الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد قسم العلماء المحرمات إلى: محرم لذاته، ومحرم لغيره؛ فأما الأول: فهو ما كانت علة التحريم راجعة فيه إلى مفسدة ذاتية في الشيء المحرم، ومن أوضح أمثلته: الزنا الذي حرمه الله -تعالى-؛ لما فيه من اختلاط الأنساب، وانهيار المجتمع وتفكك عراه؛ ولذلك قال الله -تعالى-: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا) (الإسراء:32).

وجاء تحريم جملة من الأمور؛ لأنها وسيلة أو ذريعة تؤدي إلى الزنا، ومنها ما جاء مصرحًا فيه بهذه العلة، ومنها ما يُفهم منه ذلك، ومن هذه الأحكام:

1- الخلوة بالمرأة الأجنبية: قال -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، وفي هذا نص على حرمة الخلوة بالأجنبية؛ لأن الخلوة ذريعة لعمل الشيطان.

2- ومنها: كل مقدمات الزنا حتى سماها الشرع زنا من باب تسمية الشيء بمآله، ومن ذلك: قوله -صلى الله عليه وسلم-: (كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنْ الزِّنَا مُدْرِكٌ ذَلِكَ لا مَحَالَةَ: فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الاسْتِمَاعُ، وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلامُ، وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ، وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا، وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ وَيُكَذِّبُهُ) (رواه البخاري، ومسلم واللفظ له).

3- ومنها التبرج، كما قال -صلى الله عليه وسلم- في وصف المتبرجات: (مُمِيلاتٌ مَائِلاتٌ)، وذلك في قوله: (صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلاتٌ مَائِلاتٌ رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ لا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلا يَجِدْنَ رِيحَهَا، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا) (رواه مسلم).

4- ومن ذلك: المصافحة كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لأَنْ يُطْعَنَ في رَأْسِ أَحَدِكُمْ بِمِخْيَطٍ مِنْ حَدِيدٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّ امْرَأَةً لاَ تَحِلُّ لَهُ) (رواه الطبراني، وصححه الألباني)، وقوله: (امْرَأَةً لاَ تَحِلُّ لَهُ) فيه: بيان العلة، وهي: خشية الوقوع فيما لا يحل له.

5- قوله -تعالى-: (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) (النور:31).

6- قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (النور:58).

ولابد هاهنا من التأكيد على أن الزنا وذرائعه المنصوص عليها: كتابًا وسنة؛ كلها تَحرُم تحريمًا قطعيًا لا مجال للاجتهاد فيه؛ لأنه لا اجتهاد مع النص، ولا يؤثر في وجوب العمل بمقتضى النصوص الشرعية وصف تحريمها بأنه لذاته أو لغيره.

ولكن هذا التقسيم يُفيد في موضعه حكمة التشريع، ومن هذه النصوص وغيرها علمنا أن من المسالك الشرعية: "سد الذرائع" المؤدية إلى المحرم(1).

ولكن السؤال: هل يمكن اعتبار "سد الذرائع" مصدرا من مصادر أدلة الأحكام؟

أو بعبارة أخرى: هل يمكن للمجتهد أن يُسأل في مسألة ما، الأصل فيها الإباحة، لكنه عَلِمَ من واقع الحال أنها تؤدي إلى محرم، أن يفتي بحرمتها؛ اجتهادًا منه، أخذاً من المسلك الشرعي العام المقرر في تحريم ذرائع كثير من المحرمات؟

- يخطئ كثير من الباحثين في إجابة هذا السؤال حينما يذهبون إلى أن سد الذرائع مسلك انفرد به الإمام "مالك"، وربما أضاف بعضهم الإمام أحمد؛ بينما خلص كثير من النظار: كالقرطبي، وابن القيم، والقرافي، والشاطبي إلى أن مساحة المجمع عليه في هذه المسألة أكبر بكثير من المختلف فيه.

وقد لخص الدكتور محمود حامد عثمان أستاذ الأصول بجامعة الأزهر أحوال سد الذرائع من كلام هؤلاء الأعلام؛ فانتهى إلى: أنه في حالة وجود أمر مباح قد يؤدي العمل به إلى مفسدة، فهناك الحالات الآتية:

1- ما يكون أداؤه إلى المفسدة مقطوعًا به، كمن يحفر بئرًا خلف باب المسجد في الظلام بحيث يقع الداخل فيه لا محالة، وهذا القسم محرم بالإجماع سواء أطلق عليه "سد الذريعة" أم لا.

2- ما يكون أداؤه إلى المفسدة ظنيًا ظنًا راجحًا، كمن يحفر بئرًا في الطريق العام، وكبيع السلاح في الفتنة، وكبيع العنب لمن يتخذه خمرًا. وهذا محرم عند عامة العلماء، وادعى القرافي فيه الإجماع، وأما الشاطبي فيحكي فيه الخلاف، وعلى أيٍّ فالقول بتحريمه هو المعتمد عند الأئمة الأربعة.

3- ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرًا، فهذا لم يعتد به أحد من أهل العلم، لا مالك ولا غيره، ولذلك لم يقل أحد من أهل العلم بحرمة زراعة العنب لاحتمال وجود من يعصره خمرًا، ولم يقل أحد بحرمة التجاور في البيوت سدًا لذريعة الزنا، ولم يقل أحد بحرمة خروج النساء إلى المساجد إذا التزمن الآداب الشرعية وهكذا.

4- ما يكون أداؤه إلى المفسدة فوق النادر ودون الغالب، وهذا ما انفرد الإمام مالك باعتباره مسوغًا للمنع من شيء مباح الأصل، ووافقه أحمد في بعض الصور، ووافقهما الشافعي في النادر فيها. "يراجع كتاب: قاعدة سد الذرائع وأثرها في الفقه الإسلامي".

إذا تمهد ذلك فالكلام عن الاختلاط بين الجنسين في المساجد والمدارس، والجامعات، والأسواق، وغيرها... فيه هذا التفصيل:

1- ما كان منه قائمًا ومشتملاً على أحد المحرمات المنصوص عليها: كالتبرج، والكلام فوق قدر الحاجة، والخضوع بالقول فضلاً عن اللمس؛ أما المصافحة أو غيرها من الصور المحرمة فهو محرم بالنص، ولا يتصور ممن ينتسب إلى العلم أن يفتي بجواز هذه المحرمات، حتى ولو كان ممن يرهبهم "الإعلام العالماني"!

وأما العالمانيون أنفسهم.. فالكلام معهم في هذه المسألة شأن الكلام في غيرها: إما أن يقروا بمرجعية الشرع؛ ومن ثمَّ يجب عليهم أن يُسلِّموا لمقتضى تلك النصوص السابقة، وإما أن يصروا على مرجعية "الثقافة الغربية"، وحينئذ لا حاجة لنا في الكلام معهم.

2- ما كان منه قائمًا وغير مشتمل على شيء من هذه المنكرات، بيد أن احتمال وجودها في المستقبل غالب لتهاون في دين الناس، أو قصور وتهاون في القائمين على الأمر، وأمكن الفصل؛ لزم ذلك أو استحب: كفصل أماكن النساء في المساجد، وفي وسائل المواصلات العامة إذا أخذ الناس في الزيادة وازدحمت وسائل المواصلات، أو فشا التبرج واستطاع البعض منع الاختلاط في وسائل المواصلات أو أماكن التعليم، ولكنه لم يستطع منع التبرج، كمن يكون له سلطة إدارية تنظيمية يستطيع من خلالها الفصل بين الجنسين دون أن يتمكن من منع المخالفات متى أذن بالاختلاط.

3- ما كان منها قائمًا وغير مشتمل على شيء من هذه المنكرات، واحتمال حدوثها نادرًا فلا إشكال فيها، أما إذا كان غالبًا، ولكن الفصل غير ممكن إلا بمشقة بالغة كالمَجامع العامة في الحرمين، وفي مناسك الحج، وفي الأسواق الكبيرة؛ فتنتفي الذريعة حينئذ بتكثيف لرجال الحسبة، وهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

4- ما يتم إعداده والتخطيط له من الأسواق والمدارس والجامعات وغيرها.. فالمعتبر فيه من غلبة الظن بحدوث المفسدة من عدمها بحال المثل.

وقد جرى العمل في المملكة العربية السعودية على إنشاء جامعات للبنين وجامعات للبنات× اتعاظًا بحال البلاد الإسلامية التي سبقت إلى إنشاء جامعات مختلطة وما جرى فيها من اختلاط تقع فيه المنكرات عيانًا، ثم ما زال العالمانيون يحاربون حتى أنشأوا جامعة مختلطة؛ لأنهم يرون الفصل بين الجنسين سبة ومعرة لابد لهم من أن يتخلصوا منها، ولم يكتفوا بذلك حتى استصدروا التعليمات التي تمنع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تمنع منكرات الاختلاط في المساجد والأسواق!

ثم قالوا: إنهم دافعوا عن صنيعهم بأنه لا يعدو أن يكون اختلاطًا من جنس الموجود في المساجد والأسواق! وتغافلوا عن فروق جوهرية بين الأمرين منها:

1- أن اختلاط المساجد والأسواق عابر، وزمالة الجامعة تستمر طوال العام لعدة ساعات يوميًا.

2- أن المختلطين في الجامعة كلهم من الشباب في سن فوران الشهوة بخلاف المساجد والأسواق التي يؤمها من العائلات أكثر من الشباب.

3- أن الجامعة مكان مغلق في الجملة، ويحتوي على أماكن أكثر إغلاقًا، وأماكن تقارب أن يكون الموجودون فيها في حالة حفرة بخلاف المساجد والأسواق.

4- أن المساجد والأسواق يشرع فيها قدر من الفصل بحيث لا يترتب عليه حرج وهو قائم في المساجد حتى في جميع بلاد المسلمين، وفي الأسواق في المملكة العربية السعودية بدرجة من الدرجات، بينما الجامعات يمكن الفصل التام بلا أدنى حرج وهو قائم بالفعل قبل جامعتهم تلك.

5- إن الأسواق في المملكة العربية السعودية توجد فيها هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بخلاف الجامعة المختلطة التي جمعوا فيها بين تكريس الاختلاط وبين منع هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ مما يؤكد سوء القصد.

وأخيرًا: فإن الخطأ لا يبرر الخطأ، والواجب سد الذرائع إلى المحرمات طالما وجدت واقعًا أو تيقن حدوثها، أو غلب على الظن حدوثها؛ لا سيما إذا لم يكن في ذلك حرج ولا مشقة على الأمة.

نسأل الله أن يقينا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.

ــــــــــــــــــــــــــ

(1) الأمثلة على المحرم لغيره أو "المحرم سدًا للذريعة" كثيرة جدًا، اقتصرنا منها على ما له تعلق بعلاقة الرجل بالمرة مراعاة للسياق.

www.salafvoice.com
موقع صوت السلف