د. إبراهيم عوض


فى عَسَّةٍ من عَسّاتى التى لا تتوقف خلال المشباك وقعتُ فى بعض المواقع النصرانية على رسالتين دينيتين جداليتين منشورتين معا: الأولى من مسلم اسمه عبد الله بن إسماعيل الهاشمى إلى مسيحى يسمى عبد المسيح بن إسحاق يدعوه فيها إلى الإسلام، والثانية رد من هذا إلى ذاك يفند فيها الإسلام ويتطاول على الرسول الكريم ويبين له أن النصرانية أفضل من الدين الذى أتى به سيد الأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام وأن المسيح إله نزل من عليائه وتجسد فى شكل بشر ليفدى العالم من خطيئته، على حين أن محمدا ما هو إلا نبى كذاب. وكان الهاشمى والكندى صديقين عربيين يعيشان فى أيام الخليفة العباسى المأمون بن هارون الرشيد، الذى يمت إليه عبد الله بن إسماعيل بآصرة القربى، ويشتغل فى خدمته عبد المسيح بن إسحاق على ما يقول ناشرو الرسالتين. ومن يقرأ ما كتبه هؤلاء الناشرون وما قدم به المستشرق وليام موير لرسالة الكندى فى ترجمتها الإنجليزية التى قام بها، يدرك مدى اعتزاز المبشرين بما كتبه الكندى ونظرهم إليه على أنه شىء متفرد ومتفوق على كل ما يشبهه من رسائل جدلية، إذ تثير فى وجه المسلم شبهات وبراهين لا يمكنه الرد عليها حسب تصورهم. ويمكن القارئَ العزيزَ أن يطالع هذا الكلام فى مقدمة وليام موير لرسالة الكندى المنشورة فى عدد من المواقع التبشيرية، وكانت فى الأصل ورقة ألقاها أمام الجمعية الاسيوية الملكية فى بريطانيا فى أوائل ثمانينات القرن التاسع عشر. وقد استفزتنى الرسالتان إلى قراءتهما ودراستهما بهدوء، فكان هذا الكتاب الذى بين يدى القارئ والذى يبين أن نَقْب هؤلاء الضالين المضلين طلع على شُونَة، فرسالة الكندى رسالة متهافتة أشد التهافت كما سوف يرى بنفسه. ومعنى هذا أن كلامهم عن خطورة رسالة الكندى هو أضغاث أحلام لا حقائق صلبة. كيف؟ تعالوا نطالع معا ما حبّره كاتوبى الظريف، لا حرمنى الله منه ولا من خفة دمه وسحر جماله الذى ليس على أحد! آمين يا رب العالمين!
1- وأول ما يثور فى الذهن عند مطالعة هاتين الرسالتين هو السؤال التالى: منذ متى كان الأصدقاء الحميمون على شاكلة الهاشمى والكندى يتحاورون فى الدين كتابة، وهم يتقابلون فى كل وقت، ويمكنهم النقاش شفاها؟ إن أقصى ما يمكن أن يقع هو قيام طرف ثالث بتسجيل ما دار فى أية مناقشة شفوية بينهما كما فى كثير من كتب المناظرات والمحاورات، مثل كتاب: "الإمتاع والمؤانسة" لأبى حيان التوحيدى، وبعض الصفحات فى كتب الجاحظ، لا أن يكتب كل منهما رسالة وكأنهما عدوّان لا يستطيعان أن يتفاهما دون عراك وتشاتم، أو شخصان متباعدان لا يتقابلان أصلا، ومن ثم لا يمكن أن يتم حوار شفوى بينهما. والمفروض أن كلا منهما قد اطلع، من خلال المناقشات الشفوية، على ما فى ضمير الآخر وعرف ما يجنه من أفكار وآراء، وأدرك أنه من الصعوبة بمكان، إن لم يكن من الاستحالة فى ظل الظروف القائمة آنذاك، أن يتنازل عن شىء من هذه الأفكار أو الآراء، وإلا لكان قد ظهر فى خلال النقاش أنه مستعد لهذا التغيير، إن لم يكن قد تغير فعلا، وعندئذ لا داعى لكتابة مثل هذه الرسائل لأنها ستكون فى هذه الحالة "تطبيلا فى المطبَّل" كما يقولون فى الريف عن المسحِّراتى الذى يترك الأحياء التى لم يضرب طبلته فيها ويعيد التطبيل فى تلك التى سبق أن طبّلها وأيقظ سكانها ليتناولوا سَحُورهم، فما بالنا إذا كان الأمر يتعلق بالعقائد والأديان؟
2- الثانية هى ما قدم به الناشرون لهاتين الرسالتين، فقد قالوا: "في القرن التاسع الميلادي، في زمن الخليفة (العباسى) عبد الله المأمون (سنة 247هـ و861م)، كتب مسلم تقي هو عبد الله بن إسماعيل الهاشمي رسالة لصديق له مسيحي، هو عبد المسيح بن إسحق الكِنْدي، يدعوه فيها إلى الإسلام. وكان عبد الله معروفًا بالتقوى وشدة القيام بفروض الإسلام، كما كان عبد المسيح مشهورًا بتقواه وتمسّكه بالمسيحية، كما كان في خدمة الخليفة مقرَّبًا إليه. وقد ذكر الرسالتين أبو ريحان محمد بن أحمد البيروني في كتابه: "الآثار الباقية عن القرون الخالية". وقد قيل إن أمر الرسالتين بلغ الخليفة المأمون، فأمر بإحضارهما وقُرِئتا عليه. فلم يزل ناصتًا حتى جاء إلى آخرهما فقال: ما كان دعاه إلى أن يتعرض لما ليس من عمله حتى أجاز كتاف نفسه؟ فأما النصراني فلا حُجّة لنا عليه، لأن الأمر لو لم يكن عنده هكذا لما أقام على دينه. والدين دينان: أحدهما دين الدنيا، والآخر دين الآخرة. أما دين الدنيا فالدين المجوسي وما جاء به زرادشت، وأما دين الآخرة فهو دين النصارى وما جاء به المسيح. وأما الدين الصحيح فهو التوحيد الذي جاء به صاحبنا، فإنه الدين الجامع الدنيا والآخرة". وجاء فى ذلك التقديم أيضا: "كان في زمن عبد الله المأمون أحد نبلاء الهاشميين، وأظنه من ولد العباس، قريب القرابة من الخليفة، معروفٌ بالنسك والورع والتمسك بدين الإسلام وشدة الإغراق فيه والقيام بفرائضه وسننه، مشهور بذلك عند الخاصة والعامة. وكان له صديق من الفضلاء ذو أدب وعلم، كِنْدي الأصل مشهور بالتمسك بدين النصرانية، وكان في خدمة الخليفة وقريبًا منه مكانًا. فكانا يتوادّان ويتحابان ويثق كل منهما بصاحبه وبالإخلاص له. وكان أمير المؤمنين المأمون وجماعة أصحابه والمتصلون به قد عرفوهما بذلك، وهما عبد الله بن إسماعيل الهاشمي، وعبد المسيح بن إسحق الكِنْدي". وهو نفس ما قاله ناشرو الطبعة الإنجليزية لرسالة الكندى سنة 1887م، تلك الطبعة التى قدم لها وليام موير أحد عتاولة الاستشراق فى عصره. وهذا نص ما كتبوه على الغلاف الخارجى: "THE APOLOGY OF AL KINDY, WRITTEN AT THE COURT OF AL MÂMÛN (Circa A.H. 215; A.D. 830), IN DEFENCE OF CHRISTIANITY AGAINST ISLAM. With an essay on its Age and Authorship read before the Royal Asiatic Society by SIR WILLIAM MUIR, K.C.S.I. LL.D. D.C.L.; PRINCIPAL EDINBURGH UNIVERSITY; AUTHOR OF "THE LIFE OF MAHOMET," "ANNALS OF THE EARLY CALIPHATE," ETC. SECOND EDITION. PUBLISHED UNDER THE DIRECTION OF THE TRACT COMMITTEE. LONDON: SOCIETY FOR PROMOTING CHRISTIAN KNOWLEDGE, NORTHUMBERLAND AVENUE, CHARING CROSS, W.C.; 43, QUEEN VICTORIA STREET, E.C. 26, ST. GEORGE''S PLACE, HYDE PARK CORNER, S.W. BRIGHTON : 135, NORTH STREET. NEW YORK: E. & J. B. YOUNG & CO. 1887"
وهذا كلام لا يدخل عقل صبى ولا امرأة عجوز مخرفة، لأنه لو كان هذا الهاشمى وذلك الكندى معروفين على النحو الذى يذكره التقديم لكانت كتب التراث امتلأت بخبر تلك المناظرة، وبخاصة أن النصرانى قد نال فيها من الرسول والعرب والمسلمين نَيْلاً وقحًا شنيعًا بخلاف ما زعمه وليام موير فى ص 16 من مقدمة النشرة الإنجليزية للرسالة من أن الكندى إنما تحدث عن الرسول باحترام مع تفنيده ادعاءات محمد بعنف، وانتقاده الإسلام بمنتهى القسوة. وهذا نص كلامه كما جاء فى الأصل الإنجليزى: "While our Apologist speaks respectfully of the person of Mahomet, he vigorously denounces his claims as a prophet, and attacks the whole system of Islam with uncompromising severity "، وهو كلام كاذب، فقد قال الكندى عن رسول الله عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليمات مثلا مخاطبا الهاشمى: "صاحبك أعرابي جلْف، فخَطَر خاطرٌ في قلبه فسجَعه بلسانه وصار به إلى قومٍ بَدْوٍ فتقرَّب به إليهم، وهم يشهدون في كتابهم أن الأعراب أشدّ كفرًا ونفاقًا"، وهذا مجرد مثال ليس إلا. نعم لو كان هذا الهاشمى وذلك الكندى معروفين على النحو الذى يذكره التقديم لكانت كتب التراث امتلأت بخبر تلك المناظرة، ولكان انبرى للرد على الكندى الوقح السافل وتطيين عيشته وعيشة أهله كثير من الكتاب. وهذا إن سكتت السلطات أصلا عن هذه السفاهة والسفالة ولم تؤدّبه الأدب الشرعى الذى ينبغى أن يتلقاه كل مجرم زنيم. أما أن يصمت الجميع ويكفأوا على الخبر ماجورا فهذا ما لا يمكن أن يكون، وبخاصة أن هناك كتبا كثيرة جدا فى الأدب الجدالى حبرتها يراعات المفكرين المسلمين كالجاحظ وابن حزم والقرطبى والغزالى والجوينى وابن تيمية، فضلا عن أحبار اليهود وقساوسة النصارى الذين أسلموا ولم يعتّموا أن أَدْلَوْا هم أيضا بدلوهم بوصفهم من أهل البيت العارفين بخباياه المطلعين على أسراره، الجديرين بأن تكون كلمتهم أشد وقعا وأصوب للهدف. فكيف يمكن أن نتخيل سكوت الكتّاب ورجال الحاشية المأمونية عن الرد على ذلك العلج السفيه؟ أو كيف يمكن أن نصدق أن المأمون، سيد العالم فى وقته، قد علم بأمر هذه الرسالة وسكت عن سفالة الكافر المجرم التى سوّدها فلم يسوِّد عيشته لو كان له وجود حقيقى، ولم تكن الرسالتان منسوبتين زورا لشخصين لم يكن لهما حقيقة، وإنما كتبهما شخص آخر لم يصرح باسمه، ولم يكن يعيش فى عصر المأمون بتاتا كما سوف يتبين بعد قليل؟ بل كيف يمكن أن نصدق تسمية المأمون لرسول الله بـــ"صاحبنا" فى قوله: "وأما الدين الصحيح فهو التوحيد الذي جاء به صاحبنا"! إن هذا لهو المستحيل بعينه!
ذلك أن كاتب الرد المعلن هو شخص اسمه "عبد المسيح بن إسحاق الكندى"، كان قد تلقى رسالة من شخص مسلم يدعى: "عبد الله بن إسماعيل الهاشمى"، فكتب ردا عليها نال فيها من العرب والرسول والإسلام نيلا تجاوز كل الحدود، ولم يترك شيئا فى الإسلام دون أن يتناوله بالتحقير، وهذا الـ"عبد المسيح" لا وجود له فى كتب التراث بأى حال، اللهم إلا إشارة عارضة فى كتاب البيرونى: "الآثار الباقية عن القرون الخالية" ذكر فيها شيئا المفروض أن الكندى قد قاله فى كتابه عن الصابئة، وهذا كل ما هنالك. أمّا مَنِ الكندى هذا فلا أحد يعرف، حتى لقد ظن المستشرق ساخاو (ناشر الطبعة الإنجليزية من كتاب البيرونى: "الآثار الباقية عن القرون الخالية" عام 1879م بعنوان "The Chronology of Ancient Nations") أنه هو الكندى الفيلسوف، وهذا موجود فى الملاحظات الملحقة فى آخر الكتاب (الملاحظة رقم 187 الموجودة فى صفحة 419 على وجه التحديد)، وإنْ علّق وليام مُوِير (ص 6 من مقدمته لترجمة الرسالة المنسوبة للكندى) بأن ذلك غير ممكن لأن الكندى الفيلسوف كان مسلما لا نصرانيا، ومن ثم لا يُعْقَل أن يكون هو كاتب الرسالة التى تهاجم الإسلام وتنتصر للنصرانية.
ومع هذا فإن لويس شيخو الكذاب، وهو معروف بوقاحته وجمود وجهه وغِلَظ جلده حتى لقد جعل كل شعراء الجاهلية الوثنيين نصارى مما أثار عليه بلديّه الكاتب اللبنانى النصرانى الساخر مارون عبود فتهكم على هذا التعميد العجيب الذى يُسْتَخْدَم فيه الحبر بدلا من الماء، هذا الـ"شيخو" الكذاب يمضى فى الغَىّ والتنطع فيزعم أن الكندى كاتب الرسالة هو فعلا الكندى الفيلسوف المعروف، ثم يتمادى فى بطلانه قائلا إنه نصرانى وإن أباه كان يتولى الكوفة للمهدى والرشيد الخليفتين العباسيين، وكأن من الممكن أن يتولى نصرانى فى تلك الأيام ولاية فى الدولة الإسلامية، فضلا عن أن تكون تلك الولاية هى الكوفة التى تقع قريبا من دست الحكم فى بغداد. ومع هذا كله لا يكتفى المتنطع بذلك، بل يضيف أن عبد المسيح بن إسحاق هو من أنسباء هذا الفيلسوف يعقوب بن إسحاق. فانظر، بالله عليك أيها القارئ، لهذه البجاحة التى لا مثيل لها فى الأولين والآخرين، وتعجب ما حلا لك التعجب، فلن تقضى من ذلك العجب حتى لو ظللت تتعجب إلى يوم الدين! ولو كان الكندى الفيلسوف رجلا نكرة، أو كان عليه خلاف كأن يكون نصرانيا هو أو أبوه مثلا ثم أسلم، إذن لكان هناك بعض العذر لشيخو الكذاب، أما أن يكون الكندى مسلما من سلالة مسلمين فى سلسلة طويلة تمتد راجعة فى التاريخ إلى عصر النبى عليه السلام بحيث يكون جده البعيد صحابيا من صحابة رسول الله، فهذا ما يقطع كل عذر لذلك الكذاب الذى لا يعرف وجهه شيئا اسمه الحياء. وهذا يعطيك فكرة عن الأساليب المداورة التى يلجأ إليها هؤلاء القوم الذين مرودوا على التحريف والتكذيب والتزييف طَوَال تاريخهم، وبالذات بعد أن جاء رسول الله بالإسلام، نكايةً منهم فيه صلى الله عليه وسلم وفى دينه، وهيهات! ولنلاحظ كذلك أن شيخو لم يذكر لنا من أين استقى ما قاله عن عبد المسيح ذاك، وهذا أمر طبيعى، فهو من بُنَيّات خياله السقيم ليس إلا، إذ ليس لذلك الرجل ذكر فى كتب التراث كما قلت آنفا.
وهذا نص ما كتبه شيخو الكذاب فى كتابه: "مجانى الأدب فى حدائق العرب" عن الكندى الفيلسوف: "هو يعقوب بن إسحاق الكندي النصراني. وكان شريف الأصل بصريًا، وكان أبوه إسحاق أميرًا على الكوفة للمهدي والرشيد. ويعقوب هذا أوحد عصره في فنون الآداب، وشهرته تغني عن الأطناب. وكان له اليد الطولى بعلوم اليونان والهند والعجم متفننًا عالمًا بالطب والمنطق وتأليف اللحون والهندسة والهيئة والفلسفة، وله في أكثر هذه العلوم تآليف مشهورة. ولم يكن في العرب من اشتهر عند الناس بمعاناة علم الفلسفة حتى سموه: "فيلسوفًا" غير يعقوب. وكان معاصرًا لقسطا بن لوقا الفيلسوف البعلبكي النصراني، واستوطن بغداد وأخذ عن أبي معشر البلخي. ومن أنسباء يعقوب هذا عبد المسيح بن إسحاق الكندي، وله رسالة مشتهرة فنّد فيها اعتراضات ابن إسماعيل الهاشمي على النصرانية ذكرها أبو الريحان البيروني في تاريخه". والحق أن هذا الكذاب يكذب تلك الكذبة البلقاء البجحة دون خجل، فالكندى الفيلسوف مسلم لم يقل أحد قط إنه نصرانى غيره، علاوة على أن المهدى والرشيد لا يمكن أن يوليا نصرانيا ولاية، فضلا عن أن تكون ولاية الكوفة. كما أن عبد الله الهاشمى كان بعد المأمون بزمن طويل، وهو ما سنعرفه بعد قليل كما قلنا، فلا شأن له بذلك الخليفة إذن!
وفى "الفهرست" لابن النديم نقرأ فى ترجمة الكندى الفيلسوف ما يلى: "هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق بن الصباح بن عمران بن إسماعيل بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي بن معدي كرب بن معاوية بن جبلة بن عدي بن ربيعة بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن كندة وهو ثور بن مرتع بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن الهميسع بن زيد بن كهلان بن سبا بن يشجب بن يعرب، فاضل دهره وواحد عصره في معرفة العلوم القديمة بأسرها، ويسمى: فيلسوف العرب. وكتبه في علوم مختلفة مثل المنطق والفسفة والهندسة والحساب والأرثماطيقى والموسيقى والنجوم وغير ذلك. وكان بخيلا، إنما وصلنا ذكره بالفلاسفة الطبيعيين إيثارًا لتقديمه لموضعه في العلم. ونحن نذكر جميع ما صنفه في سائر العلوم إن شاء الله تعالى"، فهو مسلم بن مسلم بن مسلم بن مسلم، أى مسلم أصيل فى الإسلام كما هو واضح.
وفى "القانون فى الطب" لابن سينا نقرأ عن الكندى أيضا: "يعقوب بن إسحاق الكندي فيلسوف العرب وأحد أبناء ملوكها. وكان أبوه إسحاق بن الصباح أميرًا على الكوفة للمهدي وللرشيد. وليعقوب بن إسحاق الكندي من الكتب: كتاب الفلسفة الأولى فيما دون الطبيعيات والتوحيد. كتاب الفلسفة الداخلة والمسائل المنطقية والمعتاصة وما وافق الطبيعيات. رسالة في أنه لا تُنَال الفلسفة إلا بعلم الرياضيات. كتاب الحث على تعلم الفلسفة. رسالة في كمية كتب أرسطوطاليس. كتاب في قصد أرسطوطاليس في المقولات. رسالته الكبرى في مقياسه العلمي، وغيرها كثير".
وفى "طبقات الأطباء" لابن أبى أصيبعة: "يعقوب بن إسحاق الكندي فيلسوف العرب وأحد أبناء ملوكها، وهو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق بن الصباح بن عمران بن إسماعيل بن محمد بن الأشعث بن قيس بن معدي كرب بن معاوية بن جبلة بن عدي بن ربيعة بن معاوية الأكبر بن الحرث الأصغر بن معاوية بن الحرث الأكبر بن معاوية بن ثور بن مرتع بن كندة بن عفير بن عدي بن الحرث ابن مرة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وكان أبوه إسحاق بن الصباح أميرًا على الكوفة للمهدي والرشيد، وكان الأشعث بن قيس من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم، وكان قبل ذلك ملكًا على جميع كندة، وكان أبوه قيس بن معدي كرب ملكًا على جميع كندة أيضًا عظيم الشأن، وهو الذي مدحه الأعشى، أعشى بني قيس بن ثعلبة، بقصائده الأربع الطوال التي أولاهن: "لعمرك ما طول هذا الزمن". والثانية: "رحلت سمية غدوة أجمالها". والثالثة: "أأزمعت من آل ليلى ابتكارا؟". والرابعة: "أتهجر غانية أم تلم؟". وكان أبوه معدي كرب بن معاوية ملكًا على بني الحرث الأصغر بن معاوية في حضرموت، وكان أبوه معاوية بن جبلة ملكًا بحضرموت أيضًا على بني الحرث الأصغر، وكان معاوية بن الحرث الأكبر وأبوه الحرث الأكبر وأبوه ثور ملوكًا على معبد بالمشقر واليمامة والبحرين. وكان يعقوب بن إسحاق الكندي عظيم المنزلة عند المأمون والمعتصم وعند ابنه أحمد، وله مصنفات جليلة ورسائل كثيرة جدًّا في جميع العلوم".
وفى "أخبار العلماء" للقفطى: "يعقوب بن إسحاق بن الصباح بن عمران بن إسماعيل بن محمد بن الأشعث بن قيس بن معدي كرب بن معاوية بن جبلة بن عدي بن ربيعة بن معاوية الأكبرين الحارث الأصغر بن معاوية بن الحارث الأكبر بن معاوية بن ثور بن مرقع بن كندة بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كيلان ابن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، أبو يوسف الكندي المشتهر في الملة الإسلامية بالتبحر في فنون الحكمة اليونانية والفارسية والهندية، المتخصص بأحكام النجوم وأحكام سائر العلوم، فيلسوف العرب وأحد أبناء ملوكها. وكان أبو إسحاق بن الصباح أميرًا على الكوفة للمهدي والرشيد، وكان جده الأشعث بن قيس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قبل ذلك ملكًا على جميع كندة، وكان أبوه قيس بن معدي كرب ملكًا على جميع كندة أيضًا عظيم الشأن وهو الذي مدحه أعشى قيس بقصائده الأربع الطوال...".
فهذا نسب الكندى، وهو كما ترى نسب معروف ليس عليه أدنى خلاف، ومظنّة أن يكون شيخو جاهلا بهذا النسب مستحيلةٌ تمام الاستحالة، فهو من مؤرخى الأدب العربى، علاوة على أنه يعرف والد الكندى وعمله وولايته على الكوفة أيام المهدى والرشيد، بما يدل على أنه يعرف كل شىء عن الرجل بما فى ذلك نسبه، لأن كلام المؤرخين عن والد الكندى إنما ورد فى تضاعيف الكلام عن نسبه كما رأينا. فتأمل أيها القارئ هذه الأساليب القذرة التى يلجأ إليها بعض الناس فى حربهم ضد الإسلام، ثم يرمون المسلمين بعد هذا بكل بجاحة بعيوبهم هم، ولا يخجلون!
وكى يتبين القارئ كم كان شيخو الكذاب مُلِمًّا بالتراث العربى الإلمام الذى يستحيل معه أن يكون على جهل بدين رجلٍ كالكندى الفيلسوف الذى طارت شهرته فى الآفاق حتى لقد سَمَّوْه: "المعلّم الثانى" بعد أرسطو المعلم الأول ننقل له النص التالى فى التعريف بشيخو، وهو بقلمه لا بقلم أحد آخر، إذ قال معرفا بنفسه فى كتابه: "تاريخ الآداب العربية": "الأب لويس شيخو مدير مجلة المشرق، له مصنفات مختلفة منها دينية ولاهوتية كالبرهان الصريح في لاهوت السيد المسيح، ومجموعة مقالات دينية لقدماء كتبة النصرانية، وتراجم بعض القديسين كالقديس يوحنا الدمشقي والقديس بطرس كانيزيوس والطوبوي بلرمينوس، وأولياء الله في لبنان، والتعبد لطفولية السيد المسيح. ومنها جدالية كالأناجيل القانونية وأناجيل الزور، ومحاورات جدالية، وردود مختلفة على التنير، والمجلات الوطنية، وكشف أسرار الشيعة الماسونية. ومنها فلسفية كمجموعة مقالات فلسفية لقدماء الفلاسفة، ومقالات في النفس، والضمير والتساهل الديني، والألفاظ السحرية. ومنها كتابية في شرح مشاكل واردة في الأسفار المقدسة وتفنيد آراء فاسدة فيها. ومنها تاريخية كبيروت أخبارها وآثارها وكتاريخ جزيرة العرب حاضرًا، وتاريخ الحرب الكونية، وتاريخ النصرانية وآدابها في عهد الجاهلية، وتاريخ الآداب العربية في القرن التاسع عشر وفي الربع الأول من القرن العشرين، والمخطوطات العربية لكتبة النصرانية، وتاريخ أساقفة طور سينا، وتاريخ الطباعة في الشام وفلسطين والعراق، ووصف مخطوطات المكتبة الشرقية (خمسة أجزاء)، وتاريخ الرهبانية اليسوعية، والطائفة المارونية، وتاريخ النهضة الأدبية في حلب، وتاريخ القصادة الرسولية في الشام، وابن العبري تاريخه وآثاره. ونشر من التواريخ تاريخ بيروت وأمراء الغرب لصالح بن يحيى، وتاريخ شاكر بن الراهب، وتاريخ سعيد بن بطريق مع ملحقه لسعيد بن يحيى الإنطاكي، وتاريخ محبوب المنبجي، وتاريخ طبقات الأمم لأبي القاسم صاعد الأندلسي، وتاريخ حوادث لبنان ودمشق سنة 1860. وله في اللغة كتاب نزهة الطرف في مختصر الصرف، والوسائل لترقية اللغة العربية واللغة العامية بازاء اللغة الفصيحة. ونشر من كتب اللغة الألفاظ الكتابية للهمذاني، وفقه اللغة للثعالبي، وتهذيب الألفاظ لابن السكيت، وكتاب الكتاب لابن درستويه، والبلغة في شذور اللغة، وغراماطيق عربي في اللاتينية مع منتخبات ومعجم. وفي الأدبيات الشعرية كتاب شعراء النصرانية في عهد الجاهلية ثم بعد الإسلام، ونشر دواوين الخنساء والخرنق والسمؤل والمتلمس وسلامة بن جندل وأبي العتاهية ومراثي شواعر العرب وحماسة البحتري. وله في الأدبيات النثرية والمنتخبات ترقية القارئ، ومرقاة المجاني، ومجاني الأدب مع شروحه، وأطرب الشعر وأطيب النثر، والأحداث الكتابية، والتشابيه النصرانية في شعراء الجاهلية، وأطيب الفكاهات في أربع روايات، وروضة الأحداث في أطايب الأحداث، ونشر منها كليلة ودمنة عن أقدم نسخة مؤرخة، وكتاب فضائل الكلاب لابن المرزبان، وقانون وزارة بني عثمان أصاف نامه. وله أسفار وسياحات شتى كسفره من بيروت إلى الهند وأسفاره إلى حمص وحماة وحلب ودمشق وجبيل مع ذكر آثار كل مدينة. وكتب فنية كمقالة الضوء لأرسطو، والآلات المنغمة لمورستوس، والآلات المزمرة لبني موسى، والمكحلة للصقلي.
أما بالنسبة لعبد الله بن إسماعيل فنقرأ فى "تاريخ الإسلام" للذهبى تحت عنوان "وفاة الهاشمي خطيب جامع المنصور": "وفيها (أى فى سنة 350 هـ) تُوُفِّيَ أبو جعفر عبد الله بن إسماعيل الهاشمي خطيب جامع المنصور، وكان ذا قعدد في الأبوة، فإنه في طبقة الواثق، إذ هو عبد الله بن إسماعيل بن إبراهيم بن عيسى بن المنصور أبي جعفر". وفى "النجوم الزاهرة" لابن تغرى بردى أيضا أن عبد الله بن إسماعيل هذا توفى سنة 350هـ، وأنه كان خطيبا لجامع المنصور مثل أبيه، وأنه كان من بنى العباس، وفى طبقة هارون الواثق فى علو النسب. فإذا عرفنا أن المأمون وُلِد سنة 170هـ، ومات سنة 218هـ، تبين لنا أن بينه وبين الهاشمى هذا أكثر من قرن. ويبدو أن هذا الهاشمى كذلك من رواة الحديث، إذ ورد نفس الاسم فى عدد من روايات أسباب النزول فى كتاب الواحدى، وفى سلسلة بعض الأحاديث فى كتاب "سير أعلام النبلاء" للذهبى مثلا. ومع ذلك فإنى لا أظن أنه هو مؤلف الرسالة التى تدعو الكندى المزعوم إلى الإسلام للأسباب التى سوف يطّلع عليها القارئ فى هذا الكتاب.
3- ليس ذلك فقط، بل إن النص الذى ورد عند البيرونى واستشهد به هؤلاء المفترون الكذابون لَيدينهم إدانة باهظة، إذ هو يجرى على النحو التالى: "وكذلك حكى عبد المسيح بن اسحاق الكندى النصارى عنهم (أى الصابئة) فى جوابه عن كتاب عبد الله بن اسماعيل الهاشمى أنهم يُعْرَفون بذبح الناس، ولكن ذلك لا يمكنهم اليوم جهرا". وقد علق عليه وليام موير فى ص 17 من النشرة الإنجليزية للكتاب بأن هذا الكلام موجود فى ص 25 (وأحسبه يشير إلى نشرة جمعية ترقية المعارف المسيحية التى صدرت في لندن عام 1885م)، ونصه: "لا يكاتمون (أى الصابئة) ولا يسترون منها شيئًا غير القرابين التى يتخذونها من الناس، فإن ذبح الناس لا يتهيّأ لهم اليوم جهرًا، بل يحتالون فيه فيفعلونه سرًّا". لكن هذا الكلام، فى الواقع، غير موجود لا فى رسالة الكندى ولا فى رسالة الهاشمى الموجودتين بين يدينا الآن، فما معنى ذلك؟ معناه أن المسألة كلها مملوءة بالاضطراب وأن ما بين أيدينا من رسالة الكندى لم يكن هكذا فى الأصل، بل اعترته تغييرات، وربما لم تكن تحتوى على الكلام المنحط فى حق الرسول عليه السلام، بل هو من إضافات بعض الخنازير من المتأخرين، فضلا عن أن البيرونى لم يقل إنه رأى رسالة الهاشمى، بل كل ما هنالك أنه نقل نصا من رسالة الكندى فقط. وهكذا يتبين للقارئ الكريم أن الجريمة الكاملة لا وجود لها مهما تكن عبقرية المجرم، فما بالنا والمجرم هنا هو جنس المبشرين، وهم أكذب خلق الله، ولا يتورعون عن اللجوء إلى أخس الأساليب فى حرب الإسلام. وعلى كل فإن البيرونى هو من أهل القرن الرابع الهجرى، أى ليس كلامة حجة على أن الهاشمى والكندى كانا من معاصرى المأمون.
4- وهذا يقودنا إلى النقطة الرابعة، وهى العصر الذى عاش فيه صاحبا الرسالتين لو كانا هما فعلا الهاشمى والكندى المذكورين: فأما عبد المسيح فكل ما وجدناه عنه هو زعم لويس شيخو الكذاب أنه من أنسباء الفيلسوف الكندى المشهور الذى جعله نصرانيا دون أدنى خجل، وهو طبعا كلام مرفوض جملة وتفصيلا لمخالفته حقائق التاريخ التى لا تجرى على هوى أحد، سواء كان هذا الأحد شيخو أو ميخو أو برابيخو، بل يجب على شيخو وغير شيخو العُنُوّ لها والخضوع أمام سطوتها دون التنطع ولو بكلمة واحدة. ولو كان عبد المسيح هذا ذا وجود تاريخى حقيقى، فأين يا ترى كتاباته الأخرى مادام صاحب أسلوب وقدرة على الجدل والوقاحة بالشكل الذى تعكسه رسالته؟ إن مثله لا يمكن أن يَبِيض هذه البيضة الوحيدة ثم يصوم عن البيض إلى الأبد، بل لا بد لمثله من مواصلة التأليف والدخول مع المسلمين فى جدالات أخرى، وبخاصة أن الكتب الإسلامية فى دراسة النصرانية وتخطئتها كثيرة متنوعة، ومن شأنها أن تستفز إلى الجدال كل صاحب قلم من أهلها، فإن لم يكن عبد المسيح أحد هؤلاء الذين تستفزهم تلك الكتابات فمن يا ترى سوف تستفزه؟ كما أن مثله لن يكتفى بالكتابة فى الدفاع عن دينه، بل سوف يكتب فى شرح عقيدته وعبادات ديانته للجمهور، وكذلك سوف يكتب عن تاريخها ورجالها وما إلى ذلك. فأين تلك الكتب؟ وأما بالنسبة لذلك الهاشمى فيقول ساخاو (ص 187) إنه لا يعرف شيئا عن عبد الله بن إسماعيل هذا. وقد حاولت أنا أن أصل إلى شىء يزيل تلك الظلمات المتراكبة حوله فلم أجد أحدا بهذا الاسم إلا رجلا فى القرن الرابع الهجرى لا الثانى الذى كان يعيش فيه المأمون العباسى. وهذا الرجل هو أحد رواة الأحاديث، وكان يشتغل خطيبا لجامع المنصور ببغداد كما سلف القول. أى أن كل ما قيل عن أنه من أقرباء المأمون، وأن ذلك الخليفة قد علم بما كان بينه وبين عبد المسيح المكذوب من جدال وقرّعه على التصدى لأمر لا يحسنه هو كلام فى الهجايص، لأنه من الناحية التاريخية مستحيل تمام الاستحالة، إذ يفصل بينه وبين المأمون قرن كامل حسبما رأينا، فهل من الممكن أن يتعاصر شخصان يفصل بينهما عشرة عقود؟ إن ذلك لا يمكن أن يقع إلا فى حالة واحدة هى أن يكون زاعم ذلك أحد أتباع الكتاب الذى يجعل الابن أكبر من أبيه بعامين كما فى سفر "أخبار الأيام الثانى" حسبما يعرف ذلك كل من له أدنى اتصال بالكتاب المقدس، إذ نقرأ فيه أن عُمْر ياهورام حين تولى الملك كان اثنتين وثلاثين سنة، ثم مات بعد ذلك بثمانى سنوات، فيكون عمره حين هلك أربعين سنة، ثم بعد أقل من ثلاثة أسطر نفاجأ بكاتب السفر يقول إن ابنه أخزيا، الذى تولى الملك بعده مباشرة، كان عمره آنذاك اثنتين وأربعين سنة. وليس لهذا من معنى إلا أن الولد أكبر من أبيه بسنتين (الإصحاح/ 21/ 20، و22/ 1- 2)!
5- ثم إن مثل الهاشمى الذى كان من رجال الحديث وخطيبًا لواحد من أكبر الجوامع فى بغداد ذلك العصر المتوهج بالثقافة والفكر الإسلامى لا يمكن أن يخطئ تلك الأخطاء العجيبة التى تشتمل عليها الرسالة المنسوبة له، ومنها قوله إنه قد افتتح رسالته إلى خصمه النصرانى بالسلام عليه والرحمة تشبُّها بسيده وسيد الأنبياء محمد رسول الله لأن الثقات، كما قال، قد رَوَوْا عنه أن هذه كانت عادته، وأنه كان إذا افتتح كلامه مع الناس يبادئهم بالسلام والرحمة في مخاطبته إياهم، ولا يفرّق بين الذمّي منهم والأمي، ولا بين المؤمن والمشرك. والحق أن النبى كان، مع احترامه لجميع البشر، لا يحييهم جميعا بذات التحية. وهذا واضح من تحاياه على الأقل للملوك والزعماء غير المسلمين الذين أرسل إليهم يدعوهم إلى الإسلام، إذ كان يكتفى بقوله: "سلْمٌ أنت" أو "السلام على من اتبع الهدى" أو "السلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله"، ولم يكن يقول: "السلام عليك ورحمة الله" كما يزعم كاتب الرسالة. وهذا من الوضوح بمكان بحيث لا يسع أى مسلم له أدنى اطلاع على السيرة النبوية أن يجهله، فما بالنا بمثل ذلك العالم الجليل المنتسب للدوحة الهاشمية والماتّ بصلة القرابة إلى خلفاء بنى العباس؟
6- كذلك جاء فى رسالة الهاشمى المزعومة الحديثان التاليان منسوبين لرسول الله عليه السلام: "بُعِثْتُ بحُسْن الخلق إلى الناس كافة، ولم أُبعث بالغِلظة والفظاظة" و"محبة القريب ديانة وإيمان". وقد بحثت عن هذين الحديثين فى موسوعة الأحاديث الصحيحة والضعيفة المسماة: "تيسير الوصول إلى أحاديث الرسول" فى إصدارها التاسع المتاح بموقع "الدرر السنية"، فلم أجد لهما أى أثر لا بين الصحاح ولا بين الضعاف. بل لقد زدت فحاولت العثور على كلمة "فظاظة" أو "ديانة" فى أى حديث منسوب للرسول الكريم، صحيحا كان أو ضعيفا، فلم أوفق إلى شىء بالنسبة للكلمة الثانية، أما الأولى فلم أجدها وردت إلا على لسان اليهود فى روايةٍ منقطعةٍ ذَكَرها ابنُ كثير فى تفسيره لقوله تعالى: "من كان عدوّا لجبريل فإنه نزّله على قلبك بإذن الله..."، وهو قولهم لعمر بن الخطاب لا للرسول عليه السلام، الذى لم يكن حاضرا: "إن جبريل مَلَك الفظاظة والغلظة والإعسار والتشديد والعذاب". ولا يعقل أن يكون الرجل من رواة الأحاديث ويجهل أن ذينك الحديثين لا وجود لهما لا بين صحيح الأحاديث النبوية الشريفة ولا ضعيفها. فتأمل أيها القارئ مغزى هذه النتائج!
7- كذلك أجد من الصعوبة الصعيبة أن يقول أى مسلم فى تلك الأيام، بَلْهَ هاشميا من بنى العباس، فضلا عن أن يكون هذا الهاشمى من رواة الأحاديث وخطباء المساجد الكبار: "ويقول الله مؤكدا"، ناسبا التأكيد إلى الله سبحانه، فمثل هذه اللغة غريبة جدا جدا جدا على كتّاب تلك العصور، بل إنى لأحسبها لا تزال حتى فى عصرنا هذا غريبة كما كانت آنذاك. وبالمثل لا أخال مسلما يسمِّى كتب اليهود المعروفة بــ"العهد القديم" بــ"الكتب العتيقة"، أو كتب النصارى المعروفة بــ"العهد الجديد" بــ"الكتب الحديثة"، فضلا عن أن يسمى أى إنجيل بــ"البشارة" كما صنع الهاشمى فيما هو منسوب إليه مَيْنًا وزُورًا، دعك من أن يستخدم كلمة "سَحْق" للدلالة على الانكسار والاتضاع (لا على الشذوذ الجنسى بين النساء مرادفا لــ"السِّحَاق" كما كان يستعملها المسلمون أحيانا فى القديم)، وذلك فى حديثه عن رجال الدين النصارى و"قيامهم فيها (أى فى الأديرة) حفاة على المسوح والرماد باكين بكاءً كثيرًا متواترًا بانهمال دموع من الأعين والجفون منتحبين بسحقٍ عجيب" كما نُسِب إليه، فهذه كلها رطانة كتابية لم يكن يعرفها المسلمون وقتذاك، زيادة على ركاكة الكلام فى قوله: "قيامهم على المسوح والرماد"، إذ المسوح هى الملابس المتقشفة التى كان يليسها بعض الرهبان إعلانا عن زهدهم فى الدنيا، والرماد معروف، وهو التراب المتخلف عن النار، فما معنى أن يقوم إنسان على المسوح والرماد؟ وكيف؟ ذلك كلام غريب لا يُتَصَوَّر صدوره من عربى فى القرن الثانى أو الثالث أو الرابع الهجرى ولا فيما بعد ذلك بعدة قرون، ودعنا من أن الهاشمى لم يكن عربيا عاديًّا لا فى نسبه ولا فى ثقافته. كما أن المسلم لا يقول: "الإنجيل"، وهو يقصد الأناجيل التى كتبها (فيما يقال) متى ومرقص ويوحنا ولوقا، وأعمال الرسل ورسائلهم ورؤيا يوحنا، إذ الإنجيل فى الإسلام هو الكتاب الذى أنزله الله تعالى على عيسى لا الكتب التى كتبها بعض الناس بعد تركه عليه السلام الأرض. ومن المستحيل أن يدور فى ذهن أى مسلم أن أولئك الناس المسَمَّيْن فى العهد الجديد بــ"الرسل" والذين يدور حولهم سفر "أعمال الرسل" هم حواريّو المسيح كما جاء فى رسالة الهاشمى، ذلك أن حوارييى المسيح لا يمكن أن يكونوا كهؤلاء الناس من المثلّثين. وبالمثل لا يمكن أن يقول مسلم عالم ومن الهاشميين عن المسيح وحوارييه إنه "بعثهم إلى الأمم دُعاةً له"، لأن هذا القول يناقض ما جاء فى القرآن مرارا من أن عيسى عليه السلام إنما أُرْسِل لبنى إسرائيل ليس إلا، وهو ما أكده الرسول حين قارن بين نفسه وبين إخوانه السابقين من الرسل والأنبياء بما فيهم طبعا السيد المسيح، فقال إن كل نبى قبله كان يُبْعَث فى قومه خاصة، أما هو فبُعِث إلى الناس كافّة. كذلك من المستحيل أن يُثْنِىَ مسلم على إيمان القساوسة والرهبان من أهل التثليث وعلى عبادتهم ورهبانيتهم وهو يقرأ فى القرآن ويتلو من أحاديث الرسول أنهم كفار وأنهم قد ابتدعوا تلك الرهبانية التى حرمها الله سبحانه وتعالى لمخالفتها سنة الفطرة، بَلْهَ أن يكون المادح عالما من قرابة النبى له وزنه ومكانته، وفى وقت كان المسلمون سادة للعالم لا يحتاجون إلى المواراة والالتواء فى حديثهم إلى أهل ذمتهم.