أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، وقيُّوم السماوات والأراضين، ومالك يوم الدين، الذي لا فوز إلا في طاعته، ولا عِزَّ إلا في التذلل لعظمته، ولا غنى إلا في الافتقار لرحمته، لا هدى إلا في الاستهداء بنوره، لا حياة إلا في رضاه، ولا نعيم إلا في قُرْبِه، ولا صلاح ولا فلاح إلا في الإخلاص له وتوحيد حبه، إذا أطيع شَكَر، وإذا عُصِيَ تاب وغَفَر، وإذا دُعِي أجاب، وإذا عُمِل أثاب، لا إله إلا هو سبحانه وبحمده، لا يُحصي عدد نعمته العادُّون، ولا يؤدِّي حق شكره الحامدون، ولا يَبلُغ مدى عظمته الواصفون (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) اللهم لك الحمد مِلء السماوات والأرض؛ فكل الحمد اللهم لك، لك الشكر على نعم لا نحصيها؛ فكل الشكر لك، اللهم لك المتوبة والتذلل والخضوع فلا معبود غيرك. الحمد لله شَهِدت له بالربوبية جميع مخلوقاته، وأقرت له بالألوهية جميع مصنوعاته، "سبحانه وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه ومداد كلماته" ولا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته كما أنه لا شريك له في ربوبيته، ولا شبيه له في ذاته ولا أفعاله ولا صفاته. سبحانه سبحت له السماوات وأملاكها، والنجوم وأفلاكها، والأرض وسكانها، والبحار وحيتانها والنجوم والجبال والشجر والدواب والأتان والرمال وكل رطب ويابس وكل حي وميت (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنَّ) أشهد ألا إله إلا الله، وحده لا شريك له، كلمة قامت بها الأرض والسماوات، وخلقت لأجلها جميع المخلوقات، وبها أرسل الله -تعالى- رسله، وأنزل كتبه، وشرع شرائعه. لأجلها نُصِبت الموازين، ووضعت الدواوين، وقام سوق الجنة والنار، وانقسم الخلائق إلى مؤمنين وكفار، وأبرار وفجَّار، عنها وعن حقوقها يكون السؤال والجواب، وعليها يقع الثواب والعقاب، عليها نصبت القِبْلة، وعليها أسِّست الملة، ولأجلها جردت سيوف الجهاد وهي حق الله على جميع العباد. إنها كلمة الإسلام، مفتاح دار السلام، لن تزول قدم عبد بين يدي الله حتى يسأل ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ فلا إله إلا الله، شهادة حق وصدق أتولى بها الله ورسوله والذين آمنوا، وأتبرأ بها من الطواغيت والأنداد المعبودين ظلمًا وزورًا من دون الله. وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، أمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، أشرف من وطئ الحصى بنعله، أرسله الله رحمة للعالمين، وإمامًا للمتقين، وحجَّة على الخلائق أجمعين. بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمَّة، وجاهد في الله حق الجهاد وقمع أهل الزيغ والفساد فتح الله به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا. صلوات الله وسلامه عليه، وعلى أهل بيته الطيبين، وأصحابه المنتخبين، وخلفائه الراشدين، وأزواجه الطاهرات؛ أمهات المؤمنين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)

أحبتي في الله؛ أسعد اللحظات في حياة العبد يوم يطرق مسامعه ذكر الله، يوم يطمئن قلبه بقول الله، وقول رسول الله- صلى وسلم عليه الله- (أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) إن من نعمة الله علينا تهيئة مثل هذا المخيم لنجتمع فيه على الخير والبر والذكر والتناصح. فأسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا أن يجزيَ القائمين والمساهمين عليه وفيه أفضل ما يجزي عباده الصالحين، وأن يرزقنا شكر نعمته، وقد تأذن لمن شكر بالمزيد، وحيي الله هذه الوجوه، حيي الله وجوهًا أقبلت على الله فجعلت حياتها كلها لله، وهنيئًا لها من قلوب تَأَرِز إلى ذكر الله، فتسكن وتسعد بإذن الله. هنيئًا لأسماع امتلأت بذكر الله، فتلذذت بقول الله وقول رسول الله –صلى الله عليه وسلم-. هنيئًا لأبصار تنعَّمَت بمجالسة من يذكر الله. هنيئًا لها من أقدام جعلت خطاها إلى ذكر الله. هنيئًا لكم يوم يرجى لكم أن تنصرفوا مغفورًا لكم، قد بُدِّلت سيئاتكم حسنات بإذن ربكم. هنيئًا لكم تُذكرون في ملأ خير من ملئكم، ملائكةٌ تحفُّ، ورحمة تغشى، وسكينة تتنزل، فيا حسرة وندامة وخزي من لم تنعم عينه وجوارحه بذكر الله.
لَوْ يَعلَمُ العَبدُ مَا فِي الذِّكْرِ مِنْ شَرَفٍ *** أمْضَى الحياةَ بتسبيحٍ وتَهْليلِ
لَوْ يَعْلمُ النَّاسُ مَا في الشُّكْرِ مِنْ شَرَفٍ *** لَمْ يُلْهِهِم عَنْهُ تَجْمِيعُ الدَّنانيرِ
ولم يُبالُوا بأوراقٍ ولا ذهبٍ *** ولَو تجَمَّع آلافُ القناطيرِ
فأكْثِرْ ذِكرهُ في الأرضِ دأبًا *** لتُذْكَرَ في السَّماءِ إذا ذَكَرتَ
ونادِ إذا سَجدتَ لَهُ اعْترافًا *** بما ناداهُ ذو النون بنُ متَّى
وسَلْ منْ رَبِّك التوفِيقَ فيها *** وأخلصْ في السُّؤال إذا سَألتَ
ولازم بابه قرعًا عساهُ *** سيُفتحُ بابه لك إن قَرعتَ
ونفسَك ذُمَّ لا تذمُمْ سِواها *** بعيبٍ فهْيَ أجدرُ منْ ذممْتَ
فلو بكت الدما عيناك خوفًا *** لذنبكَ لَمْ أقُلْ لَكَ قَدْ أَمِنْتَ
وَمَنْ لَكَ بالأمانِ وأنتَ عبدٌ *** أُمِرْتَ فَمَا ائْتُمِرْتَ ولا أََطَعْتَ
ثَقُلتَ منَ الذُّنوبِ ولستَ تَخْشَى *** بجهلِكَ أن تَخِفَّ إذا وُزِنْتَ
فلا تضحكْ مع السفهاءِ لهوًا *** فإنك سوفَ تَبْكِي إنْ ضَحِكْتَ
ولا تَقُلِ الصِّبَا فيه مَجَالٌ *** وفكِّر كَمْ صَبِيٍّ قَدْ دَفَنْتَ
تَفتُّ فؤادَك الأيامُ فتّا *** وتَنْحِتُ جِسمكَ السَّاعاتُ نَحْتًا
وتدعوكَ المنونُ دعاءَ صدقٍ *** ألا يا صَاحِ أنتَ أُرِيدُ أنتَ

أحبتي في الله أوصيكم جميعًا ونفسي بتقوى الله وأن نقدِّم لأنفسنا أعمالا تبيض وجوهنا يوم نلقى الله (يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ* إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا) (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثًا) يقول [أبو الدرداء] -رضي الله عنه وأرضاه-: ما تصدق متصدق بأفضل من موعظة يعظ الرجل بها قومًا فيقومون وقد نفعهم الله -عز وجل- بها. والكلمة الطيبة صدقة كما أخبر بذلك المصطفى -صلى الله عليه وسلم-. وللكلمة الطيبة ملامح، أرجو الله أن تتوفر في هذه الكلمة تلك الملامح؛ لتتغلغل إلى الجوانح، فتظهر على الجوارح. فالكلمة الطيبة مِعْطَاءَ جميلة رقيقة لا تؤذي المشاعر، ولا تخدش النفوس، جميلة اللفظ، جميلة المعنى، رقيقة المبنى، رقيقة المعنى، يشتاق لها السامع فيطرب ويخشى ويسعى، طيبة الثمر، نتاجها مفيد، غايتها بنَّاءة، منفعتها واضحة، أصلها ثابت مستمد من النبع الصافي؛ من كتاب الله، وسنة رسوله –صلى الله عليه وسلم-، وتمتد شامخة بفرعها إلى السماء؛ لأنها نقية، وصادرة بإذن الله عن صدق نية، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، يسمعها السامع فينتفع بها، وينقلها لغيره فينتفع، حتى إنه لينتفع بها اللئام من الناس، ويمتد النفع إلى ما شاء الله وصاحبها لا يعلم مداها؛ فتبقى ذخرًا له بعد الممات، ورصيدًا له في الحياة. كلمة من رضوان الله يكتب الله بها الرضوان للعبد إلى أن يلقى الله. أسأل الله أن يجعل هذه الكلمات من الباقيات الصالحات، وأن ينفعني بها ومن رام الانتفاع بها من إخواني، وأن يجعلها من الأعمال التي لا ينقطع عني نفعها بعد أن أدرج في أكفاني، وأن تجعلها للجميع ذخرًا في يوم الحسرات على ضياع الأوقات في غير الطاعات، يوم يوقف العبد بشحمه ولحمه ودمه وعصبه وشعره وأظفاره يعرض على الله لا يخفى منه خافٍ، الجسد مكشوف، والضمير مكشوف، والقلب مكشوف، والصحيفة مكشوفة، والتاريخ مكشوف (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ) أما بعد، أيها المؤمنون: إن لكل مجتمع رموزًا وقادة يمثلون قِيَمَهُ، ويوجهون الأمة، ويُقَوِّون الهِمَّة؛ ليصعدوا بالناس إلى القمة. ورموز المجتمع الإسلامي هم صحابة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وأفضلهم أهل السابقة؛ مَنْ محَّصتهم الفتنُ، ونقَّتهم المحن، من امتُحنوا بالنفس والنفيس فاسترخَصُوا كل شئ من أجل رفع راية التوحيد. رضي الله عنهم، ورحمهم، وأخرج من الأمة أمثالهم. إن المتملي والمتأمل لواقع أمتنا اليوم يجدها تكاد تفتقر إلى القدوات، وينقصها المثال؛ ولذلك فتحت باب الاستيراد القدوات من خارج الحدود، فتنَكرتْ لتاريخِها، وتَعَاظَمَ سُخْفُهَا وجهلها بسلفها وقدواتها، وتناقص عنصر الخير فيها بمرور الأيام، وخفتت قوةُ الضوء فيها؛ لأنها ابتعدت عن مصدر الضوء، وعن مركز الإشعاع فيها.
إذا تمَثلَ ماضِينا لحَاضِرنا *** تكادُ أكبادُنا بالغَيْظِ تنفَطِرُ
ولذا كان لابد للأمة أن ترجع لتاريخها، لا للتسلية، ولا لقتل الفراغ، ولا لاجترار الماضي ولا للافتخار بالآباء فحسب، بل لنتعظ ونعتبر ونتشبه، ونعرف ذلك الجدول الفياض الذي نَهَل منه أسلافنا؛ لنعُبَّ منه كما عبُّوا، لنعلم ماذا فعلوا، لنقتدي بهم فيما فعلوا، لنعلم كيف وصلوا لنصل كما وصلوا. ما أحوجنا إلى أن نترسَّم خطاهم، ونتلمَّس العزَّة في طريقهم، ونسير على هداهم. (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) غابت شخوصهم، فلنسمع ولنعي أخبارهم؛ فلعل ذاك يقوم مقام رؤيتهم على حد قول القائل:
فاتَنِي أَنْ أَرَى الديارَ بطَرْفي *** فَلَعَلِّي أَعِي الدِّيَارَ بسَمْعِي

لهذا كله كانت هذه الكلمات التي عنونتها بهذا العنوان: صدقوا ما عاهدوا؛ لتحكي لكم حياة جيل لا كالأجيال، وأبطال لا كالأبطال، ورجال لا كالرجال.
رجال جاءتهم دعوة الحق فما ترددوا، وما كَبَوا، وما تلكئوا، وآمنوا بها وصدقتها قلوبهم، واستيقنتها أنفسهم، فما كان قولهم يوم أن دُعوا إلى الله ورسوله إلا أن قالوا: سمعنا وأطعنا، قالوا: آمنا (ربنا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) وضعوا أيديهم في يدي رسول الله –صلى الله عليه وسلم- هان عليهم بعد ذلك أبناءهم ونفوسهم وأموالهم وعشيرتهم؛ إذ علموا أن طريق الجنة صعب، محفوف بالمكاره، لكن آخره السعادة الدائمة فسلكوه، وعلموا أن طريق النار سهل محفوف بالشهوات لكن آخره الشقاوة الدائمة فاجتنبوه. رجال وأي رجال (رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ) في السِّلم هداة مصلحون، عالمون عاملون، وفي الحرب مؤمنون محتسبون، مجاهدون ثابتون، عبَّاد ليل، وأُسْدِ نهار، حملوا السلاح في الميدان، وعلقوا القلوب وملئوها بالقرآن، قاوموا الشهوات، وقاوموا أهل العداوات، سيَّان الشيوخ منهم والشباب والشابات
القارئونَ كِتَابَ اللهِ فِي رَهِبٍ *** والواردونَ حِيَاضَ المَوْتِ فِي رَغبٍ
منحوا الحياة جمالا، ومعنى، ومغزى في جميل مبنى
كيفَ الحياةُ إذا خلَتْ *** منهم ظواهر أو بطاح
أين الأعزةُ والأَسِنَّةُ *** عند ذلكَ والسَّماحُ