للمستشار الدكتور / محمد مجدي مرجان
مقدمة
الإنسان روح وجسد ، ينشدان البقاء والنماء ، والبقاء والنماء يحتاجان للغذاء، وغذاء الجسد الطعام ، وغذاء الروح الإيمان .
بالطعام يقوي الجسد ويستقيم الأود ، وبالإيمان تهدأ الروح وتشعر بالأمان ، وبدون الطعام يضعف الجسد . ويسري إليه الهزال والانحلال ، وتنهش فيه الأمراض والأوبئة ، ثم يسقط حطامًا وبدون الإيمان تذبل الروح ، وتعصف بها الشكوك والحيرة ، وتفتك بها الاضطرابات والمخاوف ثم تنهار يأسًا .
من أجل هذا لانجد على وجه البسيطة إنسانًا يحيا بلا إيمان ، إيمان بقوة عليا يدين لها بالولاء ، ويرجو منها الخير ، ويستعيذ بها من البلاء .
ولكن الخلاف بين الناس يثور حول طبيعة هذه القوة العليا وفحواها ، وحول كنهها ومبنهاها . أهي الله .. أم الطبيعة .. أم الدهر .. أم غير ذلك من الأسماء التي يختلف فيها العامة والعلماء ، والملاحدة وأتباع الأنبياء .
وبحثنا هذا يقتصر على محاولة استطلاع رأي أصحاب الأديان السماوية في حقيقة هذه القوة العليا التي يسمونها الله .. الله الذي تملأ البراهين على وجوده وعظمته الكون بأكمله . بما فيه من مخلوقات عظيمة وكائنات عديدة وخبرات عميمة . وأسرار عميقة . وظواهر رائعة ، ونظام محكم .
سموات مرفوعة , وأراض مبسوطة ، وجبال عالية ، وبحار واسعة ، وشمس ساطعة ، وقمر وضاء ، وكواكب طالعة ، ونجوم لامعة ، كل يجري على نظام وثيق ويسير في حساب دقيق لا ينحرف قيد شعرة ، ولايرتبك بعض لحظة ، يقول سبحانه :  الله الذي خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لاتحصوها إن الإنسان لظلوم كفار  [ سورة إبراهيم: 32-34] .
وتقول التوارة : « السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه » (مزمور 9 : 1).
ثم بشر متساوقون ، بآلاف الملايين ، لايختلفون ولايتكررون ، كل يغاير الآخر ، وكل يتميز عن سواه ، في شكله ولونه : وفي بحته وصوته ، وفي بصمته وخطه . وفي هيئته ونفسه : فمهما تغيرت الأزمان ، ومهما تعدد بنو الإنسان ، فلا اختلاط ولاتكرار ، بل كل حباه الله بميزة ليست في سواه وكل منحه شيئا اختصه به عمن عداه .
وفي داخل جسم الإنسان والنبات والحيوان ، أعضاء وحواس ، وخلايا وذرات ، ملايين وألوف ومئات ترى ولاترى ولكنها تعمل في صمت ، لكل وظيفتها ، تتألف وتفترق وتتساند وتتباعد في تناسق ونظام .
والضمير صوت الله في الإنسان يستريح تفعل الخير ويتلوى من عمل الشر ، يرشد إلى الحق ، وينهى عن الضلال .
كل هذه الآيات وغيرها كثير ، تشهد بعظمة الصانع القدير ، الله سبحانه اللطيف الخبير ، يقول القرآن الكريم  ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم  [سورة الروم ] .
وتكن هذه الإله صانع الوجود ، وأعز موجود ، والحي الذي لايموت ، الذي له الخلق والأمر . وبيده ملكوت كل شيء . من هو .. ؟ ما هي طبيعته وماهيته.. ؟ ما هي صورته وشبهه .. ؟ ماهي ذاته وعناصره وصفاته.. ؟ هل هو إله واحد أم عدة ألهة..؟
وإذا كان الله واحدا فما هو نوع وحداينته .. ؟ هل هي واحدانية بسيطة أم وحدانية مركبة ؟ وإذا كانت وحدانية الله مركبة .. فمم تتركب تلك الوحدانية ؟
وإذا كان الله أكبر من واحد . فما هو عدد هؤلاء الآلهة ؟
وما هو عمل كل إله منها . وما هي اختصاصاته ووظائفه وصفاته ؟!
هل ينفرد كل إله منهم بعمل معين ، أم أنهم يشتركون في كافة الأعمال الإلهية؟!
ثم ما هي مرتبة كل إله منهم في درجات ا لسلم الإلهي ؟ هل يتساوون في مرتبة الألوهية ؟ أم يعلو أحدهم على الآخر ؟ وما هي درجة العلو والهبوط لكل إله على الآخر ولمن تكون وعلى من ؟!
أسئلة كثيرة تحار فيها العقول , وتختلف فيها النقول .. ولقد تابعت طويلاً كلمات النقول وناقشت كثيرًا ذوي العقول , بل لقد أتاحت لي ظروف نشأتي في عائلة تؤمن بإله ثالوثي ، وتقيم له الابتهالات ، وتشيد المعابد . ثم إلحاقي تلميذًا في مدرسة الثالثوي ، شماسًا في إحدى الكاتدرائيات حيث يتم إعدادي وتوجيهي فأصبح داعيا لله الثالوث ، منافحًا لنشر طقوسه وتعاليمه .
أتاح لي ذلك وغيره الاطلاع على كثير من العلوم الدينية ، والأسرار اللاهوتية ، ولقد بذلت جهدًا كبيرًا في محاولة إقناع عقلي وفكري بظروف ولادتي ونشأتي التي تحتم الإيمان بالله الثالوث بحكم الوراثة والتقليد والانسياق والعادة . ولكني فشلت في هذا فذهبت أبحث العقائد الأخرى ، في حياة وتجرد عن كل ظروف البيئة والمولد . تصورت أني ولدت اليوم ولم أعتنق بعد دينا ، ثم عرضت علي كافة الأديان والعقائد ، لأبحث فيها عن الحقيقة التي يرتاح إليها عقلي وضميري والتي تسكن فيها روحي وجسدي .
إن الإيمان الحق يحتم على الإنسان أن يواجه عقائده ويبحثها ثم يبحث أيضًا غيرها ، دون ميل أو هوى ، وبلا ضيق أو تعصب وإنما في هدوء وتعقل وفي رزانة وروية ، ولاشك أنه سيصل بعد ذلك إلى الحقيقة ، سيصل إليهاف ي يسر وسهولة دون جهد أو عناء ، فالحقيقة واضحة وضوح الشمس ، ساطعة سطوع النور ، تفتح ذراعيها لطالبيها ومحبيها ، وتنادي مبصريها وناظريها .
لايكفي للإيمان الحقيقي وراثة العقيدة ، وتقليد الآباء والأسلاف والعمات والجدات فلم يكن الدين في يوم من الأيام إقرارًا لوضع قائم ، ولا انسياقًا لطقس متبع ، وإنما كان الدين دوما دعوة إلى الحق وثورة على الباطل ، ولو كانت العقيدة إرثًا وانصياعًا لما انتقل الناس من باطل إلى حق ، ومن عبادة الأصنام والأغنام إلى عبادة الخالق ، ولبقي العالم إلى اليوم كما كان منذ آلاف السنين يسبح في الأباطيل والترهات .
يقول الفيلسوف برتراند رسل : « إن القضية الدينية يجب ألا تقبل إلا إذا كان لها سند كالسند المطلوب في القضية العلمية » .
ولكن معظم الناس يرثون الدين دون وعي ولا إدراك ، معظمنا لايعرف في الدين سوى اسمه وما سطر في شهادة ميلاده سواء أكان يهوديًا أم بوذيًا أم مسيحيًا أم مسلمًا ، أو غير هذا أو ذاك ، ومع ذلك فإنه يتعصب لما سطر في شهادة ميلاده تعصب المستميت ويطعن في الأسماء المغابرة طعن المناوئ دون بحث أو روية ، ودون هدوء أو تعقل ، ودون دراية بالعقيدة التي سموه بها ، ودون علم بالدين المغاير .. ولكن هذا كل ليس دينا ولا إيمانًا ، بل ليس عقلا ولا إدراكًا ..
فلنبحث عقائدنا ، وأصول إيماننا ، وغذاء أرواحنًا لنصل إلى الحقيقة ، الحقيقة التي تحجبها الأهواء والأغراض والميول والنزعات ، فلننزع عنا هذه وتلك ولنستقبل الحقيقة ، فترتاح العقول وتسكن القلوب ، وتهدأ النفوس وتستقر الأرواح .
إنها محاولة للبحث والدراسة وعرض لمختلف الآراء والاتجاهات ، على قدر الوقت والجهد ، والله ندعو أن يوفقنا ويهدينا سواء السبيل .
محمد مجدي مرجان
الله الثالوث
يرى فلاسفة المسيحية أن الله سبحانه وتعالى يتكون من ثلاثة أقانيم( )أي ثلاثة عناصر أو أجزاء ، وهذه الأقانيم أو العناصر الثلاثة هي الذات والنطق والحياة.
فالله موجود بذاته
ناطق بكلمته
حي بروحه
كل خاصية من هذه الخواص أو العناصر التي يتكون منها الله تعطيه وصفًا معينًا أو مظهرًا خاصًا .
فإذا تجلى الله بصفته ذاتًا سمي الأب
وإذا نطق فهو الابن
وإذا ظهر كحياة فهو الروح القدس
ويرى فلاسفة المسيحية أن الإنسان خلق على صورة الله ومثاله ، فكما أن الله مثلث الأقانيم كذلك فالإنسان مكون من ثلاثة عناصر .
فكما أن الله ذاتٌ كونية ، كذلك فالإنسان بذاته كائن على صورة الله ومثاله .
وكما أن الله ناطق ، كذلك فالإنسان ناطق على صورة الله ومثاله .
وكما أن الله حي ، كذلك فالإنسان حي على صورة الله ومثاله .
يقول القمص إبراهيم إبراهيم في كتابه « التثليث والتوحيد» : « لا يصح مطلقًا نفي التثليث لأنه بانتفائه تنتفي أنت . إذ هو أنموذجك ومصدر صفاتك الذاتية الثلاثية الذات والنطق والحياة وآثارها غير مفقودة ، فكيف يصح انتفاؤك وأنت موجود .. بنفي الأقانيم الثلاثة الإلهية .. » .
ولكن .. لماذا أطلق على الله الموجود لفظ الأب .
وعلى الله الناطق لفظ الابن
وعلى الله الحي لفظ الروح القدس .
يقول القس توفيق جيد في كتابه « سر الأزل » ( ) : « إن تسمية الثالوث باسم الأب والابن والروح القدس تعتبر أعماقًا إلهية ، وأسرارًا سماوية لا يجوز لنا أنت نتفلسف في تفكيكها وتحليلها ، أو نلصق بها أفكارًا من عندياتنا ..».
ولكن يبدو أن القمص إبراهيم رأي غير ذلك فراح يفكك ويحلل سبب التسمية كاشفًا الأعماق الإلهية . ومزيلاً لغز الأسرار السماوية ، وذلك عندما يقول :
« إن الذات والد للنطق فيقال له الأب .
والنطق مولود من الذات فيقال له الابن .
والحياة منبعثة من الذات فيقال لها الروح القدس .
فالله الأب قائم بذاته . ناطق بخاصية الابن الذي هو النطق ، حي بخاصية الحياة التي هي الروح القدس .
والله الابن قائم بخاصية الذات الذي هو الأب ، ناطق بخاصيته هو ، حي بخاصية الحياة التي هي الروح القدس .
والله الروح القدس قائم بخاصية الذات الذي هو الأب ، ناطق بخاصية النطق الذي هو الابن ، حي بخاصيته هو التي هي الحياة .
هذا هو القولب الأب والابن والروح القدس الإله الواحد .
يقول الأستاذ يس منصور ( ) : « إن الأقانيم ليست مجرد أسماء تطلق على الله أو مجرد صفات ينعت بها بل ثلاث شخصيات متميزة غير منفصلة متساوية فائقة عن التصور .. » .
ويقول الأستاذ يس منصور : « إن الثالوث الأقدس هو دعامة إيمان المسيحيين وهو في شرعهم وعرفهم أشهر من نار على علم . وصلتهم به صلة الجسد بالروح وصلة العين بالنور .. » .
أما القس توفيق جيد ( ) فيقول : « إن عقيدة الثالوث أعظم العقائد المسيحية أهمية وأساسها كلها لأنها تتصل بذات الله حسبما أعلن لنا نفسه في كتابه . فمعرفتها هي معرفة الله والإيمان بها هو الإيمان بالله ، ومن يجهلها يجهل مولاه ومن ينكرها ينكر الله .. » .
وتدعيمًا لسر الثالوث ، وشرحًا لخباياه . يقرر لنا الأستاذ يس منصور في كتابه رسالة التثليث والتوحيد : « إن هذا الكون العظيم لايدلنا على وجود الله وقدراته فقط ، ولكنه يدلنا أيضًا على طبيعة لاهوته وما به من تعدد في الأقانيم ، فإذا تأملنا في ماهية الله في ضوء الخليقة لوجدنا فيه النسبة والقدرة والانفعال المتبادل والمماثلة ، وهذه الأمور الأربعة تدعم عقيدة التثليث وتجعلها مطابقة للمنطق والعقل » .
أما عن وجود النسبة في الله فيقول الكاتب « إن الاعتقاد بالله مثلث الأقانيم يدل على أن خلق العالم لم يكن بدء تعلقات للذات لأن الله ذو علاقات منذ الأزل قائمة بين أقانيمه المباركة . فكل أقنوم من الأقانيم الإلهية له علاقة وله نسب بجانب الآخر وله علاقة بغيره . ويعني الكاتب بذلك أن الله قبل خلق العالم وقبل أن يصبح بينه وبين الكون علاقة ما – علاقة الخالق بالمخلوقات – فقد كانت له علاقات بين أجزائه وأقانيمه الثلاثية ، علاقات مختلفة ومتعددة . قد تكون علاقات صداقة أو حب أو تعاون أو نفور أو كراهية أو تنافس . كذلك فإنه توجد نسبةت بين الأقانيم الإلهية فبعضها مثلا أكبر من الآخر . وبعضها أعلى مقاما من الآخر . وبعضها أقوى خطرًا من الآخر .
أما عن وجود القدرة والانفعال المتبادل في الله فيقول الأستاذ يس منصور : «إن قدرة الله ظاهرة وعاملة فيه بالمحبة المغتبطة القوية المتبادلة بين الأقانيم منذ الأز ، والتي تؤثر ويتأثر كل منها في علاقته بالآخر ، وأن الخلق العارض صدر عن المحبة الفعالة بين الأقانيم ، أي أن خلق العالم في نظر الكاتب كان نتيجة لوجود العلاقات الخاصة والحب المتبادل بين الأقانيم فالعالم والمخلوقات إنما هي ثمرة العلاقات بين الأقانيم الإلهية .
أما عن وجود المماثلة في الله فيقول الأستاذ يس : « إن الإنسان قد خلق على صورة الله فقد وضع الله صورته في البشر وأفاض عليهم ألوانًا ثابتة من صفاته. فظهور الخليقة العاقلة المشابهة والمماثلة لله ليس إلا صورة مصغرة له تعالى ظاهرة في مرآة الخليقة ، والمماثلة ليست جديدة على الله بل هي موجودة فيه منذ الأزل . فالمسيح الابن هو صورة الله الآب ، وتبادل المحبة بينهما هو قوة الروح القدس » .
وينتهي الكاتب أخيرًا إلى القول : « إنه لا يمكننا أن نفهم الله إلا عن طريق تصوره بالصورة البشرية » .
هكذا ينظر دعاة الثالوث إلى الله العظيم الذي ليس كمثله شيء والمنزه عن مشابهة الكائنات فيمثلونه بأحد مخلوقاته الضعيفة وهو الإنسان ، إن الله في نظر فلاسفة المسيحية له كيان قائم بذاته كالإنسان تمامًا . والله ناطق بكلمته كالإنسان كذلك . وهو حي بروحه كالإنسان أيضًا ومن هذه الأقانيم أو العناصر الثلاثة يتكون الله كما يتكون الإنسان تماما . الذات والنطق والروح . ومع ذلك فإن الباحث المتأمل يلاحظ أن فلاسفة المسيحية قد أعطوا للإنسان صفات ضنوا بها على الله ، فالإنسان به عناصر وأجزاء أخرى كثيرة لا تقل أهمية عن العناصر الثلاثة السابقة . هذا إذا لم تكن تفوقها أهمية ، منها مثلاً أن الإنسان مبصر بعينيه سميع بأذنيه ، رحيم بقلبه ، مفكر بعقله ، مشير بيده .. وهكذا نستطرد في ذكر العناصر والأجزاء التي يتكون منها الإنسان المخلوق فنجد أنه قد تفوق فيها على الله خالقه .
بل أكثر من ذلك أن هذه العناصر الثلاثة التي تفضل دعاة الثالوث بمنحها لله وهي الكيان والنطق والروح قد منحوها له بشروط وأوضاع خاصة . فهي قد قسموا الله إلى ثلاثة أقسام منحوا كل قسم صفة من الصفات منعوها عن القسم الآخر ، في حين أن تلك العناصر والصفات تجتمع كلها في الإنسان الواحد ولاتجتمع في الله .

يتبع