بسم الله الرحمن الرحيم

{ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل} >الروم -58<
البيان العربي هو التراث المتمثل في الشعر والخطب والأمثال والأقوال المأثورة، وقد تميز هذا التراث قبل مجيء الإسلام بتعدد الأغراض، وسعة المعرفة وعمق الفكر، وجمال التعبير، ولما نزل كتاب الله على العرب كان فكرهم وأدبهم ولغتهم قد بلغت نضجا كبيراً، فخاطبهم الله باللغة التي أبدعوا بها، وهي لغة استوفت خصائصها التركيبية والدلالية والصوتية، وتضمنت فنونا بلاغية طريفة، وتعابير أدبية بليغة، وحكما وأمثالا عميقة الدلالة·
وكانت الأمثال لونا من هذا البيان الذي نضج في تراثهم: >المثل السائر في كلام العرب كثير نظما ونثرا، وأفضله أوجزه وأحكمه أصدقه< >1<·
وهي ضروب من الأقوال الفنية البليغة المتضمنة للحكم التي عبرت عن أوضاع اجتماعية أو نفسية أو فكرية أو سلوكية، فلذلك كانت أكثر جريانا على ألسنة الناس، فقالوا: مثل شرود وشارد أي سائر لا يرد كالجمل الصعب الشارد، ففيها الحكم والعبر والمواعظ والتوجيه والإرشاد، ومقارنة الأشباه والنظائر، واستحضار المعنوي بالمحسوس، والغائب بالحاضر، وإفحام الخصم والمعاند، ولهذا السبب كانت الأمثال الموجزة كثيرة في كلام الأنبياء والحكماء، وفي الشعر والخطب، يستحضرها القوم في المناسبات والمنتديات والأسواق الأدبية، تبرز نمط الحياة، وأذواق الناس، وطريقة تفكيرهم·
وإذا كان للأمثال هذا القدر الكبير من التأثير في حياة الناس تفكيرا وسلوكا وأخلاقاً ومعاملات فإن كتاب الله أولى باستعمالها من أجل الموعظة والتوجيه والاعتبار، لأن رسالة الإسلام جاءت من أجل إخراج الناس من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وكل وسيلة تبلغ الإنسان إلى هذه الغاية كان كتاب الله يستعملها، قال رسول الله [: >إن القرآن نزل على خمسة أوجه: حلال وحرام ومحكم ومتشابه، وأمثال، فاعملوا بالحلال، واجتنبوا الحرام، واتبعوا المحكم، وآمنوا بالمتشابه، واعتبروا بالأمثال:
الأمثال، كما في الحديث الشريف، للاعتبار والموعظة، لأنها نبهت الناس لما ينبغي أن يتبعوه أو يجتنبوه·
وقال الزمخشري: >ولضرب العرب الأمثال، واستحضار العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيات المعاني، ورفع الأستار عن الحقائق حتى تريك المتخيل في صورة المحقق، والمتوهم في معرض المتيقن، والغائب كأنه شاهد·
وفيه تبكيت للخصم الألد، وقمع لسورة الجامح الأبي، ولأمر ما أكثر الله في كتابه المبين، وفي سائر كتبه أمثاله، وفشت في كلام رسول الله [، وكلام الأنبياء والحكماء<>2<·
وقد أخذ الشعراء والأدباء والخطباء من أمثال القرآن ما يقوي حجتهم، ويكسب أدبهم سمة الجمال والرونق، قال أبو تمام يرد على بعض من أنكر عليه ضرب لون من المثل في شعره:
لا تنكروا ضربي له من دونه
مثلا شرودا في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره
مثلا من المشكاة والنبراس
هذا التأثير ناتج من كون أمثال القرآن تضمنت إعجازا وتوجيها وحكما ومواعظ بالغة الدلالة، وهل سمع العرب مثلا أكثر تعبيرا للدلالة على الضعف والوهن لآلهتهم التي لا تنفع ولا تضر في قوله تعالى:{كمثل العنكبوت اتخذت بيتا، وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت} >العنكبوت -41<·
إن المثل قوي في الدلالة على ضعف الآلهة التي كانوا يعبدونها، فهي تفقد صفة الحياة والقدرة لكي تجيب الداعي وتلبي رغبته، ولم يجد الجهلة والسفهاء منهم سوى التهكم بأمثال كتاب الله وقولهم: إن رب محمد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت، ويضحكون من ذلك لجهلهم بالمقاصد، أو للتخفيف عن أنفسهم من شدة وقعه·
ومن خصائص أمثال الكتاب العزيز أنها ارتبطت بالمجتمع في معتقداته وتفكيره وأخلاقه وسلوكه وعاداته وتقاليده من أجل إصلاح الأفراد، وتوجيههم إلى سبيل الخير، فقبحت الكفر والعصيان والضلال، وزينت الإيمان والتقوى، ودعت إلى الاستقامة والعمل الصالح، قال تعالى، مبينا إهمال القوم تعاليم الكتب السماوية، وعدم الانتفاع بها، وهي بين أيديهم، وفي ذلك إهانة لكسلهم، وتحقير لعقولهم: {كمثل الحمار يحمل أسفارا} >الجمعة- 5<·
وقال عز من قائل في إظهار من لا ينتفع بعمله، ولو كان كثيراً، لأنه لا يقوم على مبدأ سليم: {فمثله كمثل صفوان عليه تراب} >البقرة -264<، أي كحجر أملس عليه تراب، فهو غير صالح للإنبات، ولو نزل عليه المطر ليلاً ونهاراً·
وجاء المثل في كتاب الله لبيان فضل العاقل الذي يدبر أموره بحكمة وعقل وتفكير سليم، ويعبدالله، ويعمل عملا صالحا، على من لا يتصف بتلك الصفات الإيجابية، قال تعالى: {ضرب الله مثلا عبدا مملوكاً لا يقدر على شيء، ومن رزقناه منا رزقا حسنا، فهو ينفق منه سراً وجهراً هل يستوون، الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون· وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء، وهو كلٌ على مولاه أينما يوجه لا يأت بخير، هي يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم} >النحل- 75-76<·
المثلان في الآيتين لهما أثر بين في المجتمع، فهما يكشفان بجلاء ظاهرة اجتماعية، لا تخفى على الإنسان الجاهلي المخاطب بهذين المثلين، إنه يعرف أن العبد في مجتمعه لا يتصرف مثل الحر في كل أموره، وكذلك فضل العاقل الذي يأمر بالعدل والإحسان، وهو مستقيم في عقيدته وسلوكه وعمله على الأبكم الكل على مولاه الذي لا يأتي بخير في أي عمل قام به، هذان المثلان يوجهان المخاطب إلى اختيار أفضل السبل التي تقربه من الله بالإيمان الصادق، والعبادة الخالصة لجلاله، والسلوك القويم الذي يرضي عنه الله ورسوله، ويبينان الفرق بين من يعبد أصناما لا تنفع ولا تضر، وبين من يعبد الله الخالق القادر الواهب، هذه المقارنة بمثل عمل يشاهد الإنسان أثره في المجتمع تظهر فضل المؤمن على الكافر بتقواه وعبادته وصلاحه، إذ كل أعمال المؤمن تكون خالصة لوجه الله وهو بذلك يبتعد عن كل ما يؤذي به نفسه ومجتمعه، ويكون رباطه بالله وحده وهذه ألطاف من الله يفيضها على عباده الصالحين، لأنها تحررهم من العبودية لغير الله، وتجعل عملهم متواصلاً، وفي هذا شرف للإنسان، وتكريم له على سائر المخلوقات، وإذا كان المثلان قد اقترنا ببيان ميزة الحر على العبد، والعاقل على الأبكم، فالإنسان يميل بطبعه إلى الحرية ويعشقها، ويكره الذل والاستعباد، ويحب البليغ الفصيح الذي يكون قادرا على إقناع الآخرين بالحجة والبرهان، إن مثل هذا الفرد يكون تأثيره ظاهرا في المجتمع، فكم من كلمة طيبة بليغة، وخطبة جامعة محكمة، قد غيرت سلوك أفراد وجماعات، ودفعتهم نحو الفضائل والمثل العليا، بينما الأبكم يفقد هذه الخصائص الإيجابية في التأثر والتأثير· ولذلك ذكر الله أن أمثال القرآن يدرك مراميها وأثرها العقلاء، قال عز من قائل: {وتلك الأمثال نضربها للناس، وما يعقلها إلا العالمون} >العنكبوت - 43<·
وجاءت الأمثال في كتاب الله لبيان فضل من يعبد إلها واحدا يقوم بما كلفه به، ويرجو ثوابه، على من يعدد الآلهة فلا يدري أيها يستقر على عبادته، ويدعوه ليستجيب له، فقال تعالى: {ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون، ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا، الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون} >الزمر-28<·
ومثل من يتمادى في الضلال والكفر والعصيان بالأعمى والأصم، ومن يتبع الهدى بالبصير والسميع والفرق بينهما لا يخفي على أحد، قال تعالى:{مثل الفريقين كالأعمى والأصم، والبصير والسميع، هل يستويان مثلا، أفلا تذكرون<·> هود -24<·
كما نجد الغاية من ضرب الأمثال في القرآن الكريم زيادة الإفهام والتوضيح والتذكير، فيأتي المثل لتصوير المعنوي بالمحسوس والمشهد بالغائب، فيكون وقعه بذلك أمكن في النفوس، وأشد علقة بالقلوب، وهذا من شأنه ان يبعد الحيرة والشكل عن المترددين وضعاف الإرادة قال تعالى: {ألم تر كيف ضرب الله مثلا كملة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت، وفروعها في السماء، توتي أكلها كل حين بأذن ربها، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون، ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار} >إبراهيم- 26-28<·
هذا المثل نموذج في البلاغة الرفيعة، والبيان السامي، والإعجاز المطلق الذي تميزت به الآيات البينات، والغاية منه هي هداية الناس للتقوى، وتثبيت الإيمان في نفوسهم حيث تبدو الكلمة الطيبة في هذا المثل المعجز، وهي كلمة التوحيد والإيمان والاستغفار والتوبة والعمل الصالح كشجرة مخضرة يانعة، وارفة الظلال، زاهية الأغصان، ناضجة الثمار، ممتدة في السماء، تعطي ثمارا طيبة في كل حين· وهذا كناية عن ثبات الإيمان، لأنه يستمد قوته من الحق سبحانه وتعالى· أما الكلمة الخبيثة، وهي كلمة الشرك والضلال، وكل ما يؤذي الناس في عقيدتهم الصحيحة، وفي شريعة العدل، وفي حياتهم الطيبة، فهي كشجرة خبيثة لا قرار لها ولاثمار ولاظلال ولا أغصان سوى الشوك الذي يؤذي، ولذلك فهي سهلة الاجتثات مثل الشرك والكفر والضلال لا يثبت ولا يستمر ولا يستند إلى الحق، يتهاوى في أي لحظة، ولم يتوهم المشركون والضالون انهم أقوياء، بينما كلمة التوحيد تخاطب العقل السليم، والنفس اليقظة، والوجدان الواعي، فلا يستطيع أحد مهما أوتى من قوة وسلطان ان يحرفها، لأنها الحق من عند الله··· هكذا كان يضرب الأمثال في كتاب الله من أجل الرجوع إلى كلمة التوحيد التي هي الحق من الله {ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط}>التحريم -10<، وفي الذين ثبتوا على مبدأ التوحيد، {وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون} >التحريم -11<، {ومريم ابنة عمران} >التحريم -12<·
لكن الذين يصرون على الكفر والعصيان لا تنفع فيهم النذر والأمثال، لأن قلوبهم غلف، وأفئدتهم هواء، قال تعالى: {ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل، فأبى أكثر الناس إلا كفوراً} >الإسراء -89<·
____________________________________________
المصدر : مجلة الوعي الإسلامي