متى يعذر المخطئ؟
إذا استفرغ العالم وسعه في تحري الحق، وحسن قصده في ذلك، واتبع سبيل المؤمنين في طلب الحق من الكتاب والسنة، وكان جامعاً لآلة العلم التي تمكنه من معرفة الحق، وأخطأ في إدراك الصواب وحكم الله في نفس الأمر؛ فهذا خطؤه مغفور، بل هو مثاب على اجتهاده وتقواه، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:
«إذا اجتهد الحاكم فأخطأ؛ فله أجر» 0 (رواه البخاري (7352) ومسلم (1716) (15) وعدم وقوع الخطأ من العالم غير ممكن، ولم يدعه أحد من العلماء، لأن درك الصواب في جميع أعيان الأحكام إما متعذر أو متعسر.
قال الحافظ ابن رجب: في (الفرق بين النصيحة والتعبير) (ص20) وكلهم يعني العلماء -معترفون بأن الإحاطة بالعلم كله من غير شذوذ منه، ليس هو مرتبة أحد منهم، ولا ادعاه أحد من المتقدمين ولا من المتأخرين، فلهذا كان أئمة السلف المجمع على علمهم وفضلهم، يقبلون الحق ممن أورده عليهم؛ وإن كان صغيراً ويوصون أصحابهم وأتباعهم بقبول الحق إذا ظهر في غير قولهم 0 اهـ
لكن ينبغي أن يعلم أنه لا يلزم الشرع قول قاله عالم باجتهاده فأخطأ، وإن كان قائله من أفضل الأمة وأجلها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: في (مجموع الفتاوى) (33/41-42) ولهذا كان الصحابة إذا تكلموا باجتهادهم ينزهون شرع الرسول -صلى الله عليه وسلم- من خطئهم وخطإ غيرهم، كما قال ابن مسعود في المفوضة: (هي المزوجة بغير مهر 0انظر (المغني) (10/138) أقول فيها برأيي، فإن يكن صواباً فمن الله وإن يكون خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه. وكذلك روي عن الصديق في الكلالة، وكذلك عن عمر في بعض الأمور، مع أنهم كانوا يصيبون فيما يقولونه على هذا الوجه؛ حتى يوجد النص موافقاً لاجتهادهم، كما وافق النص اجتهاد ابن مسعود وغيره، وإنما كانوا أعلم بالله ورسوله، وبما يجب من تعظيم شرع الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يضيفوا إليه إلا ما علموه؛ وما أخطؤا فيه وإن كانوا مجتهدين قالوا: إن الله ورسوله بريئان منه اهـ
ضوابط مسائل الاجتهاد
استجدت بعض النوازل في أيامنا هذه، وهي مسائل غير منصوص عليها بعينها نصاً خاصاً، لكن لا شك أن هذه النوازل قد أحاطت الشريعة بها علماً؛ لكمالها. فالشرع له قواعد كلية ترد إليه أمثال هذه الجزئيات،
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: في (منهاج السنة) (6/139-140):" فإن الشارع نصوصه كلما جوامع، وقضايا كلية، وقواعد عامة، يمتنع أن ينص على كل فرد من جزئيات العالم إلى يوم القيامة، فلا بد من الاجتهاد في المعينات؛ هل تدخل في كلماته الجامعة أم لا؟ اهـ
ومع الأسف؛ صارت أمثال هذه النوازل سبباً في تفرق شباب الأمة عن علمائها، وصار بعض طلبة العلم يستقل بقوله في هذه النوازل مخالفاً عامة علماء الأمة الكبار المشهود لهم بالاضطلاع بالعلم، وحسن القصد، والسيرة. وإذا قيل له في ذلك! أجابك بقوله: لا إنكار في مسائل الاجتهاد!! وهذه قاعدة صحيحة، لكن الأمر ليس كما يريد هؤلاء، فثم ضوابط، وآداب لمسائل الاجتهاد:
فالأمر الأول: أن مسائل الاجتهاد موكولة
إلى أهل الاجتهاد، وهم العلماء.
قال الشاطبي: في (الموافقات) (4/167) الاجتهاد المعتبر شرعاً،
هو الصادر عن أهله الذين اضطلعوا بمايفتقر إليه الاجتهاد اهـ
الأمر الثاني: مصلحة ائتلاف الأمة على علمائها، واتفاقهم عليهم خير من شذوذ طالب العلم عنهم.
قال ابن أبي العز الحنفي: في (شرح الطحاوية) (2/534-535) وقد دلت نصوص الكتاب، والسنة وإجماع سلف الأمة أن ولي الأمر، وإمام الصلاة، والحاكم، وأمير الحرب، وعامل الصدقة،
يطاع في مواضع الاجتهاد، وليس عليه أن يطيع أتباعه في موارد الاجتهاد، بل عليهم طاعته في ذلك، وترك رأيهم لرأيه، فإن مصلحة الجماعة والائتلاف، ومفسدة الفرقة والاختلاف أعظم من أمر المسائل الجزئية اهـ
وهذا عين الفقه، فإن العلماء أحد صنفي ولاة الأمر الذين أمرنا الله بطاعتهم، وإذا لم تجب طاعتهم في النوازل، فمتى تجب طاعتهم؟!فالمسائل المنصوصة طاعتهم فيها تبع لطاعة الله ورسوله، فليتدبر اللبيب هذا الموضع. الأمر الثالث: مشاورة العلماء: وهي دليل على علم المشاور وإتباعه لأمر الله نوهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، وترك مشاورة العلماء نقص في علم المعرض عنهم.
قال ابن القيم رحمه الله: في (إعلام الموقعين) (4/256) وإن كان عنده من يثق بعلمه، فينبغي له أن يشاوره، ولا يستقل بالجواب ذهاباً بنفسه، وارتفاعاً بها أن يستعين على الفتاوى بغيره من أهل العلم!وهذا من الجهل، فقد أثنى الله سبحانه على المؤمنين بأن أمرهم شورى بينهم، وقال تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: {
وشاورهم في الأمر}، وقد كانت المسألة تنزل بعمر بن الخطاب رضي الله عنه فيستشير لها من حضر من الصحابة، وربما جمعهم وشاورهم، حتى كان يشاور ابن عباس رضي الله عنهما وهو إذ ذاك أحدث القوم سناً، وكان يشاور علياً رضي الله عنه، وعثمان، وطلحة، والزبير، وعبدالرحمن ابن عوف، وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين اهـ
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: في (سير أعلام النبلاء) (3/344)، وقال الذهبي بعده: إسناده صحيح. إن كنت لأسال عن المر الواحد ثلاثين من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-. الأمر الرابع: بعض النوازل والمسائل المستجدة، الخطأ فيها واضح بين، فلا يتجه الاعتراض على منكرها بدعوى: أن مسائل الاجتهاد لا إنكار فيها!
قال شيخنا العلامة محمد الصالح العثيمين في ورده على من جوز المظاهرات، ومنع من إنكارها بدعوى: مسائل الاجتهاد لا إنكار فيها!
قال حفظه الله: في (شريط رقم 5738) تسجيلات ابن القيم الإسلامية – الكويت.
مسائل الاجتهاد قسمان: - قسم نعلم خطأها فتنكر. - وقسم يكون الأمر فيها متردداً؛ فهذا هو الذي لا ينكر اهـ
وعلى هذا عمل سائر علمائنا الكبار ينكرون المظاهرات وأشباهها كسماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز، والشيخ العلامة الألباني، والعلامة صالح الفوزان، وغيرهم، ولا يلتفتون إلى مثل هذه الإيرادات الواهية الواهنة.
يتبع...
المفضلات