أيّها الدّعاةُ أنتم أمل الأمّة

الأربعاء, 06 تشرين الأول 2010


د. علي العتوم


أعني أؤلئك النّفر الذين فهموا الإسلام فهماً دقيقاً، ووعوه على حقيقته، فأخذوه أخذاً شاملاً، يعالجون به أمور الدّنيا والآخرة، فهو عندهم نظام حياة ومنهاج عمل، يزنون به كلّ شؤونهم: السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة. إنّهم الفئةُ التي ربّى مسطرتها الدّاعية الأكبر محمّد عليه الصلاة والسّلام، بعد أن أسنت الحياة، وضلّت البشريّة، وانتكست الفطر. إنّهم الطّائفة الأولى من العرب الذين فقهوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما جاء به عن ربّه، فقاموا يصلحون الحال، ويعدّون العدّة هم وإخوانهم العجم، فنشروا العقيدة، وحاربوا الجاهليّة، وقضوا على ممالكها ليقيموا على أنقاضها ممالك الحقّ وخلافة الإسلام.

واليومَ، وقد عادت البشريّة إلى الجاهليّة من جديدٍ في كلّ شيء، في الشّرائع القانونيّة كما في الشعائر التّعبديّة، وانحرف ميزان العدل، وحُكِّم الهوى، وطورد الدّين وأهله، واستعبد النّاس بعضُهم بعضاً، وتحكّمت الدول الكبرى بغيرها من المجتمعات البشريّة، كما تتحكّم الحيتان بصغار السّمك. وعدنا نحن المسلمين عرباً وعجماً عند هؤلاء أضيع من الأيتام على مآدب اللئام. حكّموا فينا الأراذل، وسوّدوا علينا الرويبضات، وسلبوا منّا أعزّ بلادنا، ليعطوها لقمةً سائغة لشذّاذ الآفاق اليهود. فمن ينقذنا من هذه الورطة، إلاّ أنتم أيّها الدّعاة؟!

أين الذين يأخذون هذا الدّين من جميع أطرافه كما أخذه الأوائل لا أجزاءً وتفاريقَ، أين الذين يحملون الكَلَّ، وينهدون للأمر الجلَل، أين الذين يؤلمهم تشويه العقيدة، ويُحزِنهم استبعاد المُصحف عن دست الحكم، ويُمِضُّهم أن تضيع خلافتنا، وتُغتَصب ديارنا، أين الذين يُقِضُّ مضاجعهم تحكّم الأشرار في الأخيار، أين الذين يغيظهم التّنقص من التّراث بل ازدراؤه، أين الذين يُقلِق نفوسهم تراجع لغة القرآن في أوساطهم وانحدارها؟! أين الذين يصدق عليهم ما قال الشّاعر العربي:

لَوْ كانَ فِي الأَلْفِ مِنّا واحِدٌ فَدَعَوْا

مَنْ فارِسٌ خالَهُم إِيّاهُ يَعْنُونا

ليشمّروا عن ساعد الجِّد والبناء، ويهجروا حياة التّرف والاسترخاء؟!

إنّ هؤلاء هم الذين فهموا الإسلام عقيدةً وحكماً، وآمنوا بهذه الأمّة ديناً وشريعةً، وتراثاً عريقاً وتاريخاً مجيداً، فقاموا يصحّحون العقيدة، فالله ليس كمثله شيء، وهو على كلّ شيءٍ قدير، وأنّ بيده الأعناق والأرزاق، وأنّ الكتاب والسّنة هما مصدر التّشريع في الإسلام، وأنّ الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين وليس للجبت والطّاغوت، وأنّه لابدّ من الدعوة لنشر هذا الدّين في الخافقين، لأنّه وحده المقبول عند الله، وأنّه لا محيص من أنْ يحكم ويسود، فقاموا يعملون لاستعادة الخلافة المفقودة بتآمر الصّليبيين واليهود. وقد آثروا العمل على القول، فنهضوا يُجَمِّعون ويكتِّلون، ليبنوا الصّف المتين الذي يأخذ على عاتقه إنقاذ المغصوب واسترداد المسلوب.

إنّهم هم الذين علموا أنّ من دون هذه الآمال العريضة، وتلك الأحلام المجنّحة العملَ الشّاق المتواصل، والجهد الدّائب، والصّبر الطّويل، والتّحمل العجيب، وأنّه سيقف في وجوههم وهم يعملون لذلك الجاهليّةُ بأسرها من حكّامٍ ظلمة، وأعداءٍ حانقين، وسوقةٍ رَعاعٍ، وأحزابٍ متنفّعة، وسيتّهمون ويضارّون، وقد يطردون ويطاردون، ويسجنون ويعذّبون، ويقتلون وتزهق أرواحهم، ويُستَولى على أملاكهم ظلماً وعدواناً، فوطّنوا أنفسهم على كلّ ذلك متحمّلين في سبيله كلّ أذىً، لأنّ ما عند الله خير وأبقى. وهم مع ذلك يعلمون باتِّئادٍ وتدرّجٍ، وتخطيطٍ وتقدير.

إنّهم هم الذين قاموا يأتسون بالصّدر الأول من الصحابة الكرام، فيعزمون العزمة، ويعقدون الصّفقة مع الله، ويشربون من رأس النّبع، بعيداً عن السفسطات التي شغلت المسلمين زماناً فيما سُمِّي بعلم الكلام، وفلسفة اليونان، والفرق الضّالّة. لقد قاموا يبشّرون بمصداقيّة الإسلام، ووجوب نشره، وحقيقة انتصاره. ولم يجمجموا أن يعلنوا لأتباعهم والنّاس أجمعين أنّهم ضدّ العصبيّة القبليّة، وضدّ القوميّة المفرغة من الإسلام، وأنّه لا فضل لعربي على عجميّ إلاّ بالتّقوى، وأنّه لا يصلح آخر هذه الأمّة إلا بما صلح بها أوّلها، وأنّه لا بدّ من الوحدة على الدّين، ولم يستحيوا أنْ يقولوا: إنّ الله أمر الرّسول أن يقاتل النّاس حتى يشهدوا أنّ لا إله إلا الله وأنّ محمّداً رسول الله، وأنّ الإسلام سينساح في العالم كلّه، وأنّنا سنحرّر فلسطين لا محالة، وسنفتح روما كما فتحنا بيزنطة، وسنعيد الأندلس. كلُّ ذلك بعون الله وتأييده.

أجل، إنّهم الذين أنفوا أن يعيشوا خاملين غير آبهين لما يجري للأمّة والعالم من حولهم، وأنّهم الذين لم تخدعهم الحضارة الغربيّة بترّهاتها، ولا الأحزاب الدّنيويّة بأفكارها الفاسدة التي كان وراءها أعداء الإسلام من قوميين وملاحدة، والذين لم يملّوا الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، ولم ينكلوا عن المناداة بالجهاد، وأنّ من أعظم الجهاد كلمةَ حقٍّ عند سلطانٍ جائر. ولم يغفلوا عن المطالبة بإنصاف الشّعوب المسحوقة في ظلّ الأنظمة الجاهليّة. إنّهم الذين لم يروا الإسلام سياسةً فقط، أو اقتصاداً وكفى، أو تصحيح أحاديث وحسبُ، أو تبليغ دعوةٍ وقدْكَ، على شرف كلّ ذلك، وأنّهم الذين لم يعمدوا إلى تكفير النّاس لأقلّ عارض، لأنّهم دعاةٌ وليسوا قضاةً.

إنّهم المصرّون على إقامة دولة الإسلام ولو على أجسادهم وأرواحهم، فقد باعوا لله واشتروا. نعم، إنّهم الذين يدعون مع هذا الإصرار إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ويثقون ثقةً مطلقةً بنصره. إنّهم هم الذين ينطبق على الواحد منهم، قول الشّاعر الذي أعجب به حسن البنّا أيّما إعجاب:

إِذا القَوْمُ قالُوا: مَنْ فَتىً خِلْتُ أَنَّنِي

عُنِيتُ فَلَمْ أَكْسَلْ ولَمْ أَتَبَلَّدِ

إنّهم المتآخون في الله وعلى الله، إذْ (إِنَّما المُؤمِنونَ إِخْوَةٌ)، والمسلم أخو المسلم. إنّهم الإخوانُ المسلمون الذين جعل البنّا المتخلّفَ عن ركبهم بعد وضوح فكرتهم له آثماً. إنّهم هم الذين بأخذهم الإسلام أخذاً متكاملاً كَفَوْا المسلمين جميعاً ممّن لم يأخذوه أخذهم أن يأثموا، كما قال عمر التلمساني رحمه الله.

إنّهم حقّاً أمل الأمّة ورجاؤها، ولاسيّما في هذه الأيّام الحوالك، ولكنْ شريطة العمل الجاد، والتضحية الدّائمة، والجهاد الدّائب، والزّهد الشديد، والتواضع للخلق والخالق، ومحض الولاء لله والصالحين من عباده، والبعد عن التّنافس على الدّنيا، والتّجافي عن أعتاب السّلاطين، وعدم الانخداع بمصطلحات أهل الأهواء، وإلاّ فإنّ الاستبدال سُنّةُ الله في خلقه. وصدق الله العظيم: (وإِنْ تَتَوَلَّوا، يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُم، ثُمَّ لا يَكُونوا أَمْثالَكُم). فليست فئةٌ أكرم على الله من فئة، إلاّ أنْ تكون أصدق في بيعتها، وأوفى بعهدها، وأكثر تفانياً في دعوتها. وعليه فلنردِّد ما كان البنّا رحمه الله يردِّده:

قَدْ رَشَّحُوك لأَمْرٍ لَو فَطِنْتَ لَهُ

فَاربأْ بِنَفْسِكَ أَنْ تَرْعَى مَعَ الهَمَلِ

وفقنا الله لطاعته، والعمل بدعوته، والقدرة على إقامة حكمه.



صحيفة السبيل الأردنية