بسم الله الرحمن الرحيم


ولد محمد صلَّى الله عليه وسلم من أسرة زاكية المعدن، نبيلة النسب، جمعت خلاصة ما في العرب من فضائل، وترفعت عما يشينهم من أوضار، قال رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) عن نفسه: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم".


وعراقة الأصل لا تمنح الرجل الفاشل فضلاً، كالصلب إذا ترك للصدأ يمسي لا غناء فيه، أما إذا تعهدته اليد الصنّاع فإنها تبدع منه الكثير.
ولذلك لما سئل النبي (صلَّى الله عليه وسلم): أي الناس أكرم؟ قال: "...فعن معادن العرب تسألوني؟" قالوا: نعم، قال: "فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا".
وكان منبت محمد (صلَّى الله عليه وسلم) في أسرة لها شأنها، بعض ما أعد الله لرسالته من نجاح. فالمجتمع العربي الأول كان يقوم على العصبيات القبلية الحادة، العصبيات التي تفنى القبيلة كلها دفاعاً عن كرامتها الخاصة، وكرامة من يمت إليها.


وقد ظل الإسلام حيناً من الدهر يعيش في حمى هذه التقاليد المرعية حتى استغنى بنفسه كما تستغني الشجرة عما يحملها بعد ما تغلظ وتستوي...
وكان "لوط" يتمنى شيئاً من هذه التقاليد، عندما أحسّ الخطر على الأضياف النازلين به، ولم يجد عشيرة تدفع أو أهلاً تهيجهم الحمية، فقال لقومه:
{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ}. ثم قال:
{لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}!!


لكن محمداً عليه الصلاة والسلام، على كرم محتده لم يرزق حظاً وافراً من الثراء، فكانت قلة ماله مع شرف نسبه سبباً في أن يجمع في نشأته خير ما في طبقات الناس من ميزات. إن أبناء البيوتات الكبيرة تغريهم الثروة بالسطوة، فإذا فقدوا هذا السلاح، وكانت لهم تقاليد كريمة بذلوا جهوداً مضنية ليحتفظوا بمكانتهم وشممهم. ولذلك يقول قائلهم:
وإنا -على عضِّ الزمان الذي بنا- نعالج من كره المخازي الدواهيا

وربما لا يرى بعض الناس حرجاً من أن يعلن فاقته ويكشف صفحته.
غير أن هناك بعضا آخر يطوون همومهم في همتهم، ثم يبرزون للدنيا مشمرين، ومن هؤلاء عبد المطلب...
كان عبد المطلب سيد مكة ، بيد أن هذه السيادة التي انتهت إليه انتهت به ولم تستقر في عقبه، إذ اشتد ساعد منافسيهم في زعامة أم القرى، وبدا كأن الأمر سيؤول إليهم. بل إنْ هي إلا أعوام حتى تصدرت أسرة عبد شمس، ثم تمر أعوام أخرى فإذا أبو سفيان يتزعم مكة ، وبذلك تنتقل السيادة عن بني هاشم.


و"عبدالله" أصغر أبناء عبد المطلب وله في قلبه منزلة جليلة، وقد زوجه بآمنة بنت وهَبْ، ثم تركه يسعى في الحياة وحده، فخرج وهو عروس بعد أشهر من بنائه بآمنة، خرج يضرب مناكب الأرض ابتغاء الرزق، وذهب في رحلة الصيف إلى الشام، فذهب ولم يعد... عادت القافلة تحمل أنباء مرضه، ثم جاء بعد قليل نعيه.
وكانت آمنة تنتظر رجلها الشاب الجلد لتهنأ بمحياها معه؛ ولتشعره بأن في أحشائها جنيناً يوشك أن تقر به عينهما؛ غير أن القدر-لحكمة عليا- حسم هذه الأماني الحلوة، فأمست الزوج المحسودة أيِّماً.
تعد الليالي لتودع الحياة الموحشة "يتيمها" الفريد...
قال الزهري: أرسل عبد المطلب ابنه عبدالله إلى المدينة يمتار لهم تمراً فمات بها، وقيل بل كان بالشام، فأقبل في عير قريش ، فنزل بالمدينة وهو مريض، فتوفي بها ودفن في دار النابغة الجعدي وله خمس وعشرون سنة، وتوفي قبل أن يولد رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم).
ولد محمد صلَّى الله عليه وسلم بمكة ولادة معتادة، لم يقع فيها ما يستدعي العجب أو يستلفت النظر، ولم يمكن المؤرخين تحديد اليوم والشهر والعام الذي ولد فيه على وجه الدقة؛ وأغلب الروايات تتجه إلى أن ذلك كان عام هجوم الأحباش على مكة سنة 570م في الثاني عشر من ربيع الأول 53 ق.هـ.
وتحديد يوم الميلاد لا يرتبط به من الناحية الإسلامية شيء ذو بال؛ فالأحفال التي تقام لهذه المناسبة تقليد دنيوي لا صلة له بالشريعة.
وقد روى البعض أن إرهاصات بالبعثة وقعت قبل الميلاد؛ فسقطت أربع عشرة شرفة من إيوان كسرى؛ وخمدت النار التي يعبدها المجوس؛ وانهدمت الكنائس حول بحيرة "ساوة" بعد أن غاضت. قال البوصيري:
أبان مولده عن طيب عنصره يا طيب مبتدأ منه ومختتم

يوم تفرَّس فيه الفرس إنهم قد أنذروا بحلول البؤس والنقم

وبات إيوان كسرى وهو منصدع كشمل أصحاب كسرى غير ملتئم

والنار خامدة الأنفاس من أسف عليه؛ والنهر ساهي العين من سدم

وساء ساوة أن غاضت بحيرتها ورُد واردها بالغيظ حين ظمي

وهذا الكلام تعبير غلط عن فكرة صحيحة فإن ميلاد محمد كان حقاً إيذاناً بزوال الظلم واندثار عهده واندكاك معالمه. وكذلك كان ميلاد موسى، ألا ترى أن الله لما وصف جبروت فرعون، واستكانة الناس إلى بغيه. ثم أعلن عن إرادته في تحرير العبيد واستنقاذ المستضعفين؛ فقصَّ علينا قصة البطل ثم أعلن عن هذه الأعمال فقال: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ...}.
وقد كانت رسالة محمد بن عبدالله أخطر ثورة عرفها العالم للتحرر العقلي والمادي، وكان جند القرآن أعدل رجال وعاهم التاريخ، وأحصى فعالهم في تدويخ المستبدين وكسر شوكتهم، طاغية إثر طاغية.
فلما أحب الناس -بعد انطلاقهم من قيود العسف- تصوير هذه الحقيقة، تخيلوا هذه الإرهاصات، وأحدثوا لها الروايات الواهية، ومحمد غني عن هذا كله؛ فإن نصيبه الضخم من الواقع المشرف يزهدنا في هذه الروايات وأشباهها.
استقبل "عبد المطلب" ميلاد حفيده باستبشار وجذل، لعله رأى في مقدمه عوضاً عن ابنه الذي هصرت المنون شبابه. فحول مشاعره عن الراحل الذاهب إلى الوافد الجديد يكلؤه ويغالي به.
ومن الموافقات الجميلة أن يُلْهم "عبد المطلب" تسمية حفيده "محمداً"! إنها تسمية أعانه عليها ملك كريم! ولم يكن العرب يألفون هذه الأعلام، لذلك سألوه: لم رغب عن أسماء آبائه؟ فأجاب: أردت أن يحمده الله في السماء، وأن يحمده الخلق في الأرض، فكأن هذه الإرادة كانت استشفافاً للغيب، فإن أحداً من خلق الله لا يستحق إزجاء عواطف الشكر والثناء على ما أدى وأسدى كما يستحق ذلك النبي العربي المحمَّد (صلَّى الله عليه وسلم).


عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: "ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم؟ يشتمون مذمماً ويلعنون مذمماً وأنا محمد!".
لكن الحقيقة القاسية -برغم حفاوة الجد الحنون- باقية. فإن "محمداً" يتيم، برز إلى الدنيا بعدما غادر أبوه الدنيا . ليكن!! ولنفرض عبدالله بقي حياً!! فماذا عسى أن يفعل لابنه؟ أكان يربيه ليهب له النبوة؟. ما كان له ذلك. إن الأب عنصر واحد من عناصر شتى تتحكم في مستقبل الطفل وتحفر له في الحياة مجراه. ولو كانت النبوة بالاكتساب ما قربتها حياة الوالد شبراً فكيف وهي اصطفاء؟.
كان يعقوب حيَّاً يرزق، له شيخوخته وتجربته وحكمته؛ بل له نبوته. وقد نظر يوماً ما فلم يجد يوسف قريباً منه. إنه فقده في أخطر فترات العمر، فترة الصبا اللدن واليفاعة الغضة. ومع فساد البيئات التي احتوت يوسف فقد كان باطنه ينضح بالتقى والعفاف، كما يتقد المصباح في أعماء الليل المدلهم، فلما التقى الابن بوالده بعد لأي، رأى يعقوب ابنه نبياً صدِّيقاً...
لقد ولى عبدالله وترك ابنه يتيماً، بيد أن هذا اليتيم كان يُعدُّ من اللحظة الأولى لأمر جلل، أمر يصبح به إمام المصطفينَ الأخيار. وما الأب والجد، ما الأقربون والأبعدون، ما الأرض والسماء إلا وسائل مسخرة لإتمام قدر الله، وإبلاغ نعمة الله من اصطنعه الله.
أقبلت "آمنة" على ابنها تحنو عليه في انتظار المراضع المقبلات من البادية، يتلمسن تربية أولاد الأشراف. والأعرابيات اللاتي يقصدن مكة لهذه الغاية هن طالبات رزق ويسار. ولم يكن لمحمد أب تُرقَب عطاياه، أو غنى تغري جدواه. فلا عجب إذا زهدت فيه المراضع وتطلعن إلى غيره.
وكانت "حليمة ابنة أبي ذؤيب" من قبيلة بني سعد إحدى القادمات إلى مكة ابتغاء العودة برضيع تستعين على العيش بحضانته. ولم يرض طموحها أول الأمر طفل يتيم؛ إلا أنها لم تجد طِلْبتها واستحيت أن تعود صفر اليدين، فرجعت إلى "آمنة" تأخذ منها "محمداً".
وكانت البركة في مقدمه معها، كانت سنواتها عجافاً من قبله. فامتن الله عليها بخير مضاعف: درّت الضروع بعد جفاف، ولان العيش وأخصب، وشعرت حليمة وزوجها وولدها بأن أوبتهم من مكة كانت باليمن والغُنْم، لا بالفقر واليتم، مما زاد تعلقهم بالطفل وإعزازهم له.
وتنشئة الأولاد في البادية، ليمرحوا في كنف الطبيعة، ويستمتعوا بجوها الطلق وشعاعها المرسل، أدنى إلى تزكية الفطرة، وإنماء الأعضاء والمشاعر، وإطلاق الأفكار والعواطف.
إنها لَتعاسة أن يعيش أولادنا في شقق صغيرة من بيوت متلاصقة كأنها علب أغلقت على من فيها، وحرمتهم لذة التنفس العميق والهواء المنعش.


ولا شك أن اضطراب الأعصاب الذي قارن الحضارة الحديثة يعود -فيما يعود إليه- إلى البعد عن الطبيعة، والإغراق في التصنع. ونحن نقدر لأهل مكة اتجاههم إلى البادية لتكون عَرَصاتها الفساح مدارج طفولتهم. وكثير من علماء التربية يود لو تكون الطبيعة هي المعهد الأول للطفل حتى تتسق مداركه مع حقائق الكون الذي وجد فيه، ويبدو أن هذا حلم عسر التحقيق.

الشيخ الغزالي رحمه الله