يرد الشيخ علي كتاب لم يذكر الشيخ اسمه ولا كاتبه .. يري هذا الكاتب ان الإسلام يقوم علي تأريث العداوة ضد أهل الذمة وان سماحة الإسلام مع الأقباط يرجع الي حاجة المسلمين الي الأقباط وان الحكام المسلمين في تسامحهم خالفوا الشريعة الإسلامية وتجاهلوا أقوال الفقهاء .. وهذا الرد المفحم للشيخ محمد الغزالي رحمه الله مأخوذ من كتابه التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام

لا أريد أن أذكر اسم هذا الكتاب ولا اسم مؤلفه . وسأعرض فى فصول متتابعة لحقائق الموضوع الذى عالجه وسأكشف الغطاء عن نواحيه كلها . إن المؤلف يمثل كثيرين ممن يختبئون خلفه , ويؤزونه على متابعة نشاطه ضد الإسلام . وكتابه حلقة من سلسلة لاتخفى أطرافها ولا أهدافها . وقد اصطنع موقف الباحث المحايد , ولبس مسوح العالم المتجرد .. وانتهى من تجواله فى ثلاثة عشر قرنا على دخول الإسلام مصر إلى النقط الآتية :
أن الفتح الإسلامى غارة عربية قامت بها قبائل كانت تشتغل قديما بالسلب والنهب ? وأن العامل الديني يعتبر ثانويا إلى جانب العامل الاقتصادى . وأن هؤلاء الغزاة هم بالنسبة إلى الرومان سادة جدد . ومن ثم فهو يصفهم بأنهم محتلون ومستعمرون وأن مسلكهم فى مصر قام على استنزاف خيرها واستذلال أهلها ـ يعنى بهم الأقباط ـ . وأن الشريعة الإسلامية تقوم على تأريث العداوة ضد أهل الذمة , وتضع سياسة دائمة لإهانتهم وعزلهم عن المجتمع العام . وأن تاريخ الخلفاء والولاة من بدء الإسلام إلى العصر الأخير شاهد يصرخ بما أوقعه المسلمون من مآس ومصائب بغيرهم . وأن على الذين لم يدينوا بالإسلام أن يفقهوا الطبيعة الجافة لهذا الدين وأن يتوقعوا الصراع الدامى حين يرتبطون بعلائق مع أهله . وتدليلا على هذه النقط التى ملأ بها كتابه نقل نصوصا من القرآن بعد أن حرفها عن موضعها . ونقل كذلك وقائع من التاريخ بعد ما أبعدها عن ملابساتها . وتجاهل من نصوص الإسلام ومراحل ?تاريخه الطويل ما يدحض مزاعمه الجريئة .
واعتمد على مصادر صليبية وحوادث وهمية فى ملء أكثر من ثلاثمائة صفحة باستقراءات واستنتاجات تزود القارئ بفكرة واحدة . وهى أن الإسلام منذ ظهر وهو يعيث ـ فى مصر وفى غيرها ـ فسادا ويوسع الأقليات النازلة بأرضه نكالا واضطهادا ...! ولولا أن المؤلف يحتل وظيفة كبيرة فى هذه البلاد , ولولا أن المصطادين فى الماء العكر سيطيرون بكتابه إلى كل أفق , ولولا ثقتنا من أن الكتاب يخدم فكرة تهيىء لها وسائل شتى , ويسخر لها رجال كثيرون لتركنا هذه الخرافات تموت وحدها ويموت صاحبها معها .. بيد أننا مضطرون إلى تتبع أخطاء المؤلف وخطيئاته لفضحها واحدة بعد أخرى إحقاقا للحق وإبطالا للباطل , وقطعا لدابرالمرجفين والمفترين. بنى المؤلف فكرته كلها على أساس عجيب اقتنع به وافترض فى الناس جميعا أنهم يقتنعون به , هو أن القرآن يوصى بالتنكر لليهود والنصارى ومجافاتهم ,ورفض استخدامهم وموالاتهم والمضى فى نهبهم وسلبهم .. ويتساءل المؤلف فى ص ‘ 313
إذا لم يكن العرب فى حاجة إلى مساعدة الأقباط ,هل كانوا يتبعون معهم سياسة
التسامح؟ ‘ ثم يجيب حضرته على هذا السؤال قائلا : ‘ من الواضح أن النصرانى لم يكن هو موضع اهتمام الحكام .. ‘ لماذا ؟ لأن الإسلام يأمر بنبذه والبطش به . ومع ذلك خرق الحكام الشريعة وخرقوا نصائح الفقهاء وأبقوه فى وظيفته لأنهم كانوا فى حاجة إليه .. ولم يتذكروا الشريعة والفقه إلا إذا أرادوا البطش بالأقباط . هذا المؤلف المسكين يرى أن الإسلام قد أصدر حكما مبرما باستئصال النصارى واليهود , وأن حكام الإسلام عصوا أوامر دينهم لحاجتهم إلى كفاية أعدائهم ! أرأيت إلى هذا السخف؟ . إنه المحور الذى دار عليه الكلام فى مئات الصفحات!!
ومن أين عرف هذا الباحث الذكى أن الإسلام يقف هذا الموقف من النصارى واليهود؟
إنه عقد لذلك فصلا فى أول كتابه أورد فيه ما لديه من أدلة تحت عنوان ‘ الشريعة الإسلامية وأهل الذمة ‘ فذكر ثلاث آيات من القرآن الكريم هى : “لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين … ” “يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء … ” “كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم … ” والآيات المذكورة لا صلة لها البتة بالموضوع الذى تعرض الكاتب له . بل إننا نكاد نجزم بأنه يعرف ذلك , وأنه يحرف الكلم عن مواضعه عمدا . فهى جميعا واردة فى المعتدين على الإسلام والمحاربين لأهله ,وتنفير أفراد الأمة من معاونة خصومها واجب يتجدد فى كل عصر . وقد حدث فى عصرنا هذا ـ بل فى هذه الأيام القريبة ـ أن أصدرت الحكومة قانونا يحرم التعاون مع القوات الأجنبية . فهل يفهم من ذلك أن مصر تكن البغضاء للعالم أجمع؟ وأنها تشترى خصومته من غير مبرر؟ .. لقد قال السيد المسيح : ‘ ما جئت لألقى سلاما بل سيفا .. فهل يفهم أحد من ذلك أن رسالة المسيحية إيقاد الحروب فى الأرض , وأنها لا تحيا بين الناس إلا لسفك الدماء؟ إن هذا فهم أخرق . ونحن المسلمين لا نتهم النصرانية به , ولا نفهم من كلمة المسيح هذا المعنى الواسع للخصومة المتحدية أبدا ... ولو كان المؤلف متحريا الحق فى فهمه لنصوص الإسلام , لقرأ عشرات النصوص الأخرى بل لأكمل الآيات التى استشهد بها , ولخرج من ذلك بالحقيقة الناصعة الوحيدة التى يقررها كتاب الله .
وهى أن الإسلام يدفع عن نفسه إذا هوجم ويأمر بمسالمة من يتركونه وشأنه غيرمتعرضين لسير دعوته فى الأرض , ولا صادين أحدا عن الدخول فيها .. فإذا لمح جبارا يعوق دعوته ويهين أمته , واشتبك معه فى حروب باردة تارة ,وحامية تارة أخرى حتى يؤمن طريقه فحسب .
وننقل من كتابنا ‘ الإسلام والاستبداد السياسى تفسيرا لقوله تعالى : “لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء … ”حتى يعرف المخدوعون مبادئ الدين فى أوضاعها كما نزل بها الوحى . “


يجئ أحدهم إلى هذه الآية فيبترها عما قبلها وما بعدها .. ويفهم منها أن الإسلام ينهى نهيا جازما عن مصادقة اليهود والنصارى ويوجب قطع علائقهم ويهدد المسلم الذى يصادقهم بأنه انفصل عن الإسلام والتحق باليهودية والنصرانية والمعنى بهذا التعميم باطل . والآيات اللاحقة بهذه الآية المرتبطة بها فى موضوعها تحدد الموضوع بجلاء لا يتحمل خلطا . فالحق أن الآيات نزلت تطهيرا للمجتمع الإسلامى من ألاعيب المنافقين ومن مؤامراتهم التى تدبر فى الخفاء لمساعدة فريق معين من أهل الكتاب أعلنوا على المسلمين حربا شعواء , واشتبكوا مع الدين الجديد فى قتال هو بالنسبة له قتال حياة أو موت . فاليهود والنصارى فى هذه الآية قوم يحاربون المسلمين فعلا , وقد بلغوا فى حربهم منزلة من القوة جعلت ضعاف الإيمان يفكرون فى التحبب إليهم , والتجمل معهم فنزلت هذه الآية ونزل معها ما يفضح نوايا المتخاذلين في الدفاع عن الدين الذى انتسبوا إليه : “فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ”
ثم تستطرد الآيات فى توصية المؤمنين بتدعيم صفوفهم أمام المتربصين . والمتهجمين تطالبهم بمقاطعة المحاربين للإسلام من أهل الكتاب مسوغة هذه المقاطعة بأنها رد للعدوان . “يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا .. . ” فهل هناك ضير على دين ما إذا منع أتباعه من مصادقة الذين يتهكمون بتعاليمه ,ويسخرون من شعائره؟ …
‘ـ أما قوله تعالى : “كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ” فالآية قبلها مباشرة تشرحها كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله
إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ” والمعنى الذى لا يضطرب عاقل فى إدراكه أن المقصود بالآية هم الوثنيون المهاجمون للإسلام الناكثون بعهودهم معه . وقد أشبعنا هذا الموضوع بحثا فى كتابنا ‘ تأملات فى الدين والحياة ‘ . فكيف ساغ لهذا المؤلف أن ينقل كلاما واردا فى المشركين الناقضين للعهود زاعما أنه نزل فى أهل الذمة؟ إن هذا كذب صريح والآية الثالثة ذكر المؤلف نصفها الأول فقط لأن نصفها الثانى يكذبه . فقول الله : “لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء ” .. ثم قوله “إلا أن تتقوا منهم تقاة ” فيه إشارة بينة إلى أن الكلام قيل فى حالة حرب يطارد فيها المؤمنون وقد تضطرهم الأحوال العصيبة إلى اتخاذ وسائل النجاة , فنبهوا إلى الأ يكون ذلك على حساب إيمانهم . وقد بلغ هوس الكتاب فى اتهام القرآن بأنه يغرى بالعدوان إلى الاستشهاد بقوله تعالى : “ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ” مع أن الآية قيلت بعد غزوة ‘ أحد ‘ تعزية للنبى فى قتل أصحابه وتثبيتا للمسلمين فى كفاحهم المتعب مع المشركين .. حتى لا تكسر الهزيمة همتهم فيضعفوا أمام الوثنية العنيدة فى جزيرة العرب . ولم أر مؤلفا فقد خصائص الأمانة فى البحث والنقل والاستدلال كالخواجة الذى وضع هذا الكتاب . فقد زعم أن الشريعة سنت ‘ المبدأ الذى يشتد أحيانا على أهل الكتاب ويذلهم ( ص 52 )
وأورد من القرآن الكريم الآيات التى رأيتها - وليست لها بموضوعه صلة ـ وغض النظر عن الآيات التى توصى ببر أهل الكتاب فلم يشر إليها . ثم تجاوز السنة المطهرة فلم يعلق بشئ على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ‘ من قتل رجلا من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة وإن ريحها لتوجد من سبعين عاما ‘ . وكذلك قوله : ‘ من ظلم معاهد أو انتقصه حقه أو كلفه فوق طاقته , أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس , فأنا حجيجه يوم القيامة !. ومر على النصوص الثابتة والسوابق المقررة فى صدر الإسلام , والتى تنطق بما أفاء الدين على أهل الذمة من رعاية ووفاء ومرحمة ... فلم يكترث بشىء منها . لأن غايته من كتابه تتضح فى كل صفحة فهو يريد إهانة الإسلام وتشويه تاريخه واتهام أهله بما هم منه براء اتهامهم بالتعصب الذميم , واستئصال الأقليات التى تعيش بينهم . فإذا أعوزه الصدق للوصول إلى هذه النتيجة . ففى المعاريض والأكاذيب مندوحة على مسلك عمر نحو الذميين : إن الخليفة الراشد ‘ عمر ‘ من أعرف الحكام بطبيعة الإسلام وأدراهم بما يكنه هذا الدين للبشر جميعا من عطف وود . وإن ما يحفظه التاريخ من مسلك ‘عمر ‘ نحو البلاد المفتوحة ونحو آلها ليس موضع مراء وريبة . .. روى أبو يوسف فى كتاب الخراج أن ‘ عمر ‘ مر على قوم قد أقيموا فى الشمس فى بعض أرض الشام , فقال : ‘ ما شأن .هؤلاء؟ فقيل له : إنهم أقيموا فى الجزية ! فكره ذلك ! وقال : هم وما يعتذرون به , قالوا : يقولون : لا نجد؟ قال : دعوهم , ولا تكلفوهم ما لا يطيقون . ثم أمر بهم فخلى سبيلهم ‘ . وهذا الذى رواه أبو يوسف يوافق ما رواه مسلم فى صحيحه عن حكيم بن حزام : أنه مر بالشام على أناس من الأقباط وقد أقيموا فى الشمس وصب على رءوسهم الزيت ! فقال : ما هذا؟ قيل : يعذبون فى الخراج ! وفى رواية : حبسوا فى الجزية ! فقال هشام : أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ‘ إن الله يعذب الذين يعذبون الناس فى الدنيا ‘ . فدخل على الأمير فحدثه , فأمر بهم فخلوا . قال أبو يوسف : وحدث أن مر ‘ عمر ‘ بباب قوم وعليه سائل يسأل , وكان شيخا ضرير البصر , فضرب ‘ عمر ‘ عضده , وقال له : من أى أهل الكتاب أنت؟ فقال : يهودى : قال : فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال : أسأل الجزية والحاجة والسن . فأخذ عمر بيده , وذهب به إلى منزله وأعطاه مما وجده ! ثم أرسل به إلى خازن بيت المال وقال له انظر هذا وضرباءه , فوالله ما أنصفناه إذ أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم . إنما الصدقات للفقراء والمساكين . والفقراء هم الفقراء المسلمون , وهذا من المساكين من أهل الكتاب . ثم وضع عنه الجزية .
والعاطفة التىجاشت بالرحمة فى نفس عمر نحو هذا اليهودى البائس , نبعت من قلب متحمس للإسلام , متمسك بمبادئه , وقد كان عمر شديدا فى دين الله , ولكن الشدة التى عرف بها لا تعنى التعصب الأعمى والضغينة القاسية على المخالفين للدين من أهل الكتاب الأولين . روى الترمذى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‘ ثلاث من كن فيه نشر الله عليه كنفه , وأدخله جنته , رفق بالضعيف , وشفقة على الوالدين , و إحسان إلى المملوك
‘ . وروى يحيى بن آدم فى كتاب الخراج : أن ‘ عمر ‘ لما تدانى أجله أوصى من بعده وهو على فراش الموت بقوله : ‘ أوصى الخليفة من بعدى بأهل الذمة خيرا , وأن يوفى لهم بعهدهم , وأن يقاتل من ورائهم , وألا يكلفهم فوق طاقتهم ‘ . وقال الدكتور ا . س . ترتون ‘ مؤلف ‘ أهل الذمة فى الإسلام ‘
. وفى الأخبار النصرانية شهادة تؤيد هذا القول . وهى شهادة البطريرك
‘عيشويابه الذى تولى منصبه 647 ـ 657 هـ إذ كتب يقول : , إن العرب الذين مكنهم الرب من السيطرة على العالم يعاملوننا كما تعرفون . إنهم ليسوا بأعداء للنصرانية , بل يمتدحون ملتنا , ويوقرون قديسينا وقسيسينا , ويمدون يد المعونة إلى كنائسنا وأديرتنا .. والظاهر أن الاتفاق الذى تم بين ‘ عيشويابه ‘ وبين العرب كان لصالح النصارى , فقد نص على وجوب حمايتهم من أعدائهم , وألا يحملوا قسرا على الحرب من أجل العرب , وألا يؤذوا من أجل الاحتفاظ بعباداتهم وممارسة شعائرهم , وألا تزيد الجزية المجبية من الفقير على أربعة دراهم , وأن يؤخذ من التاجر والغنى اثنا عشر درهما , وإذا كانت أمة نصرانية فى خدمة مسلم , فإنه لا يحق لسيدها أن يجبرها على ترك دينها أو إهمال صلاتها والتخلى عن صيامها ‘ ا
. إن نصوص هذه المعاهدة التى تمت فى مطالع القرن الثالث عشر للميلاد
تنبىء عن روح التسامح الذى كان يسود بلاد الإسلام , يومئذ , على عكس ما كان يزحم بلاد المسيحية من مجازر ومخاز فى معاملة المذاهب المخالفة والأقليات الضعيفة
قال الدكتور ‘ توفيق الطويل ‘ فى كتابه ‘ قصة الاضطهاد الدينى ‘ تحت عنوان مذبحة الألبيين فى سنة" . 1209 أصدر مجلس أفيون قرارا دعا فيه القساوسة إلى مطالبة السلطة المدنية باستئصال الهرطقة وهد د البابا ‘ أنوسنت ‘ باتخاذ قرار الحرمان ضد كل أمير يرفض الاستجابة لهذه الدعوة . وبعد ستة أعوام قرر مجمع ‘ لا تران ‘ أن يقسم كل حاكم يطمع فى أن يكون فى عداد المؤمنين بأن يجاهد ما وسعه الجهاد , حتى يستأصل من إقليمه كل من تسمهم الكنيسة بالهرطقة .. ولنعد إلى الحديث عن مذبحة الألبيين . " فشا الإلحاد فى لنجيدوك على يد الألبيين من رعايا أمير تولوز , وكان هذا فى عهد ‘أنوسنت الثالث ‘ الذى بلغت البابوية على يديه أوجها . فأشار على أميرهم أن يستأصل الهرطقة من إمارته , فأبى الأمير أن يذعن لمطلبه . وعندئذ نهضت الكنيسة لإبادة الحركة وأعوانها , فأعلنت غفران كل ذنب ارتكبه من يجاهد للقضاء عليها , وصبت عذابها على أعدائها , ولو كانوا نساء أو أطفالا وتعقبتهم شنقا وحرقا و إعداما . فانظر إلى الحالة الاجتماعية فى عصر واحد بين بلدين يختلفان فى الدين . وانظر إلى حمق البابوات وضيق عطنهم وغلظة قلوبهم فى معاملة أعدائهم .! وقد تدهش إذا علمت أن الهرطقة التى تحاربها الكنيسة لم تكن إلا مقدمات اليقظة العقلية والتحرر الفكرى الذى شمل أوروبا كلها فى أواخر العصر المدرسى .. ومعاملة الإسلام لمن لا يدينون به من أهل الذمة قامت منذ العصر الأول على قاعدة أصيلة لم يثرحولها نقاش كمبدأ مشروع , ولم يضطرب تطبيقها على توالى الأزمنة , إلا فلتات شاذة لا يجوز الاكتراث بها أو الالتفات إليها . هذه القاعدة تقوم على أن " لهم ما لنا وعليهم ما علينا"
وقد استقرت الأقليات فى الشرق الإسلامى دهورا فى ظل هذا المبدأ العادل , بينما بادت الأقليات الإسلامية فى الغرب , لأنها لم تجد مثل هذه المعاملة النبيلة . ومن الأدلة الطيبة على ما كانت تسترشد به الحكومة الإسلامية فى معاملتها الذميين ما جاء فى الأمر الذى وجد بين أوراق البردى اليونانية المحفوظة فى المتحف البريطانى , وعلى الرغم من فساد قسم منها فقد جاء فى الباقى ما يلى :
‘ خوفا من الله وحفظا للعدالة والحق فى توزيع القدر المفروض عليهم ... ‘ بياض فى الأصل ‘ , رتب ناظرا يعاونه أربعة من البارزين فى كورتك لمساعدتهم فى جمع الضريبة ."كما جاء بها " ولا تجعلنا نعرف أنك قد خدمت أهل كورتك بأى صورة من الصور فى مسألة الضريبة التى كلفت بها , وأنك حابيت أو ظلمت أحدا ما فى جمعها " لا كما جاء فيها فإذا وجدت أتهم قد عاملوا أحدا بلين زائد نتيجة محاباتهم إياه أو أثقلوا عليه لكراهيتهم له , فإننا سنقتص منهم فى أشخاصهم وأملاكهم تنفيذا للشرع . ومن ثم أنذرهم وحذرهم , وأخبرهم ألا يرهقوا عاملا , وألا يحملوه ما لا يطيق , حتى لو كان بعيدا عنهم , أو ليس من زمرتهم فى جمع الضريبة , وتجب معاملة الجميع بالعدل .. إلخ " ‘ . وقد بلغ من مرونة النظام الإسلامى أن اعتبر أهل الذمة جزة من الرعية الإسلامية ‘ مع احتفاظهم بعقيدتهم ‘ . ومن ثم عقد المعاهدات الخارجية ممثلا فيها المسلمين والذميين معا كأمة متحدة . وقد روى أو يوسف فى كتاب ‘ الخراج ‘ : ‘ لما صالح عبد الله بن أبى السرح ملك
النوبة تقرر فى الصلح أنه أمان وهدنة جارية بينهم وبين المسلمين ممن جاوروهم من أهل صعيد مصر وغيرهم من المسلمين وأهل الذمة . وأخذ النوبيون على أنفسهم العهد بحماية من نزل ببلدهم أو طرقه من مسلم أو معاهد. . واستمتاع الذميين بحريتهم الدينية وضمانهم لمصالحهم العامة كان ملحوظا فى المعاهدات
التى أبرمت بينهم وبين المسلمين فى إبان الفتوحات الكبرى . و إليك نص المعاهدة التى أمضاها عمر بن الخطاب مع رسل ‘ سفر نيوس ‘ أسقف بيت المقدس كنموذج لموقفه مع المسيحيين , إذ قال ـ كما روى الطبرى ـ : ,
بسم الله الرحمن الرحيم .
هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل ‘إيلياء من الأمان . أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم , ولكنائسهم وصلبانهم , وسقيمها وبريئها , وسائر ملتها , أنه لا تسكن كنائسهم , ولا تهدم , ولا تنتقص منها ولا من غيرها , ولا من صليبهم , ولا من شئ من أموالهم , ولا يكرهون على دينهم , ولا يضار أحد منهم , ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود . وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطى أهل المدائن , وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص . فمن خرج منهم فإنه آمن
على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم . ومن أقام منهم فهو آمن وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية . ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم , ويخلى بيعهم وصلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم . ومن كان بها من أهل الأرض مما شاء منهم قعد , وعليه مثل ما على أهل ‘إيلياء ’ من الجزية . ومن شاء سار مع الروم ومن شاء رجع إلى أهله . وأنه لا يؤخذ منهم شئ حتى يحصد حصادهم . وعلى ما فى هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله , وذمة الخلفاء , وذمة المؤمنين , إذا أعطوا الذى عليهم من الجزية ‘ . وختم عمر الكتاب بتوقيعه وشهد عليه خالد بن الوليد , وعمرو بن العاص , وعبد الرحمن بن عوف , ومعاوية بن أبي سفيان
وهذا العهد الذى أبرمه ‘ عمر ‘ يتفق مع ما سنذكر بعد من وصايا النبى صلى الله عليه وسلم فى معاملة أهل الكتاب , ومع ما استقرت عليه الأوضاع فى علاقات المسلمين بغيرهم . ولكن الخواجة الأفاك افترى على ’ عمر بن الخطاب ‘ أنه كان عدو أهل الذمة , وأنه شرع لمن عنده , ولمن بعده من الولاة سنة إهانتهم وإذلالهم وهدم معابدهم وتكسير صلبانهم . وقد ذكر أن لعمر بن الخطاب شروطا تضمنها عهد , تم بينه وبين أهل سوريا نص فيه السوريون على أن ‘ لا يحدثوا بيت عبادة ولا صومعة راهب وألا يجدد ما ما تخرب من كنيسة أو دير , وألا يمنعوا المسلمين من كنائسهم أن ينزلوا بها ويطعموا فيها ثلاث ليالى ‘وألا يعلموا أولادهم القرآن
وتضمن هذا العهد المزعوم كذلك ‘ألا يتشبهوا بالمسلمين فى شىء من لباسهم قلنسوة أو عمامة أو نعلين أو فرق شعر .. إلخ ‘ وقد بحثنا عن أصل لهذه الشروط فى مصادر الفقه الإسلامى أو كتب الشريعة والسيرة والتاريخ فلم نجد لها أثرا البتة . بل ما وجدناه فى كتاب الله وفى سنة رسوله . وفى معاهدات ‘ عمر ‘نفسه يناقض هذا العهد المكذوب . وقد علق الدكتور ا . س . ترتون ‘ مؤلف ‘ أهل الذمة فى الإسلام ‘ على هذا العهد بقوله : ‘ .. فى هذا العهد نلاحظ نقاطا بالغة الغرابة , وذلك أنه لم تجر العادة أن يشترط المغلوبون الشروط التى يرتضونها ليوادعهم الغالب . أضف إلى هذا أنه من الغريب أن يحرم المسيحيون على أنفسهم تناول القرآن هم وأولادهم بأية صورة من الصور , ومع ذلك يقتبسون منه فى خطابهم للخليفة فى قولهم ـ أن يعطوا الجزية عن يدوهم صاغرون . و الأمر المستغرب من الوجهة العامة أنه عهد لم ينص فيه على اسم البلد . فلو كان صادرا عن دمشق ـ قصبة الولاية ـ لوردت الإشارة إليها . ‘ ..
ثم قال : ‘ ومن ناحية أخرى فإننا لا نجد قط عهدا مع أية مدينة من مدن الشام يشبه عهد ‘عمر ‘ هذا بحال من الأحوال إذ كلها عهود بالغة البساطة ‘ . ثم قال : ‘ .. إذا تبين لنا هذا ساورنا الشك فى نسبة العهد إلى ‘ عمر ’ .. ‘ . هذا الباحث الغربى يتشكك فى نسبة العهد إلى ’ عمر ‘ . ولكن الخواجه الجرىء على الافتراء يضع شروط ‘ عمر ‘ المزعومة فى هذا العهد على أنها بيان لموقف الشريعة الإسلامية من أهل الذمة . ومن أى كتب الشريعة نقل هذا العهد؟ من كتاب القلقشندى ‘ صبح الأعشى فى صناعة الإنشا ‘ ! ولا يعجب المرء لشىء عجبه من جرأة هذا الخواجة فى اعتبار كتب الإنشاء العربى مصادر للتاريخ . لا بل مصادر للدين نفسه . وكتاب القلقشندى ألف بعد ‘ عمر بن الخطاب ‘ بسبعة قرون . وفيه من الخيالات الأدبية والروايات الشعرية ما يعين التلاميذ على اصطناع الأساليب الحسنة . وقد نسبوا إلى ‘ عمرو بن العاص ‘ كتابا فى وصف مصر ‘ طولها شهر وعرضها عشر وترابها ذهب ... إلخ ‘ . وقد جزم الأدباء بأنه موضوع لا أصل له , كعهد عمر هذا
. أخرج أبو داود عن رجل من جهينة أن رسول الله قال : ‘ لعلكم تقاتلون قوم ا فتظهرون عليهم فيتقونكم بأموالهم دون أنفسهم وذراريهم , فيصالحونكم على صلح فلا تصيبوا منهم فوق ذلك . فإنه لا يصلح لكم . وعن العرباض بن سارية قال : نزلنا مع رسول الله قلعة خيبر , ومعه من معه من المسلمين , وكان صاحب خيبر رجلا ماردا متكبرا . فأقبل إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ! لكم أن تذبحوا حمرنا وتأكلوا ثمرنا وتضربوا نساءنا؟
فغضب رسول الله لما حدث - وقال : يا ابن عوف اركب فرسك ? ثم ناد : إن الجنة لا تحل إلا لمؤمن , وأن اجتمعوا للصلاة , فاجتمعوا , ثم صلى بهم , ثم
قام فقال : ‘ أيحسب أحدكم متكئا على أريكته قد يظن أن الله تعالى لم يحرم شيئا إلا ما فى القرآن . ألا وإني والله لقد وعظت وأمرت ونهيت عن أشياء , إنها لمثل القرآن أو أكثر . وإن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن , ولا ضرب نسائهم ولا أكل ثمارهم , إذا أعطوا الذى عليهم ’ . وحدث أن يهود خيبر ‘ أرادوا رشوة ‘ عبد الله بن رواحة ‘ , ليقلل ما يأخذه من خراج أرضهم ـ على حسب الصلح الذى تم بينهم وبين المسلمين فقال عبد الله : ‘ تطعمونى السحت؟ والله قد جئتكم من أحب الناس إلى ـ يعنى رسول الله ـ ولأنتم أبغض إلى من عدتكم من القردة والخنازير ... ولا يحملنى بغضى إياكم على ألا أعدل فيكم . فقالوا : بهذا قامت السماوات والأرض
هكذا صنع المسلمون بأهل الكتاب . وعلى هذه العدالة التامة قامت المعاهدات
صنع المسلمون بأهل الكتاب . وعلى هذه العدالة التامة قامت المعاهدات . إن رعاية الحق و إقامة العدل هما أساس الصلة التى ينشئها الإسلام مع أبناء الديانات الأخرى . وعبد الله بن وعبد الله بن رواحة يمقت اليهود أشد المقت , ولكنه يأبى أن يجور عليهم فى حكم . وقد روى عن ‘ عمر بن الخطاب ‘ أنه قال لقاتل أخيه ‘ زيد بن الخطاب " والله لا أحبك حتى تحب الأرض الدم" !
فقال الأعرابى القاتل : أفتظلمنى حقى يا أمير المؤمنين ! قال عمر : لا ! فقال الأعرابى : إنما يأسى على الحب النساء ! ومسلك ‘ عمر ‘ , ‘ وابن رواحة ‘ وغيرهما ليس إلا استجابة لقول الله تبارك وتعالى : “يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ”
فالعدالة ـ ولو مع الأعداء المبغضين ـ خلق فرغ الإسلام من توفيره فى سياسة الجماعات والأفراد . فكيف إذا كانت هذه السياسة تجاه معاهدين مسالمين؟ .