من السخافات المضحكات حتى البكاء ، تلك الأسطورة التي نقلها المستشرقين والجهال في رواية كاذبة عن خير خلق الله صلى الله عليه وسلم ، انتقوها من نفايات أعداء الإسلام والمسلمين ، تلك الفرية التي يسمونها بحديث الغرانيق ، فنقول وبالله التوفيق :
ما الغرانيق
(تلْك الغَرانِيقُ العُلَى) الغَرانيق ها هنا الأصْنام ، وهي في الأصْل الذكور من طَيْر الماء ، ومفردها غُرْنُوق وغُرْنَيْق ، سُمِّي به لبياضه ، وقيل هو طائر الكُرْكِيُّ والغُرْنُوق أيضاً الشَّابُّ النَّاعِمُ الأبْيَض ، وكانوا يَزْعمون أن الأصنام تُقَرِّبُهم من الله وتَشْفَع لهم ، فشُبِّهَت بالطيور التي تَعْلُو في السَّماء وتَرْتَفع ( النهاية في غريب الأثر ج 3/364 رقم 2586)
أسطورة الغرانيق
وذات يوم وبينما كان صلّى اللّه عليه وسلم يتلو القرآن عند الكعبة ، ويقرأ سورة «النجم أجرى الشيطانَ على لسانِه الجُملتين التاليتين: (تِلك الغرانِيقُ العُلى مِنها الشفاعَةُ تُرتَجى) فقرأهما من دون اختيار ، وقرأ ما بعدها من الآيات ، ولمّا بلغ آية السجدة ؛ سجد هو ومن حضر في المسجد من المسلمين والمشركين أمام الأصنام ، إلا«الوليد» الذي عاقه كبر سنه عن السجود !! وفرح المشركون ، وارتفعت نداءاتهم يقولون : لقد ذكر «محمّد» آلهتنا بخير ، وانتشر نبأ هذه المصالحة والتقارب بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم والمشركين ، المهاجرين إلى الحبشة ، فعاد على أثرها جماعة منهم إلى مكة ، ولكنّهم ما إن كانوا على مشارف «مكة» إلا وعرفوا بأن الأمر تغير ثانية ، وأن ملك الوحي نزل على النبيّ وأمره مرة أخرى بمخالفة الأصنام ومجاهدة الكفار والمشركين ، وأخبره بأن الشيطان هو الّذي أجرى هاتين الجملتين على لسانه ، وأنه لم يقله ، وأنه ليس من «الوحي» في شيء أبداً .وعندئذ نزلت الآيات (52 ـ 54) من سورة «الحج» التي يقول اللّه تعالى فيهاوَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ{52} لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ{53} وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ{54} .(تاريخ الشعوب الإسلامية ، ص34 للمستشرق بروكلمان ، و الإسلام ص 35 / 36 للمستشرق ألفريد هيوم) .
ميعاد الإسراء والمعراج
حدثت معجزة الإسراء والمعراج سنة 621م ، وكان ذلك قبل الهجرة بسنة ، وكانت ليلة الإثنين ، حيث أُسرِىَ بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ، ثم كان عروجه إلى السماوات ، وفرضت عليه في تلك الليلة الصلوات الخمس , وبعد البحث والتأمل ، كانا في شهر ربيع الأول في ليلة الثاني عشر منه ليلة الإسراء وكانت قبل الهجرة بأكثر من سنة على الصحيح (فتح الباري ج 3 ص22) أُسرِىَ برسول الله صلى الله عليه وسلم وفرض عليه خمسون صلاة ثم نقصت إلى خمس صلوات (التمهيد لابن عبد البار ج8 ص 49) بتاريخ 5/10/621 م ، يوم الإثنين ربيع الأول 12/3/1 قبل الهجرة 0
عن ابن عباس قال : وأسرى الله عز وجل به ليلاً إلى بيت المقدس قبل خروجه إلى المدينة بسنه ، فرض الله عز وجل فيها الصلاة ، يعني في الليلة التي أسري بالنبي ، فقد صح أن الإسراء كان بمكة (ناسخ الحديث ومنسوخة ج1 ص 178 رقم 185) ثم بعد سورة الإسراء أي بعد حدوث الإسراء والمعراج لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، نزلت (تفسير ابن كثير ج4 ص 481) ولا يمكن أن تكون قد نزلت قبل حدوث الحدث ، أي أنها نزلت قبل الهجرة وبعد أن أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا في العام 12 من الدعوة ، خلال سنة قبل الهجرة ، بينما الحدث وهي أسطورة الغرانيق ، تُحكَى على أنها وقعت في السنة الخامسة للدعوة في مرحلة الهجرة الأولى ، وهذا يثبت كذب هذه الأسطورة الوهمية من الناحية التاريخية .
النشيد القومي لقريش
وكانت قريش تطوف بالكعبة وتقول : (اللات والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى ، فإنهن الغرانيق العُلى ، وإن شفاعتهن لترتجى) (ابن الكليبي - الأصنام ص7) (معجم البلدان ج4ص116)
وكل من رَوَى عن هذه القصة ؛ إما كذاب ، أو وضاع للحديث ، أو من أتباع ابن سبأ اليهودي ، فلا يحتج بهم .
واخترعت قريش قصة الغرانيق انتصاراً لللات والعزى
نزلت هذه الآيات في مكة بعد مرحلة (أنذر عشيرتك الاَقربين) ، وبعد مرحلة (فاصدع بما تؤمر) وإعلان النبي صلى الله عليه وآله دعوته لجميع الناس ، ودخول عدد من المستضعفين في الإسلام ، وتضييق قريش عليهم وتعذيبهم ، وهجرة بعضهم إلى الحبشة .
ومن الواضح أن الصراع في تلك المرحلة كان يتفاقم بين الإسلام والمشركين ، وكان أهم ما يتسلح به المشركون ويطرحونه سبباً لمقاومتهم الإسلام هو (أن محمداً قد سبَّ آلهتنا وسفَّه أحلامنا) ، وقد كان موقف النبي صلى الله عليه وسلم من آلهتهم موقفاً صريحاً لا مساومه فيه ، وقد اتضح ذلك من السور الأولى للقرآن ، القاطعة في مسألة الأصنام ، ولم تكن سورة النجم إلا استمراراً لذلك الخط الرباني الصريح ، ووضع النقاط على الحروف بتسمية أصنام قريش المفضلة (اللات والعزى ومناة) بأسمائها وإسقاطها .
ومن الطبيعي أن تكون هذه الآيات شديدة جداً على قريش ، تثير كبرياءها لأصنامها ، وأن تقوم بردة فعل بأشكال متعددة .
وقصة الغرانيق هي واحدة من ردات الفعل القرشي ، لكن:
متى اختُرِعَتْ ومن اخترعها ؟
إن المشركين عبده هذه الأصنام الثلاثة ، لما سمعوا ذمها في آيات السورة حرَّفَ بعضهم الآيات ، ووضع بعد أسماء الأصنام الثلاثة عبارة (تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترجى) فأعجب ذلك القرشيين ، وتمنوا لو يضاف هذا المديح لآلهتهم في السورة ولكن كيف يمكن ذلك ؟ وكيف ينسجم مع السياق ؟ وكله حملة شديدة على فكر الأصنام وأهلها ؟ هكذا وُلِدت قصة الغرانيق على ألسنة القرشيين ، ولكنها كانت هذياناً ولغواً في القرآن من قريش المشركة لا أكثر ، ولكن الجريمة الكبرى عندما حولت قريش المنافقة هذا اللغو في القرآن إلى آيات الغرانيق واتهمت بها النبي بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ، لإثبات أنه لم يكن معصوماً .
وأما أهل التحقيق ، فقد قالوا : إن هذه الرواية موضوعةٌ واحتجوا بالقرآن والسنة والمعقول ، أنك ترى قلوب الجاهليين المريضة بحب "الغرانيق العُلَى" ، والتي تراكمت عليها آثار عبادة الأصنام ، وتحن إلى أيام الصبا حيث كانوا يتساقطون أمام الأصنام المزخرفة ، وفي احتفالات اللعب واللهو وموائد الطعام والشرب والمسكرات ، ومع صبايا الحي الجميلات والصبيان الحسان ، إنك تراها اليوم تتلهف إلى إشاعة تروج في مكة ، بأن النبي قد مدح هذه الأصنام ، ووقع ساجداً لها ، وأعطى الشرعية من جديد لها ، وتتناقل الأفواه هذه الشائعة المفضوحة بشوق عظيم ، وإذا بها تصبح مادة إعلامية ، لكل من سولت له نفسه النيل من مقام سيد البشر ومنار الهداة وقدوة الصالحين محمد بن عبد الله الطهر الطاهر المطهر ، الذي عصمه الله من كل ذنب ، صلى الله عليه وسلم .
وتستمر الأفواه تتناقلها حتى اليوم ، حيث تتلقفها أقلام المستشرقين والمستغربين والمعتدين والمنصرين والمشركين ، وتنسج حولها بيوت العنكبوت ومن راجع كلمات المستشرقين ومحاور تركيزهم وجدها تدور في الأغلب حول تلك الإشاعات الكاذبة التي روجتها أفواه الحاقدين على الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم دخلت في كتب التاريخ ، عبر أصحاب القلوب المريضة الذين تظاهروا بالإسلام ، وهم ينوون النيل منه .
لقد أرادت قريش أن تستخدم الإعلام المضاد ، محاولين إخفاء الحقيقية المرة لهم ، لسجودهم عندما سمعوا سورة النجم ، وتهوي مع المسلمين سجوداً ، ماذا يفعلوا وهم ينظرون إلى بعضهم البعض ، يتساءلون فيما بينهم : لماذا سجدت ، ولماذا أنت سجدت ، ولماذا هذا سجد ، فكانت ردة الفعل الشيطاني ، والتكبر ، بابتكار وتأليف وإخراج هذه القصة ، لكي يتم إخفاء الحقيقة المرة ، وسرعان من حاول اتهام الرسول بأنه سحرهم ، هذا ما فعلته قريش ولا تخرج القصة عن ذلك .

طائر أسطورة الغرانيق