قراءة في الفكر السياسي الكنسي

الاربعاء 20 شوال 1431 الموافق 29 سبتمبر 2010



محمد يحيى

غيرُ صحيح ما يعتقدُه كثير من الناس حول زهْد الكنيسة في السياسة وعزوفها عن السلطة وورعها المتكلّف عن المشاركة في شئون الحكم وأمور الدنيا.

وهذا الاعتقادُ السائد عند البسطاء تغذِّيهِ شعارات برَّاقة وممارساتٌ خادعة لرجال الكنيسة مثل "الله محبة".. و"من ضربك على خدِّك الأيمن فأعطه خدك الأيسر".. "وما لله فلله وما لقيصر لقيصر" إلخ.

ولا سيَّما عندما تبرزُ هذه الشعارات بشكلٍ جيِّد عن طريق أناس مدرَّبين على القيام بهذه الأدوار في مناخ متأزِّم يصبُّ بشدة في صالح هذا الاعتقاد.. ويصمُ كل من خالفه بالتطرف والإرهاب والهمجيَّة.

واشتغال رجال الكنيسة بالسياسة وعلاقتهم بالحكم والسلطة ليس ابن اليوم ولكنه وليد الأمس.. وهو متجذِّر في الممارسة.. عميق في التاريخ.

فالكنيسة تارة تحكم بنفسها.. وتارة تحكم عن طريق وكلائها.. وأحيانًا بواسطة الإيحاء والتوجيه والشحن المعنوي والمفعَم بالتهديد والوعيد والشلح من شعب الكنيسة لمن لا يسمع ولا يطيع.. والوعد بالجنة والنعيم لمن يسمع ويطيع.

ألم تسمعوا ما كان يرددُه شباب النصارى في آخر مظاهرة لهم احتجاجًا على ما زعموا اختطاف المسلمين للسيدة كاميليا شحاتة.. كانوا يقولون: "يا كنيسة يا قيادة.. إحنا جاهزين للشهادة".. "يا جمال قول للريس.. خطف بناتنا مش كويس".

ولا يخفى البُعد العقائدي في الهتاف الأول.. والبعد السياسي في الهتاف الثاني.. في ظلّ الاستقطاب العنيف الذي يسيطرُ على الشارع السياسي المصري في هذه الأيام.

ثم جاء الأنبا بيشوي رجل الكنيسة المصريَّة الأرثوذكسيَّة القوي ليطلق رصاصة الرحمة على كل ما يدَّعيه النصارى وحلفاؤهم من اضطهاد وظلمٍ وما يروِّجون له من شعارات المحبة والتسامح والسلام ونزْع الغلالة الرقيقة التي كانت تُخفي عورات كثير من رجال الكنيسة.

ولقد تصدَّى كثيرٌ من العلماء المسلمين ومفكريهم وعُقلاء النصارى ومنصفيهم لأقوال الأنبا بيشوى وفندوا آراءَه وفضحوا نواياه.. ولكنَّ الرجل لم يتزحزحْ قيدَ أُنمله عن أقوالِه.. ولم يعتذرْ عن حرفٍ من آرائِه.

بل تقدَّم ببلاغ للنائب العام يطلب فيه محاكمة فضيلة العالم د/ محمد سليم العوا جنائيًّا بتُهمة التحريض على الكنيسة وشعبها وإذكاء روح الفتنة بين المسلمين والنصارى.

وتمادى في غيِّه بأسلوب "ضربني وبكى وسبقني واشتكى".. فأرسل مذكِّرةً لرئيس الجمهورية يشكو له سوء الحال ويطلب الحماية له وللكنائس من المعتصمين المسلمين.

وقد تردد في وسائل الإعلام أن د. أحمد كمال أبو المجد يقوم الآن بمساعي للصلح بين الأنبا (بيشوي) ود. العوا.. في محاولة لطيّ هذا الملف واختزاله في الإطار الشخصي بين الرجلين.. ولا مانع من تبادل الزيارات وتقبيل اللحى والجباه.. وعزومة هنا أو هناك.. والرجال إخوة.. والنساء أخوات!

وكما قال الشيخ الباقوري: "الشيخ والقسيس قسِّيسان.. وإن شئت فقل هما شيخان" والعاقبة عندكم في المسرات.

وأنا أعتقد أن ما قالَه الأنبا بيشوي نابعٌ من عقيدة راسخة وفهم واضح وقراءة متأنِّيَة لكل مفردات الواقع وسوابق التاريخ.

فالرجل يعتقد بوضوح أن مسلمي مصر (96% من السكان) هم ضيوفٌ على النصارى أصحاب البلد الأصليين! والضيف لا بدَّ أن يرحل في يوم من الأيام بَعُدَ هذا اليوم.. أم قَرُبَ!

وعلينا نحن المسلمين أن نمشي على أطراف أصابعنا حتى لا نزعج أصحاب البلد.. وأن نتفهم قول الأنبا بيشوي ونضع في أعيننا "حصوة ملح" ونعجِّل في الرحيل "ويا بخت من زار وخفِّف"!

أما أن نبقى في مصر بشكلٍ دائم ونشارك النصارى في الوطن "فحسب كلام الرجل" هذه بجاحة وتطفُّل وعدم لياقة وقلة تربية.

والمشكلة إذا قرَّرنا الرحيل وترك مصر للأنبا بيشوي وشعبِه.. فأين نذهب؟!!

ثم إن نيافة الأنبا (بيشوي) يرفض أي ولاية إداريَّة على الكنائس.. وهذا ينسجم مع فكرِه وعقيدتِه.. إذ كيف يتحوَّل الضيف إلى صاحب دار.

وهذا هو المطبَّق بالفعل.. فلا ولاية للدولة على أي كنيسة في مصر.. ولا يستطيعُ النائب العام أن يأمر بتفتيش كنيسة مهما صغرتْ.. وهذا لا يعود لخلَلٍ في القانون.. ولكن الخللَ في قواعد سياسيَّة استقرَّت زمنًا طويلًا حتى أصبحت عُرفًا متبعًا لا فكاكَ منه.

وأشكُّ في قدرة أي وكيل للنائب العام على إصدار أمر ضبط وإحضار لأحد القساوسة.. وهبْ أنه فعل ذلك ثم دخل القسّ إحدى الكنائس.. فهل يجرؤ عسكري أو مخبر على الدخول خلفَه؟!

لو حدث ذلك لأعلن الأنبا (بيشوي) "كما قال بالحرف الواحد" عصر الاستشهاد.

ولو كنتُ مكان (أسامة بن لادن) لتركتُ جبال الهندكوس في أفغانستان.. واختبأت في دير وادي النطرون العتيد المحصَّن المليء بالألغاز والأسرار والأسرى من كلِّ جنس ولون وديانة.

وفي هذا السياق لا بدَّ من الإشارة إلى أن كثيرًا من نصارى (مصر) على درجة عالية من الوعي والاحترام والأمانة.. ولا يشترون بآيات الإنجيل ثمنًا قليلًا.. ولا يتاجرون بمشاعر شعبِهم.. ولا يخدمون أجندات خارجيَّة ولا محليَّة.. ولا بين بين.

وعلى رأس هؤلاء الأستاذ جمال أسعد عبد الملاك الذي يدافعُ عن قضايا المسلمين بأسلوب سلِس واضح لا تنقصُه الصراحة.. ولا يعتريه الشَّطَط أو الغلو أحيانًا.. وفي نفس الوقت يحافظ على دينه واعتقادِه.

فهذا الرجل وأمثاله هم الذين يجب أن يُعوَّل عليهم ويؤخذ برأيِهم في النوازل والملِمَّات.