بسم الله الرحمن الرحيم

تأنيث العدد ، وجمع المعدود

منشأ هذه الشبهة:

هو قوله تعالى: (وقطعناهم اثنتى عشرة أسباطاً أمماً وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرِب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً قد علم كل أناس مشربهم.. ) (1).

وشاهدهم على اللغط بهذه الشبهة هو قوله عز وجل " اثنتى عشرة أسباطاً أمماً " والصواب الذى توهموه عبروا عنه بقولهم:

" كان يجب أن يُذَكَّر العدد ، ويأتى بمفرد المعدود فيقول: اثنى عشر سبطا ".

الرد على الشبهة:

وجَّه النحاة تأنيث العدد فى الآية بأن السبط فى بنى إسرائيل كالقبيلة عند العرب. يعنى أنه أراد بالأسباط القبائل ، ولذلك أنث جزئى العدد المركب ، وهما: اثنتى ، وعشرة (2).

هذا وجه ، ووجه آخر هو تأويل السبط بالجماعة أو الفرقة أو الطائفة.

أما جمع أسباط ، وكان حقه أن يفرد فقد روعى فيه المعنى دون اللفظ ، ومراعاة المعنى دون اللفظ ، أو اللفظ دون المعنى كثير الورود فى النظم القرآنى ، ويبدو أن هؤلاء الطاعنين فى سلامة القرآن من كل خطأ يجهلون هذه الأساليب فى القرآن خاصة ، وفى اللغة العربية عامة ، ويتشبثون بظواهر العبارات حباً فى ترويج ما يريدون ترويجه من الشبهات الواهية وكان العرب النازل بلغتهم القرآن يذكِّرون عدد المؤنث مراعاة للفظ فيقولون: ثلاثة أنفس ، أى رجال ، ويقولون عشر أبطن.

ففى الأول " ثلاثة أنفس " ذكَّروا العدد نظراً للمعنى ؛ لأن المعدود مذكر " رجال " وفى الثانى أنثوا العدد " عشر أبطن " لأن المعدود هو القبيلة أى عشر قبائل. وهذا باب واسع لا تحصر شواهده (3). أما جمع المعدود الذى فى الآية " أسباطاً أمماً " فله نظائر فى الاستعمال المأثور الوارد عن العرب ومنه قول الشاعر:

فيها اثنتان وأربعون حلوبة

سُوداً كخافية الغراب الأسحم

فقد وصف الشاعر " حلوبة " وهى مفرد ، بقوله " سُوداً " وهو جمع سوداء.

ولهذه.. الشواهد نظائر من المأثور عن العرب الخلَّص.

والخلاصة:

فقد طاحت هذه الشبهة ، وانمحت آثارها ، كما طاحت نظائرها من قبل. ومن الدلائل القوية على صحة تأنيث العدد ، فوق ما تقدم ، أن بعض النحاة أضاف إلى بدلية " أمما " من " أسباطا " أن " أمما " وقعت نعتاً ل " أسباطا " و " أمماً " مؤنثة لفظاً. وسواء كانت " أمماً " بدلاً من " أسباطاً " أو كانت نعتاً له. فإن الذى لا نزاع فيه أن المؤنث لا يبدل من المذكر ، ولا يقع نعتاً له. وهذا دليل قاطع على أن المراد من " أسباطاً " وإن كان مذكَّراً فى اللفظ ، معنى مؤنث لا محالة. ولذلك أنث النظم القرآنى جزئى العدد المركب " اثنتى عشرة ".

أما جمع المعدود " أسباطاً أمماً " وإن وجهه النحاة توجيهاً صائباً ، فقد بقى فى مجيئه جمعاً ملمح بلاغى دقيق ذلك الملمح نوضحه فى الآتى:

بدأت الآية الكريمة بهذا الفعل " قطَّعناهم " بتشديد " الطاء " على وزن " فَعَّل " وهذا التشديد يفيد التكثير ، أى كثرة التقطيع والتفريق. وهذا يناسبه بلاغة جمع " أسباطاً أمماً " لا إفرادهما ، والمعانى البلاغية من هذا النوع تزال من أجلها كل الموانع والسدود. ولغة القرآن وبلاغته أوسع من قواعد اللغة وفنونها البلاغية.

المراجع

(1) راف: 160.

(2) انظر: الدر المصون (5/485).

(3) ومما رجح التأنيث فى الآية إبدال " أمما " من " أسباطا " مما يؤكد أن الأسباط معناها هنا مؤنث بمعنى قبائل أو جماعات.
_____________