوى محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الفرقان. وأما قوله: {فَقَدْ ضَلّ ضَلالاً بَعِيدا} فإنه يعني: فقد ذهب عن قصد السبيل, وجار عن محجة الطريق إلى المهالك ذهابا وجورا بعيدا, لأن كفر من كفر بذلك خروج منه عن دين الله الذي شرعه لعباده, والخروج عن دين الله: الهلاك الذي فيه البوار, والضلال عن الهدى هو الضلال.

قال رسول الله : (بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّار )
وقال رسول الله (لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُوله ) رواه البخاري. ‏