﴿ فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين‏﴾(‏ الدخان‏:10)‏

هذه الآية القرآنية الكريمة جاءت في أوائل سورة الدخان‏,‏ وهي سورة مكية‏,‏ وآياتها‏(59)‏ بعد البسملة‏,‏ وقد سميت بهذا الإسم لورود الإشارة فيها إلي دخان السماء الذي أرسله ربنا ـ تبارك وتعالي ـ عقابا للعاصين من أهل الأرض‏,‏ أو الذي سوف يرسله كأحد العلامات الكبري للساعة فيغشي الناس في صورة من صور العذاب الأليم‏.‏
ويدور المحور الرئيسي لسورة الدخان حول عدد من ركائز العقيدة الإسلامية ـ شأنها في ذلك شأن كل السور المكية ـ مع التركيز علي ضرورة الإيمان بوحدانية الله ـ تعالي ـ بغير شريك‏,‏ ولا شبيه‏,‏ ولا منازع‏,‏ ولا صاحبة‏,‏ ولا ولد‏,‏ والإيمان بالوحي وبضرورته‏,‏ وبحتمية البعث والحساب والجزاء‏,‏ وبالخلود في الآخرة إما في الجنة أو في النار‏.‏
وتبدأ هذه السورة المباركة بالحرفين المقطعيين‏(‏ حم‏)‏ اللذين استفتحت بهما سبع من سور القرآن الكريم تجمع تحت مسمي‏(‏ الحواميم‏)‏ وهي‏:‏ غافر‏,‏ فصلت‏,‏ الشوري‏,‏ الزخرف‏,‏ الدخان‏,‏ الجاثية‏,‏ والأحقاف‏.‏
وقد سبق لنا مناقشة هذه الفواتح الهجائية وأحلنا المستفسرين عنها إلي كتاب الأستاذ الدكتور السيد عبد المقصود جعفر المعنون‏:‏ الفواتح الهجائية وإعجاز القرآن في ضوء الدراسات اللغوية الحديثة وهو من أحدث وأشمل ما كتب في هذا الموضوع‏,‏ وعليه فلا أري حاجة إلي تكرار ذلك‏.‏
وبعد هذا الاستهلال يقسم ربنا ـ وهو في علاه غني عن القسم لعباده ـ بالقرآن الكريم تشريفا له وتكريما‏,‏ مؤكدا أنه كتاب مبين‏,‏ أنزل في ليلة مباركة هي ليلة القدر الموصوفة بأنها خير من ألف شهر‏,‏ وبأنها يبرم فيها كل أمر حكيم‏,‏ ويفصل فيها كل أمر محكم‏,‏ وذلك رحمة من الله ـ تعالي ـ بعباده‏,‏ وقد أرسل اليهم الرسل‏,‏ وأنزل الصحف من أجل هدايتهم إلي الدين الحق الذي يصلح دنياهم وأخراهم‏,‏ والذي لا يمكن لهم الوصول إليه بعقولهم المجردة عن الهداية الربانية‏,‏ ثم جمع لهم كل الرسالات السابقة في القرآن الكريم الذي أكمل به الدين‏,‏ وأتم النعمة‏,‏ ورضي لعباده الإسلام دينا قائما علي التوحيد الخالص لله ـ تعالي‏,‏ رب هذا الكون ومليكه‏,‏ خالق كل شيء ومبدعه‏,‏ السميع العليم‏,‏ الذي يحيي ويميت وهو علي كل شيء قدير‏.‏
وعلي الرغم من وضوح ذلك وبيانه فإن الكفار والمشركين كانوا ـ ولا يزالون ـ في شك منه وارتياب فيه دون مبرر واحد‏,‏ عبثا وحسدا من عند أنفسهم وفي ذلك يقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ‏:‏
﴿حم‏*‏ والكتاب المبين‏*‏ إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين‏*‏ فيها يفرق كل أمر حكيم‏*‏ أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين‏*‏ رحمة من ربك إنه هو السميع العليم‏*‏ رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين‏*‏ لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين‏*‏ بل هم في شك يلعبون‏*﴾ (‏ الدخان‏:1‏ ـ‏9).‏
ثم يأتي التهديد الإلهي لكفار ومشركي قريش ـ ولجميع الكفار والمشركين في كل زمان ومكان ـ بكل من عذاب الدنيا وأهوال الآخرة وقد كذبوا ببعثة الرسول الخاتم‏,‏ واتهموه كذبا بأن بشرا يعلمه‏,‏ أو بالشعر‏,‏ والسحر‏,‏ والجنون‏,‏ وفي ذلك يقول له رب العالمين‏:‏
﴿فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين‏*‏ يغشي الناس هذا عذاب أليم‏*‏ ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون‏*‏ أني لهم الذكري وقد جاءهم رسول مبين‏*‏ ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون‏*‏ إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون‏*‏ يوم نبطش البطشة الكبري إنا منتقمون﴾‏*(‏ الدخان‏:10‏ ـ‏16).‏
وبعد ذلك تنتقل الآيات إلي التذكير بموقف فرعون وملئه من نبي الله موسي‏(‏ علي نبينا وعليه من الله السلام‏)‏ والذين آمنوا معه‏,‏ وكيف كانت نهاية هذا الطاغية المتجبر في الأرض‏,‏ وطغمته الفاسدة أن أغرقه الله ـ تعالي ـ في اليم‏,‏ إغراقا مذلا‏,‏ وفي ذلك يقول‏:‏
﴿ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم‏*‏ أن أدوا إلي عباد الله إني لكم رسول أمين‏*‏ وأن لا تعلوا علي الله إني آتيكم بسلطان مبين‏*‏ وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون‏*‏ وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون‏*‏ فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون‏*‏ فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون‏*‏ واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون‏﴾*(‏ الدخان‏17‏ ـ‏24).‏
وتلوم الآيات في سورة الدخان علي الكافرين إنكارهم لحتمية البعث‏,‏ وتتهددهم بالعذاب الذي طال الكافرين من قبلهم فتقول‏:‏
﴿إن هؤلاء ليقولون‏*‏إن هي إلا موتتنا الأولي وما نحن بمنشرين‏*‏ فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين‏*‏ أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين‏﴾*‏‏(‏ الدخان‏34‏ ـ‏37).‏
وتستشهد الآيات بخلق السماوات والأرض بالحق أي‏:‏ حسب قوانين محكمة دقيقة‏,‏ لا تتوقف‏,‏ ولا تتخلف‏,‏ ولا تتعطل إلي أن يشاء الله ـ تعالي ـ مما يدل علي طلاقة قدرته في إبداعه لخلقه‏,‏ ويؤكد حتمية البعث‏,‏ والحشر‏,‏ والحساب‏,‏ والجزاء في الآخرة‏,‏ ليتم الفصل بين الناس‏,‏ ولكن الكافرين في غفلة كاملة‏,‏ وغواية شيطانية لاتمكنهم من إدراك تلك الحقائق‏,‏ وفي ذلك تقول الآيات‏:‏
﴿وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين‏*‏ ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون‏*‏ إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين‏*‏ يوم لا يغني مولي عن مولي شيئا ولا هم ينصرون‏*‏ إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم‏﴾*(‏ الدخان‏:38‏ ـ‏42).‏
وبعد ذلك تقارن الآيات بين عذاب الآثمين من الكفار والمشركين‏,‏ والطغاة المتجبرين في الأرض وخلودهم في نار الجحيم وهو عذاب مهين‏,‏ وبين نعيم المتقين وخلودهم في جنات النعيم مقررة أن ذلك هو الفوز العظيم‏.‏
وتختتم سورة الدخان بمعاودة تكريم القرآن الكريم كما بدأت بتشريفه‏,‏ وبتكريم الرسول الخاتم الذي تلقاه‏,‏ وبتهديد كل منكر لبعثته الشريفة‏,‏ وبتحذيره من كل متربص به وبأتباعه وبالدين الذي تلقاه عن ربه الكريم‏,‏ والتحذير له ـ صلي الله عليه وسلم ـ هو تحذير لكل مؤمن به وبرسالته الخاتمة وفي ذلك تقول الآيات‏:‏
﴿فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون‏*‏ فارتقب إنهم مرتقبون‏﴾*‏‏(‏الدخان‏:59,58).‏
والآية الأولي من هاتين الآيتين الكريمتين تؤكد الحكمة من نزول القرآن الكريم باللغة العربية حتي يفهمه العرب ثم ينقلوه إلي غيرهم باللغات التي يفهمونها‏,‏ والثانية تؤكد ما سوف يحل بالكفار والمشركين من عقاب في الدنيا وعذاب في الآخرة‏,‏ كما تؤكد للرسول الخاتم واتباعه ان الكفار والمشركين متربصون بهم‏,‏ ومنتظرون ما يحل بالإسلام والمسلمين من الدوائر‏.‏
من ركائز العقيدة في سورة الدخان
‏(1)‏ الإيمان بالله ـ تعالي ـ ربا‏,‏ واحدا‏,‏ أحدا‏,‏ فردا صمدا‏,‏ بغير شريك‏,‏ ولا شبيه‏,‏ ولا منازع‏,‏ ولا صاحبة‏,‏ ولا ولد‏,‏ وأنه ـ سبحانه وتعالي ـ هو الذي ينزل الوحي‏,‏ ويرسل الرسل هداية لخلقه ورحمة بهم‏,‏ وأنه هو السميع العليم‏,‏ رب السماوات والأرض وما بينهما ورب كل شيء‏,‏ لا إله إلا هو يحيي ويميت‏,‏ وهو رب العرش العظيم‏.‏‏
(2)‏ التصديق بحقيقة الوحي بالقرآن الكريم‏,‏ وبنبوة خاتم الأنبياء والمرسلين ـ صلي الله عليه وسلم ـ وببعثة جميع الأنبياء والمرسلين‏,‏ وبأن هذا الكتاب العزيز قد أنزل في ليلة مباركة هي ليلة القدر التي يفرق فيها كل أمر حكيم‏.‏‏
(3)‏ التسليم بما جاء في القرآن الكريم من قصص الأولين‏,‏ وبما نالهم من جزاء أو عقاب من رب العالمين‏,‏ وبأن الكفار والمشركين قد أعماهم كفرهم أو شركهم عن معرفة الحق‏,‏ وهم في شكهم غارقون في ضلال مبين‏,‏ وفي عبث مشين‏.‏‏
(4)‏ الإيمان بحتمية الآخرة‏,‏ وبعلامات الساعة‏,‏ وبحقيقة البعث والنشور‏,‏ والحشر والحساب والجزاء‏,‏ والخلود إما في الجنة أبدا‏,‏ أو في النار أبدا‏;‏ وبأن من العلامات الكبري للساعة دخان السماء الذي قد يرسله ربنا ـ تبارك وتعالي ـ عذابا أليما للكفار والمشركين‏,‏ وللطغاة المتجبرين علي الخلق‏,‏ وللفسقة المفسدين في الأرض‏,‏ وبأن يوم الحساب هو يوم الفصل بين الخلائق‏,‏ وأن الآخرة لا يغني فيها مولي عن مولي إلا من رحم الله ـ تعالي‏.‏‏
(5)‏ التصديق بما جاء في القرآن الكريم من صور العذاب في الآخرة للكفار والمشركين‏,‏ ومن صور التنعيم للمؤمنين المتقين‏,‏ وبأن كلا من السماوات والأرض وما فيهما من صور المادة والطاقة والكائنات له قدر من الوعي والإدراك‏,‏ والشعور‏,‏ والانفعال‏,‏ والتعبير‏.‏
من الإشارات العلمية والحقائق التاريخية في سورة الدخان
‏(1)‏ وصف القرآن الكريم بأنه كتاب مبين‏,‏ ومدارسته بموضوعية وحيدة تثبت ان كل ما فيه حق مطلق‏.‏‏
(2)‏ الإشارة الضمنية الرقيقة إلي مركزية الأرض من الكون بالوصف القرآني الكريم رب السماوات والأرض وما بينهما‏..‏ والتي تكررت في كتاب الله عشرين مرة‏,‏ ولا يمكن لهذه البينية أن تتحقق إلا إذا كانت الأرض في مركز الكون‏.‏ وهذا التعبير القرآني الكريم يؤكد حقيقة أن الغلاف الغازي المحيط بالأرض‏(‏ في نطاق المناخ‏)‏ هو خليط من مادتي الأرض والسماء ولذلك وصف وصفا مستقلا عن كل منهما بالبينية الفاصلة بينهما‏.‏‏
(3)‏ التأكيد علي وحدة الجنس البشري‏,‏ وعلي ان الله ـ تعالي ـ هو الذي يحيي ويميت‏.‏‏
(4)‏ الإشارة إلي دخان السماء الذي يصل إلي الأرض في صورة من صور العقاب الإلهي‏,‏ أو كواحدة من العلامات الكبري للساعة‏,‏ ونحن نري اليوم نجوم السماء تتخلق من دخان السماء‏,‏ ثم تنفجر بعد انتهاء أجلها لتعود إلي دخان السماء‏.‏
وهذه العلامة إشارة إلي بدء انهدام النظام الكوني بتحول النجوم إلي دخان يصل إلي سكان الأرض كنوع من العذاب الأليم الذي توعد الله ـ تعالي ـ به العاصين من عباده‏.‏‏
(5)‏ تسجيل عدد من الوقائع التاريخية من مثل هلاك كل من قوم تبع وقد كانوا من ملوك حمير باليمن‏,‏ وفرعون وجنده وقد اغرقوا في اليم بعد مطاردتهم لنبي الله موسي ـ عليه السلام ـ والذين آمنوا معه‏.‏‏
(6)‏ التعبير ببكاء كل من السماء والأرض عن حقيقة أن كل ما في الوجود من الجمادات والاحياء‏,‏ ومن مختلف صور المادة والطاقة له قدر من الوعي‏,‏ والإدراك‏,‏ والشعور‏,‏ والانفعال‏,‏ والذاكرة‏,‏ والتعبير‏,‏ والعبادة‏,‏ والتسبيح بلغات لا يفهمها ولا يدركها إلا الله ـ تعالي ـ وآحاد من عباده الصالحين‏.‏‏
(7)‏ التأكيد علي خلق السماوات والأرض بالحق‏,‏ أي‏:‏ حسب قوانين ثابتة لا تتخلف‏,‏ ولا تتعطل‏,‏ ولا تتوقف إلا بإذن الله ـ تعالي ـ
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة خاصة بها‏,‏ ولذلك فسوف اقصر الحديث في المقال القادم إن شاء الله ـ تعالي ـ علي النقطة الرابعة من القائمة السابقة‏,‏ والتي جاءت في الآية العاشرة من سورة الدخان‏,‏ ولكن قبل ذلك لابد من الرجوع إلي اقوال عدد من المفسرين لها‏.‏
من أقوال المفسرين
في تفسير قوله ـ تعالي ـ‏:‏﴿ فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين‏*‏ يغشي الناس هذا عذاب أليم‏*‏ ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون‏﴾*(‏ الدخان‏10‏ ـ‏12).‏‏
*‏ ذكر صاحب الظلال ـ رحمه الله رحمة واسعة جزاء ما قدم ـ كلاما رائعا جاء فيه‏:‏ وقد اختلف السلف في تفسير آية الدخان‏,‏ فقال بعضهم‏:‏ إنه دخان يوم القيامة‏,‏ وإن التهديد بارتقابه كالتهديد المتكرر في القرآن‏,‏ وإنه آت يترقبونه‏,‏ ويترقبه رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ‏,‏ وقال بعضهم‏:‏ بل هو قد وقع فعلا‏,‏ كما توعدهم به‏,‏ ثم كشف عن المشركين بدعاء الرسول ـ صلي الله عليه وسلم ـ
وذكر عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قوله‏:‏( إن قريشا لما أبطأت عن الإسلام‏,‏ واستعصت علي رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ ودعا عليهم بسنين كسني يوسف‏.‏ فأصابهم من الجهد والجوع حتي أكلوا العظام والميتة‏,‏ وجعلوا يرفعون ابصارهم إلي السماء فلا يرون إلا الدخان‏...‏ فأتي رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ فقيل له‏:‏ يارسول الله‏!‏ استسق الله لمضر فإنها قد هلكت‏,‏ فاستسقي ـ صلي الله عليه وسلم ـ لهم فسقوا‏,‏ فنزلت إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون)‏(‏ البخاري‏,‏ مسلم‏,‏ أحمد‏,‏ الترمذي‏,‏ النسائي‏,‏ ابن جرير‏,‏ وابن أبي حاتم‏)‏ وقال اخرون‏:‏ لم يمض الدخان بعد‏,‏ بل هو من أمارات الساعة‏,‏ كما ورد في حديث أبي سريحة حذيفة ابن أسيد الغفاري ـ رضي الله عنه ـ قال أشرف علينا رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ ونحن نتذاكر الساعة‏,‏ فقال ـ صلي الله عليه وسلم ـ‏:‏( لا تقوم الساعة حتي تروا عشر آيات طلوع الشمس من مغربها‏,‏ والدخان‏,‏ والدابة‏,‏ وخروج يأجوج ومأجوج‏,‏ وخروج عيسي ابن مريم‏,‏ والدجال‏,‏ وثلاثة خسوف خسف بالمشرق‏,‏ وخسف بالمغرب‏,‏ وخسف بجزيرة العرب‏,‏ ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس ـ أو تحشر الناس ـ تبيت معهم حيث باتوا‏,‏وتقيل معهم حيث قالوا‏)(‏ صحيح مسلم‏).‏
وجاء في بقية التفاسير كلام مشابه لا أري حاجة إلي تكراره‏,‏ وإن انتصر بعض المفسرين للرأي الأول أو الثاني من التفسيرين السابقين‏.‏
وسوف نناقش هذا الأمر في المقال القادم إن شاء الله تعالى.

*




من الدلالات العلمية للآية الكريمة
‏‏ القرآن الكريم وخلق الكون وإفناؤه وبعثه‏:‏
يبين لنا القرآن الكريم خلق الكون وإفناءه وبعثه‏(‏ أي إعادة خلقه‏)‏ في الآيات الخمس التالية‏:‏‏
(1)‏ ﴿ أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ ﴾‏ (‏ الأنبياء‏:30)‏‏
(2)‏ ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ‏﴾‏‏(‏فصلت‏:11).‏‏
(3)‏ ﴿ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ‏﴾‏‏(‏الذاريات‏:47).‏‏
(4)‏ ﴿ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾‏‏‏(‏الأنبياء‏:104).‏‏
(5)‏ ﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ ‏﴾ (‏ إبراهيم‏:48)‏‏
*حقيقة توسع الكون‏:‏
اكتشف الفلكيون في الثلث الأول من القرن العشرين حقيقة أن المجرات تتباعد عنا وعن بعضها البعض بسرعات تكاد تقترب أحيانا من ثلاثة أرباع سرعة الضوء المقدرة بحوالي ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية‏,‏ فأثبتوا بذلك حقيقة توسع الكون التي سبق القرآن الكريم بالإشارة إليها من قبل ألف وأربعمائة سنة‏.(‏ الذاريات‏:47).‏
وإذا عدنا بهذا الاتساع إلي الوراء مع الزمن‏,‏ فإن كل ما في الكون من مختلف صور المادة والطاقة‏,‏ ومن المكان والزمان سوف يتكدس علي ذاته في نقطة متناهية الضآلة في الحجم إلي ما يقترب من الصفر أو العدم فيتلاشي كل من المكان والزمان‏,‏ ومتناهية الضخامة في الكتلة والطاقة إلي الحد الذي تتوقف عنده كل قوانين الفيزياء النظرية‏(‏ حالة الرتق التي سبق القرآن الكريم بتقريرها من قبل ألف وأربعمائة سنة‏).(‏ الأنبياء‏:30).‏
هذا الجرم الأولي في حالة الرتق فجره ربنا ـ تبارك وتعالي ـ بأمر منه ونتج عن انفجاره مختلف صور الطاقة واللبنات الأولية للمادة التي انتشرت في كل اتجاه‏;‏ ومن اللبنات الاولية للمادة تخلقت العناصر علي مراحل متتالية‏,‏ وأخذ الكون في الاتساع فتعاظم كل من المكان والزمان‏,‏ وتحول الكون إلي سحابة هائلة من الدخان الذي خلقت منه الأرض وكل أجرام السماء‏,‏ وما يملأ المسافات بينها من مختلف صور المادة والطاقة‏.(‏ فصلت‏:11).‏
وتعرف هذه النظرية من نظريات نشأة الكون باسم نظرية الانفجار العظيم‏,‏ ونحن ننتصر لهذه النظرية لكثرة ما يدعمها من شواهد ولوجود إشارة لها في كتاب الله من قبل ألف وأربعمائة سنة‏(‏ الأنبياء‏:30).‏وبعد خلق الأرض والسماوات ظل الكون في التمدد والتوسع الذي تؤكده القياسات الفلكية منذ الثلث الأول من القرن العشرين‏,‏ وقد سبق القرآن الكريم بالتأكيد علي حقيقة توسع الكون بأكثر من ألف وثلاثمائة سنة‏.(‏ الذاريات‏:47).‏

‏ اكتشاف الخلفية الإشعاعية للجزء المدرك من الكون‏:‏
وكان مما أيد نظرية الانفجار العظيم اكتشاف الخلفية الإشعاعية للكون المدرك في سنة‏1965‏ م علي هيئة إشارات راديوية منتظمة‏,‏ وسوية الخواص‏,‏ قادمة من جميع الاتجاهات في السماء‏,‏ وفي جميع الأوقات دون توقف‏,‏ والتي اعتبرت من بقايا الإشعاع الذي نتج عن عملية الانفجار العظيم‏;‏ وقد قدرت درجة حرارة تلك البقية الإشعاعية بحوالي ثلاث درجات مطلقة‏(‏ أي ـ‏270‏ م‏).‏ وذلك لأن الأشعة التي نتجت عن عملية الانفجار العظيم قد انتشرت مع توسع الكون بانتظام وسوية عبر كل من المكان والزمان‏,‏ وأخذت في التبرد من بلايين البلايين من الدرجات المطلقة إلي ثلاث درجات مطلقة فقط اليوم تقاس علي جميع أطراف الكون المدرك‏.‏

‏ اكتشاف الدخان الكوني‏:‏
في سنة‏1989‏ م أرسلت وكالة الفضاء الأمريكية‏(‏ ناسا‏NASA)‏ مركبة فضائية تدور حول الأرض باسم مستكشف الخلفية الكونية أو كوبي‏(CosmicBackgroundExplorerorCOBE),‏ وذلك لدراسة الخلفية الإشعاعية للكون من ارتفاع يبلغ ستمائة كيلو متر فوق مستوي سطح البحر‏.‏ وقد قاست تلك المركبة الخلفية الإشعاعية للجزء المدرك من السماء الدنيا وقدرت درجة حرارته بأقل قليلا من ثلاث درجات مطلقة‏.‏ وقد أثبتت المعلومات التي جمعتها هذه المركبة الفضائية تجانس مادة الكون‏,‏ وتساويها التام في الخواص قبل الانفجار الاعظم وبعده‏,‏ مع احتمال وجود أماكن تركزت فيها المادة الخفية التي أطلق عليها اسم المادة الداكنة‏(TheDarkMatter).‏
كذلك قامت تلك المركبة الفضائية بتصوير بقايا الدخان الكوني الناتج عن عملية الانفجار العظيم علي أطراف الجزء المدرك من السماء الدنيا علي بعد عشرة مليارات من السنين الضوئية‏,‏ وأثبتت الصور الملتقطة لهذا الدخان الكوني ان حالة دخانية معتمة سادت الكون قبل خلق كل من الأرض وأجرام السماء‏.‏ وقد سبق القرآن الكريم هذا الكشف العلمي بأكثر من ثلاثة عشر قرنا وذلك بقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ‏:‏
﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ‏﴾.(‏ فصلت‏:11)‏
وكان في اكتشاف هذا الدخان الكوني ما يدعم نظرية الانفجار العظيم والتي سبق القرآن الكريم بالإشارة إليها من قبل أربعة عشر قرنا‏.(‏ الأنبياء‏:30)

*‏ اكتشاف عملية الاندماج النووي في داخل النجوم‏:‏
تتم عملية الاندماج النووي في داخل الشمس وفي داخل غيرها من النجوم بين نوي ذرات الإيدروجين لتكوين نوي ذرات أثقل بالتدريج وتنطلق الطاقة‏.‏ وقد أدت هذه الملاحظة الدقيقة إلي الاستنتاج الصحيح بتآصل العناصر مما يدعم نظرية الانفجار العظيم‏.‏

*‏ التوزيع الحالي للعناصر المعروفة يدعم نظرية الانفجار العظيم والأصل الدخاني للكون‏:‏
تشير دراسات توزيع العناصر المعروفة في الجزء المدرك من الكون إلي أن غاز الإيدروجين ـ وهو أخف العناصر وأبسطها بناء ـ يكون أكثر من‏74%‏ من مادة الكون المنظور‏,‏ ويليه في الكثرة غاز الهيليوم الذي يكون حوالي‏24%‏ من تلك المادة‏.‏ ومعني ذلك ان أخف عنصرين من العناصر المعروفة‏,‏ وأبسطها بناء يكونان معا أكثر من‏98%‏ من مادة الكون المنظور‏,‏ وأن باقي العناصر المعروفة والتي يبلغ عددها‏(105)‏ يكون أقل من‏2%‏ مما يشير إلي تآصل العناصر‏,‏ وإلي الأصل الدخاني للكون‏,‏ وإلي تأييد نظرية الانفجار العظيم‏.‏

*‏ تخلق النجوم من الدخان الكوني وفناؤها إليه‏:‏
من المراحل المعروفة للفلكيين في دورة حياة النجوم ما يعرف باسم النجوم العادية‏(‏ أو نجوم النسق العادي‏)‏ التي تخلق من دخان السماء في داخل السدم‏,‏ ثم تتحول إلي عملاق أحمر‏,‏ ثم إلي سديم كوكبي‏,‏ ثم إلي قزم أبيض‏,(‏ وقد يتكرر التحول من عملاق أحمر إلي قزم أبيض وبالعكس لأكثر من مرة‏)‏ ثم ينفجر العملاق الأحمر علي هيئة فوق المستعر من النمط الأول متحولا إلي دخان السماء‏.‏ وإلي جوار النجوم العادية توجد النجوم العملاقة التي تتحول إلي عملاق أعظم ينفجر علي هيئة فوق المستعر من النمط الثاني ناثرا أغلب مكوناته إلي الدخان الكوني‏,‏ ومكدسا المادة في قلبه تكديسا مذهلا يعتمد علي كتلته الابتدائية‏,‏ فإما أن ينتهي إلي نجم نيوتروني أو ينتهي إلي نجم خانس كانس‏(‏ ثقب أسود‏).‏ وكل من هاتين النهايتين يظل يجتذب المادة لكثافته الفائقة حتي يصل إلي كتلة حرجة فينفجر متحولا إلي دخان السماء‏.‏

*‏ كيف تأتي السماء بدخان مبين‏:‏
من الاستعراض السابق رأينا أن السماوات والأرض قد خلقت من الدخان الذي لاتزال بقاياه موجودة علي أطراف الجزء المدرك من السماء الدنيا علي بعد عشرة مليارات من السنين الضوئية‏(‏ والسنة الضوئية‏=9,5‏ مليون مليون كم‏)‏ ورأينا ان النجوم تتخلق في داخل السدم من تكدس الدخان الكوني في دوامات شديدة التضاغط حتي تبدأ فيها عملية الاندماج النووي‏;‏ ثم يعيش النجم ما يعيش‏,‏ وينتهي بالانفجار متحولا إلي الدخان الكوني سواء كان نجما عاديا أو نجما من العماليق الكبار‏.‏ وإذا أضفنا إلي ذلك ان اغلب مادة الجزء المدرك من الكون هي مادة داكنة مظلمة لاتدرك‏,‏ وأن ما يعرفه الفلكيون من صفحة السماء الدنيا في زمن تفجر المعارف العلمية والتقنية الذي نعيشه لا يتعدي‏10%‏ مما هو محسوب فيها رياضيا وفيزيائيا‏,‏ أدركنا أهمية الدخان في تخلق أجرام السماء وفنائها ومن رحمة الله ـ تعالي ـ بأهل الأرض أن جميع الانفجارات النجمية علي هيئة المستعرات من الطراز الأول والثاني تتم بعيدا جدا عنا‏.‏ ولو اقتربت قليلا من الأرض لكانت سببا في تدميرها وهلاك جميع ما عليها ومن عليها من المخلوقات‏.‏
لذلك يتهدد ربنا ـ تبارك وتعالي ـ كلا من كفار ومشركي قريش كما يتهدد جميع الكفار والمشركين‏,‏ والطغاة المتجبرين‏,‏ والفسقة المفسدين في كل زمان ومكان‏,‏ بكل من عذاب الدنيا‏,‏ ودمار الآخرة وأهوال ذلك‏,‏ وقد كذبوا ببعثة الرسول الخاتم ـ صلي الله عليه وسلم ـ وبما أنزل إليه من الحق‏,‏ وتطاولوا علي شخصه الكريم متهمين إياه زورا بأن بشرا علمه ما دعا إليه من الحق‏,‏ كما اتهموه بالشعر‏,‏ والسحر‏,‏ والشعوذة‏,‏ والجنون‏,‏ وادعوا عليه بالنقل من كتب الأولين مع أن الله ـ تعالي ـ جعله أميا ليبطل كل هذه الادعاءات الباطلة ويدحضها‏,‏ ولكن الناس إذا ركبهم الشيطان فإنه يفقدهم كل منطق سوي‏,‏ ويقبح الحق في عيونهم ويزين لهم الباطل‏.‏
ويأتي التهديد الإلهي لهؤلاء الكفار والمشركين جازما‏,‏ حازما‏,‏ قاطعا فيقول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ مخاطبا خاتم أنبيائه ورسله ـ صلي الله عليه سلم ـ‏:‏
﴿ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ ‏*‏ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏*‏ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا العَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ‏*‏ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ ‏*‏ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ ‏*‏ إِنَّا كَاشِفُوا العَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ ‏*‏ يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ ‏﴾*(‏ الدخان‏:10‏ ـ‏16).‏
وهذا التهديد كما كان لكفار ومشركي قريش فهو للكفار والمشركين في كل زمان ومكان‏,‏ ومنهم مجرمو الرسوم الكاريكاتورية في كل من الدانمارك‏,‏ والسويد وفي غيرهما من الدول الأوروبية والأمريكية‏,‏ وللمتطاولين علي أشرف الخلق أينما كانوا وحينما كانوا‏.‏ وكما كان التهديد بعذاب الدنيا‏,‏ فهو بعذاب الآخرة أوقع‏,‏ والله علي كل شيء قدير‏.
وتتجلي ومضة الإعجاز العلمي في نسبة الدخان للسماء من قبل أربعة عشر قرنا‏,‏ والعلوم المكتسبة جميعها لم تصل الي حقيقة دخان السماء إلا في سنة‏1989‏ م‏,‏ بعد مجاهدات استغرقت مئات من العلماء لعشرات من السنين‏.‏ وسبق القرآن الكريم بإيراد هذه الحقيقة الكونية مما يثبت لكل ذي بصيرة بأن هذا الكتاب العزيز لايمكن أن يكون صناعة بشرية‏,‏ بل هو كلام الله الخالق الذي أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله‏,‏ وحفظه بعهده الذي قطعه علي ذاته العلية ـ ولم يقطعه لرسالة سابقة أبدا ـ وحفظه في نفس لغة وحيه ـ اللغة العربية ـ وحفظه دون زيادة أو نقص حرف واحد‏,‏ وتعهد بهذا الحفظ تعهدا مطلقا حتي يبقي القرآن الكريم شاهدا علي الخلق أجمعين إلي يوم الدين بأنه كلام رب العالمين‏,‏ وشاهدا للرسول الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة‏,‏ فصلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين‏,‏ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين‏.