إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وَضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ



هذه الآية الكريمة جاءت في خواتيم النصف الأول من سورة آل عمران وهي سورة مدنية‏,‏ ومن أطول سور القرآن الكريم‏,‏ إذا يبلغ مجموع آياتها مائتي آية‏(200)‏ بعد البسملة‏,‏ وبذلك تأتي في المقام الثالث بعد سورتي البقرة والأعراف من حيث عدد الآيات‏.‏وقد سميت السورة بهذا الاسم لورود الإشارة فيها إلي قصة امرأة عمران‏,‏ وابنتها مريم‏,‏ وولدها عيسي ـ عليه السلام ـ ومعجزة ميلاده بغير أب‏,‏ وإلي عدد من المعجزات التي أجراها الله ـ تعالي ـ علي يديه شهادة له بالنبوة وبالرسالة‏.‏وتدور الآيات‏(1‏ ـ‏85)‏ حول حوار أهل الكتاب بينما يتناول باقي السورة عددا من أحكام التشريع ومن ركائز العقيدة الإسلامية‏.‏
هذا‏,‏ وقد سبق لنا استعراض سورة آل عمران وما جاء فيها من ركائز التشريع وأركان العبادة‏,‏ وأسس العقيدة‏,‏ والإشارات الكونية‏,‏ ونركز هنا علي الدلالات العلمية للآية التي اتخذناها عنوانا لهذا المقال‏,‏ وقبل الوصول إلي ذلك أري من الضروري إيراد رؤية المفسرين في شرح قوله تعالي‏:‏﴿إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍوَضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاًوَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ﴾ (‏آل عمران‏:96)‏
وقد أجمع المفسرون علي أن الكعبة المشرفة هي أول بيت وضع لعبادة الله في الأرض‏,‏ وإن قال السدي رحمه الله إنه أول بيت وضع علي وجه الأرض مطلقا‏,‏ ومن الثابت أن الملائكة بنته استعدادا لمقدم أبينا ادم ـ عليه السلام ـ وكانوا أول من طاف به‏,‏ ثم تهدم البيت إلي أن أمر الله تعالي ـ أبا الأنبياء إبراهيم وولده إسماعيل ـ علي نبينا وعليهما من الله السلام ـ أن يرفعا هذا البيت من قواعده‏,‏ وأن يخصصاه للطائفيين والعاكفين والركع السجود‏,‏ وأن يجعلا هذا البيت العتيق مكانا للصلاة‏,‏ وللحج والعمرة والطواف‏,‏ وقبلة للمصلين سواء العاكف فيه والباد‏.‏ وكان ذلك منذ أربعة آلاف سنة تقريبا‏(‏ أي منذ سنة‏1824‏ ق‏.‏ م‏).‏ثم تهدم البيت عدة مرات وأعيد بناؤه‏,‏ فقد جاء في أخبار مكة للفاكهي ثم للأرزقي أن البيت هدم فبنته قبيلة جرهم‏,‏ ثم هدم فبنته العماليق‏,‏ ثم هدم فبنته قريش‏(‏ سنة‏16‏ قبل الهجرة‏),‏ وبعد ذلك بناه عبد الله بن الزبير‏(‏ سنة‏64‏ هــ‏)‏ ثم الحجاج‏(‏ سنة‏74‏ هــ‏),‏ ثم السلطان مراد بن أحمد العثماني‏(‏ سنة‏1039‏ هــ‏),‏ وهو البناء الموجود حاليا بعد التوسعات الهائلة التي قامت بها حكومة المملكة العربية السعودية‏.‏
من الدلالات العلمية للآية الكريمةأولا أن الكعبة المشرفة هي أول بيت وضع للناس علي سطح الأرض‏:‏
انطلاقا من هذه الآية الكريمة‏,‏ ومن أحاديث رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ يتضح لنا أن الكعبة المشرفة بنتها الملائكة عند تمام خلق السماوات والأرض‏,‏ استعدادا لمقدم أبينا آدم ـ عليه السلام ـ وعلي ذلك فهي أول بيت بني فوق سطح الأرض علي الإطلاق‏.‏ فعن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قال‏:‏" قلت يا رسول الله‏!‏ أي مسجد وضع أول؟ قال‏:‏ المسجد الحرام‏.‏ قال‏:‏ قلت ثم أي؟ قال ثم المسجد الأقصى قلت‏:‏ كم كان بينهما؟ قال‏:‏ أربعون عاما‏,‏ ثم الأرض لك مصلي‏,‏ فصل حيث ما أدركتك الصلاة‏"(‏ سنن ابن ماجه‏).‏ونص الآية واضح الدلالة علي أن الكعبة المشرفة هي أول بيت وضع للناس‏,‏ والتعبير‏(‏ أول بيت‏)‏ لم يحدد أنه أول بيت للعبادة‏,‏ وإن كانت الكعبة المشرفة هي أول بيت عبد الله تعالي فيه علي الأرض‏,‏ وعلي ذلك فالاستنتاج أنه أول بيت بني علي سطح الأرض أقرب إلي فهم دلالة النص القرآني الكريم‏,‏ ويدعم ذلك وصف القرآن الكريم للكعبة المشرفة بوصف‏(‏ البيت العتيق‏)‏ كما جاء في سورة الحج‏(‏ آية‏29).‏
كذلك فإن التعبير القرآني‏(‏ وضع للناس‏)‏ ينفي أن يكون أحد من الناس قد بناه ابتداء‏,‏ مما يدعم القول بأن الملائكة هي التي بنت الكعبة المشرفة‏,‏ ثم تهدم هذا البيت العتيق‏,‏ وبنته أجيال من الناس ست مرات علي الأقل‏,‏ ويؤكد ذلك أن الكرامة والبركة والشرف هي للبقعة المكانية‏,‏ وليست لأحجار البناء باستثناء الحجر الأسود‏.‏ وهذا الاستنتاج مؤسس علي عدد من أحاديث رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ والتي منها مايلي‏:‏‏
*‏ "إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس"‏(‏ صحيح البخاري‏)‏‏
*‏ "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض‏,‏ لا يعضد شوكه‏,‏ ولا ينفر صيده‏,‏ ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها‏"(‏ البخاري وأحمد‏).‏‏
*‏ "إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض‏,‏ فهي حرام بحرام الله إلي يوم القيامة"‏(‏ مصنف عبد الرزاق‏)‏‏
*‏ وقال رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ فيما خطب به الناس يوم الفتح‏:‏" إن مكة حرمها الله يوم خلق السماوات والأرض‏,‏ لايحل لامريء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما‏,‏ ولا يعضد بها شجرا‏,‏ فإن أحد ترخص في قتال فيها‏,‏ فقولوا‏:‏ إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم‏,‏ وإنما أذن له ساعة من نهار‏,‏ وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها أمس"‏(‏ صحيح البخاري‏).‏‏
*‏ وقال صلوات الله وسلامه عليه‏:‏"لاتزال هذه الأمة بخير ماعظموا هذه الحرمة حق تعظيمها‏,‏ فإذا ضيعوا ذلك هلك"‏(‏ أحمد وابن ماجه‏)‏
وهذه الأحاديث النبوية الشريفة هي مذكرة تفسيرية لقول ربنا تبارك وتعالي علي لسان خاتم أنبيائه ورسله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ‏:‏ "إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين"‏
(‏النمل‏:91).‏
ثانيا‏:‏ أن اليابسة كلها نمت من تحت الكعبة المشرفة‏:‏
تفيد أحدث النتائج في دراسات علوم الأرض أن كوكبنا مر بمرحلة من تاريخه القديم غمر فيها بالماء غمرا كاملا‏,‏ فاختفت اليابسة تماما ثم فجر الله تعالي قاع هذا المحيط الغامر بثورة بركانية ظلت تلقي بحممها فوق قاع هذا المحيط الأول حتى تكونت سلسلة جبلية في وسطه تشبه مايعرف اليوم باسم حيود أواسط كل المحيطات‏,‏ وهي سلاسل من الصخور البركانية والرسوبية المختلطة‏,‏ تجري بطول أواسط المحيطات الحالية‏,‏ وتغذيها الأنشطة البركانية باستمرار‏,‏ علي فترات من النشاط والخمود حتي تظهر بعض قممها فوق مستوي سطح الماء في المحيط لتكون عددا من الجزر البركانية مثل كل من جزر هاواي‏,‏ واليابان‏,‏ والفلبين‏,‏ وإندونيسيا وغيرها‏.‏
والسلسلة الجبلية التي تكونت فوق قاع المحيط الأول الغامر للأرض ظلت تنمو بتواصل نشاطها البركاني حتى برزت أول قمة منها فوق مستوي سطح الماء فكانت أرض مكة المكرمة‏,‏ فأمر الله ـ تعالي ـ ملائكته بمباركة هذه القطعة الأولي من اليابسة وبناء الكعبة المشرفة عليها‏,‏ ولذلك قال رسول الله صلي الله عليه وسلم‏:‏‏
*‏ "كانت الكعبة خشعة علي الماء فدحيت منها الأرض"‏(‏ الهروي‏,‏ الزمخشري‏)‏
وقال عليه أفضل الصلاة وأزكي التسليم‏:‏‏
*‏ "دحيت الأرض من مكة فمدها الله تعالي من تحتها فسميت أم القرى‏"(‏ مسند الإمام أحمد‏)‏
‏*‏ وفي شرح هذين الحديثين الشريفين ذكر كل من ابن عباس رضي الله عنهما وابن قتيبة‏(‏ أرضاه الله‏)‏ أن مكة المكرمة سميت باسم أم القرى لأن الأرض دحيت من تحتها لكونها أقدم الأرض‏.‏ و‏(‏الدحو‏)‏ في اللغة هو المد والبسط والإلقاء‏,‏ وهي كلمة جامعة للتعبير عن ثورة البركان الذي يوسع من امتداد طفوحه البركانية كلما تجدد نشاطه وذلك بإلقاء مزيد من تلك الطفوح‏.‏‏
*‏ كذلك أخرج كل من الطبراني والبيهقي عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ موقوفا عليه أنه‏(‏ أي البيت الحرام‏)‏ كان أول ما ظهر علي وجه الماء عند خلق السماوات والأرض زبدة‏(‏ بفتح الزاي‏)‏ أي كتلة من الزبد بيضاء فدحيت الأرض من تحته‏.‏
وقد ظلت الثورات البركانية فوق قاع المحيط الأول تلقي بحممها حتى تعددت الجزر البركانية فيه وبدأت تتلاحم حتى وسعت من مساحة اليابسة مكونة كتلة أرضية واحدة تعرف باسم القارة الأم أو أم القارات‏(PANGAEA).‏ ثم شاءت إرادة الله سبحانه وتعالي أن يفتت تلك القارة الأم بشبكة من الصدوع إلي القارات السبع التي نعرفها اليوم‏,‏ وكانت هذه القارات أشد قربا إلي بعضها البعض من أوضاعها الحالية ثم أخذت في الانزياح متباعدة عن بعضها البعض حتى وصلت إلي أوضاعها الحالية‏.‏ ولاتزال قارات الأرض السبع في حركات مستمرة‏,‏ ولكنها حركات بطيئة لايشعر بها الإنسان وإن أمكنه قياسها‏.‏
ثالثا‏:‏ أن مكة المكرمة تمثل وسط اليابسة‏:‏
في دراسة لتحديد اتجاهات القبلة من المدن الرئيسية في العالم لاحظ الأستاذ الدكتور حسين كمال الدين ـ‏(‏ رحمه الله رحمة واسعة جزاء ما قدم‏)‏ ـ تمركز مكة المكرمة في قلب دائرة تمر بأطراف القارات السبع الحالية‏,‏ واستنتج من ذلك أن اليابسة موزعة حول مكة المكرمة توزيعا منتظما علي سطح الكرة الأرضية‏,‏ بمعني أن هذه المدينة المباركة تعتبر مركزا لليابسة‏.‏ وبمتابعة هذه النتيجة المبهرة‏,‏ وجدت انه في كل حالات اليابسة‏(‏ وهي كتلة واحدة‏,‏ وعندما تم تفتيتها إلي القارات السبع‏,‏ وعندما كانت القارات أكثر قربا من بعضها البعض‏,‏ وفي مراحل زحفها المتتالية حتي وصلت إلي أوضاعها الحالية‏)‏ كانت مكة المكرمة دائما في وسطها‏,‏ مما يؤكد أن اليابسة قد دحيت من تحتها كما ذكر رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ في أحاديثه‏,‏ وكما أشار ربنا في محكم كتابه بقوله العزيز مخاطبا خاتم أنبيائه ورسله ـ صلي الله عليه وسلم‏:‏‏
﴿‏ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِوَلِتُنذِرَ أُمَّ القُرَىوَمَنْ حَوْلَهَا﴾(‏الأنعام‏:92).‏
وقال وهو أحكم القائلين‏:‏‏
﴿‏ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِياًّ لِّتُنذِرُ أُمَّ القُرَىوَمَنْ حَوْلَهَا﴾‏(‏ الشورى‏:7)‏
وقد حاول عدد من المستشرقين اقتطاع هذين النصين الكريمين من مضمونهما وقصر تعبير‏(‏ أم القرى ومن حولها‏)‏ علي أهل مكة وبعض قري جنوب الحجاز من حولها‏,‏ واعتباره معارضا للعديد من النصوص القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي تؤكد عالمية الرسالة المحمدية الخاتمة وذلك من مثل قول ربنا تبارك وتعالي مخاطبا خاتم أنبيائه ورسله ـ صلي الله عليه وسلم‏:‏‏
﴿‏ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً﴾ (‏الأعراف‏:158)‏‏
﴿‏ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾(‏الأنبياء‏:107)‏‏
﴿‏ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًاوَنَذِيرًاوَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (‏سبأ‏:28)‏‏
﴿‏ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً﴾ ‏(‏ الفرقان‏:1)‏
‏‏ ومن مثل قول المصطفي ـ صلي الله عليه وسلم‏:‏"أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي وذكر منهن‏:‏ وكان النبي يبعث إلي قومه خاصة وبعثت إلي الناس عامة"‏(‏ البخاري‏,‏ النسائي‏)‏
وهناك من النصوص الشرعية والشواهد الحسية العديدة ما يؤكد خصوصية الحرم المكي‏,‏ وكرامته‏,‏ وشرفه والتي يمكن إيجازها في النقاط التالية‏:‏‏
(1)‏ توسط الحرم المكي الشريف من اليابسة التي تتوزع حول هذا الحرم توزيعا منتظما كما أثبت ذلك الأستاذ الدكتور حسين كمال الدين ـ رحمه الله ـ في دراسته العلمية الجادة لتحديد اتجاهات القبلة من المدن الرئيسية في العالم‏,‏ والتي نشرت في العدد الثاني من المجلد الأول لمجلة البحوث الإسلامية الصادرة بمدينة الرياض سنة‏1395‏ هــ‏/1975‏ م‏.‏‏
(2)‏ انعدام الانحراف المغناطيسي عند خط طول مكة المكرمة‏(39,817‏ شرقا‏)‏ كما ثبت في البحث المشار إليه آنفا‏.‏‏
(3)‏ وجود أركان الكعبة المشرفة الأصلية في الاتجاهات الأربعة الأصلية تماما‏.‏‏
(4)‏ تفجر عين زمزم وسط صخور نارية ومتحولة مصمطة‏,‏ وفيضانها لنحو أربعة آلاف سنة‏(‏ منذ سنة‏1824‏ ق‏.‏ م‏).‏‏
(5)‏ ثبوت الطبيعة النيزكية لكل من الحجر الأسود ومقام إبراهيم مما يثبت أنهما من أحجار السماء‏,‏ كما قرر ذلك رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ من قبل ألف وأربعمائة سنة‏.‏
هذه الحقائق لم تتوصل العلوم المكتسبة إلي شيء منها إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين‏,‏ وورودها في كتاب الله‏,‏ وفي أقوال رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ من قبل ألف وأربعمائة سنة مما يقطع بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق‏,‏ ويشهد للرسول الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة‏,‏ فصلي الله وسلم وبارك علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين‏.‏ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‏.‏