الملمح الثامن
للمشتاق للجنـــــــــان



وهكذا كان من بعدهم ..
فكان علي بن الحسين يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل .. فيتصدق بها..ويقول : إن صدقة السر تطفىء غضب الرب ..
فلما مات وجدوا في ظهره آثار سواد .. فقالوا : هذا ظهر حمال .. وما علمناه اشتغل حمالاً ..
فانقطع الطعام عن مائة بيت في المدينة .. من بيوت الأرامل والأيتام .. كان يأتيهم طعامهم بالليل .. لا يدرون من يحضره إليهم .. فعلموا أنه الذي ينفق عليهم ..
وصام أحد السلف عشرين سنة .. يصوم يوماً ويفطر يوماً .. وأهله لا يدرون عنه .. كان له دكان يخرج إليه إذا طلعت الشمس ويأخذ معه فطوره وغداءه .. فإذا كان يوم صومه تصدق بالطعام .. وإذا كان يوم فطره أكله ..
فإذا غربت الشمس .. رجع إلى أهله وتعشى معهم ..
نعم .. كانوا يستشعرون العبودية لله في جميع أحوالهم ..
هم المتقون حقاً .. وأولياء الله صدقاً .. والله يقول : { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا * وَكَأْسًا دِهَاقًا * لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا * جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَابًا } ..
فطوبى لقلوب ملأتها خشيته .. واستولت عليها محبته ..
أصبحت الطاعة لهم عادة .. والحركات والسكنات لهم عبادة ..
والله لو جالست نفسك خاليا * وبحثتها بحثا بلا روغان
لوجدت خير العيش عيشهم فإن ..تقعد رجعت بذلة وهوان
فالحق شمس والعيون نواظر * لا تختفي إلا على العميان
والقلب يعمى عن هداه مثلما تعمى * وأعظم هذه العينان
وصلاحه وفلاحه ونعيمه تجريد هذا الحب للرحمن
فإذا تخلى منه أصبح حائراً ويعود في ذا الكون ذا خسران

* * * * * * * *

وعلى من وفقه الله للاستقامة على هذا الدين .. أن لا يغتر بطول استقامته .. ولا كثرةِ صلاته وعبادته ..
بل يسأل ربه الثباتَ على الدين .. والعصمةَ واليقين ..
وانظر إلى محطم الأصنام..وباني البيت الحرام..إبراهيمَ عليه السلام..
يبني البيت وهو يبتهل إلى ربه ويقول:واجنبني وبنيَّ أن نعبد الأصنام ..
ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم ..
وقالت عائشة رضي الله عنها .. كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ..
وكان يستعيذ بالله من الحور بعد الكور..يعني من الضلال بعد الهدى..
ومن أقوى وسائل الثبات .. الاشتغال بميراث الأنبياء .. من طلب العلم النافع .. وحضور مجالسه .. ومخالطة أهله .. وقراءة كتبه ..
والعالم أشد على الشيطان من ألف عابد .. وفضل العالم عل العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ..

* * * * * * * *

وختاماً .. فإن من وسائل الثبات على الدين ..
أن يتصور العبد عاقبة صبره على الطاعات .. ومجانبة المحرمات ..
فكيف يبيع العاقل ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ..ولا خطر على قلب بشر
بعيش زائل كأنه أحلام ..
كيف تباع جنةٌ عرضها الأرض السموات .. بسجن مليء بالبليات ..
ومساكنُ تجري من تحتها الأنهار .. بأعطان آخرها الخراب والبوار ..
وكيف تباع أبكارٌ كأنهن الياقوت والمرجان .. بقذرات دنسات مسافحات ..
وأنهارٌ من خمر لذة للشاربين .. بشراب مفسد للدنيا والدين ..
وكيف تباع لذة النظر إلى وجه العزيز الرحيم .. بالنظر إلى وجه فاجرة قبيح دميم ..
وسماعُ الخطاب من الرحمن .. بسماع المعازف والألحان ..
وكيف يباع الجلوسُ على منابر اللؤلؤ يوم المزيد .. بالجلوس مع كل شيطان مريد ..
نعم .. كيف ترغب عنها !! وهي دار غرسها الرحمن بيده .. وجعلها مقراً لأحبابه ..
ووصف دخولها بالفوز العظيم .. وملكَها بالملك الكبير ..
فإن سألت عن تربتها فهي المسك والزعفران ..
وإن سألت عن سقفها فهو عرش الرحمن ..
وحصباؤها لؤلؤ وجوهر .. وبناؤها فضة وذهب ..
وإن سألت عن ثمرها فأحلى من العسل ..
وإن سألت عن ورقها فألين الحلل ..
أما أنهارها فأنهارٌ من لبن لم يتغير طعمه .. وأنهار من خمر لذة للشاربين ..وأنهار من عسل مصفى ..
وطعامهم فاكهةٌ مما يتخيرون..ولحمُ طير مما يشتهون ..
ولباس أهلها الحرير والذهب .. وفرشها بطائن في أعلى الرتب ..
وخدمهم ولدان مخلدون .. كأنهم لؤلؤ مكنون ..