بسم الله الرحمن الرحيم

لا يخلو أي مجتمع من ظروف طارئة تداهمه، يختل فيها ميزان العدالة، وتضطرب المستويات المعيشية عند بعض الناس، لعجز ينزل بهم فيقعدهم عن العمل والإنتاج، أو لقلة مواردهم الطبيعية، أو لحروب أو لكوارث خاصة أو عامة···
وقد يصل هذا الاختلال إلى حد قاس، ينعدم معه توفر الحد الأدنى من الكفاية المعيشية، وهذا ما افترضه الإسلام، ورتب له الحلول الإيجابية الحاسمة، من أجل رأب الصدع، وإعادة التوازن المعيشي - قدر الإمكان - في المجتمعات، والنهوض بها نحو مزيد من التنمية الشاملة، والعطاء المستمر···
وقد شرع الإسلامي لتحقيق ذلك مجموعة من التدابير والأدوات والوسائل، من مثل: زكاة المال، وصدقة الفطر، والوصية، والكفارة، وغير ذلك، ومما شرعه الإسلام في هذا الصدد: >الوقف<:
معنى الوقف: هو التنازل عن ملكية المال مؤبداً لله تعالى، من أجل أن ينتفع به الناس، وذلك كوقف المساجد ليصلي فيها الناس، ووقف المدارس، ووقف مياه الشرب في الطرقات والأسواق··
بدايات الوقف عند المسلمين: ندب الإسلام الى الوقف ورغب فيه، واعتبره من أفضل الطاعات المستمرة التي يتقرب بها المسلم إلى خالقه عز وجل، روى مسلم أن رسول الله [ قال: >إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له<، قال أهل العلم: الصدقة الجارية هي: الوقف·
ولما هاجر النبي [ إلى المدينة، لم يكن فيها ماء حلو عذب سوى بئر (رومة) وكانت لرجل شحيح النفس، يغالي في بيع مائها، فرغب النبي [ في شرائها قائلاً: >من يشتر بئر رومة بخير له منها في الجنة؟ فاشتراها عثمان بن عفان ] بخمسة وثلاثين ألف درهم، فقال النبي [: >اجعلها سقاية (سبيلا) للمسلمين وأجرها لك ففعل< رواه النسائي والترمذي·
ثم شاع الوقف بين الصحابة وانتشر بعد ترغيب النبي [، حتى قال جابر بن عبدالله ]: >لا أعلم أحداً من الصحابة كان ذا مقدرة ومال، إلا وقف مالاً في سبيل الله<·
وكان من جملة ما وقفوه: المساجد والآبار والمزارع والبيوت وأدوات الجهاد، روى الشيخان أن رسول الله [ أثنى على خالد بن الوليد ] وقال: >أما خالد فقد حبس (وقف) أدراعه وأعتاده في سبيل الله<·
أهداف الوقف: للوقف غايتان كليتان تتفرع عنهما غايات جزئية عديدة، وهاتان الغايتان الكليتان هما: غاية دينية تعبدية، وغاية اجتماعية تنموية·
أما الغاية الدينية التعبدية فتمنح المسلم مزيداً من الفرصة التي يمكنه من خلالها استدراك ما فاته، والتقرب إلى الله تعالى بما يوقفه من أعمال البر، التي يستفيد من ثوابها مادام الناس ينتفعون بها·
صور وميادين الوقف في الإسلام: قلما يجد الإنسان - مع امتداد رقعة البلاد الإسلامية - مدينة أو قرية، ليس فيها وقف، فقد بلغ المسلمون - عبر العصور - الذروة في التسابق على وقف المرافق الخيرية، لتحقيق النهضة والتنمية الإنسانية في جوانبها المادية والمعنوية، وأقبلوا رجالاً ونساء على الوقف بحماس وإخلاص، ومما قاموا به ما يلي:
1- وقف المساجد ومرافقها ولوازمها: اهتم المسلمون أولاً بوقف المساجد، فبادروا إلى عمارتها بكرم وسخاء، وأناروها بالقناديل والأضواء والشموع، وأمدوها بالمصاحف والطنافس، وحفروا لها الآبار للوضوء والنظافة، ويكفي أن نعرف أن عدد مساجد مدينة قرطبة الأندلسية - في أسبانيا اليوم - تبلغ في القرن الثالث الهجري (العاشر الميلادي) ستمائة مسجد، وكان معها لوازمها ومرافقها وأدواتها وخدماتها·
ولايزال الى اليوم الجامع الأزهر في القاهرة، والمسجد الأموي بدمشق، وجامع القيروان بتونس، وغيرها من الجوامع والمساجد المنتشرة في بلاد المسلمين، لا تزال شاهدة على مدى اهتمام المسلمين بعمارة المساجد ووقفها مع مستلزماتها··
2- وقف المدارس وتوابعها: كما اهتم المسلمون بوقف المدارس على اختلاف مراحلها التعليمية: باعتبارها مصادر إشعاع لرقي الفكر والنهوض بالمعرفة الإنسانية، ووقفوا مع هذه المدارس أماكن لنوم الطلاب الغرباء، ومواضع للدراسة والمطالعة، وقاعات للبحث والكتابة، ومرافق صحية·
وكان يقوم على هذه المدارس أساتذة عظماء وعلماء أجلاء، متفرغون للتعليم والمدارسة، ينفق عليهم من مال الوقف، حرصاً على أوقاتهم من التشتت، وضماناً لاستمرار أدائهم رسالتهم، في التعليم والإرشاد والتأليف والبحث·
وتذكر كتب التاريخ أن المدارس الوقفية على اختلاف مراحلها التعليمية بلغ عددها في (صقلية) - في ايطاليا اليوم- في القرن الرابع الهجري (الحادي عشر الميلادي) أكثر من ثلاثمائة مدرسة، فيها عشرات الآلاف من الطلاب، في تعليم مجاني للجميع·
ولا تزال أثار هذه المدارس باقية في كثير من العواصم والمدن الإسلامية في مكة والمدينة ودمشق وحلب والقدس وبغداد والقاهرة واسطنبول وغيرها من مدن آسيا الوسطى وايران والهند··
3- وقف المستشفيات ومستلزماتها: واهتم المسلمون أيضاً بوقف المستشفيات والإنفاق عليها وعلى المرضى والأطباء والموظفين، وتقديم الرعاية للجميع، من أجل النهوض بالمجتمع، وتنمية أفراده، وصيانة الصحة العامة·
ومن المستشفيات المشهورة في التاريخ الإسلامي: المستشفى العضدي ببغداد في القرن الرابع الهجري (الحادي عشر الميلادي) والمستشفى النوري بدمشق، والمستشفى المنصوري بالقاهرة، وغيره من المستشفيات العامة، بل والمتخصصة في أمراض العيون والعظام والباطنية والجراحة والأمراض النفسية والعقلية··
4- وقف المكتبات العلمية والثقافية: وهي قد حوت عشرات الآلاف من الكتب في أصناف العلوم والثقافات والفنون والمعارف وكان يقوم على رعايتها وصيانتها موظفون وخطاطون ومترجمون وأمناء وأما الغاية الاجتماعية التنموية فهي غرس السعادة في نفوس الناس، وذلك بتأمين احتياجاتهم، وتوفير مطالبهم المعيشية، واعانتهم على تجاوز الظروف الصعبة التي نزلت بهم، والارتقاء بحياتهم وتيسير أسباب التنمية والإنتاج أمامهم، وتيسير أسباب الحياة الكريمة لهم، سواء كانت غذاء، أو علاجا، أو مسكنا، أو علما، أو حياة مزدهرة···
أصناف الوقف: أباح الإسلام للإنسان أن يقف على أهله وذريته وأقربائه، ليساعدهم على ما يواجههم في حياتهم من مصاعب ومفاجآت، انطلاقاً من مفهوم: الأقربون أولى بالمعروف، وهذا ما يسمى: >الوقف الأهلي أو الذري<· وهو ما أرشد إليه النبي [ أبا طلحة قائلاً: >أرى أن تجعلها في الأقربين<· رواه الشيخان·
كما شرع الإسلام الوقف على غير الأقارب من عامة الناس، حيث يبادر الراغب في فعل الخير، إلى تقديم المنافع والخدمات المجانية إلى أصناف وفئات متنوعة في المجتمع الإنساني، كما فعل عثمان بن عفان ] حين وقف بئر (رومة) لعامة سكان المدينة، وهذا ما يسمى >الوقف الخيري العام<·
تنظيم الوقف وضبط أموره: أحاط الإسلامي الوقف بتنظيم دقيق، وضبطه بأحكام مفصلة، من أجل حماية هذا الصرح الخيري الإنساني من الأهواء والأطماع والأنانية التي تلاحظ في أصحاب النفوس الضعيفة، الذين ينحرفون بالأعمال الخيرية عن مسارها النبيل، ويحولونها إلى مصالحهم الخاصة·
لذلك أوجب الإسلام أن يتولى أمور الوقف الرجل القوي الأمين، ذو الكفاءة والمقدرة، والنزاهة وحسن السلوك والسيرة· كما شرع محاسبته للتحقق من سلامة إدارته للوقف، وحسن استثمار أمواله، وتحري العدالة في توزيع منافعه على مستحقيه··
ورغبة في توسيع مجالات التكافل الاجتماعي، أجاز الإسلام وقف الأموال المنقولة كالكتب والأثاث والأجهزة والمعدات، كما أجاز وقف الأموال الثابتة غير المنقولة كالمسجد والمدارس والمستشفيات والمزارع والبيوت··
وسمح بالوقف على أشخاص موصوفين بوصف معين، وإن لم تحدد أسماؤهم وشخصياتهم، كالمرضى والفقراء والعميان وطلاب العلم والغرباء·
كما سمح بالوقف على غير المسلمين من أهل الذمة بدافع التسامح، ورعاية للمعنى الإنساني الذي من أجله كرم الله تعالى الإنسان، ومما رواه عبدالرزاق والبيهقي في هذا الصدد: أن صفية زوج رسول الله [ ورضى عنها وقفت على أخ لها غير مسلم·
وأجاز الإسلام تأجير الوقف تنمية لموارده وتوجيها له إلى المزيد من مجالات تحقيق الخدمة الاجتماعية التطوعية المجانية· كما سمح ببيع الوقف الخرب أو المتعطل الذي لا يمكن الانتفاع به، ثم شراء ما يقوم مقامه وتوجيهه لمنفعة الناس ما وجد إلى ذلك سبيل ممكن·
___________________________________________
المصدر : مجلة الوعي الإسلامي