" وَلِلَّهِ المَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ "(البقرة:115)
هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت قبل منتصف سورة البقرة‏,‏ وهي سورة مدنية‏,‏ وآياتها‏(286)‏ بعد البسملة‏ وهي أطول سور القرآن الكريم علي الاطلاق‏,‏ ومقدماتها من أوائل ما نزل بعد الهجرة‏,‏ ومن الواضح أنها لم تنزل دفعة واحدة لأن منها من أواخر ما نزل من القرآن الكريم من مثل آيات تحريم الربا‏.‏
وتستهل سورة البقرة بالحروف المقطعة الثلاثة‏(‏ الم‏)‏ وقد سبق لنا مناقشة قضية المقطعات‏,‏ ولا أري حاجة الي تكرار ذلك هنا‏,‏ وبعد ذلك مباشرة يأتي التأكيد علي حقيقة أن القرآن الكريم هو كتاب الله الذي لاريب فيه‏,‏ وأنه هدي للمتقين الذين عرضت السورة الكريمة لشيء من صفاتهم‏.‏ ويدور المحور الرئيسي لسورة البقرة حول عدد من التشريعات الاسلامية التي منها ما يلي‏:‏
(1)‏ تبيان الحلال والحرام من المطاعم والمشارب‏.‏
‏(2)‏ التأكيد علي الاخلاص في العبادة ـ ومنها البر ـ دون النظر الي أشكالها ومظاهرها‏.‏
‏(3)‏ الإيمان بحقيقة الابتلاء وبضرورة الصبر عليه‏.‏
‏(4)‏ تحديد أحكام كل من القصاص‏,‏ الوصية‏,‏ الصوم‏,‏ الجهاد‏,‏ الحج‏,‏ دستور الأسرة المسلمة‏,‏ الصدقة والإنفاق في سبيل الله‏,‏ الجهاد والحث علي حب الاستشهاد في سبيل الله‏.‏
‏(5)‏ تحريم الربا بمختلف أشكاله وصوره‏,‏ والدعوة الي الصبر علي المعسر‏,‏ وبيان أحكام كل من الدين والتجارة‏,‏ والتحذير من كل من الكفار والمشركين والمنافقين ومن مؤامراتهم ومكائدهم‏.‏
كذلك ركزت سورة البقرة علي عدد من ركائز العقيدة الاسلامية التي جاء منها ما يلي‏:‏
‏(1)‏ الإيمان بالغيب ومنه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وما فيه من بعث وحشر وحساب وجزاء وخلود في حياة قادمة إما في الجنة أبدا او في النار أبدا‏.‏
‏(2)‏ اليقين بأن الكعبة المشرفة هي أول بيت وضع للناس‏,‏ وأن حرمتها مقدسة‏,‏ ولذلك جعلها الله ـ تعالي ـ قبلة للمسلمين‏,‏ وجعل الحج اليها والاعتمار بها من أجل العبادات وأعظمها عنده‏.‏ وتعاود السورة الكريمة في ختامها إلي التأكيد علي ما بدأت به من ضرورة الايمان بالغيب‏,‏ والسمع والطاعة لله ولرسوله‏,‏ وعلي مداومة الاستغفار‏,‏ وتذكير النفس بحتمية الرجوع الي بارئها‏,‏ وبحتمية الحساب والجزاء‏.‏
وقد سبق لنا استعراض سورة البقرة بشيء من التفصيل‏,‏ ونركز هنا علي الدلالة العلمية للآية رقم‏(115)‏ من هذه السورة المباركة‏,‏ وأري قبل ذلك ضرورة المرور بأقوال عدد من المفسرين في شرح هذه الآية الكريمة‏.‏

من أقوال المفسرين :
في تفسير قوله ـ تعالي ـ‏:‏ " وَلِلَّهِ المَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ " (البقرة:115) .

‏*‏ ذكر ابن كثير ـ رحمه الله ـ ما مختصره‏:...‏ وقال عكرمة‏:‏ عن ابن عباس‏"‏ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ‏" قال‏:‏ قبلة الله أينما توجهت شرقا او غربا‏,‏ وقال مجاهد‏(‏ فأينما تولوا فثم وجه الله‏):‏ حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها‏(‏ الكعبة‏).‏ وقال ابن جرير‏:‏ وقال آخرون‏:‏ بل أنزل الله هذه الآية قبل أن يفرض التوجه الي الكعبة‏,‏ وإنما أنزلها ليعلم نبيه ـ صلي الله عليه وسلم ـ وأصحابه أن لهم التوجه بوجوههم للصلاة حيث شاءوا من نواحي المشرق والمغرب‏,‏ لأنهم لايوجهون وجوههم وجها من ذلك وناحية إلا كان جل ثناؤه في ذلك الوجه وتلك الناحية‏,‏ لأن له ـ تعالي ـ المشارق والمغارب وأنه لايخلو منه مكان كما قال ـ تعالي ـ‏:" ...‏ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ‏..."(المجادلة:7),‏ وفي قوله‏:‏ وأنه ـ تعالي ـ لايخلو منه مكان‏,‏ إن أراد علمه ـ تعالي ـ فصحيح‏,‏ فإن علمه ـ تعالي ـ محيط بجميع المعلومات‏,‏ وأما ذاته ـ تعالي ـ فلا تكون محصورة في شيء من خلقه‏,‏ تعالي الله عن ذلك علوا كبيرا‏.‏
‏*‏ وجاء في الظلال ـ رحم الله كاتبه برحمته الواسعة ـ ما نصه‏:‏ فهي توحي بأنها جاءت ردا علي تضليل اليهود في ادعائهم أن صلاة المسلمين إذن الي بيت المقدس كانت باطلة‏,‏ وضائعة ولاحساب لها عند الله‏!!‏ والآية ترد عليهم هذا الزعم‏,‏ وهي تقرر أن كل اتجاه قبلة‏,‏ فثم وجه الله حيثما توجه اليه عابد‏,‏ وإنما تخصيص قبلة معينة هو توجيه من عند الله فيه طاعة‏,‏ لا أن وجه الله ـ سبحانه ـ في جهة دون جهة‏.‏ والله لايضيق علي عباده‏,‏ ولاينقصهم ثوابهم‏,‏ وهو عليم بقلوبهم ونياتهم ودواقع اتجاهاتهم‏.‏ وفي الأمر سعة‏.‏ والنية لله‏,‏ إن الله واسع عليم‏.‏

من الدلالات العلمية للآية الكريمة:
جاء ذكر المشرق والمغرب بالإفراد والتثنية والجمع في أحد عشر موضعا من كتاب الله علي النحو التالي‏:‏
أولا‏:‏ بالافراد‏:‏ وجاء ذلك في ستة مواضع من القرآن الكريم علي النحو التالي‏:‏
‏(1)‏ " وَلِلَّهِ المَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ " (البقرة:115) .
‏(2)‏ " سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُل لِّلَّهِ المَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ**"( البقرة‏:142).‏
‏(3)‏ " لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ *"(البقرة‏:177).‏
‏(4)‏ " إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ *"( البقرة‏:258).‏
‏(5)‏ " قَالَ رَبُّ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ *" (‏الشعراء‏:28).‏
‏(6)‏ " رَّبُّ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً *" ‏(‏المزمل‏:9).‏
ثانيا‏:‏ بالتثنية‏,‏ وجاء ذلك في موضعين اثنين علي النحو التالي‏:‏
‏(1)‏ " حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ القَرِينُ *" (الزخرف‏:38‏)
‏(2)‏" رَبُّ المَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ المَغْرِبَيْنِ "‏(‏ الرحمن‏:17).‏

ثالثا‏:‏ بالجمع‏,‏ وجاء ذلك بذكر المشارق وحدها مرة‏,‏ وبذكر المشارق والمغارب مرتين علي النحو التالي‏:‏
‏(1)‏ " رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ المَشَارِقِ *" ( الصافات‏:5).‏‏
(2)‏ " وَأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا " فيها‏(‏ الأعراف‏:137).‏
‏(3)‏" فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ المَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ " (‏ المعارج‏:40)‏.
من هذا الاستعراض يتضح أن للأرض مشرقا حقيقيا واحدا‏,‏ ومغربا حقيقيا واحدا يتعامد الخط الواصل بينهما علي خط الشمال ــ الجنوب الحقيقيين‏.‏ والشمال الحقيقي يحدده لنا ربنا ــ تبارك وتعالي ــ بواسطة النجم القطبي الذي يبدو ثابتا في مكانه بالنسبة للأرض‏,‏ ولا يشترك في الدوران الظاهري لقبة السماء وما بها من نجوم حول الأرض‏,‏ والناتج عن دوران الأرض حول محورها من الغرب إلي الشرق دورة كاملة كل‏(24)‏ ساعة في زماننا الراهن‏,‏ والسبب في ذلك هو أن النجم القطبي يقع علي امتداد محور دوران الأرض حول نفسها تماما‏,‏ وبذلك يحدد لنا اتجاه الشمال الحقيقي الذي يعرف باسم الشمال الجغرافي‏,‏ وامتداد ذلك إلي الجنوب يحدد لنا الجنوب الحقيقي‏,‏ ويتعامد علي خط الشمال ــ الجنوب الحقيقيين خط الشرق ــ الغرب الحقيقيين‏,‏ حيث يقع الشرق الحقيقي إلي أقصي يمين الخط المتعامد علي خط الشمال ــ الجنوب الحقيقيين‏,‏ ويقع الغرب الحقيقي أقصي يسار هذا الخط‏ .‏
ونتيجة لدوران الأرض حول محورها فإنها انبعجت قليلا عند خط الاستواء‏,‏ وتفلطحت قليلا عند القطبين‏,‏ وجعل ذلك الانبعاج عند خط الاستواء نهاية قصوي عند كل من الشرق الحقيقي والغرب الحقيقي‏,‏ وبما أن كل مشرق يتحول مباشرة إلي مغرب بمجرد غروب الشمس عنه أصبح للأرض مشرقان حقيقيان ومغربان حقيقيان‏,‏ وهما أقصي زمانين ومكانين لكل من شروق الشمس وغروبها علي أقصي بقعتين متقابلتين من بقاع الأرض تمثل كل منهما مرة أقصي الشرق‏,‏ ومرة أقصي الغرب‏.‏
وبدوران الأرض حول محورها دورة كاملة كل‏(24)‏ ساعة في زماننا الراهن يتحدد يوم الأرض الذي يتقاسمه الليل والنهار بشيء من التفاوت إلي الاعتدالين الربيعي والخريفي‏,‏ وتبادل الليل والنهار يظهر علي خط العرض الواحد بلايين المشارق والمغارب‏,‏ ويتضاعف عدد المشارق والمغارب إلي بلايين البلايين إذا تحركنا مع خطوط الطول والعرض معا‏.‏ وذلك لأن الأرض تدور حول محورها دورة كاملة أي‏(360‏ درجة‏)‏ كل‏(24)‏ ساعة وبذلك ينتقل ضوء الشمس‏(15)‏ درجة من درجات خطوط الطول في كل ساعة من الشرق إلي الغرب‏,‏ أي بمعدل‏(4)‏ دقائق لكل درجة من درجات خط الطول‏,‏ ويضاف هذا الفرق إذا كان الموقع في نصف الكرة الأرضية الشرقي‏,‏ ويطرح إذا كان في نصفها الغربي‏.‏ ويعتبر خذ الطول‏(180)‏ درجة هو الخط العالمي للتأريخ‏,‏ وباجتياز هذا الخط من الشرق إلي الغرب يتأخر الزمن يوما كاملا لأن الليل في الإسلام سابق علي النهار‏.‏ ويتعرج الخط العالمي للتأريخ شرقا وغربا عبر خط الطول‏(180)‏ درجة‏,‏ وذلك بتأثير خطوط العرض‏,‏ ويمر من مضيق بيرنج شمالا إلي شرقي جزيرة نيوزيلندة جنوبا‏.‏

والاختلاف في لحظتي شروق الشمس وغروبها في النقطة الواحدة من سطح الأرض كبير علي مدار السنة خاصة عند خطوط العرض العليا‏,‏ ويزداد ذلك عند الانتقال من خط الاستواء إلي خطوط العرض شمالا وجنوبا‏,‏ ويصبح أكبر من الانتقال علي خط العرض الواحد‏.‏ وهذه الفروق غير ثابتة علي مدار السنة مما يعدد مشارق الأرض ومغاربها إلي أرقام لا تكاد أن تدرك‏.‏
من هذا الاستعراض يتضح أن للأرض مشرقا حقيقيا واحدا ومغربا حقيقيا واحدا‏,‏ وكل منهما تتبادل عليه عمليتا الغروب والشروق‏,‏ فيصبح للأرض مشرقان ومغربان‏,‏ وإذا تحركنا من هاتين النهايتين علي خطوط الطول والعرض تضاعفت المشارق والمغارب أضعافا كثيرة‏.‏ فسبحان الذي أورد هذه الحقيقة في محكم كتابه الذي أنزله علي خاتم أنبيائه ورسله من قبل ألف وأربعمائة سنة في وقت لم يكن ممكنا للمعارف المكتسبة الوصول إلي شيء منها‏,‏ والصلاة والسلام علي هذا النبي والرسول الخاتم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‏.‏